موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٩

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-97-3
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٩٦

مواقف إحتجاجاته في أيام أبي بكر

لقد مرّت بنا في الجزء الثاني من الحلقة الأولى مواقف مشهودة لابن عباس وإن كانت محدودة ، دلّت على قوّة شخصيته مع صغر سنه ، فقرأنا المروي عنه في مصادر الفريقين من خبر اليهودي مع أبي بكر ، وهو خبر شائق نستعيده في المقام وما يستتبعه من مماثل له ، يصلح أن يكون شاهداً على بدايات نبوغ ابن عباس ، ذلك الفتى اليافع أمام الناس داعياً واعياً.

فقد روى ابن دريد (١) ، والمقري الكبير (٢) ، والفتوني العاملي (٣) ، وابن شاذان (٤) ، والديلمي (٥) ، وابن بابويه (٦) ، والبياضي (٧) ، والعاصمي (٨) ، والمجلسي (٩) ، ( واللفظ للأوّل ) برواية أنس بن مالك ، قال :

____________________

(١) المجتنى / ٣٥ ط حيدر آباد.

(٢) نفح الطيب ٧ / ٢١٢ ط مصر نقلاً عن محاضرات المقري الكبير.

(٣) ضياء العاملين ( نسخة مصورة ) بمكتبتي.

(٤) الفضائل / ١٢٢ ط حجرية.

(٥) ارشاد القلوب ٢ / ١١٨ ط النجف.

(٦) التوحيد / ٣٨٥ ط حجرية ١٣٢١ بسنده عن الإمام الحسين عليه السلام.

(٧) الصراط المستقيم ٢ / ١٤ ط الحيدري بايران.

(٨) زين الفتى ( مخطوط ) بمكتبة المرحوم الشيخ الأميني ( قدس سره ).

(٩) بحار الأنوار ٨ / ١٩١ ط الكمباني حجرية.

٨١

( أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل المسجد ، فقال : أين وصي رسول الله؟ فأشار القوم إلى أبي بكر ، فوقف عليه ، فقال له : أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصي نبيّ؟

قال أبو بكر : سل عما بدا لك.

قال اليهودي : أخبرني عمّا ليس لله ، وعمّا ليس عند الله ، وعمّا لا يعلمه الله.

فقال أبو بكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهودي ، وهمّ أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي.

فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أنصفتم الرجل.

فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلّم به؟

فقال ابن عباس : إن كان عندكم جوابه وإلاّ فاذهبوا به إلى عليّ رضي الله عنه يجيبه ، فانّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعليّ بن أبي طالب : ( اللّهم اهد قلبه ، وثبّت لسانه ).

قال : فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليّ بن أبي طالب فاستأذنوا عليه. فقال أبو بكر : يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة.

فقال عليّ : ما تقول يا يهودي؟

قال : أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ.

فقال له : قل. فردّ اليهودي المسائل.

فقال عليّ رضي الله عنه : أمّا ما لا يعلمه الله ، فذلك قولكم يا معشر اليهود : إنّ العزير ابن الله ، والله لا يعلم أنّ له ولداً. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس عند الله ، فليس عنده ظلم للعباد. وأمّا قولك : أخبرني بما ليس لله ، فليس له شريك.

٨٢

فقال اليهودي : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال أبو بكر والمسلمون لعليّ عليه السلام : يا مفرّج الكرب ).

وممّا يدل على نحو ما سبق أيضاً ، ما أخرجه الشيخ ابن بابويه الصدوق في كتابه ( الخصال ) (١) ، والديلمي في ( الإرشاد ) (٢) ، واللفظ لهما معاً ، وبإسناد الأوّل عن ابن عباس ، قال :

( قدم يهوديان أخوان من رؤساء اليهود بالمدينة ، فقالا : يا قوم إنّ نبيّنا حُدّثنا عنه أنّه يظهر نبيّ بتهامة يسفّه أحلام اليهود ، ويطعن في دينهم ، ونحن نخاف أن يزيلنا عما كان عليه آباؤنا ، فأيّكم هذا النبيّ؟ فإن يكن الذي بشّر به داود آمنّا به واتبعناه ، وإن لم يكن وكان يورد الكلام على ائتلافه ويقول الشعر ، ويقهرنا بلسانه ، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا ، فأيّكم هذا النبيّ؟

فقال المهاجرون والأنصار : إنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قد قبض.

فقالا : الحمد لله ، فأيّكم وصيّه؟ فما بعث عزوجل نبيّاً إلى قوم إلاّ وله وصيّ يؤدي عنه من بعده ، ويحكي عنه ما أمره ربّه.

فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر ، فقالوا : هو وصيّه.

فقالا لأبي بكر : إنّا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء ،

____________________

(١) الخصال / ٥٦٠ باب الواحد إلى المائة ط الحيدرية.

(٢) ارشاد القلوب ٢ / ١١٩ ط الحيدرية ط الاولى.

٨٣

ونسألك عما تسأل الأوصياء عنه.

فقال لهما أبو بكر : ألقيا ما شئتما أخبركما بجوابه إن شاء الله.

فقال أحدهما : ما أنا وأنت عند الله عزوجل؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟ وما قبر سار بصاحبه؟ ومن أين تطلع الشمس وفي أين تغرب؟ وأين طلعت الشمس ثم لم تطلع فيه بعد ذلك؟ وأين تكون الجنة؟ وأين تكون النار؟ وربك يَحمل أو يُحمل؟ وأين يكون وجه ربك؟ وما اثنان شاهدان؟ وما اثنان غائبان؟ وما اثنان متباغضان؟ وما الواحد؟ وما الاثنان؟ وما الثلاثة؟ وما الأربعة؟ وما الخمسة؟ وما الستة؟ وما السبعة؟ وما الثمانية؟ وما التسعة؟ وما العشرة؟ وما الأحد عشر؟ وما الاثنا عشر؟ وما العشرون؟ وما الثلاثون؟ وما الأربعون؟ وما الخمسون؟ وما الستون؟ وما السبعون؟ وما الثمانون؟ وما التسعون؟ وما المائة؟

قال ابن عباس : فبقي أبو بكر لا يردّ جواباً ، فتخوّفنا أن يرتدّ القوم عن الإسلام ، فأتيت منزل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فقلت له : يا عليّ أنّ رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبي بكر مسائل فبقي أبو بكر لا يرد جواباً.

فتبسم عليّ عليه السلام ضاحكاً ، ثم قال : هو اليوم الذي وعدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأقبل يمشي أمامي وما أخطأت مشيتُه من مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئأ حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم التفت إلى اليهوديين ، فقال : يا يهوديان أدنوا مني وألقيا عليَّ ما ألقيتماه على الشيخ.

٨٤

فقالا : ومن أنت؟

فقال لهما : أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ، أخو النبيّ ، وزوج ابنته فاطمة ، وأبو الحسن والحسين ، ووصيّه في حالاته كلّها ، وصاحب كلّ منقبة وعز ، وموضع سر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال له أحد اليهوديين : ما أنا وأنت عند الله؟

قال : أنا مؤمن منذ عرفتُ نفسي ، وأنت كافر منذ عرفتَ نفسك ، فما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك.

فقال اليهودي : فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟

قال : ذاك يونس عليه السلام في بطن الحوت.

قال : فما قبر سار بصاحبه؟

قال : يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر.

قال له : فالشمس من أين تطلع؟

قال : من بين قرني الشيطان.

قال : فأين تغرب؟

قال : في عين حمئة ، وقال لي حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تصل في إقبالها ولا في إدبارها حتى تصير مقدار رمح أو رمحين ).

قال : فأين طلعت الشمس ثم لم تطلع في ذلك الموضع؟

قال : في البحر حين فلقه الله تعالى لبني اسرائيل لقوم موسى عليه السلام.

قال : فربك يَحمل ، أو يُحمل؟

٨٥

قال : إنّ ربي عزوجل يحمل كلّ شيء بقدرته ولا يحمله شيء.

قال : فكيف قوله عزوجل : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة )(١)؟

قال : يا يهودي ألم تعلم أنّ لله ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى )(٢) ، فكلّ شيء على الثرى ، والثرى على القدرة ، والقدرة تحمل كلّ شيء.

قال : فأين تكون الجنة؟ وأين تكون النار؟

قال : أمّا الجنة ففي السماء ، وأمّا النار ففي الأرض.

قال : فأين يكون وجه ربك؟

فقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لي : يا بن عباس إئتني بنار وحطب ، فأتيته بنار وحطب فأضرمهما ، ثم قال : يا يهودي أين يكون وجه هذه النار؟

قال : لا أقف لها على وجه.

قال : فإنّ ربّي عزّ وجلّ عن هذا المثل ، وله المشرق والمغرب ، ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه )(٣).

فقال له : ما اثنان شاهدان؟

قال : السماوات والأرض لا يغيبان ساعة.

قال : فما اثنان غائبان؟

____________________

(١) الحاقة / ١٧.

(٢) طه / ٦.

(٣) البقرة / ١١٥.

٨٦

قال : الموت والحياة لا يوقف عليهما.

قال : فما اثنان متباغضان؟

قال : الليل والنهار.

قال : فما الواحد؟

قال : الله عزوجل.

قال : فما الاثنان؟

قال : آدم وحواء.

قال : فما الثلاثة؟

قال : كذبت النصارى على الله عزوجل فقالوا : ]ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[ (١) عيسى ابن مريم ابن الله ، والله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.

قال : فما الأربعة؟

قال : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.

قال : فما الخمسة؟

قال : خمس صلوات مفترضات.

قال : فما الستة؟

قال : خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش.

قال : فما السبعة؟

____________________

(١) المائدة / ٧٣.

٨٧

قال : سبعة أبواب النار متطابقات.

قال : فما الثمانية؟

قال : ثمانية أبواب الجنة.

قال : فما التسعة؟

قال : تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

قال : فما العشرة؟

قال : عشرة أيام العشر.

قال : فما الأحد عشر؟

قال : قول يوسف لأبيه : ( يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )(١).

قال : فما الاثنا عشر؟

قال : شهور السنة.

قال : فما العشرون؟

قال : بيع يوسف بعشرين درهماً.

قال : فما الثلاثون؟

قال : ثلاثون يوماً شهر رمضان ، وصيامه فرض واجب على كلّ مؤمن إلاّ من كان مريضاً أو على سفر.

قال : فما الأربعون؟

____________________

(١) يوسف / ٤.

٨٨

قال : كان ميقات موسى عليه السلام ثلاثون ليلة فأتمها الله عزوجل بعشرٍ ، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة.

قال : فما الخمسون؟

قال : دعا نوح قومه لبث ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.

قال : فما الستون؟

قال : قول الله عزوجل في كفارة الظهارَ ( فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكيناً إذا لم يقدر على صيام شهرين متتابعين ).

قال : فما السبعون؟

قال : اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه عزوجل.

قال : فما الثمانون؟

قال : قرية بالجزيرة يقال لها : ثمانون ، منها قعد نوح عليه السلام في السفينة واستوت على الجودي ، وأغرق الله القوم.

قال : فما التسعون؟

قال : الفلك المشحون ، اتخذ نوح عليه السلام تسعين بيتاً للبهائم.

قال : فما المائة؟

قال : كان أجل داود عليه السلام ستين سنة فوهب له آدم عليه السلام أربعين عاماً سنة من عمره ، فلمّا حضرت آدم عليه السلام الوفاة جحد ، فجحد ذريته.

فقال له : يا شاب صف لي محمّداً كأنّي أنظر إليه ، حتى أومن به الساعة.

٨٩

فبكى أمير المؤمنين عليه السلام ثم قال : يا يهودي هيّجت أحزاني ، كان حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلت الجبين ، مقرون الحاجبين ، أدعج العينين ، سهل الخدين ، أقنى الأنف ، دقيق المسربة ، كث اللحية ، برّاق الثنايا ، كأنّ عنقه أبريق فضة ، كان له شعيرات من لبتّه إلى سرّته ملفوفة كأنّها قضيب كافور ، لم يكن في بدنه شعيرات غيرها ، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير النزر ، كان إذا مشى مع الناس غمرهم بنوره ، وكان إذا مشى كأنّه يتقلع من صخر أو ينحدر من صبب ، كان مدور الكعبين ، لطيف القدمين ، دقيق الخصر ، عمامته السحاب ، وسيفه ذو الفقار ، وبغلته دلدل ، وحماره اليعفور ، وناقته العضباء ، وفرسه لزاز ، وقضيبه الممشوق ، وكان عليه السلام أشفق الناس على الناس ، وأرأف الناس بالناس ، كان بين كتفيه خاتم النبوة ، مكتوب على الخاتم سطران ، أمّا أوّل سطر : فلا إله إلاّ الله ، وأمّا الثاني : فمحمد رسول الله. هذه صفته يا يهودي.

فقال اليهوديان : نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ، وأنّك وصي محمّد حقاً.

فأسلما وحسن إسلامهما ولزما أمير المؤمنين عليه السلام ، فكانا معه حتى كان من أمر الجمل ما كان فخرجا معه إلى البصرة ، فقتل أحدهما في وقعة الجمل وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل بصفين ... أهـ ).

٩٠

مقام رجلين من علماء اليهود بين يدي أبي بكر

ذكر ذلك الغزالي في كتابه ( مقام العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء ) ، قال :

( روى علي بن إسحاق ، عن محمد بن مروان ، عن ابن الكلبي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :

قدم يهوديان المدينة بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام بشهرين ، فسألا عن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدلا على أبي بكر رضي الله عنه. فأتياه فقالا : إنّا وجدنا صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ، فجئنا لنسلم على يده.

فقال أبو بكر رضي الله عنه : قد مات منذ شهرين ، فما حاجتكما؟

فقالا : نريد أن نسألك عن أشياء ثلاثة ، فإن أخبرتنا بها آمنا وصدقنا.

فقال أبو بكر رضي الله عنه : سلا عما شئتما.

قالا : أخبرنا ما الذي فرَّق بين الحبّ والبغض ومعدنهما في القلب واحد؟ وما الذي فرَّق بين الحفظ والنسيان ومعدنهما في القلب واحد؟ وما الذي فرَّق بين الأحلام الصادقة والأحلام الكاذبة؟

قال : فاطرق أبو بكر ساعة عاضاً على إبهامه ، ثم قال : الله ورسوله أعلم إئتيا عمر بن الخطاب فإنّه سيخبركما إن شاء الله تعالى.

فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألاه ، قال : الله ورسوله أعلم ، إئتيا عليّ بن أبي طالب فاسألاه فإنّه سيخبركما إنّ شاء الله.

قالا : أين هو؟

٩١

قال : هو في سفح الجبل يثير أرضاً له.

فأتياه ثم سألاه.

فقال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : ( أخبرني جبريل عليه السلام أنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فما تعارف منها أئتلف وما تناكر منها اختلف ، الحبّ والبغض من هاهنا نشأ.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران.

قال عليّ رضي الله عنه : وأمّا الحفظ والنسيان ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني عن جبريل عليه السلام ، أنّ الله تعالى ، لما خلق آدم عليه السلام ، جعل له قلباً ، وجعل لقلبه غاشية تنفتح وتنطبق ، فما مرّ بالقلب والغاشية منطبقة ، فذلك الذي لا يعيه ابن آدم ، ولا يحفظه.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران.

قال عليّ رضي الله عنه ، وأمّا الذي بين الأحلام الصادقة والكاذبة ، أخبرني رسول الله ، صل الله عليه وسلم ، أنّ جبريل عليه السلام ، أخبره أنّ ابن آدم إذا نام عرج بروحه إلى السماء ، فيرى هناك ما يرى وهو الحق ، فإذا ردت تلقتها الشياطين فلبّست عليها ، فما كان منها الصادقة فهي من السماء ، وما كان من الأرض فهي الكاذبة من الشياطين.

قالا : صدقت والذي أنزل التوراة على موسى بن عمران ، ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام : الحمد لله الذي هداكما والله ولي التوفيق ) (١).

____________________

(١) مقام العلماء بين يدي الخلفاء والأمراء / ١٨٩ ـ ١٩١ ، بتحقيق محمد جاسم الحديثي.

٩٢

ابن عباس مع عمر بن الخطاب في أيام خلافته

قال ابن عباس : ( عجباً لمن يطلب أمراً بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة ، فالحجة دين يعتقد به الطاعة ، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة ) (١).

هكذا كانت فلسفة ابن عباس في مبدئه الحواري مع الآخرين من الحاكمين وغيرهم ، وهي فلسفة صحيحة لمن ملك مقوماتها وأحسن استعمالها ، ولقد قرأنا في سيرة ابن عباس وتاريخه في عهد عمر معاشرتهما ، كما في الحلقة الأولى في الجزء الثاني قرأنا بعض المؤشرات على قوّة نشاط ابن عباس في ذلك العهد ، فقلت في مقدمة ذلك :

( لا بد لنا من مقدمة نستوحي منها بعض المؤشرات على قوّة نشاط الحبر في ذلك العهد. ونتعرف من خلالها أسباب ذلك التمازج العملي ـ إن صح التعبير ـ مع شدّة التنافر الفكري بين الشخصين ، خصوصاً في أمر الخلافة التي هي بداية الخلاف في الأمّة ، والتي كان ابن عباس يقول فيها بالنص ، وكان عمر يقول فيها بالإختيار. فهما على طرفي نقيض في تلك النقطة المهمة ، ومن ذلك نعرف مدى التباعد بين الرؤى في العقيدة عند الرجلين مع شدّة التقارب بين الشخصين في الحضر والسفر ، بينما يرى

____________________

(١) محاضرات الراغب ١ / ٣٣ ط الشرقية.

٩٣

عمر ما رآه أبو بكر ، ورأيهما رأي المخالفين التابعين لهما والقائلين بالإختيار ) ، ويرى ابن عباس ما يراه عليّ عليه السلام من الحق له في الخلافة.

وهذا هو الرأي النظري الذي نجده مبثوثاً في الكتب الكلامية لأصحابهم ، لكن الرأي غير العمل ، فقد تبدّل منذ عهد معاوية الذي جعل الخلافة ملكاً عضوضاً ، كما سيأتي إلى ما يشير إلى هذا.

أقول : بينما يرى ابن عباس ما يراه أهل البيت جميعاً من قبل ومن بعد ، وهم القائلون بالنص ، وتبعهم على ذلك من شايعهم يومئذ وحتى الساعة.

وقد بحثتُ العوامل التي أدت إلى التناغم وتبادل الثقة بين ابن عباس وبين عمر حتى صارت صداقة ، ممّا أثارت حسد بعض شيوخ الصحابة على ذاك التقريب ، مع أنّ كلاً منهما لا يزال على رأيه وعند موقفه في مسألة الخلافة ، لأنّ إختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية؟ كما يقول أحمد شوقي.

وقد بحثت ثلاث مسائل ذات أهمية بالغة وأجبت عنها تعرّفنا من خلالها الجواب على تلك المسائل ، فسأعيد في المقام تلخيصاً لها. فأقول :

إنّ المسألة الأولى : كانت حول تفضيل ابن عباس لإمرة أبي بكر على إمرة عمر ، فقال لمن سأله عنهما ، ففضّل إمرة المطيّبي ـ وهو أبو بكر ـ على إمرة الأحلافي ـ وهو عمر ـ ، وبالمقارنة بين العهدين ، وجدناه في عهد أبي

٩٤

بكر فرداً كسائر بني هاشم منضوياً تحت لواء أبيه العباس كسائر أخوته وجميع بني هاشم يضمهم جميعاً كنف الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام الرحب ، فكانوا جميعاً تبعاً له ، فعن رأيه يصدرون وبأمره يعملون ، وهم جميعاً يمثلون الجبهة المعارضة للحكم يومئذ ، فيرون الحق لعليّ عليه السلام دون غيره ، ومرت أقوالهم شعراً ونثراً في ذلك.

بينما كان ابن عباس في عهد عمر له حضور منظور ، فهو في مجلس شورى عمر مفتياً ومشيراً وناصحاً ، وصاحباً في الحضر والسفر ، فكان يجرأ على المخاصمة ويقوى على المحاججة ، ويحتمل عمر منه ما لم يحتمله من غيره.

فكان مختصر الجواب عن هذه المسألة : أنّ مسألة التحالف التي كانت قبل الإسلام حسب الأعراف القبلية ، فبقيت أثارها تثيرها الخصومات كلّ ما دعت الحاجة إليها. وقد ذكرت شاهداً على ذلك في قصة تنازع أسامة بن زيد مع عمرو بن عثمان ، وانتصار الإمام الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفر لأسامة ، حين رأيا نصرة مروان وسعيد بن العاص لعمرو ابن عثمان ، وحسم معاوية ذلك النزاع لصالح أسامة خشية من بني هاشم أن يتفاقم الخطب ، ولم يكن في رأيي في ذلك سبباً تاماً بقدر ما هو كجواب إقناعي ، ورأيت أنّ قصر المدّة بين الحكمين كان عاملاً من عوامل تفضيل إمرة المطيبي وهو أبو بكر ، لأنّها لقصر مدتها لم تقع فيها كثير مفارقات وتناقضات في الأحكام ، كما هي الحال في إمرة الأحلافي

٩٥

وهو عمر بن الخطاب ، ( فمني فيها ـ الناس بخبط وشماس وتلوّن واعتراض ) كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فكان عمر يغيّر ويبدّل بما جرى على لسانه ، حتى حفظ عبيدة السلماني ، وهو غير متهم عليه بمائة أقضية في الجد ، كلّها ينقض بعضها بعضاً (١) ، ومع ذلك يعترف عمر ويقول : ( قضيت في قضية الجد قضايا مختلفة كلّها لا آلو فيه عن الحق؟ ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها قضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها ). فكان ابن عباس يرى في قلّة المفارقات في إمرة المطيبي مع كثرتها في إمرة الأحلافي سبباً في تفضيل الأوّل على الثاني.

أمّا المسألة الثانية : في معرفة الدواعي التي توفرت لدى كلّ من ابن عباس وعمر ، حتى بدأ التآلف يزداد يوماً بعد يوم ، مع الفارق الكبير الكثير بينهما في السن ، فإنّ عمر تولى الحكم وعمره يزيد على الأربعين ببضع سنين ، بينما كانت سنّ ابن عباس يومئذ لم تبلغ العشرين ، مضافاً إلى الشعور بين التفاضل بين البيتين ، فهو من بني هاشم صفوة الخلائق ، وعمر من بني عديّ ، كما أنّ الخلاف بينهما في مسألة إستحقاق الخلافة يوسع شقة التباعد عادة. لكن قراءة عابرة لما مرّ في الجزء الثاني في الحلقة الأولى ( في عهد

____________________

(١) قال عبيدة السلماني : لقد حفظت من عمر بن الخطاب فيها ـ مسألة الجد ـ مائة أقضية مختلفة. المصنف لعبد الرزاق ١٠ / ٢٦٢ ، فقال لابن سيرين متعجباً : عن عمر؟ قال : عن عمر. أخرجه الدارمي في سننه / ٣٨٩ ، البهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٤٢ ، حتى قال السيوطي في الأشباه والنظائر / ١٠١ : وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول ، فإنه يؤدي إلى أنه لا يشقى حكم ، وفي ذلك مشقة شديدة ، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلّم جرّا.

٩٦

عمر ) رأينا تبادل المصالح تجمع بين المتضادين ، ما داما على إتفاق في بلوغ الهدف المنشود لهما وهو خدمة الإسلام ، مع أنّ لكلّ وجهة هو موليّها ، مع تفصيل مرتّ شواهده ، تستدعي الإتفاق ، فراجع. فكانت حاجة عمر إلى ابن عباس لكفاءته العلمية ، حتى اعترف له بذلك ، فيقول له إذا أعضله أمر : ( غص يا غواص ) ، وقد أخذ ذلك الجاحظ فقال في رسالته نفي التشبيه : ( ولو لم يعرف ـ عمر ـ ذلك ـ نفي التشبيه ـ إلاّ بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافياً وبرهاناً شافياً ، فإنّ الأعجوبة فيه أربت على كلّ عجب ، وقطعت كلّ سبب ، وقد رأيتم حاجة عمر إليه ، واستشارته إياه ، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه ... ) (١).

ولا يبعد أن يكون ابن عباس رأى في تقريب عمر له وأخذ الحكم منه وسيلة تنفيس عن هموم شملت بني هاشم على العموم ، حين رأوه ومن قبله غاصبين لحقوقهم ، بدءاً من الخلافة وإنتهاءً بسهم ذوي القربى وما بينهما من الحقوق المغتصبة ، فكان يسمعه أحياناً ما يغضبه في هذا الشأن كما ستأتي في صفحات إحتجاجه ما يثير العجب ، وكيف قال ابن عباس لعمر : ( فأردد إليه ظلامته ) ولم يردّ عليه عمر إلاّ بمعاذير غير مقنعة ، فدحضها ابن عباس ، كما سنقرأ ذلك.

وأمّا المسألة الثالثة : في معرفة موقف بني هاشم وعلى رأسهم الإمام عليّ عليه السلام من تقريب عمر لابن عباس ، وقبول الثاني بذلك التقريب ، وحضوره عند عمر يعني حضور بني هاشم على أضعف تقدير ، وهو مظهر ينتفع به عمر

____________________

(١) رسالة الجاحظ ١ / ٣٠٠ تحقيق هارون.

٩٧

أكثر ممّا ينتفع به بنو هاشم عند الناس ، وكم قرأنا شواهد على أنّ الإمام عليّ عليه السلام كان يرى مصلحة الإسلام فوق كلّ شيء وكذلك كان بنو هاشم ، وسيدهم يقول : ( سلامة الدين أحبّ إلينا ).

فكان وجود ابن عباس عند عمر في غالب أوقاته تسديداً لبعض ما ينقصه من علم في غفلاته ، وقرأنا فيما مرّ في الجزء الثاني من الحلقة الأولى عشرة شواهد على قوّة إتصال وثيق وحضور فاعل على الصعيدين العلمي والسياسي ، بحيث كان غيابه يؤثر على المؤسسة الحاكمة ، فلتراجع وتقرأ بإمعان ، لنعرف أنّ تبادل مصالح عامّة ومصالح خاصة هي التي قربت بين الرجلين ، فحصل بعض التناغم وإن لم يحصل تمام التفاهم ، وكان كلّ منهما مغبوطاً على صحبة الآخر ، صحبة الصديق للصديق.

فإلى قراءة نماذج من محاورات احتجاجية جرت بينهما من دون تعليق.

نماذج من احتجاجاته على عمر بن الخطاب

١ ـ ( لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرواً من قول ).

أخرج أحمد بن أبي طاهر صاحب ( تاريخ بغداد ) في كتابه مسنداً عن ابن عباس ، قال : ( دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة (١) ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى عليه ، ثم شرب من جرّ كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ،

____________________

(١) الخصفة : الجلة تعمل من الخوص يوضع فيها التمر.

٩٨

وطفق يحمد الله ، يكرر ذلك.

ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟ قلت : من المسجد.

قال : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، قلت : خلّفته يلعب مع أترابه.

قال : لم أعن ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت؟

قلت : خلّفته يمتح بالغرب (١) على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.

قال : يا عبد الله عليك دماء البُدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟

قلت : نعم.

قال : أيزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصّ عليه؟

قلت : نعم ، وأزيدك سألت أبي عما يدّعيه؟ فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرواً من قول ، لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه (٢) فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّي علمت ما في نفسه فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم ) (٣).

____________________

(١) يمتح بالغرب : أي بالدلو.

(٢) أشارة إلى حديث الكتف والدواة وقد مرّ مفصلاً.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٩٧ ط مصر الأولى ، كشف اليقين للعلامة الحلي / ٩٤ ط حجرية ٤٦٢ ط محققة ، كشف الغمة ٢ / ٤٦ ، بحار الأنوار ٣٨ / ١٥٦.

٩٩

٢ ـ ( أنت والله أحق أن تتبع ).

روى الزبير بن بكار في ( الموفقيّات ) (١) عن عبد الله بن عباس ، قال : ( خرجت أريد عمر بن الخطاب ، فلقيته راكباً حماراً قد أرتسنه (٢) بحبل أسود ، في رجليه نعلان مخصوفتان ، وعليه أزار وقميص صغير ، وقد أنكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه ، فمشيت إلى جانبه وجعلت أجذب الأزار وأسوي عليه ، كلّما سترت جانباً انكشف جانب ، فيضحك ويقول : إنّه لا يطيعك ، حتى جئنا العالية (٣) فصلّينا ، ثم قدم بعض القوم إلينا طعاماً من خبز ولحم ، وإذا عمر صائم ، فجعل ينبذ إليّ طيّب اللحم ويقول : كل لي ولك ، ثم دخلنا حائطاً فألقي إليّ رداءه وقال أكفنيه ، وألقى قميصه بين يديه وجلس يغسله وأنا أغسل رداءه ، ثم جففناهما وصلينا العصر ، فركب ومشيت إلى جانبه ولا ثالث لنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنّي في خطبة فأشر عليَّ.

قال : ومن خطبت؟

قلت : فلانة ابنة فلان.

قال : النسب كما تحبّ وكما قد علمت ، ولكن في أخلاق أهلها دقة

____________________

(١) لم يذكر في المطبوع فعلا من الموفقيات وقد استدركت على المحقق لها عدة نصوص ضائعة فاتته الإشارة إليها ، كان منها هذا مع ان المتقي الهندي في كنز العمال أخرجها عن الموفقيات.

(٢) أرتسنه : جعل له رسنا ، وهو ما يوضع في رأس الدابة.

(٣) ناحية من نواحي المدينة وتسمى اليوم بالعوالي.

١٠٠