مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

غير هذا أبين منه ذلك قول الله عز وجل ] : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » (١) هو الذي فارقه.

١٨ ـ يونس ، عن ابن بكير ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » (٢) الكبائر فما سواها

______________________________________________________

والمعادن فحذف المضاف لتقدم ذكره « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أي ولا تقصدوا الردى « مِنْهُ » أي من المال أو مما أخرجنا ، وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر « تُنْفِقُونَ » حال مقدرة من فاعل تيمموا ويجوز أن يتعلق به « منه » ويكون الضمير للخبيث ، والجملة حالا منه ، وروي عن ابن عباس أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره (٣) فنهوا عنه.

وأما التشبيه فيحتمل وجوها :

الأول : ما خطر بالبال أن الأعمال الصالحة إنفاق من النفس ، وإذا فارقها روح الإيمان بسبب الأعمال السيئة صارت خبيثة ، فالمعنى طهروا أنفسكم بترك المعاصي حتى يرد إليها روح الإيمان ثم استعملوها في الأعمال الصالحة حتى تقبل منكم كما قال تعالى : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (٤) فيكون من بطون الآية ، ولا ينافي ظاهرها.

الثاني : ما قيل : أن الإيمان يصير خبيثا كالمال الرديء.

الثالث : ما قيل : إن وجه المماثلة إن أيمان الزاني ناقص لا أنه معدوم بكله كما أن النفاق من المال الخبيث ناقص لا أنه ليس بإنفاق أصلا ، والكل لا يخلو من تكلف.

الحديث الثامن عشر : موثق كالصحيح.

« إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » كان المراد بالشرك الإخلال بكل من العقائد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٣.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

(٣) الحشف : اردأ التمر او اليابس الفاسد منه.

(٤) سورة المائدة : ٢٧.

٤١

قال قلت دخلت الكبائر في الاستثناء قال نعم.

______________________________________________________

الإيمانية ، وبالمغفرة المغفرة بغير توبة ، وقال في مجمع البيان : معناه أن الله لا يغفر أن يشرك به أحد ولا يغفر ذنب الشرك لأحد ، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يريد ، قال المحققون : هذه الآية أرجى آية في القرآن لأن فيه إدخال ما دون الشرك من جميع المعاصي في مشية الغفران ، وقف الله سبحانه المؤمنين الموحدين بهذه الآية بين الرجاء والخوف ، وبين العدل والفضل ، وذلك صفة المؤمن ، انتهى.

وروى الصدوق في التوحيد عن علي عليه‌السلام قال : ما في القرآن آية أحب إلى من قوله : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » الآية ، وبإسناده عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه في حديث طويل قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قاع (١) حوله حجارة ، فقال لي : اجلس حتى أرجع إليك ، فانطلق في الحرة (٢) حتى لم أره وتوارى عني فأطال ، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول : وإن زنى وإن سرق ، قال : فلم أصبر حتى قلت يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة فإني ما سمعت أحدا يرد عليك شيئا قال : ذاك جبرئيل عرض لي في جانب الحرة فقال : بشر أمتك أن من مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة ، قال : فقلت : يا جبرئيل وإن زنى وإن سرق؟ قال : نعم ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : نعم وإن شرب الخمر ، والذي يدل على أن الشرك شامل للإخلال بجميع العقائد وأن المغفرة مختصة بالمؤمنين الذين صحت عقائدهم ما رواه علي بن إبراهيم في التفسير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أما قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، يعني أنه لا يغفر لمن يكفر بولاية علي عليه‌السلام وأما قوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، يعني لمن والى عليا عليه‌السلام ، وروى الصدوق رحمه‌الله في الفقيه قال : لقد سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لو أن المؤمن خرج من الدنيا وعليه مثل ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفارة لتلك الذنوب ، ثم قال عليه‌السلام

__________________

(١) القاع : أرض سهلة قد انفرجت عنها الجبال والاكام.

(٢) الحرة : أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار.

٤٢

١٩ ـ يونس ، عن إسحاق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الكبائر فيها استثناء أن يغفر لمن يشاء قال نعم.

٢٠ ـ يونس ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ـ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (١) قال معرفة الإمام و

______________________________________________________

من قال لا إله إلا الله بإخلاص فهو بريء من الشرك ، ومن خرج من الدنيا لا يشرك بالله دخل الجنة ، ثم تلا هذه الآية إلى قوله : لمن يشاء ، من شيعتك ومحبيك يا علي قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فقلت : يا رسول الله هذا لشيعتي؟ قال : إي وربي أنه لشيعتك « الخبر ».

« في الاستثناء » أي في التعليق بالمشية وقد شاع تسمية التعليق بمشية الله استثناء فإن قولك أفعل ذلك إن شاء الله في قوة قولك إلا أن لا يشاء الله فعلي ، وهنا أيضا قوله تعالى : « وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » في قوة قوله : يغفر ما دون ذلك لكل أحد إلا لمن لا يشاء ، أو لا يغفر ما دون ذلك إلا لمن يشاء ، وبالجملة يدل الحديث على أن الله سبحانه يغفر لأصحاب الكبائر إن شاء ، ردا على من زعم أن المصرين على الكبائر مخلدون في النار.

الحديث التاسع عشر : كالسابق ومعلق عليه.

وقوله : استثناء ، يمكن أن يقرأ منونا وغير منون.

الحديث العشرون : صحيح.

وقال الطبرسي (ره) في قوله تعالى : « يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ » ذكر في معنى الحكمة وجوه : قيل : إنه علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله عن ابن عباس وابن مسعود ، وقيل : هو الإصابة في القول والفعل ، وقيل : إنه علم الدين ، وقيل : هو النبوة ، وقيل : هو المعرفة بالله

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٩.

٤٣

اجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار.

٢١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام الكبائر تخرج من الإيمان فقال نعم وما دون الكبائر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن.

______________________________________________________

وقيل : هو الفهم ، وقيل : هو خشية الله وقيل هو القرآن والفقه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقيل : هو العلم الذي تعظم منفعته ، وتجل فائدته ، وهذا جامع للأقوال ، وقيل : هو ما آتاه الله أنبياءه وأممهم في كتبه وآياته ودلالاته التي يدلهم بها على معرفتهم به وتدينهم ، وذلك تفضل منه يؤتيه من يشاء « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ » أي ومن يعط ما ذكرناه « فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » أي أعطي ، انتهى.

وقيل : الحكمة معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، وأقول : ظاهر كثير من الأخبار أنه العلم الحق المقرون بالعمل ، أو العلم اللدني الذي أفاضه الله على قلب العبد بعد العمل ، وقد قالوا : الحكيم « راست گفتار درست كردار » والحديث يدل على أنه صحة أصول العقائد مع اجتناب الكبائر فإن معرفة الإمام يستلزم صحة سائر العقائد ، ويمكن إدخال ترك الفرائض أيضا في الكبائر كما ورد في رواية أخرى أنها طاعة الله ومعرفة الإمام بل يمكن إدخال سائر العلوم الحقة في معرفة الإمام ، لأن معرفتهم حق المعرفة يستلزم أخذ العلوم عنهم بقدر القابلية.

الحديث الحادي والعشرون : حسن على الظاهر وقد يعد مجهولا لاشتراك محمد بن حكيم بين ممدوح ومجهولين ، وعندي أن أحد المجهولين وهو الخثعمي متحد مع الممدوح والساباطي لم يلق الكاظم عليه‌السلام.

« وما دون الكبائر » أي الصغائر أيضا ولعله محمول على الإصرار فتصير كبيرة ، أو مع عدم اجتناب الكبائر فإن الصغائر غير مكفرة حينئذ ولا استحالة في اجتماع الأسباب الشرعية على معلول واحد ، ونقل قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاستدلال لإخراج الكبائر فتدبر.

٤٤

٢٢ ـ ابن أبي عمير ، عن علي [ بن ] الزيات ، عن عبيد بن زرارة قال دخل ابن قيس الماصر وعمرو بن ذر وأظن معهما أبو حنيفة على أبي جعفر عليه‌السلام فتكلم ابن قيس الماصر فقال إنا لا نخرج أهل دعوتنا وأهل ملتنا من الإيمان في المعاصي والذنوب قال فقال له أبو جعفر عليه‌السلام يا ابن قيس أما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد قال لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن فاذهب أنت وأصحابك حيث شئت.

٢٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام وإن عذب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدة وانقطاع فقال من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذب أشد العذاب وإن كان معترفا أنه أذنب ومات عليه أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام وكان عذابه أهون من عذاب الأول.

٢٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال حدثني أبو جعفر صلوات الله عليه قال سمعت أبي يقول سمعت أبي موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما

______________________________________________________

الحديث الثاني والعشرون : مجهول.

« أهل دعوتنا » أي الذين يدعون إلى الدين الذي ندعو إليه ، ويدل على أن الذنوب أو الكبائر يخرج من الإيمان ببعض معانيه كما مر مرارا.

الحديث الثالث والعشرون : صحيح.

« وكان عذابه أهون » أي كما وكيفا وقد مر شرحه في عاشر الباب.

الحديث الرابع والعشرون : صحيح لأن مدح عبد العظيم يربو على التوثيق بمنازل شتى.

٤٥

سلم وجلس تلا هذه الآية : « الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ » (١) ثم أمسك فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام ما أسكتك قال أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل فقال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك بالله يقول الله و « مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » (٢) وبعده الإياس من روح الله لأن الله عز وجل

______________________________________________________

« ثم أمسك » يعني عن الكلام « فقال نعم » لعله قبول لالتماس عمرو أو تصديق لقوله أكبر الكبائر الإشراك بالله قال الوالد (ره) : إطلاق الكبيرة عليه خلاف مصطلح الأصحاب ثم الظاهر أن المراد بالإشراك ما يستحق به الخلود في النار ، فيشمل إنكار كل ما هو من أصول الدين.

أقول : ويؤيده أنه فسر في كثير من الأخبار الشرك بترك الولاية ، وروي أنه يسلب لا إله إلا الله يوم القيامة من كل أحد إلا من الشيعة ، وروي في تفسير قوله تعالى : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ » (٣) أن المعاصي أيضا داخلة في الشرك ، وروي أدنى الشرك أن تقول للحصاة إنها نواة ، وللنواة إنها حصاة ، ثم تحب عليه وتبغض عليه ، وبالجملة الشرك له معان مختلفة وإطلاقات كثيرة ، والمراد هنا ما يشمل الإخلال بجميع العقائد الإيمانية.

« فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » قال في المجمع : التحريم هنا تحريم منع لا تحريم عبادة ، ومعناه فإن الله يمنعه الجنة وبعده « وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » وقال سبحانه حاكيا عن يعقوب عليه‌السلام : « يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ » أي من رحمته وفرجه « إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ » بالله وبصفاته ، فإن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال.

وقال الطبرسي (ره) : لا تيأسوا من روح الله أي لا تقنطوا من رحمته ، وقيل : من الفرج من قبل الله « إِنَّهُ لا يَيْأَسُ » ( إلخ ) وقال ابن عباس : يريد أن المؤمن من الله

__________________

(١) سورة النجم : ٣٢.

(٢) سورة المائدة : ٧٢.

(٣) سورة يوسف : ١٠٦.

٤٦

يقول : « إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ » ثم الأمن لمكر الله ، لأن الله

______________________________________________________

على خير يرجوه في الشدائد والبلاء ، ويشكره ويحمده في الرخاء ، والكافر ليس كذلك ، وفي هذا دلالة على أن الفاسق الملي لا يأس عليه من رحمة الله بخلاف ما يقوله أهل الوعيد ، انتهى.

وأقول : فيه الوعيد بالنار ضمنا فإن الكافر مستحق للنار ، وقال الوالد قدس‌سره : الظاهر من الخبر أن المراد بالآية أن اليأس من رحمته تعالى كفر ، ويمكن أن يكون المراد أن غير الكفار نهوا عن اليأس أو اليأس من فعلهم ، فالمؤمن الآيس بمنزلتهم والأول أظهر ، انتهى.

وأقول : كان الظاهر من الخبر أن الكبيرة ما أوعد الله عليه النار أو هدده تهديدا عظيما ، أو ذمة ذما بليغا ، فعلى أي المعاني حملت الآية تدل على كون اليأس كبيرة ، وقال (ره) في قوله : ثم الأمن لمكر الله ، أي عذاب الآخرة أو مع عذاب الدنيا أو الاستدراج بالنعم.

وقال البيضاوي في قوله تعالى : « أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ » مكر الله استعارة لاستدراج العبد وأخذه من حيث لا يحتسب « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ » أي الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.

وقال الطبرسي (ره) : سمي العذاب لنزوله بهم من حيث لا يعلمون كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكر من حيث لا يعلمه ، وقيل : إن مكر الله استدراجه إياهم بالصحة والسلامة وطول العمر ، وتظاهر النعمة « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ » الآية ، يسأل عن هذا فيقال : إن الأنبياء والمعصومين آمنوا مكر الله وليسوا بخاسرين وجوابه من وجوه : « أحدها » أن معناه لا يأمن مكر الله من المذنبين إلا القوم الخاسرون بدلالة قوله سبحانه : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ » (١) « وثانيها » : أن معناه لا يأمن

__________________

(١) سورة الدخان : ٥١.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

عذاب الله للعصاة إلا الخاسرون ، والمعصومون لا يأمنون عذاب الله للعصاة ولهذا سلموا من مواقعة الذنوب « وثالثها » لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلا الخاسرون ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله ، ليسارع إلى طاعته واجتناب معاصيه ، ولا يستشعر الأمن من ذلك ، فيكون قد خسر من دنياه وآخرته ، انتهى.

وأقول : الوصف بالخسران يستلزم الوعيد بالعذاب إذ من استحق الثواب ودخل الجنة لا يقال أنه خاسر ، بل هو رابح ، وإن كان غيره أكثر ربحا ، وأيضا لم يصف الله تعالى في القرآن بالخسران إلا الكافرين والمعذبين وحصر الخسران فيهم كقوله تعالى : « وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ » (١) « الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (٢) « وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (٣) « الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ » (٤) « مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (٥) « أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (٦) « أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ » (٧) « وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (٨) « قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ » (٩) « وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » (١٠) « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ » (١١) « وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ ».

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة : ٢٦ و ٢٧.

(٣) سورة البقرة : ١٢١.

(٤ و ٥) سورة الأعراف : ٩٢ و ١٧٨.

(٦) سورة التوبة : ٦٩.

(٧) سورة النمل : ٥.

(٨) سورة العنكبوت : ٥٢.

(٩) سورة الشورى : ٤٥.

(١٠) سورة الزمر : ٦٣.

(١١) سورة الزمر : ٦٥.

٤٨

عز وجل يقول : « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ » (١) ومنها عقوق الوالدين

______________________________________________________

وأمثال ذلك في الآيات كثيرة لا تخفى على من تتبعها.

« جعل العاق جَبَّاراً شَقِيًّا » إشارة إلى قوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه‌السلام : « وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا » (٢) قال الطبرسي (ره) : وبرا بوالدتي أي وجعلني بارا بها أؤدي شكرها فيما قاسته بسببي « وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً » أي متجبرا « شَقِيًّا » والمعنى أني بلطفه وتوفيقه كنت محسنا إلى والدتي متواضعا في نفسي ، حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء ، انتهى.

وأقول : الآية وإن وردت في بر الوالدة لما لم يكن لعيسى عليه‌السلام والد لكن الظاهر شمول الحكم للوالد بطريق أولى ، مع أنه تعالى قال في قصة يحيى عليه‌السلام « وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا » (٣) فعلى سياق ما تقدم يدل على أن العاق جبار عاص ، ولا يبعد أن يكون أشار عليه‌السلام إلى الآيتين معا لاشتراك الجبار بينهما ، والاكتفاء بالشقي لأنه أبلغ من العصي في الذم وكون الآيتين غاية في الذم ظاهر ، وأما استلزام الوعيد بالنار فلان الجبار في الآيات تطلق على الكفار والمعاندين للحق والبالغين في الظلم ، قال الراغب : الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله تعالى « وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ » (٣) وقوله : « وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا » وقوله : « إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ » (٤) وقوله : « كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » (٥) أي متعال عن قبول الحق والإذعان له ، ويقال للقاهر غيره جبارا ، انتهى.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٩٩.

(٢ و ٣) سورة مريم : ٣٢ و ١٤.

(٣) سورة إبراهيم : ١٥.

(٤) سورة المائدة : ٢٢.

(٥) سورة غافر : ٣٥.

٤٩

لأن الله سبحانه جعل العاق « جَبَّاراً شَقِيًّا » وقتل النفس « الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ »

______________________________________________________

وأما الشقاوة فهي سوء العاقبة والمراد هنا في الآخرة ، ولا يكون إلا بالعذاب ودخول النار : وقد قال تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها » (١) الآية.

وأما العصي فالعصيان مما أوعد عليه النار كما قال تعالى : « وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها » (٢) وقال سبحانه : « وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً » (٣) ومثله كثير.

« وقتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللهُ » أي قتلها « إِلاَّ بِالْحَقِ » استثناء عن القتل أو حرم وقالوا : الحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها هي ثلاثة أشياء : القود ، والزنا بعد إحصانه ، والكفر بعد إيمان ، والآية التي استشهد عليه‌السلام بها في سورة النساء هكذا : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً » وظاهر الآية أن التعمد في مقابلة الخطإ الذي ذكره الله في الآية التي قبلها ، حيث قال : « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » الآية ، وهو الظاهر من هذا الخبر أيضا حيث استشهد عليه‌السلام بها لمطلق القتل ، ويشكل حينئذ الحكم بالخلود ، ولذا أول بعضهم التعمد بما يرجع إلى الكفر إما بكونه مستحلا للقتل أو قتله لإيمانه ، كما ورد في بعض أخبارنا ، وقيل : معناه هذا جزاؤه إن جازاه لكنه لا يجازيه ، وروي ذلك أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » (٤) وقالوا الآية اللينة نزلت بعد الشديدة ، وقيل : المراد بالخلود المكث الطويل وهذا الوجه أنسب بهذا الخبر ، وكذا ما روي أن هذا جزاؤه إن جازاه لا يأبى عنه هذا الخبر ، وأما ما روي أن المراد به

__________________

(١) سورة هود : ١٠٦.

(٢) سورة النساء : ١٤.

(٣) سورة الجنّ : ٢٣.

(٤) سورة النساء : ٤٨.

٥٠

لأن الله عز وجل يقول : « فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها » إلى آخر الآية (١) وقذف المحصنة لأن الله عز وجل يقول : « لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (٢) وأكل مال اليتيم لأن الله عز وجل يقول : « إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ

______________________________________________________

قتله لإيمانه فيمكن أن يكون من بطون الآية فلا ينافي الاستدلال بظاهرها في هذا الخبر ، وسيأتي تمام الكلام في الآية في محله إن شاء الله.

« وقذف المحصنة » أي رمي العفيفة غير المشهورة بالزنا بها ، وصدر الآية : « إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ » في المجمع : أي يقذفون العفائف من النساء « الْغافِلاتِ » عن الفواحش « الْمُؤْمِناتِ » بالله ورسوله « واليوم الآخر « لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » أي أبعدوا من رحمة الله في الدارين ، وقيل : استحقوا اللعنة فيهما وقيل : عذبوا في الدنيا بالجلد ورد الشهادة وفي الآخرة بعذاب النار « وَلَهُمْ » مع ذلك « عَذابٌ عَظِيمٌ » وهذا الوعيد عام لجميع المكلفين.

وآية أكل مال اليتيم هكذا « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ » فقوله : ظلما حال أو تميز أي ظالمين أو من جهة الظلم والتقييد للبيان والكشف ، فإن أكل أموالهم لا يكون إلا ظلما كما في « يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ » وللتقييد لأنه يجوز أكل ما لهم بالحق كالأكل أجرة بالمعروف ، أو عوضا عما أقرضه إياهم أو مستقرضا من مالهم ، والمراد بالأكل جميع التصرفات كما مر « إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ » أي ملأ بطونهم ، يقال : أكل فلان في بطنه وفي بعض بطنه كذا في الكشاف ، وقيل : ذكر البطون للتأكيد مثل « يطير بجناحيه » ونظرت بعيني نارا أي ما يجر إلى النار ويؤول إليها وقيل : أكلها كناية عن دخولها ، وقيل : المراد به أكلها يوم القيامة لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا فقيل : من هم؟ فقال : ألم تر أن الله يقول : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ

__________________

(١) سورة النساء ٩٣.

(٢) سورة النور : ٢٣.

٥١

سَعِيراً » (١) والفرار من الزحف لأن الله عز وجل يقول : « وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » (٢)

______________________________________________________

أَمْوالَ الْيَتامى » إلى قوله : « سَعِيراً » سيدخلون نارا وأي نار.

وأقول : روي عن الباقر عليه‌السلام مثل ذلك ، وروي عنه عليه‌السلام أيضا في تفسير هذه الآية أنه قال : وذلك أن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى تخرج لهب النار من فيه ، يعرفه أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم ، ويظهر من حديث المعراج أن هذا عذابه في البرزخ حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه رأى قوما يقذف في أفواههم النار ويخرج من أدبارهم ، فقيل : هؤلاء الذين أكلوا مال اليتيم في الدنيا والسعير في الآخرة ، وقال البيضاوي : يقال صلى النار قاسى حرها ، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت. النار إذا لهبتها.

« وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ » في المجمع : أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال ، ووجهه إلى جهة الانهزام ، وأراد بقوله : « يَوْمَئِذٍ » ذلك الوقت ولم يرد به بياض النهار خاصة دون الليل « إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ » أي إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول ، وقيل : معناه إلا متعلقا مستطردا كأنه يطلب عورة يمكنه إصابتها فيتحرف عن وجهه ، ويرى أنه يفر ثم يكر والحرب كر وفر « أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ » أي منحازا منضما إلى جماعة من المسلمين يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم « فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ » أي احتمل غضب الله واستحقه وقيل : رجع بغضب من الله « وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ » أي مرجعه إلى جهنم ، انتهى.

والخبر يدل على أن حكم الآية عام لكنه مقيد بما إذا لم يزد العدو عن الضعف ردا على من قال أنه مخصوص بأهل بدر.

وقال تعالى : « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا » قال البيضاوي : أي الآخذون له وإنما

__________________

(١) سورة النساء : ١٠.

(٢) سورة الأنفال : ١٦.

٥٢

وأكل الربا لأن الله عز وجل يقول : « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ » (١) والسحر لأن الله عز وجل يقول :

______________________________________________________

ذكر الأكل لأنه أعظم منافع المال ، ولأن الربا شائع في المطعومات « لا يَقُومُونَ » إذا بعثوا من قبورهم « إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ » إلا قياما كقيام المصروع ، وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء « مِنَ الْمَسِ » أي الجنون ، وهذا أيضا من زعماتهم أن الجني يمسه فيختلط عقله ، ولذا قيل : جن الرجل ، وهو متعلق بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم بسبب أكل الربا ، أو يقوم أو يتخبط فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين ، لا لاختلال عقلهم ، ولكن لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم ، انتهى.

وحاصله كما صرح به بعض الأصحاب أنهم لا يقومون من قبورهم بسبب الربا ووزره وثقله عليهم قياما مثل قيام صحيح العقل ، بل مثل قيام المجانين فيسقطون تارة ، ويمشون على غير الاستقامة أخرى ، ولا يقدرون على القيام أخرى فكان ما أكلوا من الربا أربى في بطونهم فصار شيئا ثقيلا على ظهورهم ، فلا يقدرون على القيام والمشي على الاستقامة.

وقال في المجمع : لا يقومون يوم القيامة إلا مثل ما يقوم الذي يصرعه الشيطان من الجنون ، ويكون ذلك أمارة لأهل الموقف على أكله الربا عن ابن عباس وجماعة ، وقيل : إن هذا على وجه التشبيه لأن الشيطان لا يصرع الإنسان على الحقيقة ، ولكن من غلب عليه المرة السوداء وضعف ، ربما يخيل إليه الشيطان أمورا هائلة ويوسوس إليه فيقع الصرع عند ذلك من فعل الله تعالى ، ونسب ذلك إلى الشيطان مجازا لما كان ذلك عند وسوسته عن الجبائي ، وقيل : يجوز أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعض عن ابن الهزيل وابن الإخشيد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٧.

٥٣

« وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » (١) والزنا لأن الله عز وجل

______________________________________________________

قالا : لأن الظاهر من القرآن يشهد به وليس في العقل ما يمنع منه ، ولا يمنع الله سبحانه الشيطان عنه امتحانا لبعض الناس وعقوبة لبعض على ذنب ألم به ولم يتب منه ، كما يتسلط بعض الناس على بعض فيظلمه ويأخذ ماله ولا يمنعه الله منه ، ويكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة ، كما أن على كل عاص من معصية علامة تليق به فيعرف بها صاحبها ، وعلى كل مطيع من طاعته أمارة يليق به فيعرف بها صاحبها.

ثم قال : وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة ، انتهى.

وأقول : ظاهر هذا الخبر أن هذا عذابهم في البرزخ في أجسادهم المثالية وإن احتمل أن يكون هذا صورة حالهم في القيامة مثلت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنه بعيد.

« والسحر » أي عمله أو الأعم منه ومن تعلمه وتعليمه ، واختلف في حقيقته وتعريفه ، قال الشهيد الثاني (ره) : هو كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام وعزائم ونحوها ، يحدث بسببها ضرر على الغير ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطيها ، وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجن واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبسهم ببدن صبي أو امرأة وكشف الغائب على لسانه فتعلم ذلك وأشباهه وعمله وتعليمه كله حرام ، والتكسب به سحت ، ويقتل مستحله ، ولو تعلمه ليتوقى به أو ليدفع به المتنبي بالسحر فالظاهر جوازه ، وربما وجب على الكفاية كما اختاره الشهيد في دروسه ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٢.

٥٤

يقول : « وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً » (١) واليمين الغموس الفاجرة لأن الله عز وجل يقول : « الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ

______________________________________________________

ويجوز حله بالقرآن والأقسام كما ورد في رواية العلاء ، وهل له حقيقة أو هو تخيل؟ الأكثر على الثاني ، ويشكل بوجدان أثره في كثير من الناس على الحقيقة ، والتأثر بالوهم إنما يتم لو سبق للقابل علم بوقوعه ، ونحن نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلا حتى يضربه ، ولو حمل تخييله على ما يظهر من تأثيره في حركات الحيات والطيران ونحوهما ، أمكن لا في مطلق التأثير به وإحضار الجان وشبه ذلك ، فإنه أمر معلوم لا يتوجه دفعه ، انتهى.

وفي التخصيص بالضرر وغير ذلك مما أغمضنا عنه نظر.

وقال الطبرسي (ره) : السحر والكهانة والحيلة نظائر وقال صاحب العين : السحر عمل يقرب إلى الشياطين ومن السحر الآخذة التي تأخذ العين متى تظن أن الأمر كما ترى ، وليس الأمر كما ترى ، فالسحر عمل خفي لخفاء سببه ، يصور الشيء بخلاف صورته ، ويقلبه من جنسه في الظاهر ، ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى : « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » (٢) انتهى.

وأقول : قد بسطنا القول في ذلك في كتاب السماء والعالم من الكتاب الكبير.

« واليمين الغموس » قال في النهاية : فيه اليمين الغموس تذر الديار بلاقع ، هي اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره ، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار ، وفعول للمبالغة ، انتهى.

وأقول إسناد الفجور إلى اليمين على المجاز ، في المصباح فجر الحالف فجورا كذب.

« وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ » صدر الآية هكذا : « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ » والظاهر

__________________

(١) سورة الفرقان : ٦٩.

(٢) سورة طه : ٦٦.

٥٥

اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ » (١) والغلول لأن الله

______________________________________________________

أنه إشارة إلى الزنا كما هو ظاهر الخبر وقول الأكثر ، وقيل : إشارة إلى الجميع « يَلْقَ أَثاماً » قيل أي جزاء إثم ، وفي المجمع : أي عقوبة وجزاء لما فعل ، قال الفراء : إثمه الله يأثمه إثما وأثاما أي جازاه جزاء الإثم ، وقيل : إن أثاما اسم واد في جهنم ثم فسر سبحانه لقي الآثام بقوله : « يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » يريد سبحانه مضاعفة أجزاء العذاب ، لا مضاعفة الاستحقاق ، لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب أكثر من الاستحقاق لأن ذلك ظلم وهو منفي عنه ، وقيل : معناه أنه يستحق على كل معصية منها عقوبة فيضاعف عليه العذاب ، وقيل : المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة « وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً » أي ويدوم في العذاب مستخفا به ، انتهى.

وأقول : على تقدير كون ذلك إشارة إلى الزنا وإلى كل واحد مما ذكر لا بد من تأويل في الخلود ، أو حمل الفعل على ما إذا كان على وجه الاستحلال كما مر.

« إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ » في المجمع : أي يستبدلون بعهد الله أي بأمر الله سبحانه ما يلزمهم الوفاء به « وَأَيْمانِهِمْ » أي وبالأيمان الكاذبة « ثَمَناً قَلِيلاً » أي عوضا نذرا وسماه قليلا لأنه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب ، ويحصل لهم من العقاب « أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ » أي لا نصيب وافر لهم في نعيم الآخرة.

وأقول : إنما اكتفى عليه‌السلام بهذا الجزء من الآية لأن من لا نصيب له من ثواب الآخرة يكون إما مخلدا أو معذبا عذابا طويلا عظيما مبالغة ، أو المراد إلى آخر الآية فإن بعده « وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » وفي المجمع : نزلت في جماعة من أحبار اليهود كتموا ما في التوراة من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله ، لئلا تفوتهم الرئاسة وما كان لهم على أتباعهم ، وقيل : نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧٧.

٥٦

عز وجل يقول : « وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ » (١) ومنع الزكاة المفروضة

______________________________________________________

قام ليحلف عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما نزلت الآية نكل الأشعث واعترف بالحق ورد الأرض ، وقيل : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته ، قال : وفي تفسير الكلبي عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من حلف بيمين كاذبة يقتطع بها مال امرء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ، وتلا هذه الآية أورده مسلم أيضا في الصحيح.

« والغلول » قال في النهاية : قد تكرر ذكر العلول في الحديث هو الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة يقال : غل في المغنم يغل غلولا فهو غال ، وكل من خان في شيء خفية فقد غل ، وسميت غلولا لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ، ويقال لها جامعة أيضا وأحاديث الغلول في الغنيمة كثيرة ، وقال الجوهري : غل من المغنم غلولا أي خان وأغل مثله ، قال ابن السكيت ولم نسمع في المغنم إلا غل غلولا وقرئ : وما كان لنبي أن يغل ويغل ، قال : فمعنى يغل يخون ومعنى يغل يحتمل معنيين : أحدهما يخان بمعنى أن يؤخذ من غنيمته والآخر يخون أي ينسب إلى الغلول ، وفي الحديث لا أغلال ولا إسلال ، أي لا خيانة ولا سرقة ، ويقال : لا رشوة ، انتهى.

والآية هكذا : « وَما كانَ لِنَبِيٍ » في المجمع : أي ما كان لنبي الغلول أي لا تجتمع النبوة والخيانة « وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ » معناه أنه يأتي به حاملا على ظهره ، كما روي في حديث طويل : ألا لا يغلن أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء ، ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي يوم القيامة به على ظهره له حمحمة فيقول : يا محمد يا محمد فأقول قد بلغت قد بلغت فلا أملك لك من الله شيئا عن ابن عباس وغيره ، وقال الجبائي : وذلك ليفتضح به على رؤوس الأشهاد ، وقال البلخي

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٦١.

٥٧

لأن الله عز وجل يقول : « فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ » (١) وشهادة الزور

______________________________________________________

يجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل ، كان الله إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له وله صوت.

وقد روي في خبر آخر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر مناديا فينادي في الناس : ردوا الخيط والمخيط لأن الغلول عار وشنار يوم القيامة ، فجاء رجل بكبة من شعر فقال : إني أخذتها لأخيط برذعة بعير لي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما نصيبي منها فهو لك ، فقال الرجل : أما إذا بلغ الأمر هذا المبلغ فلا حاجة لي فيها ، والأولى أن يكون معناه ومن يغلل يوافي بما غل يوم القيامة فيكون حمل غلوله على عنقه أمارة يعرف بها ، وذلك حكم الله في كل من وافى القيامة بمعصية لم يتب منها ، أو أراد الله سبحانه أن يعامله بالعدل أظهر عليه من معصيته علامة تليق بمعصيته ليعلمه أهل القيامة بها ، ويعلموا سبب استحقاقه العقوبة ، كما قال سبحانه : « فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ » (٢) وهكذا حكمه سبحانه في كل من وافى القيامة بطاعة فإنه سبحانه يظهر من طاعته علامة يعرف بها ، انتهى.

وأقول : يحتمل أن يكون المراد بالغلول في الآية وهذا الخبر مطلق الخيانة والسرقة.

وآية الزكاة هكذا : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ » قال البيضاوي : يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان ليكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن بها وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ.

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٥.

(٢) سورة الرحمن : ٣٩.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي المجمع : أي يجمعون المال ولا يؤدون زكاته فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا وكل مال أديت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا في الأرض ، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والسدي قال الجبائي : وهو إجماع ، وروي عن علي عليه‌السلام ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أم لم تؤد وما دونها فهو نفقة ، وتقدير الآية : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل الله ويكنزون الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، فحذف المفعول من الأول لدلالة الثاني عليه كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه في قوله « وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ » والتقدير والذاكرات الله وأكثر المفسرين على أن قوله « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ » ، على الاستئناف ، والمراد بذلك مانعوا الزكاة من هذه الأمة ، وقيل : إنه معطوف على ما قبله ، والأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين.

« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » أي أخبرهم بعذاب موجع « يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ » أي توقد على الكنوز أو على الذهب والفضة في نار جهنم حتى تصير نارا.

وقال البيضاوي : أي يوم توقد النار ذات حمي شديدة عليها ، وأصله يحمى بالنار فجعل الأحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود ، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير ، وإنما قال عليها والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وكذا قوله : ولا ينفقونها.

وقيل : الضمير فيهما للكنوز أو الأموال فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم « فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ » لأن جمعهم وإمساكهم

٥٩

وكتمان الشهادة لأن الله عز وجل يقول : « وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » (١) وشرب

______________________________________________________

كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية ، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه ، وولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه.

وفي المجمع : إنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن ، وكان أبو ذر الغفاري يقول : بشر الكانزين بكي في الجباة ، وكي في الجنوب ، وكي في الظهور ، حتى يلتقي الحر في أجوافهم ، ولهذا المعنى الذي أشار أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل ، وقيل : إنما خصت هذه المواضع بالعذاب لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم ، والظهر محل الحدود ، وقيل : لأن الجبهة محل السجود لظهورها والجنب محل الألم ، والظهور محل الحدود ، وقيل : لأن الجبهة محل السجود فلم يقم فيه بحقه ، والجنب مقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده ، والظهر محل الأوزار قال : « يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ » وقيل : لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه وطوى عنه كشحه وولاه ظهره.

« هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ » أي يقال لهم في حال الكي أو بعده : هذا جزاء ما كنزتم ، وجمعتم المال ولم تؤدوا حق الله عنها وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم « فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ » أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون أي تجمعون وتمنعون حق الله منه ، فحذف لدلالة الكلام عليه وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من عبد له مال ولا يؤدي زكاته إلا جمع يوم القيامة صفائح (٢) يحمى عليها في نار جهنم فتكوى جبهته وجنباه وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.

« لأن الله عز وجل يقول » الآية هكذا : « وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ » قال البيضاوي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٣.

(٢) جمع الصفيحة : الحجر العريض. الواح الباب.

٦٠