موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-97-3
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٩٦

فهؤلاء إثنا عشر علماً من أعلام السنّة فهم غير متهمين في رواياتهم لهذه المحاورة التي تدلّ على إنكار ابن عباس على عثمان في مسألة جمع القرآن حين قرن بين سورتي الأنفال وبراءة ولم يفصل بينهما بالبسملة ؛ وهي في مجملها تنسف أكذوبة أنّ عثمان هو الذي جمع القرآن ، كما يحلو للعثمانية تفضيله بها ، وقد مرّ ذكر بعض ما يتعلق بمسألة جمع القرآن في الجزء الثاني من الحلقة الأولى (١).

ولمّا كانت المسألة ذات أهمية بالغة في تاريخ جمع القرآن ، سأنقل هنا بعض ما مرّ للتنبيه على عبث الرواة في نصّ المحاورة ، وهي كما يلي برواية من تقدم ذكرهم :

( عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٢) ، وإلى براءة وهي من المئين (٣) ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟

فقال عثمان : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّا يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذات العدد ، وإن كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب

____________________

(١) موسوعة عبد الله بن عباس الحلقة الأولى ٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٨.

(٢) لأنها تلي المئين ، وإنما سميت بالمثاني لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والِغَير والعِبَر ( تفسر الطبري ١ / ١٠٣ ط محققة ).

(٣) سميت بالمئين لأنها في عدد آياتها بلغت مائة آية أو تزيد عليها أو تنقص منها شيئاً يسيراً ( نفس المصدر ).

١٨١

عنده ، فيقول : ( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) ، وكانت الأنفال من أوّل ما أنزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظنت أنّها منها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتها في السبع الطوال ) (١).

وقد استوحش الطبري شيخ المفسرين من هذا الخبر ، فقال : ( فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّه لم يكن تبيّن له أنّ الأنفال وبراءة من السبع الطوال ، ويصرّح عن ابن عباس أنّه لم يكن يرى ذلك منها ) (٢).

وللسيوطي في كتاب ( الإتقان ) تشريق وتغريب في هذا الخبر لرفع الغريب المعيب في جواب عثمان! بينما نَقل عن الحارث المحاسبي أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ( المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على إختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لمّا خشي الفتنة عند إختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ... ) (٣).

وقد أكّد ابن الحصّار أنّ ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما

____________________

(١) الإتقان للسيوطي ١ / ٦٢ ط حجازي بالقاهرة ١٣١٨ هـ ، كنز العمال ٢ / ٣١٧ط حيدر آباد الثانية.

(٢) جامع البيان ١ / ٧٠.

(٣) الإتقان ١ / ٦١.

١٨٢

كان بالوحي ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( ضعوا آية كذا في موضع كذا ) ، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وممّا أجمع الصحابة على وضعه هذا في المصحف (١).

إذن ما بال ابن عباس ـ وهو الذي نشأ وتعلّم في بيت الوحي ـ يسأل من عثمان مستنكراً عليه وعلى من معه ، فيقول له : ( ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك )؟!

بينما تجد أنّ ابن عباس ، قال : ( سألت عليّ بن أبي طالب : لِم لم تكتب في براءة ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )؟ قال : لأنّها ـ البسملة ـ أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ) (٢)!

فمن كان عنده باب مدينة العلم وقد سأله عن سبب ترك البسملة في أوّل سورة براءة ، لا يكون سؤاله من عثمان إلاّ من باب الإستنكار ، ولعلّه كان في سؤاله تعنتاً وليس مستفهماً ، فأجابه عثمان بما مرّ ، ولم يظهر من ابن عباس ما يُشعر برضاً وقناعة به!

ولذا قلت فيما مّر في سيرته : ( ويبدو فيما أظن أنّ الخبر لم يسلم من عبث الرواة ، فقد ورد في أخره جواب عثمان ولم يذكر فيه لابن عباس رأيه في الجواب مقتنعاً أو مفنّداً ... ) (٣).

____________________

(١) نفس المصدر / ٦٣.

(٢) الإتقان ١ / ٧٠.

(٣) أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الاولى ٢ / ٣٢٧.

١٨٣

المحاورة العاشرة :

كان ابن عباس رضي الله عنه فقيهاً ومن أكابر الفقهاء الصحابة ، وعاصر معايشاً جماعة الخلفاء الثلاثة ، ولكثرة النوازل بهم كانوا لا يعلمون دائماً الجواب في أحكامهم ، فيستنقذهم بعض الصحابة وفي مقدمتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إن كان حاضراً أو ابن عباس رضي الله عنه وهو أكثر حضوراً عندهم كما مرّت أسباب ذلك في الحلقة الأولى في الجزئين الثاني والثالث ، وقد مرّت شواهد كثيرة على تسديد الإمام عليه السلام وابن عباس لأبي بكر وعمر وعثمان فيما كانوا يقولون فيه بآرائهم ، وربما كان ذلك مخالفاً للكتاب والسنة ، فكانت معاناة الإمام عليه السلام وابن عباس في هذا السبيل كبيرة ، وكان ابن عباس قد تلقى علمه من الإمام عليه السلام الذي هو باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى )(١) ، كما مرّ عنه ذلك مراراً ، فكان يجيب ويفتي بما تلقاه من الإمام عليه السلام كما مَر في ( طابعه الفقهي ) في الجزء الثالث من هذه الحلقة.

والآن إلى شاهد واحد على ذلك في محاروة جرت له مع عثمان أخرجها الطبري في تفسيره ، والحاكم في ( المستدرك ) ، وغيرهم .. والخبر بلفظ الحاكم ، بسنده : ( عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أنّه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : إنّ الأخوين لا يردّان الأم عن الثلث (؟) قال الله عزوجل : ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ )(٢) ، فالإخوان بلسان قومك

____________________

(١) النجم / ٣ ـ ٤.

(٢) النساء / ١١.

١٨٤

ليسا بإخوة؟ فقال عثمان بن عفان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ) (١).

وفي لفظ الطبري : ( هل أستطيع نقض أمر كان قبلي ، وتوراثه الناس ومضى في الأمصار ) (٢).

أقول : قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرّجاه ، وتبعه الذهبي في تلخيصه وقال ، صح ).

أقول : ولقد وهم غير واحد من الفقهاء ومنهم الطبري وكذا بعض أئمة الحديث ، في نسبة مسألة عدم حجب الأخوين عن الثلث إلى السدس ، وذلك لظنّهم أنّ استفهام ابن عباس من عثمان كان حقيقياً ، بينما كان استفهاماً إنكارياً ، كما هو ظاهر من لغة ابن عباس ومن جواب عثمان ، وهذا ما فهمه جماعة من الفقهاء أيضاً.

المحاورة الحادية عشر :

لقد روى ابن عبد البر في ( الإستيعاب ) في ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعض أقضيته في الأحكام ، فقال :

( وقال في المجنونة التي أمر برجمها ، وفي التي وضعت لستة أشهر فأراد عمر رجمها.

فقال له عليّ : إنّ الله تعالى يقول : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )(٣) ... الحديث.

____________________

(١) المستدرك ٤ / ٣٢٥.

(٢) تفسير الطبري ٤ / ٢٧٨.

(٣) الأحقاف / ١٤.

١٨٥

وقال له : إنّ الله رفع القلم عن المجنون ... الحديث.

فكان عمر يقول : لولا عليّ لهلك عمر ).

ثم قال ابن عبد البر : ( وقد روي مثل هذه القصة لعثمان مع ابن عباس وعن عليّ أخذها ابن عباس ، والله العالم ) (١).

أقول : ما أشار إليه من القصة لعثمان مع ابن عباس ، رواه السيوطي في ( الدر المنثور ) نقلاً عن عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( رُفعت أمرأة إلى عثمان رضي الله عنه ولدت لستة أشهر ، فقال عثمان : إنّها قد رُفعت إليّ أمرأة ألا جاءت بشرّ. فقال ابن عباس : إذا أكملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر وقرأ : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )(٢) ... فدرأ عثمان عنها ) (٣).

إلى غير ذلك من مواقف خلافية بينهما في مسائل فقهية ، وقد مرّت الإشارة إلى بعضها فيما تقدم في الجزء الثاني من الحلقة الأولى ( في عهد عثمان ).

وممّا لم يتقدم ذكره نقده لعثمان في أيام عمر حول تركه غسل الجمعة ، فقد أخرج عبد الرزاق بسنده : ( أنّ عثمان جاء وعمر يخطب يوم الجمعة ، فقال عمر : ما حبسك؟ قال : يا أمير المؤمنين ما زدت حين سمعت

____________________

(١) الإستيعاب ٢ / ٤٦١ ط حيدر آباد.

(٢) الأحقاف / ١٤.

(٣) الدر المنثور ٦ / ٤٠.

١٨٦

النداء أن توضأت ثم أقبلت ، فلمّا قضيت الصلاة قال له ابن عباس : ألم تسمع ما قال يا أمير المؤمنين؟ قال : أما أنّه قد علم أنّا قد أمرنا بالغسل ، قال : قلت : المهاجرون خاصة أم الناس عامّة؟ قال : لا أدري ) (١).

____________________

(١) المصنف ٣ / ١٩٥ / ٥٢٩٣ ـ ٥٢٩٤.

١٨٧

محاورات ابن عباس مع رموز الناكثين

لقد مرتّ بنا أخبار الناكثين لبيعة الإمام عليه السلام وأبرزهم ذكراً كان طلحة والزبير ، فهما أوّل المبايعين ، ثم هما أوّل الناكثين ، ولمّا كان ابن عباس قد حضر مشهد البيعة في المسجد النبوي الشريف ، ورأى طواعية البيعة من دون عسيب نخل أو سيف يحشر الناس كرهاً ، فهو لا يخفى عليه زيف إدعاء طلحة والزبير بأنّهما كان مُكرهَين ، على أنّه كان غير آمن من تخلف آخرين ، وقد مرّ بنا في الجزء الثالث من الحلقة الأولى في مبايعة المسلمين للإمام عليه السلام كثير روايات وأقوال ، كان منها قول ابن عباس : ( لمّا دخل عليه السلام المسجد وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعليّ من قتل أباه أو أخاه أو ذا قرابة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيزهد عليّ في الأمر ويتركه ، فكنتُ أرصد ذلك وأتخوّفه ، فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلّهم راضين مسلّمين غير مكرهين ) (١).

لهذا كان شديد الشكيمة قوّي الحجة ، في محاوراته مع الناكثين في البصرة من قبل الحرب ، وقد مرّ ذكرها في محلها ، وكانت أيضاً له سفارات لحقن الدماء ، فنستذكر منها ما يظهر له من دور مميّز في إطفاء

____________________

(١) شرح الجهد لابن أبي الحديد ١ / ٣٤١ ، وقد مرّ في الحلقة الأولى من هذه الموسوعة ٣ / ٢٤.

١٨٨

الفتنة قبل أن يستعر أوارها ، حيث كان الإمام عليه السلام يرسله مفاوضاً.

( السفارة الأولى )

ولعلّ أوّل مرّة كانت سفارته التي ضم إليه فيها زيد بن صوحان ، فقال لهما : ( أمضيا إلى عائشة فقولا لها : ألم يأمركِ الله تبارك وتعالى أن تقرّي في بيتك؟ فخُدعتِ وانخدعتِ ، واستُنفرتِ فنفرتِ ، فاتقي الله الذي إليه مرجعكِ ومعادكِ ، وتوبي إليه ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ولا يحملنّكِ قرابة طلحة وحبّ عبد الله بن الزبير على الأعمال التي تسعى بك إلى النار ).

قال ابن أعثم : فانطلقا إليها وبلّغاها رسالة عليّ عليه السلام.

فقالت عائشة : ما أنا برادة عليكم شيئاً ، فإنّي أعلم أنّي لا طاقة لي بحجج عليّ بن أبي طالب (١).

فقال لها ابن عباس : لا طاقة لكِ بحجج المخلوق ، فكيف بحجج الخالق؟ ..

فرجعا إلى الإمام فأخبراه ، فقال عليه السلام : ( الله المستعان ) (٢).

أقول : وإنّما ضّم الإمام عليه السلام زيد بن صوحان إلى ابن عباس ، لأنّ عائشة سبق أن كتبت إليه كتاباً تستنصره كما في رواية الطبري ، قال :

( وكتبتْ عائشة إلى زيد بن صوحان : من عائشة ابنة أبي بكر أم

____________________

(١) الفتوح لابن أعثم ٢ / ٣٠٦.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٣ / ٣٣٩.

١٨٩

المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان.

أمّا بعد : فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا على أمرنا هذا ، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن عليّ.

فكتب إليها : من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصدّيق حبيبة ـ حبيسة ـ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا بعد : فأنا ابنك الخالص إذ أعتزلتِ هذا الأمر ورجعت إلى بيتك ، وإلاّ فأنا أوّل من نابذكِ.

قال زيد بن صوحان : رحم الله أم المؤمنين ، أُمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل ، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به ، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه!؟ ) (١).

فإرسال الإمام عليه السلام له مع ابن عباس كان من هذه الجهة تنبيهاً لها على فشل ما خططته له من إستنصار.

ومن هنا تستمر محاورات ابن عباس مع رموز الناكثين. كما في :

( السفارة الثانية )

قال الشيخ المفيد في كتاب ( الجمل ) :

( ثم دعا عبد الله بن عباس ، فقال : ( انطلق إليهم فناشدهم الله وذكرّهم العهد الذي لي في رقابهم ).

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

١٩٠

١ ـ مع طلحة

قال ابن عباس : جئتهم فبدأت بطلحة فذكّرته العهد.

فقال لي : يا بن عباس والله لقد بايعت عليّاً واللج (١) في رقبتي.

فقلت له : إنّي رأيتك بايعت طائعاً ، أو لم يقل لك عليّ قبل بيعتك له إن أحببتَ لأبايعك؟ فقلت : لا بل نحن نبايعك.

فقال طلحة : إنّما قال لي ذلك وقد بايعه قوم فلم أستطع خلافهم ، والله يا ابن عباس إنّ القوم الذين معه يغرّونه إن لقيناه فسيسلمونه ، أما علمتَ يا بن عباس أنّي جئت إليه والزبير ولنا من الصحبة ما لنا مع رسول الله والقدم في الإسلام ، وقد أحاط به الناس قياماً على رأسه بالسيوف ، فقال لنا : ـ بهزل ـ إن أحببتما بايعت لكما ، فلو قلنا نعم ، أفتراه يفعل وقد بايع الناس؟ فيخلع نفسه ويبايعنا ، لا والله ما كان يفعل ، وحتى يغري بنا مَن لا يرى لنا حرمة ، فباعينا كارهين ، وقد جئنا نطلب بدم عثمان ، فقل لابن عمك إن كان يريد حقن الدماء وإصلاح أمر الأمة فليمكننا من قتلة عثمان فهم معه ، ويخلع نفسه ويردّ الأمر ليكون شورى بين المسلمين فيولّوا من شاؤا ، فإنّما عليّ رجل كأحدنا ، وإن أبى أعطيناه السيف ، فما له عندنا غير هذا.

قال ابن عباس : يا أبا محمد لست تنصف ، ( ألست تتعسفه؟ ) ألم تعلم أنّك حصرت عثمان حتى مكث عشرة أيام يشرب ماء بئره وتمنعه من شرب الفرات ـ القراح ـ حتى كلمّك عليّ في أن تخلّي الماء له وأنت تأبى

____________________

(١) اللج : السيف ( الصحاح لج ).

١٩١

ذلك ، ولمّا رأى أهل مصر فعلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه بسلاحهم فقتلوه.

ثم بايع الناس رجلاً له من السابقة والفضل والقرابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبلاء العظيم ما لا يُدفع ، وجئت أنت وصاحبك طائعيَن غير مكرهيَن حتى بايعتما ثم نكثتما. فعجب والله إقرارك لأبي بكر وعمر وعثمان بالبيعة ، ووثوبك على عليّ بن أبي طالب! فوالله ما عليّ دون أحد منهم.

وأمّا قولك : يمكنني من قتلة عثمان ، فما يخفي عليك من قتل عثمان.

وأمّا قولك : إن أبى عليّ فالسيف ، فو الله إنّك تعلم أنّ عليّاً لا يخوّف.

فقال طلحة : إيهاً الآن عنا من جدالك.

قال ـ ابن عباس ـ : فخرجت إلى عليّ وقد دخل البيوت بالبصرة. فقال : ( ما وراءك؟ ) فأخبرته الخبر.

فقال : ( اللهم أفتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين ).

٢ ـ مع عائشة

ثم قال : ( إرجع إلى عائشة وإذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخوّفها من الخلاف على الله عزوجل ونبذها عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقل لها : إنّ هذه الأمور لا تصلحها النساء ، وأنّكِ لم تؤمري بذلك ، فلم يرض بالخروج عن أمر الله في تبرجّكِ بيتكِ الذي أمركِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالمقام فيه ، حتى أُخرجتِ إلى البصرة فقتلتِ المسلمين ، وعمدتِ إلى عمالي فأخرجتهم ، وفتحتِ بيت المال ، وأمرتِ بالتنكيل بالمسلمين ، وأمرتِ بدماء الصالحين فأريقت ، فراقبي الله عزوجل ،

١٩٢

فقد تعلمين أنّكِ كنتِ أشدّ الناس على عثمان ، فما هذا ممّا وقع؟ ).

قال ابن عباس : فلمّا جئتها وأديت الرسالة وقرأت كتاب عليّ عليها.

قالت : يا بن عباس ابن عمك يرى أنّه قد تملّك البلاد ، لا والله ما بيده منها شيء إلاّ وبيدنا أكثر منه.

قلت : يا أماه إنّ أمير المؤمنين عليه السلام له فضل وسابقة في الإسلام وعظم عناء.

قالت : ألا تذكر طلحة وعناءه يوم أحد؟

قال : قلت لها والله ما نعلم أحداً أعظم عناءً من عليّ عليه السلام.

قالت : أنت تقول هذا ومع عليّ أشباه كثيرة.

قلت لها : الله الله في دماء المسلمين.

قالت : وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه.

قال ابن عباس : فتبسّمت.

فقالت : ممّا تضحك يا بن عباس؟

فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.

قالت : حسبي الله ونعم الوكيل.

٣ ـ مع الزبير وابنه

قال ـ ابن عباس ـ : وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير ، وإن قدرت أن أكلّمه وابنه ليس بحاضر ، فجئت مرّة أو مرتين كلّ ذلك أجده عنده ، ثمّ جئت مرّة أخرى فلم أجده عنده ، فدخلت عليه ، وأمر

١٩٣

الزبير مولاه سرجس أن يجلس على الباب ، ويحبس عنا الناس. فجعلت أكلّمه.

فقال : عصيتم إن خولفتم ، والله لتعلمنّ عاقبة ابن عمك.

فعلمت أنّ الرجل مغضّب ، فجعلت ألاينه فيلين مرّة ويشتد أخرى ، فلمّا سمع سرجس ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير ، وكان عند طلحة ، فدعاه فأقبل سريعاً حتى دخل علينا.

فقال : يا بن عباس دع بيّنات الطريق ، بيننا وبينكم عهد خليفة ، ودم خليفة ، وانفراد واحد وإجتماع ثلاثة ، وأمّ مبرورة ، ومشاورة العامة.

قال ـ ابن عباس ـ : فأمسكت ساعة لا أكلّمه ، ثمّ قلت : لو أردت أن أقول لقلت.

فقال ابن الزبير : ولم تؤخر ذلك وقد لحم الأمر وبلغ السيل الزبى؟

قال ابن عباس : فقلت : أمّا قولك : عهد خليفة ، فإنّ عمر جعل المشورة إلى ستة نفر ، فجعل النفر أمرهم إلى رجل منهم يختار لهم منهم ويخرج نفسه منها ، فعرض الأمر على عليّ ( وعلى عثمان ) فحلف عثمان وأبى عليّ أن يحلف ، فبايع عثمان ، فهذا عهد خليفة.

وأمّا دم خليفة : فدمه عند أبيك ، لا يخرج أبوك من خصلتين : إمّا قتل ، أو خذل.

وأمّا انفراد واحد وإجتماع ثلاثة ، فإنّ الناس لمّا قتلوا عثمان فزعوا

١٩٤

إلى عليّ عليه السلام فبايعوه طوعاً وتركوا أباك وصاحبَه ولم يرضوا بواحد منهما.

وأمّا قولك : إنّ معكم أمّاً مبرورة ، فإنّ هذه الأم أنتما أخرجتماها من بيتها ، وقد أمرها الله أن تقرّ فيه. فأبيت أن تدعها ، وقد علمتَ أنت وأبوك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حذّرها من الخروج ، وقال : ( يا حميراء إياكِ أن تنبحكِ كلاب الحوأب ) ، وكان منها ما قد رأيت.

وأمّا دعواك مشاورة العامة ، فكيف يشاور فيمن قد أُجمع عليه ، وأنت تعلم أنّ أباك وطلحة بايعاه طائعَينَ غير كارهَين.

فقال ابن الزبير : الباطل والله ما تقول يا بن عباس ، وقد سُئل عبد الرحمن ابن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخسّهم عنده ، وما أدخله عمر في الشورى إلاّ وهو يعرفه ، ولكنه خاف فتنة في الإسلام.

وأمّا قتل خليفة ، فصاحبك كتب إلى الآفاق حتى قدموا عليه ثمّ قتلوه وهو في داره بلسانه ويده ، وأنا معه أقاتل دونه حتى جُرحتُ بضعة عشر جُرحاً.

وأمّا قولك إنّ عليّاً بايعه الناس طائعين ، فوالله ما بايعوه إلاّ كارهَين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم.

فقال الزبير : دع عنك ما ترى يا بن عباس ، جئتنا لتوفينا؟

فقال له ابن عباس : أنتم طلبتم هذا ، والله ما عددناكم قط إلاّ منّا بني هاشم في برّك لأخوالك ومحبّتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطع أرحامهم.

١٩٥

فقال الزبير : دع عنك هذا ) (١).

فرجع ابن عباس وأخبر الإمام عليه السلام بإصرار القوم على الخلاف ، فلم يبرح الإمام عليه السلام يبعث مَن يعظهم ويحذرهم مغبّة العواقب ، وكان أكثر رُسله سفارة هو ابن عمه عبد الله بن عباس.

( السفارة الثالثة )

عن ابن عباس ، قال :

( دخلت عليها ـ يعني عائشة ـ البصرة فذكّرتها هذا الحديث ـ يعني به حديثها معه يوم الصلصل وقد مرّ في الجزء الأوّل ـ.

فقالت : ذاك المنطق الذي تكلمت به يومئذ هو الذي أخرجني ، لم أر لي توبة إلاّ الطلب بدم عثمان ، ورأيت أنّه قتل مظلوماً.

قال ابن عباس : فقلت لها : فأنتِ قتلتيه بلسانكِ ، فأين تخرجين؟ توبي وأنتِ في بيتكِ ، أو أرضي ولاة دم عثمان ولده.

قالت : دعنا من جدالك فلسنا من الباطل في شيء ) (٢).

( السفارة الرابعة )

قال الشريف الرضي في ( نهج البلاغة ) :

( من كلام له عليه السلام لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيئُه إلى طاعته

____________________

(١) الجمل / ١٧١.

(٢) تقريب المعارف لابي الصلاح الحلبي / ٢٩٠ ، البحار ٣١ / ٢٩٩.

١٩٦

قبل حرب الجمل : ( لا تلقينّ طلحة ، فإنّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه ، يركب الصعبَ ويقول هو الذلول ، ولكن ألقَ الزبير ، فإنّه ألين عريكة ، فقل له : يقول لك ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ، فما عَدا ممّا بدا؟ ).

قال الرضي : أقول : هو أوّل من سُمعت منه هذه الكلمة ، أعني : ( فما عدا ممّا بدا ) (١).

قال الزبير بن بكار في ( الموفقيات ) عن ابن عباس ، قال : ( فأتيت الزبير فوجدته في بيت يتروّح في يوم حار ، وعبد الله ابنه عنده.

فقال : مرحباً بك يا بن لبابة ، أجئت زائراً أم سفيراً؟

قلت : كلا إنّ ابن خالك يقرأ عليك السلام ـ ( وذكر الرسالة ) ويقول لك : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة؟

فقال :

علقتهم أنّي خلفت عصبة

قتادة تعلقت بنشبة

لن أدعهم حتى أولّف بينهم.

قال ـ ابن عباس ـ : فأردت منه جواباً غير ذلك.

فقال لي ابنه عبد الله : قل له بيننا وبينك دم خليفة ...

قال : فعلمت أنّه ليس وراء هذا الكلام إلاّ الحرب ، فرجعت إلى

____________________

(١) نهج البلاغة / خطبة ٣١ في الدهر وأهله.

١٩٧

عليّ عليه السلام فأخبرته ) (١).

أقول : قال السيد علي خان المدني الشيرازي : ( وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : ( من كان له ابن عم مثل ابن عباس فقد أقرّ الله عينه ) (٢).

وكلمة الإمام عليه السلام ( فما عدا ممّا بدا ) لم يقلها أحد قبله.

قال ابن خلكان : ( وفي وقعة الجمل قبل مباشرة الحرب أرسل عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما برسالة يكفّهما عن الشروع في القتال ، ثمّ قال له : ( لا تلقينّ طلحة فإنّك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً أنفه يركب الصعب ويقول هو الذلول ، ولكن القَ الزبير فإنّه ألين عريكة منه ، وقل له : يقول ابن خالك : عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا ممّا بدا؟ ).

قال ابن خلكان : وعليّ رضي الله عنه أوّل من نطق بهذه الكلمة فأخذ ابن المعلم

____________________

(١) قال الزبير بن بكار : هذا الحديث كان يرويه عمي مصعب ثمّ تركه وقال : إني رأيت جدي أبا عبد الله الزبير بن العوام في المنام وهو يعتذر من يوم الجمل ، فقلت له كيف تعتذر منه وأنت القائل :

علقتهم أنّى خلفت عصبة

قتادة تعلقت بنشبة

لن أدعهم حتى أولّف بينهم؟ فقال : لم أقله. وهذا من النصوص الضائعة من كتاب الموفقيات المطبوع ولم يستدركه المحقق ، وقد بلغ ما استدركته عليه أربعة عشر نصاً ، وقد ذكر هذه الرسالة المفضل بن سلمة في الفاخر / ٣٠١ ط مصر وابن عبد ربه في العقد الفريد ٤ / ٣١٤ تحـ أحمد أمين ورفيقيه.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٠٨.

١٩٨

المذكور هذا الكلام وقال :

منحوه بالجزع الكلام وأعرضوا

بالغور عنه ( فما عدا ممّا بدا ) (١)

وهذا القول من جملة قصيدة طويلة.

( السفارة الخامسة )

قال ابن أبي الحديد :

( وقد روى المدائني ... قال : بعث عليّ عليه السلام ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب ، فقال له : إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لكم : ألم تبايعني طائعاً غير مكرَه فما الذي رابَك مني فاستحللت به قتالي؟

قال : فلم يكن له جواب ، إلاّ أنّه قال : إنّا مع الخوف الشديد لنطمع ، لم يقل غير ذلك.

قال أبو إسحاق ـ الراوي ـ : فسألت محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام ما تراه يعني بقوله هذا؟

فقال : والله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا؟

فقال يقول : إنّا مع الخوف الشديد ممّا نحن عليه نطمع أن نلي مثل الذي ولّيتم ) (٢).

وقد روى هذه السفارة كلّ من الجاحظ في ( البيان والتبيين ) عن عبد

____________________

(١) وفيات الأعيان / ترجمة أبي الغنائم الواسطي المعروف بابن المعلم المتوفى سنة ٥٩٢ هـ.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٢ / ٤٩٩.

١٩٩

الله بن مصعب (١) ، ورواها أبو الفرج الاصبهاني في ( الأغاني ) بأسانيد متعددة ، ولعلّ روايته أوسع ممّا مرّ ، وإليك نصها :

قال : ( حدّثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي ، وجعفر ابن محمّد بن الحسن العلوي الحسني ، والعباس بن علي بن العباس ، وأبو عبيد الصيرفي ، قالوا : حدثنا محمّد بن علي بن خلف العطار ، قال : حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، عن سليمان النوري ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن عليّ بن الحسين عليه السلام ، قال : حدّثني ابن عباس ، قال : قال لي عليّ صلوات الله عليه : ( إئت الزبير فقل له : يقول لك عليّ بن أبي طالب : نشدتك الله ألستَ قد بايعتني طائعاً غير مكره فما الذي أحدثت فاستحللتَ به قتالي ).

وقال أحمد بن يحيى في حديثه : قل لهما : ( إنّ أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول : هل نقمتما عليّ جوراً في حكم أو استئثاراً بفيء؟ ).

فقالا : لا ولا واحدة منهما ، ولكن الخوف وشدّة الطمع.

وقال محمّد بن خلف في خبره : فقال الزبير : مع الخوف شدّة المطامع (٢).

فأتيت عليّاً عليه السلام فأخبرته بما قال الزبير. فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما ، فسمعت عليّاً صلوات الله عليه يقول : ( نشدتك الله يا زبير ، أتعلم أنّي كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان

____________________

(١) البيان والتبيين ٣ / ٢٢١ تحـ عبد السلام محمّد هارون ط الأولى.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة ١٥ / ٢٦٧ ط باكستان.

٢٠٠