موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-97-3
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٩٦

أَعرفه ، لم أكتب عنه شيئاً. وجابر المذكور في مسنده أَظنه الجعفي ، وقد قال البيهقي في موضع : لا يحتج به. وقال الدارقطني : متروك.

وقد روى هذه القصة عن سفيان الثوري من لا نسبة بينه وبين العدني حفظاً وجلالة وهو عبد الرحمن بن مهدي ولم يذكر فيه عبد الملك. قال ابن أبي شيبة في مصنفه : قال ابن مهدي : ثنا سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى : أنّ ابن عباس وقع في عينه الماء فقيل له : ( تستلقي سبعاً ولا تصلي إلاّ مستلقياً ) ، فبعث إِلى عائشة وأم سلمة يسألهما فنهتاه.

وأَخرج الحاكم في المناقب من جهة أبي معاوية : ثنا الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، قال : لمّا كف بصر ابن عباس أتاه رجل فقال له : ( إنّك إِن صبرت لي سبعاً لم تصل إلاّ مستلقياً تومي إِيماءً داويتك [و] برأت إِن شاء الله ، فأرسل إِلى عائشة وأَبي هريرة وغيرهما من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (١).

( الحديث الرابع ) : قال الطبراني في معجمه الوسط : حدثنا علي بن سعيد الرازي ، ثنا الهيثم بن مروان الدمشقي ، ثنا يزيد بن يحيى بن عبيد ، ثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة : حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ، ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : ( يا بن عباس ما هاتان الركعتان )؟ فقال : ( بدعة

____________________

(١) تتمة الرواية : وكل يقول ( أرأيت إن مت في هذا السبع كيف تصنع بالصلاة )؟ فترك عينه ولم يداوها. عن المستدرك للحاكم ٣ / ٥٤٦ طبع الهند.

٢٦١

وصاحبها صاحب بدعة ) ، فلما انفتل قال : ( ما قلتما )؟ قال : ( قلنا : كيت وكيت ) ، قال : ( ما ابتدعت ولكن حدثتني خالتي عائشة ) ، فأرسل معاوية إلى عائشة ، فقالت : ( صدق ، حدثتتني أم سلمة ) ، فأرسل إلى أُم سلمة : ( أنّ عائشة حدثتنا عنك بكذا ) ، فقالت : ( صدقت ، أَتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فصلى بعد العصر فقمت وراءه فصليت ، فلما انفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت فصليت معك. فقال : إِنّ عاملاً لي على الصدقات قدم علي فجمعت (١) عليه؟ )؟

وفي الصحيحين : عن كريب مولى ابن عباس : أنّ عبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوه إِلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ( اقرأ عليها السلام منّا جميعاً ، وسلها عن الركعتين بعد العصر ، وقل : إِنّا أخبرنا أنّك تصلينها ، وقد بلغنا أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ) ، قال ابن عباس : ( وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنها ) ، قال كريب : فدخلت عليها وبلغتها ، فقالت : ( سل أم سلمة ) ، فذكر نحو ما

____________________

(١) كذا في الأصل وقد رجعنا إلى جميع المظان ووجدنا أحاديث كثيرة في شأن الركعتين بعد العصر ، في مسند أحمد أكثر من عشرة مواضيع وفي البخاري مثلاً في الكتاب ٦٤ الباب ٩٦ وفي مسلم وغيرهما وليس في الظاهرية والمكتبات التي في دمشق نسخة عن المعجم الأوسط فنصحح عنها ، ومن حديث مسند أحمد ج٦ الباب ٦٩ : ( .. ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر فشغلني قسم هذا المال حتى جائني المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعمها ) ثم وجدت مسند ابن عباس في المجلد الثالث من المعجم الكبير للطبراني ( مخطوط في الظاهرية رقم ٢٨٣ ـ حديث ) فسردته كله متحرباً فلم أجد عبد الله بن الحارث يروي عن ابن عباس إلا عشرة أحاديث ليس حديثنا هذا بينها.

٢٦٢

سبق إِلى أنّه قال : إِنّه أَتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان.

وأخرج الترمذي من جهة عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ( إنّما صلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين بعد العصر لأَنّه أَتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يعد لهما ) ، وقال : حديث حسن. ويعارضها في الصحيحين عن عروة : قالت عائشة : ( يا ابن أُختي ما ترك النبيّ السجدتين (١) بعد العصر عندي قط ).

( الحديث الخامس ) : أخرجه أَبو داوود ، وابن ماجة في سننهما من طريق يزيد بن أَبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب نجرانية ، الحلة ثوبان ، وقميصه الذي مات فيه ).

قال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : ( يزيد فيه لين ، ومقسم صدوق ضعفه ابن حزم ). ا هـ. أَعله المنذري بيزيد ، قال : وقد أَخرج له مسلم في المتابعات ، وقال غير واحد من الأئمة : إِنّه لا يحتج بحديثه. قلت : وقد خالفه ابن أَبي ليلى. فأخرج البيهقي في سننه من جهة قبيصة : ثنا سفيان ، عن أَبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثوبين أَبيضين وبرد حِبَرة ) ، قال البيهقي : ( كذا رواه محمد بن عبد

____________________

(١) البخاري ١ / ٧٦ باب من لم يكره الصلاة إِلا بعد العصر والفجر .. وفي تيسير الوصول ٣ / ٢٩٥ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين ) وفي رواية : ( ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط ) أخرجه الخمسة إلا الترمذي.

٢٦٣

الرحمن بن أَبي ليل ). قال الذهبي : ( وليس بقوي ) ، وقد روت عائشة رضي الله عنها : ( أَنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفن في ثلاثة أَثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ) ، أَخرجه الأَئمة الستة في كتبهم.

قال البيهقي : وقد بينت عائشة رضي الله عنها أَنّ الإشتباه في ذلك على غيرها : فأخرج مسلم من جهة هشام ، عن أَبيه ، عن عائشة ، قالت : ( كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أَثواب بيض سحولية من كرسفُ ليس فيها قميص ولا عمامة ، فأمّا الحلّة فإنّما شبه على الناس فيها أَنها اشتريت له حلّة ليكفن فيها فتركت الحلّة فأخذها عبد الله بن أَبي بكر فقال : ( لأحبسنَها لنفسي حتى أُكفّن فيها ) ، ثم قال : ( لو رضيها الله لنبيّه لكفنه فيها ) فباعها وتصدق بثمنها ). وفي رواية : ( أدرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في برد حبرة ، ثم أخذ عنه ). قال القاسم : ( إِنّ بقايا ذلك الثوب عندنا بعد ) ، قال البيهقي : هذا الثوب الثالث ، وأَمّا الحلّة فتصدق بثمنها عبد الله وهي ثوبان. أهـ.

( الحديث السادس ) : ـ إنكارها عليه الرؤية : أخرج الترمذي في التفسير من جهة مسلم بن جعفر هو البغدادي ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، فقلت ( أليس الله يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )؟

فقال ( ويحك ، ذاك إِذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، قد رأى ربه مرتين ) ، وقال : حسن غريب. قال شيخنا عماد الدين ابن كثير : ( مسلم بن جعفر ليس بذاك المشهور ، والحكم بن أبان وثقه جماعة ) ، وقال ابن

٢٦٤

المبارك : ( ارم به ). اهـ.

قلت : وأخرج الحاكم في مستدركه من جهة معاذ بن هشام : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( أتعجبون أن تكون الخلّة لإِبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وله شاهد صحيح عن ابن عباس في الرؤية. ثم ساقه من جهة إِسماعيل بن زكريا ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( رأى محمد ربّه ) وله شاهد آخر صحيح الإسناد ، ثم ساقه عن يزيد بن هارون ، ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، قال : ( قد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ). وعن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ( رآه مرتين ). ثم قال الحاكم : قد اعتمد الشيخان في هذا الباب أخبار عائشة بنت الصديق ، وأُبي بن كعب ، وابن مسعود ، وأَبي ذر : ( أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل عليه السلام ). وهذه الأخبار التي ذكرنا صحيحة. اهـ.

وقد أخرج البخاري من حديث القاسم ، عن عائشة ، قالت : ( من زعم أنّ محمداً رأُى ربّه فقد أعظم ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادّاً ما بين الأفق ). وفي الصحيحين من حديث مسروق : ( قلت لعائشة : يا أمتاه هل رأَى محمد ربّه؟ فقالت : ( لقد قفّ شعري ممّا قلت ، من حدثك أَنّ محمداً رأى ربّه فقد كذب ، ثم قرأت : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(١) ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته

____________________

(١) الأنعام / ١٠٣.

٢٦٥

مرتين ). وفي رواية : ( من زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية ) ، فقلت : ( يا أم المؤمنين أُنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عزوجل : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ )(١) ، ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى )(٢) ، فقالت : أنا أوّل هذه الأَمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إِلى الأرض ) ، وقالت : ( أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(٣)؟ أولم تسمع أنّ الله عزوجل يقول : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )(٤).

قلت : وهذا قاطع في هذه المسألة إِذ صرحت فيه بالدفع. ونقل عن ابن خزيمة أنه قال في كتاب التوحيد له : ( أنّه صلى الله عليه وآله وسلم إِنّما خاطب عائشة على قدر عقلها ) ، ثم أخذ يحاول تخطئتها وليس كما قال ، فقد جاء عن غيرها ذلك مرفوعاً إِلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهم ابن مسعود ، رواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، ثنا عبد الواحد بن زياد ، ثنا سليمان الشيباني ، ثنا زر بن حبيش ، قال : ( قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )(٥) ، قال :

____________________

(١) التكوير / ٢٣.

(٢) النجم / ١٣.

(٣) الأنعام / ١٠٣.

(٤) الشورى / ٥١.

(٥) النجم / ٩.

٢٦٦

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأيت جبريل له ستمائة جناح ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

وفي كتاب ( الجمع بين الصحيحين ) للحميدي : قال أَبو مسعود في الأطراف في حديث عبد الواحد : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى )(١) ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأَيت جبريل في صورته له ستمائة جناح ) ، قال الحميدي : وليس ذلك كما رأيناه من النسخ ولا ذكره البرقاني فيما خرجه على الكتابين. ومنهم أَبو ذر : قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عفان ، ثنا هشام ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : قلت لأبي ذر : ( لو رأَيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسألته ) ، قال (٢) : ( وما كنت تسأله )؟

قلت : ( كنت أسأله : هل رأَى ربه عزوجل )؟ فقال : ( إنّي سألته؟ فقال : قد رأَيته نوراً أنىّ أَراه ) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ : ( رأيت نوراً ) ، ثم قال : ( معناه أنّه لم ير ربّه ، ولكن رأى نوراً علوياً من الأنوار المخلوقة ). اهـ. هكذا وقع في رواية الإِمام أحمد.

وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين : أحدهما قال : ( رأيت نوراً أنّى أراه ) ، والثاني قال : ( رأَيت نوراً ). وهو مصرح بنفي الرؤية إِذ لو أراد الإِثبات لقال : ( نعم ) ، أَو ( رأَيته ) ، ونحو ذلك ، وهو يرد قول ابن خزيمة : ( أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها ) ، ولهذا لم يجد ابن خزيمة عنه

____________________

(١) النجم / ١٣.

(٢) في الأصل : قلت. والتي بعدها : قال : وهو سهو مخل بسياق الحديث.

٢٦٧

ملجأ إِلاّ أنّه كان يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وأبي ذر (١) ، فقال : ( في القلب من صحة مسند هذا الخبر شيء ) لم أَر أحداً من علماء الأثر نظر لعلّة في إِسناد ، قال : عبد الله بن شقيق راوي هذا الحديث كأنّه لم يكن يثبت أبا ذر ولا يعرفه بعينه واسمه ونسبه ، قال : لأنّ أبا موسى محمد ابن المثنى حدثنا : عن معاذ بن هشام ، عن أَبيه ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق. قال : أَتيت المدينة فإِذا رجل قائم على غرائر سود يقول : ألا ليبشر أصحاب الكنوز بكيّ في الحياة والممات ، فقالوا : ( هذا أبو ذر ). فكأنّه لا يثبته ولا يعلم أنه أبو ذر.

وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أَنّه ليس بنور ، وخطأنا المجوس في قولهم : هو نور ، والأنوار أجسام والباري سبحانه ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أنّه حجابه النور ، وكذلك روي في حديث أَبي موسى ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور؟ ومن أثبت رؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ربّه ، فإِنّما يثبت ليلة المعراج ، وأسلم أبو ذر بمكة فدعا (٢) قبل المعراج ، ثم رجع إِلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأُحد والخندق ، ثم قدم المدينة بعد ذلك ، يحتمل أَنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقت إِسلامه : ( هل رأيت

____________________

(١) هنا شطب المؤلف على ما يلي :

وأَنى له ذلك وأما ابن الجوزي فأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الإِسراء فأجابه بما أجابه ، ولو سأله بعد الإِسراء لأجابه بالإِثبات. وهذا ضعيف فإِن عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإِسراء ولم يثبت لها الرؤية.

(٢) كذا في الأصل.

٢٦٨

ربك )؟ وما كان عرج به بعد فقال : ( نور أنّى أَراه ) ، أَي أَنّ النور يمنع من رؤيته. وقد قال بعد المعراج في رواية ابن عباس : ( رأيت ربي ) اهـ. وهذا ضعيف ، فإِنّ عائشة أم المؤمنين قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية.

وأَمّا قول الإِمام أَحمد : ( ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أَدري ما وجهه ) ، فقال بعض الأئمة : لا نعرف معنى هذا الإِنكار ، وقد صح ذلك عن أَبي ذر وغيره. وللكلام على هذا الحديث موضع آخر قد بسطته فيه ، ورددت ما حرّفه بعض النقلة في لفظه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

( الحديث السابع ) : إِحالته معرفة الوتر عليها. أخرجه مسلم في صحيحه : عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعد بن هشام : أنّه طلق أمرأته فأتى المدينة ليبيع بها عقاراً له ، فيجعله في السلاح والكراع ، فذكر الحديث وأنّه لقي ابن عباس فسأله عن الوتر ، فقال : ( ألا أُنبئك بأَعلم أَهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )؟ قال : ( نعم ) ، قال : ( عائشة ، إِيتها فسلها ثم إرجع إِليّ فأخبرني بردها عليك ) ، قال : فأتيت (١) حكيم بن أَفلح فاستلحقته إِليها ، فقال : ( ما أَنا بقاربها ، إِنّي نهيتها أَن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيهما إِلا مضياً فيه ) ، فأقسمت عليه فجاء معي فدخل عليها فقال : يا أُم ألمؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( كنا نُعِدُّ له سواكه

____________________

(١) في الأصل : علي بن حكيم بن أفلح ، ولم نجد في كتب رجال الحديث أحداً بهذا الاسم وإنما هو حكيم بن أفلح كما في ( تهذيب التهذيب ) و ( لسان الميزان ). والحديث مذكور في مسند أحمد واسم الرجل فيه كما أَثبتناه.

٢٦٩

وطهوره فيبعثه الله بما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ، ثم يصلي ثمانية ركعات لا يجلس فيهن إلاّ عند الثامنة فيجلس ويذكر الله ويدعو ، ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد الله ويصلي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد ، فتلك إِحدى عشرة ركعة يا بني ، فلمّا أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم ، فتلك تسع ركعات يا بني ) ، وفي رواية له : ( وسلم تسليماً يسمعنا ).

وقد أختلفت الأَحاديث ولا سيما الأًحاديث عن عائشة رضي الله عنها في عدد الوتر وفي صحيح مسلم عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس ) ، وروي أَبو داوود : ( لم يكن يوتر بأكثر من ثلاث (١) عشرة ) ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ووجه الإختلاف فيها بحسب إختلاف أحواله صلى الله عليه وآله وسلم من إتساع الوقت أَو ضيقه بحسب طول القراءة كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود. أو عذره بمرض أو غيره ، أو في بعض الأَوقات عند كبر السن كما روته ورواه أيضاً خالد بن زيد.

أَو وجه الثلاثة عشرة أَنّها عدّت معها (٢) ركعتي الفجر ، كما بيّن أَبو داود ذلك في رواية له عنها.

____________________

(١) في الأصل : ثلاثة.

(٢) في الأصل : معه.

٢٧٠

( الحديث الثامن ) : ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى : ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا )(١) (٢) بالتخفيف. فأخرج البخاري في التفسير عن ابن أبي مليكة : قال ابن عباس : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا )(٣) خفيفة ذهب بها هنالك ، وتلا : ] حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [ (٤) فلقيت عروة بن الزبير فذكرت له ذلك ، فقال : ( قالت عائشة : معاذ الله ، والله ما وعد الله ورسوله في شيء قط إِلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أَن يكون من معهم يكذّبونهم فكانت تقرؤها ( كُذِّبوا ) مثقلة.

تعقيب في استدراك عائشة على ابن عباس

لا شك أنّ عائشة كانت جريئة في نقدها لمن لا يوافقها ، صريحة في آرائها النقدية ، فهي لمكانتها الإجتماعية وكونها إحدى أمّهات المؤمنين ، فقد كان يُرعى ويُحسب لها عند السلطة القائمة ما يميزها عن غيرها من أمهات المؤمنين ، بعدما برزت في المجتمع تقود المعارضة ضدّ الإمام عليه السلام

____________________

(١) يوسف / ١١٠.

(٢) هنا شطب المؤلف علَى ما يلي :

قاله أبو الفرج ابن الجوزي : ففي البخاري : قالت عائشة رضي الله عنها : ( لم ينزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم ) وكانت تقرؤها مثقلة ، وتلا : ( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) البقرة / ٢١٤ ، فقالت : ( معاذ الله ، ما وعد الله رسوله من شيء قط إِلا على علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم ينزل ).

(٣) يوسف / ١١٠.

(٤) البقرة / ٢١٤.

٢٧١

في حرب الجمل ، وأخذت تزداد في التنمر له ولمن يشايعه ويتابعه ، وساعدها على ذلك معاوية وبنو أمية ، فصارت مرجعاً في الحديث حتى فاقت بمروياتها جميع ما رواه أبوها وبقية الخلفاء وجميع أمهات المؤمنين ، وقد مرَّ في الجزء الأوّل ما يتعلق بها ، وصار من المتعيّن على من شايعها أن يجمع لها من بين ذلك الكم الهائل من أحاديثها ما يرفع من شأنها ، سواء صح أم لم يصح ، كما فعل الزركشي في كتابه ( الإجابة ) وقد مرّت بنا صفحات من كتابه ممّا يتعلق بابن عباس فكان نصيبه فيها ثمانية أحاديث مهلهلة سنداً ومتناً! لا يَسلم منها واحد من مشكلة سندية ، كما لا نجد واحداً منها منسجماً مع معنى الإستدراك ، لو أنصف المنصفون ، ولنستعرضها واحداً بعد واحد ، وإن كنّا قد ذكرنا الحديث الأوّل منها في الحلقة الأولى في الجزء الثالث فنستعيده لضمه مع ما تلاه من روايات ، لنرى مكان الصدق عند الزركشي فيما رآه فرواه.

( حديث واحد خير من ألف شاهد ) :

شاهد واحد ردّت فيه عائشة فتيا فقهية لابن عباس بإصرار وعناد لغرض سياسي أكثر منه لبيان حكم شرعي! وتلك الفتيا فيمن أقام وأرسل الهدي تطوّعاً إلى الحرم ، هل عليه أن يجتنب عمّا يجتنبه المحرم كما هو رأي ابن عباس؟ أو لا يجب كما هو رأي عائشة؟

ورُوي عنها في ذلك عدّة أحاديث نافت على العشرة متفاوتة سنداً ومتناً ، حتى ليخيّل لناظرها أنّها في وقائع متعددة ، مع أنّ الأصل فيها واقعة

٢٧٢

واحدة ـ كما سيأتي بيانه ـ والأحاديث التي رويت عنها ونافت على العشرة ، روى بعضها مالك وعنه البخاري أيضاً ، كما روى بعضها الآخر هو ومسلم وبقية أصحاب السنن والمسانيد ، ومدار الجميع على الرواة عن عائشة ، وجميعهم من حامّتها وخاصّتها كعروة ابن أختها ، والقاسم ابن أخيها ، وعمرة بنت عبد الرحمن ربيبتها ، وهؤلاء الثلاثـة جعلهم ابن عيـيـنة أعلم الناس بحديث عائشة (١)! ثمّ رواية أبي قلابة ، وهو عبد الله بن يزيد الجرمي (٢) ، ورواية الأسود بن يزيد النخعي ، ومسروق بن الأجدع من المختصّين بها (٣) ، ولهؤلاء جميعاً مقام مرموق عند حكام الأمويين ، أضف إليهم ابن شهاب الزهري فهو من صنائعهم!

والآن إلى صور الحديث الذي أشرنا إليه نقلاً عن المصادر الثلاث الأولى :

١ ـ ( الموطأ لمالك بشرح تنوير الحوالك ) للسيوطي : ( حدثني يحيى ،

____________________

(١) اسعاف المبطأ / ٢١.

(٢) كان ديوانه بالشام ومات بداريا سنة ١٠٤ ـ ١٠٥ ، وحسبك بذلك تعريفاً. راجع المعارف / ٤٤٦ ـ ٤٤٧. وفي تهذيب ابن حجر ٦ / ٨٠ ط الهند ( عبد الله بن يزيد رضيع عائشة بصري ، وعنه ( كنيته ظ ) أبو قلابة الجرمي ) وهذا له في الصحاح عدا البخاري.

(٣) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ١ / ٢٦٩ وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال : ثلاثة لا يؤمنون على عليّ بن أبي طالب : مسروق ومرة وشريح وروي ان الشعبي رابعهم ـ وقال : روى سلمة بن كهيل انهما ـ الأسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ـ كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقعان في عليّ عليه السلام فأما الاسود فمات على ذلك ، وأمّا مسروقً فلم يمت حتى كان لا يصلي لله تعالى صلاة إلاّ صلّى بعدها على عليّ ابن أبي طالب عليه السلام لحديث سمعه من عائشة في فضله. فيا ترى من هي التي كانا يمشيان إليها فيقعان في علي عليه السلام غير عائشة؟

٢٧٣

عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن ، : أنّها أخبرته : أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر الهديَ ، وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمركِ ، أو مري صاحب الهدي.

قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدَيّ ، ثمّ قلدَها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحِرَ الهدي ) (١).

٢ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ زياد ابن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها : أنّ عبد الله بن عباس رضي الله عنها قال : من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر هديُه. قالت عَمرة : فقالت عائشة رضي الله عنها : ليس كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي ، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحله الله حتى نُحر الهديَ ) (٢).

٣ ـ صحيح البخاري : ( حدثنا اسماعيل بن عبد الله ، قال : حدثني مالك ،

____________________

(١) الموطأ ١ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ط مصطفى محمّد بمصر.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلد القلائد بيده ٢ / ١٦٩ط بولاق.

٢٧٤

عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : قالت عائشة رضي الله عنها : أنا فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديّ ، ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيديه ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نُحر الهدي ) (١).

٤ ـ صحيح مسلم : ( حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة بنت عبد الرحمن : أنّها أخبرته : أنّ ابن زياد كتب إلى عائشة أنّ عبد الله بن عباس ، قال : من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ ، قالت عَمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي ثمّ قلّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي ) (٢).

هذه هي صور الحديث الواحد ، وأصله عند مالك في ( الموطأ ) ، ورواه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ عنه ، فليقارن القارئ بين هذه الصور ليعلم مدى الأمانة في النقل! فمن تزيّد ومن تغيير ومن نقصان. لماذا ذلك؟

ومن أجل أن تبقى تلك الرموز ـ صحاحاً ورجالاً ـ في البروج العاجية ، استبسل علماء التبرير في سدّ بعض الفجوات ، إلاّ أنّهم لم يوفّقوا تماماً. وقد أخترت طائفة من أقوالهم من خلال شروحهم لتلك الصحاح.

____________________

(١) نفس المصدر ، كتاب الوكالة ، باب الوكالة في البدن وتعاهدها ٣ / ١٠٢.

(٢) صحيح مسلم ( كتاب الحج ) باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم ١ / ٣٧٢ ح ١١ ط بولاق.

٢٧٥

فمن شروح الموطأ : ( المنتقى ) لأبي الوليد الباجي ، وشرح الزرقاني ، و ( تنوير الحوالك ) للسيوطي.

ومن شروح البخاري : ( فتح الباري ) لابن حجر ، و ( إرشاد الساري ) للقسطلاني ، و ( الكواكب الدراري ) للكرماني ، و ( كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري ) للشنقيطي الجكني.

ومن شروح مسلم : شرح النووي ، و ( إكمال إكمال المعلم ) للآبي ، و ( مكمل إكمال إكمال المعلم ) للسنوسي.

إلى غير ذلك كسنن البيهقي ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وتكملة المنهل المورود بشرح سنن أبي داود.

فماذا قال علماء التبرير؟

١ ـ قال ابن حجر في ( فتح الباري ) :

( ( تنبيه ) وقع عند مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك في هذا الحديث : أنّ ابن زياد بدل قوله : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو وهم نبّه عليه الغساني ومن تبعه ) (١).

٢ ـ قال النووي في ( شرح صحيح مسلم ) :

( إنّ ابن زياد كتب إلى عائشة ... هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم أنّ ابن زياد ، قال أبو علي الغساني والمازري والقاضي وجميع

____________________

(١) فتح الباري ٤ / ٢٩٣ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

٢٧٦

المتكلمين على صحيح مسلم : هذا غلط وصوابه : أنّ زياد بن أبي سفيان ، وهو المعروف بزياد بن أبيه ، وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ، ولأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم ) (١).

ونحن نقول له : فأين قوله : اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ اصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم؟! وتلقتهما الأمّة بالقبول؟! وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة؟! (٢).

ولا ضيرَ حتى ولو لم يروه أولئكم ، فإنّ البخاري وحده يكفيهم ، لأنّ كتابه عندهم أصح وأكثر فوائد! وإن تزيّد في النقل فمنح الترضّي حسب الهواية والمشتهاية ، وإن تنقّص فحذف في روايته في الوكالة بعض ما ذكره في روايته في كتاب الحج ـ فقارن ـ وفي المقامين حذف من رواية المصدر جملة ( أو مري صاحب الهدي ) ، فهكذا هي الأمانة في النقل (؟!). ولعلّ هذا من الفوائد والمعارف الغامضة.

ومهما يكن فنحن لا يهمنا غلط مسلم في ذكره ابن زياد بدل أبيه ، فكلاهما دعيّ وفي النُصب سواء ، والإعتذار بأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة ، إعتذارٌ واه فقد أدركها ، لأنّها ماتت سنة ( ٥٦ هـ أو ٥٧ هـ أو ٥٨ هـ ) كما في

____________________

(١) صحيح مسلم ٩ / ٧٢ ط مصر.

(٢) أنظر مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي ١ / ١٤.

٢٧٧

تاريخ اليعقوبي (١) ، وابن زياد ولاه معاوية خراسان بعد وفاة أبيه زياد سنة ٥٤ هـ ، وليس بالضرورة أن يكون سؤاله لها أيام ولايته البصرة ، فيمكن أنّه سألها أيام أبيه. وإنّما الذي يهمنا هو تنبيه القارئ إلى أنّ المرجعية الرسمية للأحكام الشرعية يومئذ هي عائشة دون باقي أمهات المؤمنين وبقية فقهاء الصحابة والتابعين! ولذلك قلنا استبسل شرّاح الصحيح في سدّ الثغرات ، وزاد بعضهم فضاعف جهده لإثبات صحة رأي عائشة وتفنيد رأي ابن عباس حتى ولو كان رأيه موافقاً لرأي عمر ورأي عليّ وآراء آخرين من صحابة وتابعين ، بل تصاعدت حمّى الزهري ـ وهو من فقهاء البلاط الأموي ـ فجعل لها المنّة على المسلمين حيث كشفت لهم ما أستغلق عليهم فهمه كما سيأتي.

٣ ـ قال ابن التين :

( خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء ، واحتجت عائشة بفعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه ، ولعلّ ابن عباس رجع عنه ، انتهى ) (٢).

ولفجاجة هذا الرأي وسماجة هذا القول تعقبه ابن حجر بقوله : ( وفيه قصور شديد ، فإنّ ابن عباس لم ينفرد بذلك ، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة : منهم ابن عمر : رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب ، وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان إذا بعث

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٢.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨.

٢٧٨

بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلاّ أنّه لا يلبي (١).

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة : أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد ابن المسيب عنه نحو ذلك (٢).

وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن علي بن الحسين عن عمر وعليّ أنّهما قالا في الرجل يرسل ببدنته : أنّه يمسك عما يمسك عنه المحرم (٣). وهذا منقطع ) (٤).

٤ ـ قال ابن المنذر :

( قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون : من أرسل الهدي وأقام حَرُمَ عليه ما يحرم على المحرم.

وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون : لا يصير بذلك محرماً ، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار ) (٥) (؟).

٥ ـ قال ابن حجر :

( ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه ، قال : كنت جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقدّ قميصه من جيبه حتى

____________________

(١) أنظر المصنف لابن أبي شيبة ٤ ق١ / ٨٨ ط باكستان ادارة القرآن والعلوم الإسلامية.

(٢) فتح الباري ٤ / ٢٩٤ ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٧٨ هـ.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) نفس المصدر.

٢٧٩

أخرجه من رجليه ، وقال : إنّي أمرت ببُدني التي بعثت أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا ، فلبست قميصي ونسيت ، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث ، وهذا لا حجة فيه لضعف اسناده ، إلاّ أنّ نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ ... ) (١).

٦ ـ وقال أيضاً :

( وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم إلاّ الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح ) (٢).

٧ ـ وقال أيضاً :

( نعم جاء عن الزهري ما يدلّ على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس ، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه ، وأخرجه البيهقي من طريقه ، قال : أوّل من كشف العمى عن الناس وبيّن لهم السنّة في ذلك عائشة ، فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال : فلمّا بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس (٣) (٤).

٨ ـ وقال أيضاً :

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

(٣) سنن البيهقي ٥ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ فراجع ستجد الدفاع باندفاع عن رأي عائشة.

(٤) فتح الباري ٤ / ٢٩٤.

أخرجه الهميثي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٢٧ ط القدسي وقال رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات.

٢٨٠