موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-97-3
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٩٦

١
٢

٣
٤

٥
٦

في بقية المأثور عنه شعراً ونثراً وكتابة

وخطابة ومحاورة ومحاججة ومفردات

حكمية في آداب الأخلاق الإسلامية

وأجوبة مسائل في شتى فنون المعرفة

٧
٨

تمهيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ورضي الله عن الصحابة المهتدين ، وعن التابعين لهم باحسان إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذا هو الجزء الرابع من الحلقة الثانية من موسوعة ( عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ).

يشتمل على الفصل الرابع من الباب الثالث الذي سنقرأ فيه ما روي عنه من محاورات عقائدية ، في مواقف جهادية باللسان ( ما عن السيف تقصر ) مضافاً إلى بقية المأثور عنه شعراً ونثراً ، وكتابة وخطابة ووصايا ،ومفردات من الكلم في الحِكم وآداب الأخلاق الإسلامية ، وأجوبة مسائل في شتى فنون المعرفة ، وجميعها تعكس لنا صورة مشرقة عن حياة ذلك

٩

البطل في سوح الجهاد في سبيل العقيدة والإيمان ، كما أنّها خزين علم وأدب ، يرفد التراث الإسلامي بما يزيده قيمةً قيّمة ، إذ جمع ابن عباس رضي الله عنه من ميراث النبوّة والإمامة علماً جمّاً وفضلاً عظيماً ، فصار ينفق منه مع وضوح في المنهج ، وقوة في الحجة ، وتفان في العقيدة ، وجهاد في سبيل الحق قولاً وعملاً ، لذلك كان فذّاً بين الصحابة العلماء من العاملين المجاهدين ، الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه من صدق الإيمان بجميع أركانه ومقوّماته ، وأداء الأمانة في زمانه ومكانه.

ومن أبرز مظاهر إيمانه وقوفه مأموماً مخلصاً إلى جانب إمامه ، تلميذاً وفيّاً تابعاً لمعلّمه ، مستضيئاً بنور علمه ، مقتدياً بهداه ، مجاهراً بنصرته.

لم أقف على من ضاهاه في جرأته وشجاعته ، في كثرة مواقفه العقيدية ، كما ستأتي شواهد هذا في محاوراته مع عمر وغيره ممن لا يؤمن بطشه في سورة غضبه عند تحد سافر بقول ساخر ، غير أن الإيمان وصدق الموالاة كانا عنده أقوى في الإندفاع نحو التضحية والمفاداة.

وهكذا كان هو فذّاً في تلك المواقف طيلة حياته من شبابه إلى شيخوخته ، فلم يوهن عزمه كبر سنّ ، ولا فقدان بصر ، ولا وهن عظم ، ولا اشتعال الرأس منه شيباً في أداء رسالته ، فهو كما كان في أيام نضارة شبابه مضاءً وعزماً ، وحسبنا شاهداً ما سنقرأه من خطاب ممضّ مع ابن الزبير في تنمّره ، وتمعّره ، وكتاب تهديد ووعيد إلى يزيد مع تجبّره وكفره ، وكلاهما في البغض والعنف ما لهما من مزيد. ومن ذا غيره كان يجرأ على مثل ذلك؟ وصفحات تلك الحقيقة في التاريخ بين يدي القراء ،

١٠

فليأتوا بآخر من الناس مثل ابن عباس رضي الله عنه.

إنّه الفذّ المبرّز في عصره بكماله ، والمعتزّ أيّما عزّة في إنتمائه إلى آله ، أليس هو القائل كما في ( أسد الغابة ) ، وهي كمقولة إمامه عليه السلام : ( نحن أهل البيت ، شجرة النبوة ، ومختلف الملائكة ، وأهل بيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم ) (١). وروى السيوطي في ( الدر المنثور ) في تفسير قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ )(٢) ، فقال : ( أخرج ابن المنذر والطبراني من طريق عطاء ، عن ابن عباس في الآية ، قال : نحن الناس دون الناس ) (٣).

ولئن كان صادقاً في هذا الإنتماء ، فلقد زاده فزانه بصدق الولاء ، فهو كان أيضاً كذلك فذّاً في مواقفه الجهادية في سبيل العقيدة ، فهو حين يقول في تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )(٤) : ( جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف ) (٥). لم يتخلف عن مقولته في جهاده مع المنافقين.

وعلى هذا المبدأ كانت مواقفه مع الأعداء من المنافقين الذين يبغضون

____________________

(١) أسد الغابة ٣ / ١٩٣.

(٢) النساء / ٥٤.

(٣) الدر المنثور ٢ / ٥٦٦.

(٤) النساء / ٥٤.

(٥) التبيان للطوسي ٥ / ٢٥٩ ، فقه القرآن للقطب الراوندي ١ / ٣٤٢ ، الكشاف للزمخشري ٢ / ٢٩٠ ، أحكام القرآن لابن العربي ٢ / ٥٤٤.

١١

الإمام عليه السلام الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث ابن عباس : ( قال صلى الله عليه وآله وسلم وقد نظر إلى عليّ عليه السلام : ( لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، من أحبّك فقد أحبّني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، وحبيبي حبيب الله ، وبغيضي بغيض الله ، ويل لمن أبغضك بعدي ) (١). وكان ابن عباس رضي الله عنه يعرفهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو القائل : ( كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببغضهم عليّ بن أبي طالب ) (٢).

فهو نسخة مفردة من بين شيعة الإمام عليّ عليه السلام ، فكان يترسم خطاه في مواقفه مع أعدائه ، وفي جامعيته وألمعيته ، حتى في تأثره بإسلوبه البلاغي ، حين نقرأ المأثور عنه في هذا نجده يتصرف في فنون القول فصاحة مع حكمة المعاني بلاغة ، وانسياب المفردات بدون تكلّف ، وله إحاطة تامّة بأساليب الفصاحة ، فيختار من الكلم أوعاها لمعناها ، ويضعها في مكانها ، ويدلي بالحجة في زمانها ، غير عابئ ولا هياب بما سيواجهه من الصعاب ، من سطوة معتد غاشم ، لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.

لهذا كلّه لم أتردد في قولي : إنّ ابن عباس كان فذّاً بين أولئك الصفوة من شيعة الإمام عليه السلام في جامعيته وألمعيته ، فضلاً عن سائر الصحابة ممن أشادوا لهم صروحاً على شفا جرف هار ، فانهارت بهم عند الموازنة ، وساخت بهم أقدامهم عند المعادلة.

وبالرغم ممّا لحق بتاريخ هذا الإنسان من قوارص الكلم ، وقوارض التمويه والتشويه وقد أشرت إلى مصادرها آنفاً ، من ذرية عباسية بغيضة ،

____________________

(١) علي إمام البررة ١ / ٩٣ ، نقلاً عن الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد ٩ / ٣٣.

(٢) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد ١٣ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٢

وأموية حاقدة ، وحسنية زيدية موتورة ، وخوارج كالجوارح قانصة ، وأخيراً صليبية كافرة ، ومع هذا كلّه فقد بقي في تاريخه فذاً يشار إليه بالبنان.

قال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد ) : ومن أحسن ما قيل في مدح البلاغة قول حسان بن ثابت في ابن عباس :

صموت إذا ما زيّن الصمت ُ أهله

وفتّاق أبكار الكلام المختّم

وعىَ ما وعى القرآن من كلّ حكمة

ونيطت له الآداب باللحم والدم

وقال : ولحسان أيضاً في ابن عباس رضي الله عنه ويروي للحطيئة :

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بمنتظمات لا ترى بينها فصلا

وبعده :

يقول مقالاً لا يقولون مثله

كنحت الصفا لم يبق في غاية فضلا

في أبيات له ، ولغيره فيه أيضاً :

إذا قال لم يترك صواباً ولم يقف

بعيّ ولم يثن اللسان على هجر (١)

أقول : أمّا الأبيات التي أشار إليها ابن عبد البر فهي من قول حسان بن ثابت فيه :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيت له في كلّ أقواله فضلا

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بمنتظمات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا

____________________

(١) التمهيد ٢ / ٣٧٩.

١٣

سموت إلى العليا بغير مشقة

فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا

خُلقت حليفاً للمروءة والندى

بليجاً ولم تخلق كهاماً ولا خبلا (١)

فأنا أشعر بالسعادة حين أجهد نفسي في جمع ما تناثر من أقواله وأحواله في ظلال الثقافة والفكر لأعرض بعض ما أحطت به خبراً من تراثه الأدبي وشذرات أكثرها في العقيدة والآداب والأخلاق.

كما إنّي استشعر بالأسى حين أجد في غيابة التاريخ حقائق مغيبة.

____________________

(١) ديوان حسان بتفاوت في اللفظ ، وسيأتي ذكر سبب قوله نقلاً عن الطبراني في الكبير / ٣٥٩٣ وعنه في مجمع الزوائد ٩ / ١٥٥٢٩ وغيرهما في محاوراته مع عثمان.

١٤

حقائق مغيّبة في عيابات المؤرخين

إنّ العرب تكني عن القلوب والصدور بالعيبات ـ جمع عيبة ـ من قولهم : فلان عيبة فلان ، إذا كان موضع سرّه ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام عليّ عليه السلام : ( عليّ عيبة علمي ) (١) ، وقد رواه عنه ابن عباس كما في ( تاريخ ابن عساكر ) وغيره (٢).

ولمّا كنّا نبحث في هذا الجزء عن مأثورات ابن عباس رضي الله عنه وهي من الكثرة والوفرة ما أعجز عن الإحاطة بها جميعها. فنود لفت نظر القارئ إلى أنّ تلك الكثرة والوفرة قد أصابتها أياد أثيمة وقلوب سخيمة على أسوء الظن ، وأياد سليمة ولكنّها مع قلوب سقيمة تشعر بالهزيمة على أحسن الظن. فافقدتنا كثيراً من الحقائق التي تدين السالفين الخالفين ، فضاعت في عيابات المؤرخين وغيابات الحاقدين ، وما وصل إلينا فيما بين ذين وذين يغني كلّ ذي عين ، بأنّ ابن عباس أصاب مأثوراته نصيب غير منقوص ، في تغييب بعض النصوص ، على أنّ ما وصل إلينا أيضاً لا يخلو

____________________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ٤ / ٣٥٦ وفي طبعة بيروت العلمية ٤ / ٤٦٩ ، وللمناوي في شرح الحديث كلام نافع جامع ، فليراجع.

(٢) تاريخ مدينة دمشق ترجمة الإمام علي ٢ / ٤٨٢ تحقيق المرحوم الشيخ المحمودي ، وقد روى الحديث المتقى الهندي في كنز العمال في مواضع متعددة منها ١٢ / ١٣ ، و ١٢ / ٢٠٣ ط حيدر آباد ( الثانية ) برقم ( ١١٥١ ) بلفظ ( علي عتبة علمى ) عد ـ ، وقد علق المحقق في الهامش فقال : كذا في المطبوع ونظ ، وفي المنتخب عيبة ، وهو الظاهر كما في حديث آخر الأنصار كرشي وعيبتي / ١٠٦ ، راجع الطبعة الثانية ٣ / ١٦١.

أقول : وهذا بعض شواهد التعتيم المتعمد على فضائل الإمام عليه السلام ممّا لا يحصى ولا يعد.

١٥

بعضه من غبش وتعتيم ، خصوصاً في محاوراته الإحتجاجية مع الخلفاء ومن لفّ لفّهم ، ونسج على نولهم ، ومهما كان الحال فلا مناص لنا من الإلمام بشيء من البحث في موضوع ما يتوزعه ذلك المأثور ، مع لمحة عابرة عن مصادره ، كمقدمة لما سنقرأ في هذا الجزء من منقول ، فنقول :

أمّا البحث عن الموضوع فهو يستوعب التراث الأدبي بمعناه الشامل العام ، ومن بعضه الشعر والخطب ومفردات الكلم في الحِكم ، والجانب الأهم والأتم هو ما نقرأ من فصول نثرية ممتعة من خطب ومحاورات ، تعَلمنا أدب الجدل والمناظرة ، وكيف يكون دفع الحجة بالحجة ، وهذا اللون يسمو بمفهومه عن عنوان الأدب الخاص بمفهومه الشائع الذائع. وأحرى بنا أن نعدّ محاوراته الإحتجاجية من آداب فصول علم الكلام وبحوث العقائد في الإمامة ، وابن عباس في هذا الجانب كان ابن بجدتها ، متكلماً بارعاً ، حجة في الكلام ، قوياً في الخصام ، ( ما لاحاه أحد إلا خصمه ) على حدّ قول عمر بن الخطاب كما سيأتي في حواره معه عن أشعر الشعراء.

وكان رموز محاوريه وهم في عنفوان غطرستهم يتقون محاججته ، فإنّ معاوية كان يوصي أصحابه بإجتناب محاورة رجلين : الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس ، لقوّة بداهتهما (١) ، وكان يقول : ( والله ما كلمت أحداً قط أعدّ جواباً ولا أعقل من ابن عباس ) (٢) ، وقوله الآخر : ( ما استنبأه أحد

____________________

(١) الأعلام للزركلي ٢ / ١٩٩ هامش.

(٢) طبقات ابن سعد ترجمة الإمام الحسن (ع) / ٩٤.

١٦

إلاّ وجده معدّاً ) ، إلى غير هذا ممّا سيأتي كلّه في صفحات إحتجاجه.

وكانت أسماء بنت أبي بكر تنهى ابنها عبد الله بن الزبير عن مكالمة ابن عباس وبني هاشم وتقول له : ( فإنّهم كعم الجواب إذا بدهوا ) ، وتنهاه عن ابن عباس خاصة وتقول له : ( يا بني احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن ، واعلم أنّ عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها ، فإياك وإياه آخر الدهر ) (١).

ولكن ابنها لم يسمع نصحها فكان :

كناطح صخرة يوماً ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فكان ابن عباس في براعته وشجاعته ، وبداهته ونباهته ، لا يوازيه في عصره أحد ، من سائر أقرانه إلا السادة الكرام من ذوي قرباه ، فهم كانوا أمراء الكلام ، ومن أبيهم وإمامهم تعلمَ هو العلم كما مرّ ذلك عنه مكرراً.

وأمّا البحث عن مصادر المرويات المأثورة التي سنقرأ ما وصلت إليه يد البحث وأمكن الإطلاع عليه ، فهي المقبولة المعروفة لدى جلّ الباحثين. وسنعزز كلّ معلومة من شعر أو نثر أو محاورة أو كلمة حكمية بتوثيقها مشفوعة بذكر مصادرها ، ولئن وجد بين المصادر ما لا يستسيغ بعضهم الرجوع إليه فهو مقبول عند بعض آخر ، كنحو كتب ابن أبي الدنيا ، أو كتب ابن عربي الحاتمي ، وأمثالهما من كتب التصوف كـ ( إحياء العلوم ) للغزالي ، و ( طهارة القلوب ) للديريني ، وأضرابهما.

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢٠ / ١٣٠.

١٧

والذي يهون الخطب في تقريب شقة الخلاف بين الطرفين ، أنّ المنقول عنها ـ على قلّته ـ إنّما هو أدبيات في الحكمة ، والأخلاق وتهذيب النفس ، وليس نقضاً أو تأسيساً لحكم شرعي ، وليس بينها ما ينافي الأخذ به أصلاً ثابتاً من أحكام الشريعة. فلا نحتاج إلى توظيف الضوابط والمعايير التي وضعها علماء الجرح والتعديل لقبول الرواية. على أنّي لم أغفل هذا الجانب في توثيق بعض المحاورات ذات الشأن في إثبات الإمامة كما سيأتي في حديث التسعة رهط وغيره.

ثم إنّ وجود بعض الأكاذيب في كتاب لا يمنع من إعتماده في غير ذلك ، مهما أثقله الغثّ ، على أنّه ما من كتاب إلاّ وهو يؤخذ منه ويترك إلاّ كتاب الله تعالى ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ )(١).

ثم أنّا قد نجد الخبر الواحد فيه ما هو مقبول ، وفيه ما هو مرذول ، فلا ملازمة بين قبول بعض أجزائه وبين ردّ بعضها ، وكثيراً ما نجد ضمّ الجوهر مع الحجر ، أو نجد استدراج الراوي لجملة منه داخل الخبر تبعاً لهواه المذهبي المقيت ، أو زلفى لسلطة الوقت التي يعيش في كنفها ، ولقد توصلت مع قناعة تامّة إلى أن المأثور عن ابن عباس لم يخل من بعض تلك الشوائب ، كما لا يمكن الإحاطة بجميع ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في هذا المضمار.

وأنّى لي ولغيري أن يحيط خبراً بجميع ذلك ، ونحن جميعاً نأخذ المعلومة من مراجع أصلية أو مصادر فرعية عنها ، وفيها نقرأ اعترافات

____________________

(١) فصلت / ٤٢.

١٨

مؤلفيها بتغييب حقائق في عياباتهم وتحت عياباتهم ، بل وطمس بعضهم معالمها في غيابات أحقادهم ، إرضاءاً لأسيادهم ، وقليل منهم من نعذره لزعمه الخوف من هياج العامّة عليه ، فإن صح زعمه فلا تجريم ولا تأثيم ، ولكن هلمّ الخطب فيمن ارتكب جريمة الكتمان لغلبة هواه ، فهو قد باء بإثم عظيم.

وكشواهد على تغييب الحقائق بين العيابات والغيابات ، نقرأ اعترافات أصحاب المراجع الأساس في تسجيل الحديث والأحداث ، وهي اعترافات خطيرة لم يسلم منها حتى أئمة الحديث كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ، وكذلك مدونوا السيرة كالواقدي وابن إسحاق وابن سعد وابن هشام ومن تابعهم ، وعطفاً عليهم رموز المؤرخين ورواد التاريخ كالبلاذري والطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون ، وتذييلاً لهم نذكر أبا الفرج الاصفهاني ، وكم لهؤلاء من نظير.

وقد جمعت في قصاصات وعلى الهوامش جملة من ( فوات المؤلفين وهفوات المحققين ) قدراً لا يستهان به من جنايات الأقلام ، واللافت للنظر أنّ أكثرها فيما يتعلق بأيام عثمان ، ممّا يكشف عن هيمنة الإعلام السلطوي الأموي على الرواة ، فأخذوا عنهم مدونوا الأحداث ، ودوره في تغييب بعض الحقائق ، حتى شبّ عليه الصغير وشاب عليه الكبير ، وتشرّبته أذهان العامة بأكاذيب بقيت تعيش على أنّها هي الحقائق دون غيرها ، حتى بعد إنقضاء أيام بني أمية وتولي بني العباس حكومة المسلمين ، بدلالة أنّ كلّ من ذكرنا أسماءهم عاشوا في أيام العباسيين وإن أدرك بعضهم كمالك وابن إسحاق آخر أيام الأمويين.

١٩

نماذج مثيرة لإعترافات خطيرة

١ ـ روى البلاذري في ( أنساب الأشراف ) في حديث أبي ذر مع عثمان : ( وقال قتادة : تكلم أبو ذر بشيء فكذّبه عثمان ) (١).

فماذا كان ذلك الكلام الذي كرهه عثمان فكذّبه؟ وكيف كذّبه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في أبي ذر : ( ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على رجل أصدق ذي لهجة من أبي ذر ) (٢)؟!

وهكذا يبقى عثمان يعدّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يكذّبه! إنّها بليّة المسلمين تكريم خليفة الأمويين على حساب كرامة رسول ربّ العالمين (؟!).

٢ ـ وروى البلاذري أيضاً في حديث عمار مع عثمان بعد موت أبي ذر بالربذة طريداً وحيداً ، فأراد تسيير عمار كما صنع بأبي ذر : ( جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له عليّ : ( يا عثمان اتق الله فإنّك سيرّت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ) ، وجرى بينهما كلام (؟) حتى قال عثمان : أنت أحق بالنفي منه ، فقال عليّ : ( رم ذلك إن شئت ) (٣).

____________________

(١) أنساب الأشراف ق٤ ١ / ٥٤٤.

(٢) راجع موسوعة اطراف الحديث النبوي الشريف ٩ / ٤٠ ـ ٤١ تجد الحديث بألفاظ متقاربة وعن مصادر تربو على الثلاثين.

(٣) سيأتي في المحاورة الثالثة للعباس مع عثمان ما يشير إلى تصميمه أن يقوم بأمر النفي لعلي وأصحابه ، ممّا دعا العباس إلى أن يتدخل في نصح عثمان أن لا يقوم بما عزم عليه ممّا يسبب له وللمسلمين كارثة لا يعفى أثرها.

٢٠