نعم لقد تشيّعت

محمّد الرصافي المقداد

نعم لقد تشيّعت

المؤلف:

محمّد الرصافي المقداد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-43-0
الصفحات: ٣١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الثانية : أخرج الطبراني بسنده إلى أمّ سلمة قالت : « كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي ، فنزل جبريل عليه‌السلام ، فقال : يا محمّد ، إنّ أمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، فأومأ بيده إلى الحسين ، فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضمّه إلى صدره ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وديعة عندك هذهِ التربة ، فشمّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ويح كربّ وبلاء. قالت : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أمّ سلمة ، إذا تحوّلت هذهِ التربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قتل. قال : فجعلتها أمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيم » (١).

إذن ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على ولده وهو بين يديه ، وكانت عيناه تذرفان الدموع كلما رآه ، لذلك حاول أنْ يبني في قلوب المسلمين محبّة أهل بيته ، والحسين منهم عليهم‌السلام ، زيادة على تأسيس رابطة الأخوّة والمحبّة بين جميع أفراد الأمّة نافياً الإيمان عن كلّ من لا يتقيّد بتلك الثوابت ، فقد قال أكثر من مرّة : « لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه » (٢) ، بكاه خيرُ أهل الأرض ، أفلا ترى عدم البكاء عليه إجحافاً في حقّ الإسلام وقيَمه العظيمة. وتدلّ على أنّ صاحبه يتميّز بقلب رقيق وفيّاض بالمودّة والرحمة ، والخطر كلّ الخطر من أولئك الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة ، خرجت الرحمة منها فتركتها صلدة بلا شعور أو إحساس ، والنبيّ يعقوب عليه‌السلام بكى على فقد ابنه يوسف حتّى ذهب نور بصره ، ويعني ذلك أنّه بكى سنين طويلة ، وهو يدرك جيّداً أنّ ابنه لم يمت ، وسوف يلتقي به ، فلم يعاتبه الله سبحانه وتعالى على فعله ذلك ، ولا طلب منه الإقلاع عنه ، فكيف بالله عليك ترى أنت وخطّك الذي تتبعه في البكاء نكارة ومذمّة ، ولا

_________________

(١) المعجم الكبير ٣ : ١٠٨ ، تاريخ دمشق ١٤ : ١٩٢.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٩ ، صحيح مسلم ١ : ٤٩.

٢٤١

أراكم متّبعين فيه سنّة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس هناك ما يشير من قريب ولا بعيد إلى نهيه عن البكاء ، وما هي والله إلّا سنّة صاحبكم في نهيه عن البكاء ، بعدما اتّبعتموه في بدع عديدة ، كالبدعة التي استحدثها جماعة في نوافل ليالي شهر رمضان والمعروفة عندكم بالتراويح (١).

قلت : دعني من هذا كلّه وقل لي الآن ، ما الفرق بين ثورة الحسين عليه‌السلام ، وثورة عبد الله بن الزبير.

قال : كالفرق بين واضحة النهار ، وظلام الليل الدامس.

قلت : كيف ذلك ، وهما ثورتان إسلاميتان ؟

قال : لم يخرج الإمام الحسين عليه‌السلام إلّا بعد أنْ حوصر وضُيّق عليه من أجل أخذ البيعة ليزيد الفاسق لعنه الله ، وباعتبار أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام يمثّل القدوة الإسلامية وقمّة التقوى التي يمكن أنْ توجد في المجتمع ، فمثله لا يبايع مثل ذلك الخبيث ، ولم يكن خروجه لنفسه ، أو لحاجة شخصيّة يريد قضاءها ، بل خرج طلباً للإصلاح في أمّة جدّه ، ورغبة منه في إبطال بيعة الظالمين عمليّاً ، وكان هو القدوة المؤهّل لتلك المهمّة ; لتكون الدلالة الكبرى على بطلان مبايعة كلّ ظالم إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها ، لقد جسّد الإمام الحسين الرؤية القرآنية في التعامل مع الظلم ، وبمقارعته له في قلّة قليلة ضرب مثلا قرآنيّاً يقول فيه سبحانه وتعالى : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢).

فرغم استشهاده عليه‌السلام ومن معه من أهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، فإنّه من يعرف حقيقة الشهادة وفلسفتها ، يؤمن بأنّ الإمام أبا عبد الله

_________________

(١) والتي اعترف عمر نفسه بأنها بدعة فقال : « نعم البدعة هذه » ، صحيح البخاري ٢ : ٢٥٢.

(٢) البقرة : ٢٤٩.

٢٤٢

الحسين عليه‌السلام ، قد حقّق نصراً لم يتسنّى لمن سبقه في ميدان بذل النفس في سبيل الله تعالى ، بحيث حقّقت نهضته المباركة ما كان يؤمّله من يقظة شاملة ، أوقفت الأمّة على حقيقة كانت غافلة عنها ، وتمثّلت في أنّ الأرض حلبة صراع بين الحقّ والباطل ، وكلّ تخاذل من جانب أتباع الحقّ يقابله تطاول من جانب الباطل ، فلا يمكن للدين أنْ تقوم له قائمة وأتباعه متخاذلون متواكلون ينحى بعضهم باللائمة على بعض ، وقد فرّطوا في أسباب عزّتهم ، ورضوا بالمذلّة والمهانة تحت تيه الظلم والظالمين ، ومن لا أهلية له في قيادة الأمّة الإسلامية.

أمّا بالنسبة إلى ثورة عبد الله بن الزبير ، فإنّها لم تكن بذات الصفات التي عليها ثورة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، لأنّ ابن الزبير كانت له أطماع في نيل السلطة ، فقد توثّب مع خالته يوم الجمل يريد الفتنة ، وقتل بسبب ذلك آلاف المسلمين ، ولمّا انهزم وقبض عليه ، عفا عنه الإمام عليّ عليه‌السلام ، ومع ذلك بقيت في نفس ذلك الرجل أحقاد ورثها عن خالته ، فلم يشكر اليد التي أنقذته من الموت ، وقابلها بالامتناع عن الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيام استيلائه على مكّة ، فمكث أربعين جمعة لا يصلي عليه ، فلما سئل عن سبب إحجامه عن ذلك قال : إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره » (١). فظهر من خلال ذلك ، بغض الرجل لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن أبغضهم فهو منافق باتّفاق عقلاء المسلمين ، لقول عليّ عليه‌السلام نقلاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، إنّه لعهد النبيّ الأميّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ ، أنْ لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق (٢). ولو كان الرجل فقيهاً عارفاً ، لما التجأ إلى البيت الحرام ، وكان السبب في انتهاك حرمتها ، وقذفها بالمنجنيق وسفك الدماء فيها ، وقد أشير على أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام بالبقاء في بيت الله الحرام ;

_________________

(١) تقدّم في حلقة سابقة.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٦١.

٢٤٣

ليسكن عنه طلب جلاوزة يزيد ، فرفض من أجل أنْ لا تنتهك حرمة البيت العتيق.

فالفرق واضح بين الثورتين ، ثورة أسّست لثورات عديدة تمكّنت من الثأر للحسين عليه‌السلام ، وللمبادىء التي حملها ، ولا تزال تقدّم المزيد من الشهداء ، ولا يزال الأحرار يقتبسون من سيرتها ونهضتها الفريدة ، أسلوب الثورة الحقيقيّة ، الخالية من كلّ أطماع الدنيا ، بينما لم يبق لابن الزبير وثورته غير أسطر معدودة ذكرها التاريخ على مضض.

قلت : فلماذا لا يضع أهل السنّة ثورة الحسين رضي‌الله‌عنه ، ومصيبته في كربلاء موضعها الصحيح الذي يراه الشيعة ؟

قال : لأنّ سياسة الظالمين كانت وراء ذلك التجاهل والجفاء ، وقد نهجتْ طرقاً ملتوية من أجل طمس معالم تلك الثورة ، حتّى ظهر من علمائهم من زعم أنّ الحسين قتل بسيف جدّه (١).

قلت : بارك الله فيك يا أخي ، فهل لديك كتاب يروي تفاصيل تلك النهضة المباركة فإنني أجهل تفاصيلها كما لا يخفى عليك.

قال : وأخيراً ألفت انتباهك إلى نقطة مهمّة في هذا الإطار تقول : إنّ الذين لم يرعوا حرمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتلهم الإمام الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام ، لا يمكنهم مراعاة حرمة سنّته ، ولا إعطائها القيمة التي تستحقّ ، وهي التي لم تكتب عند هؤلاء إلى ما بعد شهادة الإمام الحسين عليه‌السلام بأكثر من نصف قرن فقتل أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وذبحه وقطع رأسه الشريف والتمثيل بجثمانه الطاهر ، ما هو في

_________________

(١) وهو ابن العربي المالكي كما نصّ على ذلك المناوي في فيض القدير ١ : ٢٦٥ ، ٥ : ٣١٣ والآلوسي في تفسيره ٢٦ : ٧٣ ، ونقل ابن حجر على أنّه ابن خلدون المالكي كما نقل ذلك السخاوي في الضوء اللامع ٤ : ١٤٧.

٢٤٤

حقيقته وواقعه إلّا قتل للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذبح لسنّته ودينه ، وأنت ترى اليوم أنّ مدرسة الإمام الحسين عليه‌السلام قد أظهرت مكانتها ، وتجلّت أحقيّتها في هؤلاء الأبرار الذين يبذلون النفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، بينما لم يظهر من الجانب الآخر غير المواقف المزرية والتبعيّة المذلّة للظلم والظالمين.

ولمّا لاحظ شدّة اهتمامي وإلحاحي عليه أجاب قائلاً : سوف أعطيك كتاب يشفي غليلك.

وتملّكني شعور بالانكسار والخجل من كلّ أسئلتي التي نطقت بلسان تربية مذهبيّة بغيضة ، أسّسها الغاصبون لحكومة الإسلام ، والعابثون بمقدّرات الإسلام والمسلمين ، فزدتُ في إلحاحي على الرجل لكي يستعجل في الإتيان بالكتاب ، فما كان منه إلّا أنْ لبّى طلبي ، وعاد إليّ بعد برهة وهو يحمل كتابا عن ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام.

قرأت الكتاب ، بل التهمت محتواه التهاما لم يحصل لي أن فعلته بكتاب قبله ، فأحداثه وقصّته حتّمت عليّ ذلك .. وبكيت كما لم يبك أحدٌ من الناس ، وعلا صوتي في البيت بصورة لم يكن في إمكان عائلتي التغاضي عن ذلك ، فهرعوا إلى بيتي مُسرعين ، تحلّقوا حولي ليستجلوا الأمر ، لم أقدر على أنْ أمسك نفسي ، فلم أرد على أحد إلّا بعد أنْ أخذت أمّي برأسي ، ووضعته على صدرها ، وانخرطت هي معي في بكاء لا تعرف المسكينة له سبباً.

ولمّا هدأت أشجاني ، حدّثتهم عن مصيبة الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء ، والتي هي في حقيقة الأمر مصيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ريحانته وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقرأتُ عليهم مقاطع من تلك المصيبة ، فكان تأثير ذلك كبير إلى حدٍّ دفع بهم إلى البكاء.

٢٤٥

وتوالت الأيّام بعد ذلك ، وكنت في كلّ مرّة أنهي فيها مطالعة كتاب من الكتب التي كان ذلك الشيعي يقدّمها لي ، أبسط الحديث مع عائلتي بخصوص المحصّلة التي خرجت بها ، ولم يمض وقت طويل حتّى كنت وكامل أفراد عائلتي قد تبينّا صراط الله المستقيم الذي دعانا إلى نهجه ، وهو صراط أهل بيت نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين جعلهم الله ورثة علم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحفظة دينه ، وأولياء أمور عباده ، والحكّام بأمره ، فأقرّوا جميعا بولايتهم ، وبايعوهم بيعة رضا وقناعة وتسليم ، شاكرين الله سبحانه وتعالى على نعمة الهداية بمعرفة حقيقة الولاية وحقيقة أصحابها.

فكان الحسين عليه‌السلام وثورته ومصيبته ، ومحنة أهل بيته عليهم‌السلام ، السبب في معرفتي لحقيقة التشيّع لهؤلاء الأطهار عليهم الصلاة والسلام ، واقتنعت أنّ الخطّ الذي لم يرع أمر الله في مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعمل فيهم بخلافها من قتل وتشريد وسجن وتعذيب ، بغضاً وضغينة ، لا يمكنه أنْ يحفظ سنّته التي أهملت عندهم ، وهي التي تمثّل الفهم الكامل للقرآن والتشريع.

أحمدُ الله على الخير العميم الذي أولانيه باتّباع أهل بيت نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في زمن بدأت أنوار الحقيقة تتراءى للمبصرين ، وأشكره على نعمة الهداية التي أسبغها عليّ ، أنا عبده الصغير الحقير ، موجّهاً ندائي ودعوتي إلى من لم يتعرف على إسلام أهل البيت عليهم‌السلام ، ليكسروا عنهم أسوار الوهم والزيف والكذب ، ليقفوا على الحقيقة جليّة واضحة ، سائلا الله لهم التوفيق والسداد والسلام.

٢٤٦

الحلقة الخامسة والعشرون

وسطية الشيعة ، ودعوتهم إلى الوحدة الإسلامية ، والعمل من أجلها ، هما عوامل تشيّعي

مصطفى ، صديق لم أعرفه إلّا حديثاً ، التقيت به عن طريق الصدفة ، وقدّموه إليّ على أساس أنّه قد تشيّع ، وبطريقة التأمّل والمقارنة والاستدلال ، فأعجبت بشخصه ، وأكبرت عقله النادر ، وسط عقول تعوّدت على إيكال تمييز الأشياء إلى غيرها ، وقرّرت متابعة خطواته الأولى من التشيّع بمحاورته وإعطائه ما يحتاج من معلومات تخصّ الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، وعندما قررت أنّ أجمع إفادات الإخوة المستبصرين ، وجّهت إليه دعوة لحضور جلسة الإفادة ، فحضر وقال :

كنت من المنتسبين إلى أحد الأحزاب الاسلاميّة في أواسط الثمانينات ، وكان أوّل ما أُلقي إلينا من فكر متّصل بذلك الحزب المصطلحات التي كان عناصر ذلك الحزب يحفظونها عن ظهر قلب ، ويطرحونها على غيرهم في شكل أسئلة مفحمة ، لا يستطيع المسؤول عنها ردّاً ، ولا يجد لها جواباً ، وكانت تلك المصطلحات حافزاً للمنتسبين الجدد إلى هذا الحزب ، على مواجهة الإسلاميين عموماً ، إظهاراً لقوّة الحزب ، وتمكّن أفراده من أسس الدين الإسلاميّ.

ولم يكن ذلك التصرّف من طرف تلك القواعد ، نابعاً من اجتهادات أولئك الأفراد ، بل كانوا مدفوعين بكلّ قوّة من قيادات الحزب نفسه ، لما لمسوه من هشاشة في ثقافة القواعد الإسلاميّة عموماً ، وعاملاً يمكّنهم من استمالة أعداد منهم إلى حزبهم ونظريتهم. إلّا أنّ المسلم الواعي ، سرعان ما يكتشف أنّ دعوة إلى إقامة حكم الله في الأرض ، ليست نابعة من فهم حقيقيٍّ للأحكام نفسها ، ولا

٢٤٧

إدراك صحيح لنظريّة الخلافة أو الإمامة في الأمّة ، ولا فهم بمقاصد الشريعة وأهدافها ، وقد ظهر عجزهم حتّى في قراءة التاريخ الإسلامي ، عندما اعتبر مؤسّسهم أنّ عصور الظلام التي أرخت سدولها على الأمّة ، منذ وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى عصر سقوط الإمبراطوريّة التركيّة الملقّبة بالخلافة العثمانيّة ، هي عصور خلافة شرعيّة ، وقد سقطت الخلافة عنده في عهد السلطان عبد الحميد سنة ١٩٠٧ ميلاديّة.

ومن ناحية أخرى ، ترى عناصر ذلك الحزب يعلنون عداءهم للثورة الإسلاميّة في إيران ، ويعتبرونها غير إسلاميّة ، بسبب إعراض أو سكوت قادة الثورة على مشروع إقامة الخلافة الذي تقدّموا به إليهم ، وليتهم فهموا أنّ هنالك فارق جوهري بين التلفيق الذي يدعون إليه ، ونظرية الإمامة التي يعتقدها الجانب الشيعي كأداة حكم إلهية.

لقد وجدت نفسي في ساحة تنوّعت فيها الاتّجاهات ، ولم يشكّل ذلك التنوع إلّا دافعاً نحو مزيد من الانكماش عن الطرف الآخر والرأي الآخر ، إلى درجة ظهر عنها العداء ، وبرزت الكراهيّة على سطح العلاقات بين أفراد تلك الجماعات.

وتساءلت عن سبب هذه النفرة التي تدفع إلى حالة من العداء ؟ وكنت متصوّراً أنّ هذه الحالة ليس لها علاقة بالموروث القديم الذي بين أيدينا اليوم ، فلم أقحم هذه الفرضيّة المستبعدة ، إلّا بعد أن أعيتني الحيلة في الوصول إلى نتيجة تبرّر سبب الفرقة.

لقد حثّ المولى سبحانه وتعالى المسلمين على الوحدة ، ونبذ الفرقة ، وأكّد على ضرورة رصّ الصفوف ، على المستويين الفكري باعتبار أنّ الدين واحد ، وأنّ الأمّة واحدة ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ

٢٤٨

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١) ، وقال أيضا : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢).

وقال كذلك : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣). لكن تلك الالزامات الإلهيّة ، والنصائح النبويّة ذهبت أدراج الرياح ، فلم يعرها اهتماماً غير ثلّة قليلة ألزمت أنفسها باتّباع الأوامر ، وتجنّب النواهي الإلهيّة ، واضعة نصب أعينها أولويّة الأخوّة ووحدة الصف الإسلامي ، أمّا البقيّة الباقية ، فقد اتّبعت هواها في تحصيل عاجل الدنيا ، فركنت إلى أعداء الدين وهي معتقدة أنّهم أولياء أمورها ، فاقتحموا بها المحظور ، وأوردوها مورد التشتّت والاختلاف ، ومارسوا معها سياسة فرّق تسد ، ولم يتركوها إلّا وهي شتات متفرّق ، يعتدي بعضه على بعض.

إزاء هذا الاختلاف الشديد بين هذه الفرق المتناحرة ، قرّرت أنْ أبحث عن الطائفة التي تمتلك أداة الوحدة باعتبارها المركز والأصل ، فوجدت أنّ منهج أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام هو أصل الإسلام المحمّدي ، وأنّ أئمّته الكرام عليهم‌السلام هم أقطاب رحى علوم الدين ، من بيوتهم خرجت علوم الإسلام ، وعلى أيديهم تخرّج ألوف الفقهاء ، وكانوا دائماً مراجع الأمّة الإسلاميّة ، في عصور ظهورهم ، وتمكّنهم من بسط العلوم ونشر الأفكار ، التي تجسّد حقيقة الدين الإسلاميّ ، خالية من إملاءات الظالمين.

_________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) آل عمران : ١٠٥.

(٣) الأنعام : ١٥٣.

٢٤٩

وأروع الأمثلة التي يمكننا ضربها هنا ، سلوك الإمام عليّ عليه‌السلام تجاه الغاصبين لحكومته ، فقد آثر أبو الحسن عليه‌السلام السكوت على حقّه ، عندما طالب به ولم يجد آذاناً صاغية ، وخيّر الإبقاء على وحدة الصفّ الإسلاميّ على تمزيقه ، ولا تزال مقالته الشهيرة : « فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى » (١) تتردّد شاهدة على تفرّد شخصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ورجاحة عقله ، ودقّة فكره ، وزادها علوّاً ورفعة مساهماته في إرشاد الغاصبين ، وتصحيح أخطائهم ، من أجل سلامة الدين واستحقاقات الأمّة الإسلاميّة.

لقد مثّل أئمّة أهل البيت عليه‌السلام وشيعتهم على مرّ التاريخ ، الدرع الواقي الذي تكسّرت عليه أعتى هجمات أعداء الإسلام من منافقين ومشركين ، وبقدر ما سعت أنظمة الظلم والبغي والجور من أجل تفتيت تماسك المسلمين حول ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، بقدر ما ظهرت لعيان المبصرين حقيقة هذا البيت النبويّ الطاهر ، وما حواه من إشراقات خير ، وإمدادات عزم وصمود ، ونفحات علم لم يتوصّل إليها غيرهم ، وكانوا في جميع ذلك سادة الإسلام والمسلمين ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

لذلك فإنّ جلّ هموم أهل البيت عليهم‌السلام ، كانت منصبّة في إطار حفظ الإسلام ، وحفظ وحدة صف الأمّة ، ومن أجلهما امتنعوا عن القيام في وجه الغاصبين لحكومتهم الإلهية.

والدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة والعمل من أجل تحقيقها ، مطلب أسّسه الله تعالى في كتابه ، ودعا إليه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحثّ عليه أئمّة الهدى من أهل بيته الكرام البررة عليهم‌السلام ، ومسؤوليّة جسيمة تحملتها أجيال العلماء ، وزمر المؤمنين

_________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٣١ ، علل الشرائع ١ : ١٥١.

٢٥٠

على مرّ العصور ، فلم تظهر دعوة إلى الوحدة الإسلاميّة ، إلّا والمسلمون الشيعة قد سبقوا إليها ، ودعوا إلى تفعيلها وإقامتها على الأسس التي أمر بها الباري سبحانه وتعالى ، ليس هذا فقط ، بل لقد شكّل انضباط المسلمين الشيعة حول علمائهم ومرجعياتهم ، السمة البارزة التي ميّزتهم عن بقيّة الخطوط الإسلاميّة ، الفاقدة في أغلبها للمرجعيّة والانضباط.

إنّ السمة التي ميّزت روّاد نهضة العصر الحديث ، دعوتهم الملحّة للوحدة والعمل من أجل غرس بذرتها في قلب الأمّة الإسلاميّة ، ففي القرن التاسع عشر ، عندما كانت الأمّة الإسلاميّة ترزح تحت وطأة التخلّف الذي ألمّ بها ، من جرّاء ضياع مقاليد الحكم الإسلامي ، وسقوطه بين أيد غير كفئة به ، جاء السيد جمال الدين الحسيني الأسد آبادي الملقب بالأفغاني ليركّز ثقافة الوحدة والتوحيد بين طلائع الأمّة الإسلاميّة من علماء ومتعلمين ، واستطاع بلباقته وسعة إطلاعه وتبصّره ، أنْ يجمع حوله عدداً من العلماء في كلّ من إيران والعراق وأفغانستان والهند ومصر وتركيا ، وأنْ يؤسّس لمشروع الفكر الإسلاميّ الوحدوي ، من خلال ما كان يطرحه من كتابات ، في مجلّة العروة الوثقى التي صدرت أعدادها القليلة في المهجر ( فرنسا ) ، ولئن لم يكتب لتلك التجربة الرائدة النجاح ، بتحقيق المطلب الغالي الذي كان يؤمله السيّد الجليل ، إلّا أنّ الجهد الذي قدّمه ، والفكرة التي غرسها في ضمائر طليعة الأمّة ، كان لها الأثر الإيجابي في بناء وعي كامل ، وإدراك شامل بواقع الأمّة وسبيل نهضتها.

وجاء بعده السيّد الأجل عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، صاحب كتاب المراجعات ، الذي أسّس مع جماعة من علماء مصر أمثال الشيخ حسن البنّا جماعة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، امتداداً لحركة السيّد جمال الدين

٢٥١

الحسيني ، وبناء على ما كانت قدّمته للأمّة الإسلاميّة ، من محيطها الهندي إلى محيطها الأطلسي ، من الدعوة إلى إرساء روح الأخوّة والألفة ، وزرع بذور التعاون والتوادد والتكافل بين أفراد الأمّة ، التي تمتلك بين يديها خاتمة الرسالات السماويّة ، وصفوة الشرائع الإلهيّة ، التي جاءت لتصحّح إنحراف البشريّة عن علّة الخلق ، وهي التوحيد الخالص لله تعالى ، ونبذ ما دونه من أرباب لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، عملاً بالحديث المأثور : « من اصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان » (١).

ثمّ جاءت دعوة الإمام الراحل السيّد روح الله الموسوي الخميني إلى كافة المسلمين بالتوحد ، والعمل على الخروج من عنق الزجاجة التي وضعهم فيها أعداء الإسلام ، بتجزئة الشعوب الإسلاميّة ، وزرع روح الشقاق والفرقة بين كياناتها ، ولم يغب تحذيره ولا خلت تنبيهاته في كلّ خطبه التي كان يوجهها إلى الشعب الإيراني على وجه الخصوص والشعوب الإسلامية على وجه العموم منها قوله : « ليسمع الجميع هذه الحقيقة ، أنّ أعداء الإسلام يسعون بكلّ قوّتهم لإيجاد التفرقة والاختلاف بين المجتمعات الإسلاميّة ويسعون بأي وسيلة وتحت أي عنوان لإيجاد النزاعات بين المسلمين ، والتي بتحقيقها تتهيّأ الأرضيّة الصالحة لتسلّطهم الكامل من جديد على جميع الدول الإسلاميّة ، ويساعدهم على ذلك هجومهم لنهب الثروات ، ومن هذه الجهة يجب الاحتراز عن أيّ عمل يؤدّي إلى التفرقة ، وهذا تكليف شرعيّ وإلهي » ، مذكّراً في كلمات أخرى بأنّ الذي يجمعنا وهو التوحيد والنبوّة والقرآن أكثر ممّا يفرّقنا ، ومن الواجب المؤكّد على جميع

_________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٤.

٢٥٢

المسلمين نبذ الاختلاف ومحو آثار الفرقة ، من أجل تأسيس المجتمع المسلم المثالي المتقيّد بأحكام الله تعالى ، والمنضوي تحت راية العلماء الأعلام ، داعياً جميع تلك الشعوب مادّاً لها يداً عارفة بالله تعالى قلّما مدّت مثيلاتها من موقعه : « إنّني أمدّ يد الأخوّة لكلّ الشعوب الإسلاميّة ... ». وعمل على إعلان أسبوع الوحدة الإسلاميّة ، والذي حصره بين يومي مولد النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند المسلمين السنة ١٢ ربيع الأول ، وعند المسلمين الشيعة ١٧ منه ، في إشارة منه إلى جمال تعايش المسلمين وإنْ اختلفت أفكارهم وتباينت قراءاتهم مع بعضهم البعض ، فلا ضرر في ذلك ما دام كلّ طرف متمسّك بالعمل بمقتضى حجّته ، مع احترامه للطرف الآخر ، فالساحة الإسلاميّة تتسع الجميع.

وجاء بعد ذلك السيّد الجليل المغيّب المغدور موسى الصدر فرّج الله تعالى كربته وفكّ أسره إنْ كان حيّاً ، وألحقه بآبائه الكرام البررة ، إنْ كان قد جاور ربّه فدعا بدوره إلى توحيد آليات العمل الإسلامي للعلماء والفقهاء ، لتحذو العامّة حذوهم ، وتحرّك في ذلك الإطار ، فكتب المقالات ، ووجّه رسائل تضمّنت مطلبه ورغبته منها : رسالته إلى الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية ، جاء فيها :

« في هذه الأيام العصيبة التي تلّفّ الأمّة بالقلق ، وبين يدَي هذه الأخطار المحدِقة التي تجعل المنطقة كلّها ( حاضرها ومستقبلها ) في مضرب الطوفان ، تبدو لنا بوضوح أكثر فأكثر حاجة المسلمين الملحّة إلى وحدة شاملة متلاحمة ، لجمع ما تفرّق من صفوفهم ، وتوحيد ما تبعثر من جهودهم ، وذلك حتّى تتبيّن لهم مواقع أقدامهم ، وتعود الثقة إلى أنفسهم ، وهم في طريقهم إلى المستقبل ، وأمام بناء تاريخهم وأداء مسؤولياتهم.

إنّ جمع الكلمة وتوحيد الطاقات وتنمية الكفاءات ليس موجبها كونها من

٢٥٣

أشرف الغايات الدينيّة ووصيّة نبيّنا العظيم فحسب ، ولكنّها أيضاً تتصل بوجودنا وكرامتنا وبمقوّمات وجود أجيالنا ، إنّها مسألة حياتيّة. ووحدة الكلمة هذه لا ينبغي أنْ تظلّ شعاراً مرفوعاً أو كلمة مكتوبة ، بل يجب أن تكون ومضة الفكر وخفقة القلب ودرب السلوك ، إنّها البُعد الأساسي للمستقبل ».

ولم تكن هذه الدعوات ، ولا هؤلاء الرجال الأفذاذ حالات استثنائية حصلت في الزمن الحديث ، بل كانت امتداداً لحركة وجهود أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام من أجل تعميق الفهم القرآني في مسألة الوحدة لدى كافة فئات المسلمين ، ومختلف أجناسهم ، وتنفيذ البرنامج الريادي الذي أسّسه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في تأصيل روابط الأخوّة الإسلاميّة بين جميع المسلمين ، ولو لم يكن التأسيس لهذه النعمة منطلقاً من هؤلاء الأخيار ، لما أمكن للمتأخرين من روّاد نهضة الأمّة ، أنْ يجدوا طريقاً إلى إقامة تلك القيم العظيمة.

وبحثت في فتاوى المراجع والعلماء بشقيهما الشيعيّ والسنّي ، فوجدت أنّ جميع علماء الشيعة ومراجعهم لا يحكمون بتكفير أحد من المسلمين نطق بالشهادتين ، فأجازوا الصلاة وراء أئمّة مساجد العامّة وعدم إعادتها ، وباستثناء الفتوى الشهيرة التي أصدرها الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الشريف ، والتي أقرّت بأنّ المذهب الجعفريّ ( المسلمون الشيعة الاماميّة الاثني عشرية ) إسلاميّ صحيح ، يجوز لبقيّة أتباع المذاهب التعبّد به ، ظهر في الجانب الآخر ـ والذي جاء صنيعة أنظمة لم تحمل من الإسلام غير المظهر ، ومارست شتّى أنواع الظلم على الأمّة ـ فقهاء اتّبعوا سبيل أسلافهم القدامى ، فحكموا بتكفير الشيعة ، واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، واستطاعت الاستخبارات العالميّة المعادية للإسلام المحمّدي الأصيل ، وأخصّ بالذكر منها البريطانيّة ، أنْ تنشىء

٢٥٤

وتدعم في الحجاز محمّد بن عبد الوهاب صاحب المذهب الوهابي الضال ، والأمريكية في دعمها لأسامة بن لادن أحد عملائها الذي أسّس تنظيم القاعدة في أفغانستان ، والذي هو مبنيٌّ على أساس ذلك الفكر الوهابي المتحجّر ، وجنّد فيه الكتلة العربيّة في مقاتلة النظام الشيوعيّ ، وحليفه الاتحاد السوفييتي ، حيث كانت تلك الاستخبارات تمدّ هؤلاء بصواريخ الستينغر المحمولة على الكتف ، فيسقطون بها طائرات الميغ السوفييتية المتطوّرة ، ويقولون لنا أنّهم يسقطونها بالبنادق البدائية ، وانقلب بعد ذلك السحر على الساحر ، فإذا عميل الأمس عدوّ اليوم ، كأنّما هي مسرحيّة محبوكة الفصول ، يريد من ورائها خبراء التجسّس ، الوصول إلى الهيمنة على العالم الإسلاميّ ، وإلّا فإنّ العاقل يدرك بكلّ يسر ، بلاهة وبلادة هؤلاء الذين يسمّون أنفسهم مجاهدين ، ويتّبعون تنظيم القاعدة.

وتبيّن لي بعد ذلك ، وسطيّة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ; لأنّه لم يصدر منهم تطرّف منذ عصر الإمام عليّ عليه‌السلام إلى اليوم ، فكانوا دائما وأبداً أمثلة للتسامح ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس ، وكانوا بحق نموذجاً يحتذي به كلّ عاقل أبيّ ، في مكارم الأخلاق ، وحميد الصفات.

ووقفت على أنّ عالميّة الإسلام ، لا يوفّيها إلّا فكر أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنّ طرحه متكامل ومستجيب لكلّ المستجدّات والمستحدثات التي طرأت وتطرأ على الناس ، فنظريّة الحكم الاسلاميّ المستمدة من الكتاب العزيز ، والسنّة النبويّة الصحيحة المرويّة من طريق أهل بيت النبوّة عليهم الصلاة والسلام ، تستجيب لمتطلّبات الدين والعصر ، في استمرار عطاء الإسلام عبر آلياتهم المباركة ، ونظرة ذلك الفكر إلى الإنسان باعتباره مخلوقاً محترماً ، له الحقّ في أنْ يعيش حياته دون مساس بتفاصيلها الاعتقادية ، عملاً بقاعدة لا إكراه في الدين.

٢٥٥

وعرفت أنّ الدين قد بني بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم يبنَ بالقوّة والسيف والغلبة ، وما حقّقته الدعوة بشقّيها النظريّ والعمليّ ، خير ممّا انتزع تحت ظلال السيوف ثمّ فرّط فيه الأسلاف.

مشكلة المسلمين اليوم ، تكمن في التطبيق السليم لأحكام الإسلام السمحة ، وظهور أفراده بمظهر يُرغّب غير المسلمين في التعرّف على الدين الإسلامي ، والاقتناع به واعتناقه ، وليس الظهور بمظهر المتعسّف ، الذي يرفض منطق الحوار والعلم ، ولا يرى طريقاً لعودة الدين إلّا بالعنف وقتل الأبرياء.

ونحن اليوم نعيش حالة من إثبات الذات وفرض الوجود ، ونبحث عن الحضور الفاعل في هذا العالم الذي فرّط في إيمانه ومعتقده ، وابتعد عن خالقه ، حتّى كاد الأمل في عودة الضال أن ينقطع ، ومن أجل تحقيق عامل العودة إلى الذات ، والمتمثّل في تفعيل عامل التقوى في الأنفس ، علينا أنْ نلزمها أمام الله تعالى بسلوك منهج النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته البررة عليهم‌السلام ، ملتفتين إلى أهميّة اعتبار النفس عاملة على هذا الدرب ، وليست مالكة له ; لأنّ الدين هو دين الله ، والعباد هم عباده ، وكلّ معتقد لملكيّة ما في هذا الإطار فعليه أنْ يصحّح اعتقاده.

الانفتاح والواقعيّة التي ظهرت علاماتها على خطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد مني العالم بكافّة مجتمعاته ، بظهور تيارات تنتسب إلى الإسلام ، ولكنّها بعيدة عنه في تعاملاتها وتطبيقاتها ، ترفع شعار الجهاد ، وإقامة حكم الله في الأرض بالقوّة وتميّزت قياداتها بجمود الفكر الذي يحملونه إلى حدّ التحجّر ، ورفض الغير ، والحكم عليه بلا بيّنة ، فتسببت ممارساتها الخاطئة في خلق حالة من العداء والكراهيّة للإسلام ، وعوض أنْ نتقدّم خطوة نحو تعايش وحوار حضاري ، وتناغم عقلي بين مختلف الديانات والحضارات ، دفعت بنا تلك الجماعات في

٢٥٦

طريق النفرة والتحرز من بعضنا البعض ، بينما جاء نداء المولى سبحانه وتعالى آمراً نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمسلمين تبعاً له بالتعايش السلمي مع بقيّة الديانات : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ) (١) وتوالت الفواجع والكوارث ، فمن اعتداءات ١١ سبتمبر إلى تفجيرات مدريد ولندن ، إلى القتل المجانيّ للمسلمين الشيعة بدعوى أنّهم كفار ، مروراً بالمجازر والانتهاكات التي قام بها هؤلاء الوحوش في حقّ قبائل الهزارة الشيعة في كلّ من باميان ومزار شريف في أفغانستان ، وكلّما أطل عليك وجه من تلك العصابات ، أيقنت أنّه لا يمتلك من الدين حتّى المظهر الذي قد ينبئك بصلاحه وتقواه ، فلا ترى غير الوجوه الكالحة ، والتقاسيم التي لا ترتسم عادة إلّا على أقلّ الجهّال ، فرأيت اتّباع الحق الذي عليه المسلمون الشيعة واتّخاذ ذلك الفكر النيّر الذي استقرئه من أهل البيت عليهم‌السلام ، فحزمت أمري وواليت محمّداً وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام ، وتركت ما دونهم قربة إلى الله تعالى.

_________________

(١) آل عمران : ٦٤.

٢٥٧

الحلقة السادسة والعشرون

تناقض القائلين بالشورى في الحكم هو الذي شيّعني

صالح ... صديق من الأصدقاء الذين عرفتهم بعد استقراري بمدينة قابس ، واتّخذته صديقاً بعد أنْ عرفت فيه أكثر من ميزة وخصلة ، لعلّ أهمها على الإطلاق صبره وأناته وامتلاكه لنفسه عند الغضب ، ممّا أعطاه مكانة متميّزة ليس عندي فقط ، بل عند كلّ الناس الذين يزنون الحياة بميزان العقل ، استبصر نتيجة بحوث ومقارنات ، أفضت به إلى معرفة حقيقة الحكومة الإسلاميّة ، وصفتها بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولولا ما ميّز نفسه من تعقّل وصبر وهدوء ، لما أمكنه أنْ يصل إلى معرفة حقيقة نظام الحكم في الإسلام لوحده.

دعوته إلى الحضور ; ليقدّم لنا أطوار تساؤلاته ، ونتائج بحوثه ، بخصوص المسألة التي دفعت به إلى اعتناق إسلام الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة ، فقبل الدعوة ، وجاء ملبّيا نداء الواجب ; لعلّه يقدّم جزءاً من الجميل إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، على ما قدّموه من أجل هذا الدين الخاتم ، ولمّا جاء دوره في الحديث قال :

منذ أنْ كنت حدثاً ، وفي بداية اعتناقي للإسلام ، راودتني أسئلة عديدة حول الدين ، وما تعلّق به من مسائل مصيريّة وحسّاسة ، لم تدفعني إلى البحث إلّا بعد أنْ وصلتُ إلى المرحلة الختاميّة من التعليم الثانوي ، بسبب البرنامج الذي خصّص لنا في مادة التربية الإسلاميّة ، والذي تناولت بعض دروسه عصر ما سمّي بالخلافة الراشدة ، وكان الدرس الأول متضمنا فترة وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحادثة السقيفة ، وقد خلص الدرس ، وانتهت مداخلة الأستاذ تعقيبا على ذلك ، إلى اعتبار

٢٥٨

أنّ الإسلام لم يأخذ مسألة الحكومة بعين الاعتبار ، لا من حيث مبدأ التعيين ، ولا من حيث شروط الاختيار ، وقد ترك أمرها للناس شورى بدليل قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا ) (١) وقوله أيضا : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (٢).

لكنّ عقلي رفض أنْ يتقبّل فكرة الأستاذ ، في ترك مسألة الحكومة الإسلاميّة للناس ، فرفعت يدي إليه ، ولمّا أذن لي في الكلام قلت له : إذاً ، يمكن القول بأنّ الدين الإسلاميّ ، لا يملك في منظومته التي صرّح الوحي بتمامها وكمالها ، في قوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٣) وقوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٤) نظاماً للحكم فيه ؟ ممّا يعتبر متناقضاً مع البيان الذي صرّحت به الآيتان.

فردّ علي الأستاذ قائلا : للأسف الشديد أن الاعتقاد بفصل الدين عن أداة الحكم ، يتناقض مع تمام الدين وكماله وشموليّته ، إلّا أنّنا عندما نتناول بالقراءة والتحليل مرحلة ما بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نجد أنّه لم يثبُت نصّ واضح وصريح تعلّق بنظام الحكم في الإسلام ، سوى ما جاء من تطبيق لمبدأ الشورى ، مُجسّداً في حادثة سقيفة بني ساعدة ، والتي انبنى على أساسها نظام الخلافة الإسلاميّة.

قلت : إلّا ترى أن هذه القراءة قد تأسّست على نمط تبريري لأحداث قد وقعت ، ونُظر إليها على أساس أنّها انعكاس صحيح لمفهوم الحكومة الإسلاميّة ؟

قال : هذا ممّا أوحت به الأحداث التي أعقبت وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي لم تترك مجالاً للقول بأنّ التشريع قد ترك نظام حكم إسلامي واضح المعالم ، وفي غياب الأدلة الواضحة على نمط الحكومة الإسلاميّة ، اُعتمد على اجتهادات السلف

_________________

(١) الشورى : ٣٨.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

(٣) الأنعام : ٣٨.

(٤) النحل : ٨٩.

٢٥٩

الصالح للأمّة على أساس سلامة مرجعيّته في ذلك المجال.

قلت : إذاً ، فنظام الحكم في الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن واضحا لدى الأمّة ؟

قال : نعم ، في ما عدا الأساس الشوروي الذي أكّده القرآن الكريم ، وعفي عن كيفيته ومداه وطريقة إقامته.

قلت : إذاً ، عدنا إلى مبدأ الشورى من حيث كونه نظاما عامّاً للحكم في الإسلام ، فإنّنا نجد أن الشورى لا يمكنها أن تشمل التشريع الإلهي ; لأنّها أحكام غير قابلة للأخذ والرد ، فأين ترى يمكن تطبيق هذا المبدأ ؟

قال : في مسألة اختيار وليّ أمور المسلمين مثلاً.

قلت : فهل وقع تطبيق مبدأ الشورى على حقيقته في هذا المنصب ؟

قال : نعم ، ولكن بضرب من النسبيّة ، إذا نحن أخذنا شورى سقيفة بني ساعدة ، وباعتبار أنّ المدينة تعتبر عاصمة المسلمين ، ومركزهم السياسي ، وثقلهم الاجتماعي والاقتصادي والعسكري ، فإنّ سكّانها يعتبرون أهل الحلّ والعقد ، وقراراتهم غير قابلة للرّد أو الرفض.

قلت : طالما أنّ الشورى هي الوسيلة الوحيدة لاختيار وليّ أمر المسلمين وحاكمهم ، فلماذا وقع التخلّي عنها سريعا ؟

قال : وكيف ذلك ؟

قلت : عندما مات أبو بكر أوصى إلى عمر بن الخطاب ، وكان الكاتب للوصيّة عثمان بن عفان.

قال : لكنّ هنالك رواية تقول : إنّ الخليفة الأول قد أجرى مشورة حول من يكون أهلاً للحكم بعده ، فوجد أكثر الصحابة ميلاً إلى عمر.

قلت : وعلى افتراض أنّ الصحابة كانوا بذلك الميل ، فلماذا لا يتركهم يُتمّمون

٢٦٠