موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-97-3
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٩٦

المبحث الثاني

ابن عباس والخطابة

٦١
٦٢

إنّ الخطابة التي كانت عند العرب ، يتفاضلون فيها بالعصبيّة ، ويتفاخرون عندها بالأنساب ، ولمّا جاء الإسلام جمع كلمتهم على الهدى والتقى باسم الإسلام ، وحسبنا أن نستذكر من خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التي ألقاها يوم فتح مكة عند الكعبة. فقال فيها : ( يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم خلق من تراب ) (١).

وقال في خطبة من خطب حجة الوداع : ( أيّها الناس ، إنّ ربكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، وكلّكم لآدم وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى ) (٢).

فهو صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء المسلمين بالقرآن الكريم فقد زاد العرب بلاغة وحكمة ، فصار خطباؤهم يزيّنون خطبهم بآية من آيات الذكر الحكيم ، وكتب السيرة والتاريخ والأدب ملاء بالشواهد ، وأبرز الخطباء بعد

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٣٣٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ١ / ١٢٨.

٦٣

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أثراً في الخطابة كان هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو الذي سنّ الفصاحة لقريش كما قال معاوية في حديثه مع محقن بن أبي محقن الضبي ، وقد كان ابن عباس يقول في وصفه للإمام عليه السلام وقد سأله عنه معاوية كما سيأتي في حديثه : ( رحم الله أبا الحسن كان والله علم الهدى ... وأخطب أهل الدنيا إلاّ الأنبياء والنبيّ المصطفى ... ) (١) ، وهو إمام الخطباء من العرب على الإطلاق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (٢). ويكفي شاهداً ( نهج البلاغة ) معلماً حيّاً قائماً.

وقد روى ابن عباس من خطب الإمام عليه السلام وحكمه في كلمه كثيراً ، إذ كان له ومعه منذ رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى حضور دائم ، وظلّ ملازم ، يحفظ عنه ما يقول ، ويعي منه ما يقصر عن فهمه غيره ، فكان ربيب علمهِ وهو القائل : ( ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب ) (٣). وقال أيضاً في جواب من سأله عن الإمام عليه السلام فأغضبه في مسألته فقال له : ( ثكلتك أمّك ، عليّ علّمني ، وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورسول الله علّمه الله من فوق عرشه ، فعلم النبيّ من الله ، وعلم عليّ من النبيّ ، وعلمي من علم عليّ ، وعلم أصحاب محمد كلّهم في علم عليّ كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر ) (٤).

____________________

(١) المعجم الكبير للطبراني ١٠ / ٤٣٩ / ١٠٥٨٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) جواهر الأدب للسيد أحمد الهاشمي ٢ / ١٣٤ ط / ١٥ مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر.

(٣) مقدمتان في علوم القرآن / ٢٦٤.

(٤) أنظر أمالي الطوسي ١ / ١١ ط النعمان ، ص ٧ ط حجرية ١٣١٣ هـ ، بحار الأنوار ٨ / ٤٦٥ ط حجرية. وقدم في هذه الحلقة من موسوعة عبد الله بن عباس ج١.

٦٤

فمن كان بهذه المثابة في المصدر في علومه ، هل تخفى عليه بلاغة عليّ عليه السلام وفصاحته في خطبه ومنثور حِكمه في كلامه ، وهو يعيش معه جنباً إلى جنب ، ثم لا يتعلم منه! لقد كان ابن عباس الوحيد من بين شيعة الإمام عليه السلام الذي روى الخطبة الشقشقية التي كشفت عن مكنون الضمير عند الأمير عليه السلام ، مع ما روى عنه ما خصّه به من حديث على نهج ما مرّ ، ودع عنك طبيعة البيت الهاشمي من امتياز في الفصاحة.

فمن هذا وذاك كان ابن عباس رضي الله عنه خطيباً بارعاً يأخذ بالألباب من سامعيه ، حتى كان بعضهم يرى على كلامه نوراً ، وآخر يودّ لو أذن له يقبّل رأسه ، وثالث يقول : لو سمعته الترك أو الديلم لأسلمت ، وكلّ هذا قد تقدم ذكره في الحلقة الأولى ، فلا نعيده ، ولنقرأ :

نماذج من بعض خطبه

١ ـ حدث عن يونس بن عبد الوارث ، عن أبيه ، قال : بينا ابن عباس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على الناس بوجهه ، ثم قال : ( أيتها الأمّة المتحيّرة في دينها ، أما والله لو قدّمتم من قدّم الله ، وأخرّتم من آخر الله وجعلتم الوراثة والولاية حيث جعلها الله ، ما عال سهم من فرائض الله ، ولا عال وليّ الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، فذوقوا وبال ما فرّطتم فيه ، بما قدّمت أيديكم ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ) (١).

____________________

(١) أنظر أمالي الشيخ المفيد / ٢٧ و ١٥٢ ، بشارة المصطفى للطبري / ١٣٢ ، امالي الشيخ الطوسي / ٣٩ و ٦١ ط إيران ، الدرجات الرفيعة / ١٣٤ مخطوط بمكتبة الشيخ السماوي.

٦٥

ولا بد لنا من وقفة قصيرة عند مقدمة هذه الخطبة إذ يقول الراوي : ( بينا ابن عباس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على الناس بوجهه ، ثم قال ... ).

فنقول :

بماذا كان يخطب ابن عباس؟

وما هي خطبته تلك التي أعرض عنها الراوي فلم ينقل لنا ألفاظها؟

وإذا كان يخطب فإلى أيّ جهة كان وجهه؟ حتى يقول الراوي : ( ثم أقبل على الناس بوجهه ). فهل كان مطرقاً برأسه إلى الأرض ، أو رافعاً رأسه إلى السماء ، وأراد الراوي أن يلفت نظر السامع والقارئ فقال ذلك كناية للتعبير عن مزيد الإهتمام بما بعده ، فربما كان ذلك وربما كان غير ذلك.

وعلينا أن نكون صريحين في تعبيرنا وأحراراً في تفكيرنا ، ونقول : إنّ هذه الخطبة هي سياسية أكثر من أن تكون وعظية ، بما قدّم لها الراوي ما يشعر بفيض جوّها حمماً ، وتطفح ألفاظها ألماً وبرماً ، وذلك بما جنته الأمّة على نفسها وبسوء اختيارها ، حتى أضحت متحيّرة في دينها ، تتقاذفها الأهواء والآراء ، وتتنازعها المطامع والمطامح. ولماذا صارت كذلك؟ وهذا ما نقرأه في بيان الحبر ابن عباس رضي الله عنه حين يقسم قسماً براً لا يحنث فيه ، فيقول : ( أما والله لو قدمتم من قدّم الله الخ ... ).

ولكنها الأمّة هي التي ضيعّت حظها ، فأخطأت في سلوكها الطريق

٦٦

التي أرادها الله لها ، وذلك في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(١) ، وقد قضى الله تعالى بتعيين ولي الأمر بقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )(٢).

وقد عيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم شخصية ذلك الولي فعلاً وقولاً في أكثر من موقف منذ حديث بدء الدعوة وحتى يوم غدير خم حيث قام آخذاً بيد عليّ عليه السلام رافعاً له حتى بان بياض إبطيهما وقال : ( من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ). ولعل آخر مشهدٍ كان في يوم الخميس قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بأربعة أيام حين دعا بدواة وكتف ليكتب للأمّة كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، فمنع من ذلك ، وقد مرّ الحديث عنه مفصلاً ، كما مرّ أنّ ابن عباس وهو أحد شهود ذلك المشهد وأوحد الرواة له ، كان إذا ذكر يوم الخميس بكى حتى يبل دمعه الحصى (٣).

فهذا هو الحظ الذي ضيعته الأمّة حين أخّرت من قدّم الله ، ولم تجعل الوراثة والولاية حيث جعلها الله كما قال لهم ابن عباس. وقد خلف في نفسه من تباريح الأسى ما كان يطفح به كلامه ، سواء في خطبه أو إحتجاجاته ، وحتى أحاديثه الخاصة ، ولم يكتف حبر الأمة بمجرد التوبيخ المحض والتقريع الممض ، بل أنذرهم بسوء المنقلب وبئس المصير ،

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٦.

(٢) المائدة / ٥٥.

(٣) لقد مرت الإشارة إلى ذلك في الحديث عن حياة ابن عباس رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فراجع.

٦٧

وذلك بقوله في ختام خطبته : ( فذوقوا وبال ما فرطتم فيه بما قدمت أيديكم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ).

٢ ـ ومن خطبة له أيضاً بالبصرة وذلك في يوم عيد الفطر ، فقال : ( أدّوا زكاة صومكم ) ، فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض ، فقال : ( من ههنا من أهل المدينة قوموا إلى إخوانكم فعلّموهم فإنّهم لا يعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر على الصغير والكبير ، والحرّ والعبد ، والذكر والأنثى نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر أوشعير ) (١).

وهذه الفقرات تعكس لنا تردّي الحالة الإجتماعية من الناحية الدينية ، وجهل الناس بأحكام الشريعة وواجباتها المفروضة. ولولا جهل الناس وبُعدهم عن الدين وتعاليمه ، لما جعل بعضهم ينظر إلى بعض حين دعاهم ابن عباس إلى أداء زكاة الفطر ، ولعلّ مردّ ذلك إلى تهاون الولاة الذين كانوا يحكمونهم قبله في عدم تعليمهم ذلك الحكم الشرعي والفريضة الواجبة.

٣ ـ ومن خطبة له بالبصرة في شأن القدر والولدان ، فقال : ( إنّ هذه الأمّة لا يزال أمرها مؤاماً ـ متقارباً ـ ما لم يتكلم في القدر والولدان ) (٢).

٤ ـ لمّا أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المسير إلى أهل الشام ثانياً ، كتب إلى ابن عباس رضي الله عنه يدعوه إلى الشخوص معه فيمن قبله ، فأتاه الكتاب ، فجمع الناس وقرأه عليهم وأمرهم بالشخوص مع الأحنف ابن قيس

____________________

(١) سنن النسائي ٣ / ١٩٠ ط مصر.

(٢) الكنى والأسماء للدولابي ١ / ٧ ، و ١٧٤ ط حيدر آباد.

٦٨

كمقدمة له ، فلم ينفر مع الأحنف إلاّ ألف وخمسمائة رجل ، فاستقلهم ابن عباس رضي الله عنه قام في الناس خطيباً فقال بعد الحمد والثناء : ( أمّا بعد فقد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم ، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف ابن قيس فلم يشخص معه إلاّ ألف وخمسمائة ، وأنتم في الديوان ستون ألفاً سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم ، ألا فانفروا مع جارية بن قدامة السعدي ، ولا يجعل أمرؤ على نفسه سبيلاً ، فإنّي موقع بكلّ من وجدته تخلّف عن دعوته ، عاصيّاً لإمامه حزناً يعقب ندماً ، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم ، فلا يلم أمرؤ جعل السبيل على نفسه إلاّ نفسه ) (١).

٥ ـ ومن خطبة له : ( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤنه لم يشب ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا ما كتب الله وغيّروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم ) (٢).

وهذه الخطبة تصف لنا جانباً اجتماعياً مهمّاً ، وهو إنهيار الشخصية الإسلامية عند بعض المسلمين ممن بهرهم ما كان عليه أهل الكتاب من الحديث المزيّف ، خصوصاً أولئك الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً ، فكانوا يسألونهم ويأخذون عنهم ، غافلين عمّا كان يدسه أولئك الدخلاء الذين

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٢١ ، تاريخ الطبري ٥ / ٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٨١.

٦٩

استغلهم النظام الحاكم حيث وجدوا فيهم أدوات صماء لا يعقلون ، فكانوا يحشون آذانهم بكلّ ما هبّ ودبّ من الإسرائيليات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، وما كان الحاكمون في غفلة بل يتغافلون ـ على أحسن الظن ـ عن نوايا أولئك الشرّيرين حتى اتسع الرتق ، وفشا حديثهم في جوامع المسلمين ، فكان كعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وأضرابهم هم المحدّثون والمسلمون سمّاعون للكذب ولا يستنكرون ، فخشي ابن عباس رضي الله عنه من النتائج السيئة لتلك الفتنة أن يعمّ شرّها المسلمين ، فخطب الناس محذراً لهم من كيد أولئك الدخلاء ونواياهم السيئة.

٦ ـ وخطب الناس في يوم من أيام صفين ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين الذي دحا تحتنا سبعاً ، وسمك فوقنا سبعاً ، وخلق فيما بينهن خلقاً ، وأنزل لهم فيها رزقاً ، ثم جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه الحيّ القيوم الذي يحيى ويبقى. إنّ الله بعث أنبياء ورسلاً ، فجعلهم حججاً على عباده عذراً ونذراً ، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه ، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ، ثم يثيب عليها ، ويعصى فيعفو ويغفر بحلمه ، لا يقدّر قدره ، ولا يبلغ شيء مكانه ، أحصى كلّ شيء عدداً ، وأحاط بكلّ شيء علماً.

ثم أنّي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، إمام الهدى والنبيّ المصطفى. وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمّة ، وانتشر من أمرها ، أن ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليّ بن أبي

٧٠

طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصهره ، وأوّل ذكر صلّى معه ، بدري قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ مشاهده التي فيها الفضل ، ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام ، والذي ملك الملك وحده ، وبان به وكان أهله ، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : صدق الله ورسوله ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله ، فما معاوية في هذه بأبرّ ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في تلكم.

فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصبر ، والله إنّا لنعلم إنّكم لعلى الحق ، وأن القوم لعلى الباطل ، فلا يكونُنّ أولى بالجدّ في باطلهم منكم في حقكم ، أما والله إنّا لنعلم إنّ الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم.

اللهمَّ ربّنا أعنّا ولا تخذلنا ، وانصرنا على عدّونا ، ولا تخلَّ عنا ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أقول قولي واستغفر الله لي ولكم ) (١).

٧ ـ وخطب ابن عباس رضي الله عنه أهل العراق في الكوفة بعد ما كثر خوض الناس في أمر الحكمين ، وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد أمر ولده الحسن عليه السلام وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وابن أخيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن يخطب كلّ منهم في شأن الحكمين وأمرهما ، فتقدم الحسن عليه السلام فخطب خطبة بليغة ، ثم جاء دور ابن عباس رضي الله عنه فخطب الناس ، وقال بعد الحمد والثناء : ( أيّها الناس إنّ للحق أهلاً أصابوه بالتوفيق ، والناس بين

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ / ٢٥٠ ، وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري / ٣٥٩ ط مصر.

٧١

راضٍ به وراغبٍ عنه ، وإنّما بعث عبد الله بن قيس ـ حكم أهل العراق ـ لهدى إلى ضلالة ، وبعث عمرو بن العاص ـ حكم أهل الشام ـ لضلالة إلى الهدى ، فلمّا التقيا رجع عبد الله عن هداه ، وثبت عمرو على ضلالته ، والله لئِن حُكّما بالكتاب لقد حكما عليه ، وإن حُكّما بما اجتمعا عليه معاً ما اجتمعا على شيء ، وإن كان حُكّما على ما سارا إليه ، لقد سار عبد الله وإمامه عليّ عليه السلام ، وسار عمرو وإمامه معاوية ، فما بعد هذا من غيب ينتظر ، ولكن سئموا الحرب ، وأحبوا البقاء ، ودفعوا البلاء ، ورجا كلّ قوم صاحبهم ) (١).

٨ ـ أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ، بسنده عن أبي نضرة ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ، ثم قال :

( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من نبيّ إلاّ وله دعوة كلّهم قد تنجزها في الدنيا ، وإنّي أدخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، ألا وأنّي سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد تحته آدم من دونه ولا فخر ، ويشتد كرب ذلك اليوم على الناس ، فيقولون : انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت الذي خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي ديننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ، إنّي أخرجت من الجنة بخطيئتي ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ

____________________

(١) جمهرة خطب العرب ١ / ١٧٤.

٧٢

نفسي ، ولكن أئتوا نوحاً أوّل النبيّين ، فيأتون نوحاً فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : لست هناكم ، إنّي دعوت دعوة غرقت أهل الأرض ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن أئتوا إبراهيم خليل الله ، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : لست هناكم ، إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ـ قال ـ ابن عباس ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما حاول بهن إلاّ عن دين الله ، قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ )(١) ، وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ )(٢) ، وقوله لسارة : قولي أنّه أخي ـ. ولكن أئتوا موسى عبداً إصطفاه الله برسالاته وبكلامه ، فيأتون موسى فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم إنّي قتلت نفساً بغير نفس ، وأنّه لا يهمني اليوم إلاّ نفسي ، ولكن إئتوا عيسى روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم ، إنّي أتُخذت وأميّ الهينَ من دون الله ، ولكن أرأيتم لو أن متاعاً في وعاء قد ختم عليه أكان يوصل ـ إلى ما في الوعاءـ حتى يفض الخاتم؟ فيقولون : لا ، فيقول : فإنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد حضر اليوم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فيأتيني الناس فيقولون : أشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فأقول : أنا لها أنا لها ، حتى يأذن الله عزوجل لمن يشاء ويرضى ، فإذا

____________________

(١) الصافات / ٨٩.

(٢) الأنبياء / ٦٣.

٧٣

أرد الله عزوجل أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ : أين أحمد وأمته؟ فأقوم وتتبعني أمتي غرّ مُحجلون من أثر الوضوء والطهور.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فنحن الآخرون الأولون ، أوّل من يحاسب وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقوم الأمم كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلّها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأنتهي إلى باب الجنة فاستفتح ، فيقال : من هذا؟ فأقول : أحمد يفتح لي ، فأنتهي إلى ربّي وهو على كرسيّه فأخر ساجاً ، فأحمد ربي بمحامد لم يحمده أحد بها قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي ، فيقال لي : ارفع رأسك وقل تُسمع ، وسل تُعطى ، وأشفع تشفّع ، فأشفع ، فيقال : فأذهب فأخرج من النار من كان في قلبه من الخير كذا وكذا ، فأنطلق إلى جهنم ثم أرجع إلى ربّي فأخرّ ساجداً ، فيقال لي : إرفع رأسك ، وقل تُسمع ، وأشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فيحد لي حداً فأخرجهم من النار ).

فهذا ما أخرجه الطيالسي في مسنده (١) ، ولا يخلو ما في بعض الخبر في صحته من نظر!

____________________

(١) مسند أبي داود / ٣٥٣ ط حيدر آباد.

٧٤

المبحث الثالث

ابن عباس والإحتجاج

٧٥
٧٦

لقد كان بارعاً في إدلاء الحجة وإلزام الخصم ، مع أدب جم ، وعلم وفهم ، وحسبنا على هذا إختيار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام له ليكون الحَكَم الذي يمثل أهل العراق ، ولكن الأشعث والخوارج أبوا عليه ذلك ، وقد مرّ خبره في الحلقة الأولى ، وكذلك إختاره مفاوضاً عنه حين أرسله إلى الخوارج في حروراء ، وقد مرّ حديثه كذلك في الحلقة الأولى ، وسيأتي أيضاً برواية أخرى.

وقد قرأنا في الحلقة الأولى ( سيرة وتاريخ ) ، أنّه كان منذ صباه يتمتع بجرأة نادرة تدفعه لأن يقول كلمه ويدلي برأيه أمام شيوخ المهاجرين والأنصار ، كما مرّ في أيام عمر.

وسنقرأ نماذج من إحتجاجاته التي تغلّب فيها على محاوريه ، فاعترفوا له بفضيلة السبق في مضمار الحجاج ، وأنّه ما لاحى أحداً إلاّ خصمه. وسنجد الطابع العام في جُلّ تلك المحاورات يدور حول إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولا بدع ولا غرابة فهو بحكم قرباه النسبية ، وقرابته السببية من حيث التلمذة عليه ، مع إيمانه الصادق ووعيه المميز أن كان معدوداً

٧٧

في طليعة المتكلمين في العقيدة ، يمتاز بقدرة فائقة من فصاحة لسان ، وحسن بيان ، وقوّة حجة ، وفطنته تسدّ على محاوره منافذ الغلبة ، وهذا ما أعرب عنه عمر بن الخطاب بقوله : ( واهاً لابن عباس ما لاحى أحداً إلاّ خصمه ) ، وما ذلك إلاّ من قوّة إيمانه ، وكثرة علمه ، وحفظه لأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحتاج إليه عند الإستدلال ، وأحاديثه في هذا الباب ـ وقد مرّ الكلام فيها ـ لا يتطرق الريب في صحتها ، لبراءة من قد يُتهم بوضعها.

فإن كانوا من أبنائه أو المتزلفين إليهم من شيعة بني العباس ، فهي على خلاف مذاهبهم ومشاربهم ، بل هي حجة لخصومهم عليهم ، فلا يعقل أنّهم وضعوها لتحطيم دعاواهم في استحقاقهم الخلافة!

وأمّا إن كان المتهمون بوضعها هم شيعة الإمام عليّ عليه السلام ، فهي مروية في مصادر أخصامهم من بقية المذاهب الأخرى ، فكيف تسنى لهم اختراق جميع تلك المصادر وتثبيت بصماتهم فيها؟!

بل الصحيح أنّ ابن عباس رضي الله عنه كان معلناً بولائه ، ومجاهداً بلسانه قبل سنانه ، يدلي بما وعاه ورواه في كلّ مجمع يرى فيه نصرة إمامه عليه السلام واجبة عليه ، بعد أن كانت السلطات تعمل على تغييب ذكره وأمره عن أذهان الأمّة ، فجهله كثير من الناس نتيجة الضغط الحاكم ، ورواج أكاذيب مرتزقة السلطان ، فكان ابن عباس الوحيد الذي روي عنه في فضائل الإمام عليه السلام أكثر ممّا روي عن غيره من الصحابة ، لشهرته العلمية ، ومكانته الإجتماعية ، وكثرة الرواة عنه. وفي يقيني أنّ جميع ما وصل إلينا في هذا

٧٨

الباب إن هو إلاّ غيض من فيض ، لأنّه كان يقول : ( إنّ لعليّ عليه السلام في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس ، قوله تعالى : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو المؤذن بينهم يقول : ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي ) (١) ، وكان يقول : ( ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في عليّ ) (٢). ونحن إذا رجعنا إلى ما وصل إلينا من كتب التفسير والحديث لا نجد إلا النزر اليسير ممّا أشار إليه ابن عباس في قوله السابق.

ولا يفوتني التنبيه على أمر هام وبشرى سارة لمن يحبّ عليّاً عليه السلام ، وذلك إنّي وقفت على رسالة لأحد أعلام المحدثين من شيوخ العامة لم تنشر من قبل ، جمع فيها ( ما نزل في عليّ عليه السلام من آيات القرآن المجيد ) برواية ابن عباس رضي الله عنه ، وغيره ولعلي أنشرها إن شاء الله تعالى ضمن الحلقة الثالثة من هذه الموسوعة مع لدات أمثالها ، أسأل الله التوفيق لتحقيق الآمال ، وصالح الأعمال ، انّه الكبير المتعال.

ولنقرأ من إحتجاجه مع الأفراد مسلسلاً حسب تاريخ الصدور ، بدءاً من أيام أبي بكر ، ثم من بعده أيام عمر ، ومن بعده مع عثمان ، وعائشة ، وطلحة والزبير ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، وزياد ، وعتبة ، ومروان ، وابن الزبير ، والأشعث بن قيس ، ومن سبّ عليّاً عليه السلام. ثم نقرأ من إحتجاجه مع الجماعات ، وبدءاً من الخوارج أفراداً وجماعات ، ثم مع تسعة رهط مفسدون في الأرض ، ومع المجبّرة والقدرية ، وغيرهم.

____________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٢٥٩.

(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٩.

٧٩

ولا نستغفل القارئ بأنّ ما يقرأه في هذا الجزء ليس ممّا لم يكن قد قرأ بعضه فيما مضى من أجزاء الحلقة الأولى ، بل رأيت جمع ما مرّ وما حضر ، يشكّل في موضوعه وحدة متكاملةٌ تعلّمنا آداب الحوار والجدل مع الخصم في أصول العقيدة ، وفيها إثبات الإمامة ، وهذا في جمعه نفع كبير. ولنذكر للقارئ خلاصة نهج ابن عباس رضي الله عنه في المحاجة في قوله : ( عجباً لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ، فالحجة دين يعتمد به الطاعة ، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة ) (١).

____________________

(١) محاضرات الراغب ٣ / ٣٣ ط الشرفية.

٨٠