مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ فقال : يا ابن أخي كل لله وأشرب لله ، وكل شيء من ذلك دخله زهوا (١) ومباهاة أو رياء وسمعة فهو معصية وسرف ، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج في بيته ، كان يعلف الناضح (٢) ويعقل البعير ويقم البيت (٣) ويحلب الشاة ، ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إذا أعيى ، ويشتري الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه ، فينقلب إلى أهله ، يصافح الغني والفقير والصغير والكبير ، ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير ، أسود أو أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة ، ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه ، لا يستحيي من أن يجيب إذا دعي ، وإن كان أشعث أغبر ، ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل (٤) لا يرفع غداءا لعشاء ، ولا عشاء لغداء ، هين المؤنة ، لين الخلق ، كريم الطبيعة ، جميل المعاشرة ، طلق الوجه ، بساما من غير ضحك ، محزونا من غير عبوس ، شديدا في غير عنف ، متواضعا من غير مذلة ، جوادا من غير سرف ، رحيما بكل ذي قربى ، قريبا من كل ذمي ومسلم ، رقيق القلب ، دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع (٥) ولا يمد يده إلى طمع.

قال أبو سلمة : فدخلت على عائشة فحدثتها كل هذا عن أبي سعيد فقالت : ما أخطأ فيه حرفا ، ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمتلئ قط شبعا ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وأن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغني ،

__________________

(١) الزهر : الفخر والكبر.

(٢) الناضح : البعير يستقى عليه.

(٣) قم البيت : كنسه.

(٤) الحشف : اردء التمر أو اليابس الفاسد منه ، والدقل أيضا بمعناه.

(٥) بشم من الطعام : أتخم.

٢٠١

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول الكبر قد يكون في شرار

______________________________________________________

وأن كان ليظل جائعا ليتلوى ليلته حتى يصبح ، فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ، ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل ، وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي فأقول : نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ، ويمنعك من الجوع؟ فيقول : يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم ما بهم وأجزل ثوابهم ، فأجدني أستحيي أن ترفهت في معيشتي أن يقصرني دونهم ، فاصبر أياما يسيرة أحب إلى من أن ينقص حظي غدا في الآخرة ، وما من شيء أحب إلى من اللحوق بإخواني وأخلائي ، فقالت عائشة : فو الله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله تعالى.

فما نقل من أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين ، فمن طلب التواضع فليقتد به ، ومن رأى نفسه فوق محله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما أشد جهله ، فلقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم خلق الله تعالى منصبا في الدنيا والدين ، فلا عزة ولا رفعة إلا في الاقتداء به ، ولذلك لما عوتب بعض الصحابة في بذاذة هيئته قال : إنا قوم أعزنا الله تعالى بالإسلام فلا نطلب العز في غيره.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : قد يكون ، أقول : يحتمل أن يكون قد للتحقيق وإن كان في المضارع قليلا كما قيل في قوله تعالى : « قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ » (١) قال الزمخشري : دخل قد لتوكيد العلم ، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد ، وقيل : هو للتقليل باعتبار قيد من كل جنس ، وقوله : من كل جنس ، أي من كل صنف من أصناف الناس و

__________________

(١) سورة النور : ٦٤.

٢٠٢

الناس من كل جنس والكبر رداء الله فمن نازع الله عز وجل رداءه لم يزده الله إلا سفالا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مر في بعض طرق المدينة وسوداء تلقط السرقين

______________________________________________________

إن كان دنيا أو من كل جنس من أجناس سبب التكبر من الأسباب التي أشرنا إليها سابقا والأول أظهر كما يومئ إليه قصة السوداء « والكبر رداء الله » قال في النهاية في الحديث قال الله تبارك وتعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، ضرب الإزار والرداء مثلا في انفراده بصفة العظمة والكبرياء ، أي ليستا كسائر الصفات التي قد يتصف بها الخلق مجازا كالرحمة والكرم وغيرهما ، وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ، ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد ، فكذلك الله لا ينبغي أن يشركه فيهما أحد ، ومثله الحديث الآخر تأزر بالعظمة وتردى بالكبرياء وتسربل بالعز ، انتهى.

قال بعض شراح صحيح مسلم : الإزار الثوب الذي يشد على الوسط ، والرداء الذي يمد على الكتفين ، وقال محيي الدين : وهما لباس ، واللباس من خواص الأجسام ، وهو سبحانه ليس بجسم ، فهما استعارة للصفة التي هي العزة والعظمة ، ووجه الاستعارة أن هذين الثوبين لما كانا مختصين بالناس ولا يستغني عنهما ولا يقبلان الشركة وهما جمال عبر عن العز بالرداء ، وعن الكبر بالإزار ، على وجه الاستعارة المعروفة عند العرب ، كما يقال : فلان شعاره الزهد ، ودثاره التقوى لا يريدون الثوب الذي هو شعار ودثار ، بل صفة الزهد ، كما يقولون : فلان غمر الرداء واسع العطية ، فاستعاروا لفظ الرداء للعطية ، انتهى.

« لم يزده الله إلا سفالا » أي في أعين الخلق مطلقا غالبا على خلاف مقصوده كما سيأتي ، وفي أعين العارفين والصالحين أو في القيامة كما سيأتي أنهم يجعلون في صور الذر « تلقط » كننصر أو على بناء التفعل بحذف إحدى التائين ، في القاموس : لقطه أخذه من الأرض كالتقطه وتلقطه ، التقطه من هيهنا وهيهنا وقال : السرجين

٢٠٣

فقيل لها تنحي عن طريق رسول الله فقالت إن الطريق لمعرض فهم بها بعض

______________________________________________________

والسرقين بكسرهما الزبل معربا سرگين بالفتح « فقيل لها : تنحى » بالتاء والنون والحاء المشددة كلها مفتوحة والياء الساكنة ، أمر الحاضرة من باب التفعل ، أي ابعدي « لمعرض » على بناء المفعول من الأفعال أو التفعيل ، وقد يقرأ على بناء الفاعل من الأفعال فعلى الأولين من قولهم أعرضت الشيء وعرضته أي جعلته عريضا ، وعلى الثالث من قولهم عرضت الشيء أي أظهرته ، فأعرض أي ظهر ، وهو من النوادر.

« فهم بها » أي قصدها « أن يتناولها » أي يأخذها فينحيها قسرا عن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يشتمها من قولهم : نال من عرضه أي شتمه ، والأول أظهر « فإنها جبارة » أي متكبرة ، وذلك خلقها لا يمكنها تركه ، أو إذا قهرتموها يظهر منها أكثر من ذلك من البذاء والفحش ، قال في النهاية فيه : أنه أمر امرأة فتأبت فقال : دعوها فإنها جبارة ، أي متكبرة عاتية ، وقال الراغب : أصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر وتجبر ، يقال إما لتصور معنى الاجتهاد ، أو للمبالغة أو لمعنى التكلف ، والجبار في صفة الإنسان يقال : لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله تعالى : « وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ » (١) « وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا » (٢) « إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ » (٣) « كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » (٤) أي متعال عن قبول الحق والإذعان له ، وأما في وصفه تعالى « نحو « الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ » (٥) فقد قيل : سمي بذلك من قولهم

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٥.

(٢) سورة مريم : ٣٢.

(٣) سورة المائدة : ٢٢.

(٤) سورة غافر : ٣٥.

(٥) سورة الحشر : ٢٣.

٢٠٤

القوم أن يتناولها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوها فإنها جبارة.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن عثمان بن عيسى ، عن العلاء بن الفضيل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أبو جعفر عليه‌السلام العز رداء الله

______________________________________________________

جبرت الفقير لأنه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمه ، وقيل : لأنه يجبر الناس أي يقهرهم على ما يريده ، ودفع بعض أهل اللغة ذلك من حيث اللفظ فقال : لا يقال من أفعلت فعال ، فجبار لا يبني من أجبرت ، فأجيب عنه بأن ذلك من لفظ الجبر المروي في قوله لا جبر ولا تفويض لا من الإجبار ، وأنكر جماعة من المعتزلة ذلك من حيث المعنى ، فقالوا : تعالى الله عن ذلك وليس ذلك بمنكر ، فإن الله تعالى قد أجبر الناس على أشياء لا انفكاك لهم منها حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية ، لا على ما يتوهمه الغواة الجهلة ، وذلك لإكراههم على المرض والموت والبعث وسخر كلا منهم بصناعة يتعاطاها ، وطريقة من الأخلاق والأعمال يتحراها ، وجعله مجبرا في صورة مخير فإما راض بصنعته لا يريد عنها حولا ، وإما كاره لها يكابدها مع كراهته لها ، كأنه لا يجد عنها بدلا ، ولذلك قال : « فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » (١) وقال تعالى : « نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » (٢) وعلى هذا الحد وصف بالقاهر ، وهو لا يقهر إلا على ما تقتضي الحكمة أن يقهر عليه.

الحديث الثالث : موثق.

وقيل في علة تشبيه العز بالرداء والكبر بالإزار أن العزة أمر إضافي كما قيل هي الامتناع من أن ينال ، وقيل : هي الصفة التي تقتضي عدم وجود مثل الموصوف بها ، وقيل : هي الغلبة على الغير والأمر الإضافي أمر ظاهر ، والرداء من الأثواب

__________________

(١) سورة الروم : ٣٢.

(٢) سورة الرخرف : ٣٢.

٢٠٥

والكبر إزاره فمن تناول شيئا منه أكبه الله في جهنم.

٤ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة

______________________________________________________

الظاهرة فبينهما مناسبة من جهة الظهور ، والكبر بمعنى العظمة وهي صفة حقيقية إذ العظيم قد يتعاظم في نفسه من غير ملاحظة الغير ، فهي أخفى من العزة ، والإزار ثوب خفي لأنه يستر غالبا بغيره فبينهما مناسبة من هذه الجهة.

أقول : ويحتمل أن يراد بالعز إظهار العظمة وبالكبر نفسها ، أو بالعز ما يصل إليه عقول الخلق من كبريائه وبالكبر ما عجز الخلق عن إدراكه ، أو بالعز ما كان بسبب صفاته العلية وبالكبر ما كان بحسب ذاته المقدسة ، والمناسبة على كل من الوجوه ظاهرة « فمن تناول » أي تصرف وأخذ « شيئا منه » الضمير راجع إلى كل من العز والكبر ، والغالب في أكب مطاوع كب يقال كبه فأكب ، وقد يستعمل الكب أيضا متعديا ، في القاموس : كبه قلبه وصرعه كأكبه وكبكبه فأكب ، وهو لازم متعد ، وفي المصباح : كببت زيدا كبا ألقيته على وجهه فأكب هو ، وهو من النوادر التي تعدى ثلاثيها ، وقصر رباعيها ، وفي التنزيل : « فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ » (١) « أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ » (٢).

الحديث الرابع : مجهول والظاهر أنه من معمر بن عمر عن عطاء كما يظهر من كتب الرجال.

وقال بعض المحققين : الإنسان مركب من جوهرين أحدهما أعظم من الآخر ، وهو الروح التي من أمر الرب ، وبينها وبين الرب قرب تام ، لو لا عنان العبودية لقال كل أحد أنا ربكم الأعلى ، فكل أحد يحب الربوبية ولكن يدفعها عن نفسه بالإقرار بالعبودية ، ويطلب باعتبار الجوهر الآخر المركوز فيه القوة الشهوية والغضبية آثار الربوبية وخواصها ، وهي أن يكون فوق كل شيء وأعلى رتبة منه ويغفل عن أن هذا في الحقيقة دعوى الربوبية ، وكذلك كل صفة من الصفات

__________________

(١) سورة النمل : ٩٠.

(٢) سورة الملك : ٢٢.

٢٠٦

عن معمر بن عمر بن عطاء ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال الكبر رداء الله والمتكبر ينازع الله رداءه.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن علي ، عن أبي جميلة ، عن ليث المرادي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الكبر رداء الله فمن نازع الله شيئا من ذلك أكبه الله في النار.

٦ ـ عنه ، عن أبيه ، عن القاسم بن عروة ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة

______________________________________________________

الرذيلة تتولد من ادعاء آثار الربوبية ، كالغضب والحسد والحقد والرياء والعجب فإن الغضب من جهة الاستيلاء اللازم للربوبية ، والحسد من جهة أنه يكره أن يكون أحد أفضل منه في الدين والدنيا ، وهو أيضا من لوازمها ، والحقد يتولد من احتقان الغضب في الباطن ، والرياء من جهة أنه يريد ثناء الخلق ، والعجب من جهة أنه يرى ذاته كاملة ، وكل ذلك من آثار الربوبية. وقس عليه سائر الرذائل ، فإنك إن فتشتها وجدتها مبنية على ادعاء الربوبية والترفع.

الحديث الخامس : ضعيف.

« شيئا من ذلك » أي في شيء من الكبر.

الحديث السادس : مجهول.

وفي النهاية : الذر : النمل الأحمر الصغير واحدتها ذرة ، وسئل تغلب عنها فقال : إن مائة نملة وزن حبة ، والذرة واحدة منها ، وقيل : الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة ، وقال : فيه : لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ، يعني كبر الكفر والشرك ، كقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ » (١) ألا ترى أنه قابله في

__________________

(١) سورة غافر : ٦٠.

٢٠٧

من كبر.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الكبر قال فاسترجعت فقال ما لك تسترجع قلت لما سمعت منك فقال ليس حيث تذهب إنما أعني الجحود إنما هو الجحود.

______________________________________________________

نقيضه بالإيمان ، فقال : ولا يدخل النار من في قلبه مثل ذلك من الإيمان ، أراد دخول تأبيد ، وقيل : أراد إذا دخل الجنة نزع ما في قلبه من الكبر ، كقوله : « وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ » انتهى.

وأقول : التأويل الأول حسن وموافق لما في الخبر الآتي ، وأما الثاني فلا يخفى بعده ، لأن المقصود ذم التكبر وتحذيره لا تبشيره برفع الإثم عنه ، ولذا حمله بعضهم على المستحل أو عدم الدخول ابتداء بل بعد المجازاة وما في الخبر أصوب.

الحديث السابع : صحيح.

« فاسترجعت » يقال : أرجع ورجع واسترجع في المصيبة قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كما في القاموس ، وإنما قال ذلك لأنه استشعر بالهلاك واستحقاق دخول النار بحمل الكلام على ظاهره ، لأنه كان متصفا ببعض الكبر « إنما هو الجحود » أي المراد بالكبر إنكار الله سبحانه أو إنكار أنبيائه أو حججه عليهم‌السلام ، والاستكبار عن إطاعتهم وقبول أوامرهم ونواهيهم مثل تكبر إبليس لعنه الله فإنه لما كان مقرونا بالجحود والإباء عن طاعة الله تعالى والاستصغار لأمره ، كما دل عليه قوله : « لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ » وقوله « أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً » كان سببا لكفره ، والكفر يوجب الحرمان من الجنة أبدا ، وهذا أحد التأويلات للروايات الدالة على أن صاحب الكبر لا يدخل الجنة كما عرفت. وكان المقصود أن هذا الوعيد مختص بكبر الجحود لا أن غيره لا يتعلق به الوعيد مطلقا والتكرير للتأكيد.

٢٠٨

٨ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن أيوب بن الحر ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الكبر أن تغمص الناس وتسفه الحق.

٩ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن عبد الأعلى بن أعين قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

______________________________________________________

الحديث الثامن : مجهول كالحسن.

« أن تغمص الناس » أي تحقرهم ، والمراد إما مطلق الناس أو الحجج أو الأئمة عليهم‌السلام كما ورد في الأخبار أنهم الناس ، كما قال تعالى : « ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ » (١) في القاموس : غمصه كضرب وسمع احتقره كاغتمصه وعابه ، وتهاون بحقه والنعمة لم يشكرها ، وقال : سفه نفسه ورأيه مثلثة حمله على السفه أو نسبه إليه أو أهلكه ، وسفه كفرح وكرم علينا جهل ، وسفهه تسفيها جعله سفيها كسفهه كعلمه أو نسبه إليه ، وسفه صاحبه كنصر غلبه في المسافهة ، وفي النهاية : فيه إنما ذلك من سفه الحق وغمص الناس ، أي احتقرهم ولم يرهم شيئا ، تقول : منه غمص الناس يغمصهم غمصا ، وقال فيه : إنما البغي من سفه الحق أي من جهله ، وقيل : جهل نفسه ولم يفكر فيها ، ورواه الزمخشري من سفه الحق على أنه اسم مضاف إلى الحق ، وقال وفيه وجهان : أحدهما أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل كان الأصل سفه على الحق ، والثاني : أن يضمن معنى فعل متعد كجهل ، والمعنى الاستخفاف بالحق وأن لا يراه على ما هو عليه من الرجحان والرزانة ، وقال أيضا فيه : ولكن الكبر من بطر الحق أي ذو الكبر ، أو كبر من بطر كقوله تعالى : « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى » (٢) وهو أن يجعل ما جعله حقا من توحيده وعبادته باطلا ، وقيل : هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا ، وقيل : هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله.

الحديث التاسع : كالسابق سندا ومضمونا.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٩.

(٢) سورة البقرة : ١٨٩.

٢٠٩

إن أعظم الكبر غمص الخلق وسفه الحق قال قلت وما غمص الخلق وسفه الحق قال يجهل الحق ويطعن على أهله فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن في جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا إلى الله

______________________________________________________

« قال : يجهل الحق » النشر على خلاف ترتيب اللف ، وكان المراد بالخلق هنا أيضا أهل الحق وأئمة الدين كالناس في الخبر السابق ، والجملتان متلازمتان فإن جهل الحق أي عدم الإذعان به وإنكاره تكبرا يستلزم الطعن على أهله وتحقيرهم وهما لازمتان للجحود ، فالتفاسير كلها ترجع إلى واحد.

« فمن فعل ذلك فقد نازع الله » قيل : فإن قلت : الغمص والسفه بالتفسير المذكور ليسا من صفات الله تعالى وردائه ، فكيف نازعه في ذلك؟ قلت : الغمص والسفه أثر من آثار الكبر ، ففاعل ذلك ينازع الله من حيث الملزوم ، على أنه لا يبعد أن يراد بهما الملزوم مجازا وهو الكبر البالغ إلى هذه المرتبة.

وأقول : يحتمل أن يكون المنازعة من حيث أنه إذا لم يقبل إمامة أئمة الحق ونصب غيرهم لذلك ، فقد نازع الله في نصب الإمام وبيان الحق وهما مختصان به ، كما أطلق لفظ المشرك في كثير من الأخبار على من فعل ذلك.

الحديث العاشر : حسن موثق كالصحيح.

وفي القاموس الوادي مفرج بين جبال أو تلال أو آكام ، وأقول : ذلك إشارة إلى قوله تعالى : « تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ » (١) وقال بعد ذكر المشركين : « فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » (٢) وقال سبحانه بعد ذكر الكفار ودخولهم النار : « فَبِئْسَ

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٠.

(٢) سورة النحل : ٢٩.

٢١٠

عز وجل شدة حره وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم.

١١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن داود بن فرقد ، عن أخيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن المتكبرين يجعلون في صور الذر يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب.

______________________________________________________

مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ » (١) في موضعين ، وإلى قوله عز وجل : « ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ » إلى قوله « كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ » (٢) وإلى قوله بعد ذكر المكذبين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالقرآن « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ » (٣) وقال في النهاية : سقر اسم أعجمي لنار الآخرة ، ولا ينصرف للعجمة والتعريف ، وقيل : هو من قولهم سقرته الشمس إذابته ، فلا ينصرف للتأنيث والتعريف.

وأقول : يظهر من الآيات أن المراد بالمتكبرين في الخبر من تكبر على الله ولم يؤمن به وبأنبيائه وحججه عليهم‌السلام ، والشكاية والسؤال إما بلسان الحال أو المقال منه بإيجاد الله الروح فيه ، أو من الملائكة الموكلين به ، والإسناد على المجاز وكان المراد بتنفسه خروج لهب منه ، وبإحراق جهنم تسخينها أشد مما كان لها أو إعدامها أو جعلها رمادا فأعادها الله تعالى كما كانت.

الحديث الحادي عشر : ضعيف على المشهور أو مجهول لجهالة إخوة زيد كلهم ، ويدل على أنه يمكن أن يخلق الإنسان يوم القيامة أصغر مما كان مع بقاء الأجزاء الأصلية أو بعضها فيه ، ثم يضاف إليه سائر الأجزاء فيكبر ، إذ يبعد التكاثف إلى هذا الحد ، ويمكن أن يكون المراد أنهم يخلقون كبارا بهذه الصورة فإنها أحقر الصور في الدنيا معاملة معهم بنقيض مقصودهم ، أو يكون المراد بالصورة الصفة أي يطأهم الناس كما يطأون الذر في الدنيا ، وفي بعض أخبار العامة يحشر المتكبرون أمثال الذر في صورة الرجال ، وقال بعض شراحهم : أي يحشرهم أذلاء يطأهم الناس

__________________

(١) سورة الزمر : ٧٢. وسورة غافر : ٧٦.

(٢) سورة المدّثّر : ٤٢ ـ ٤٧.

(٣) سورة المدّثّر : ٢٦ ـ ٢٩.

٢١١

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن غير واحد ، عن علي بن أسباط ، عن عمه يعقوب بن سالم ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له ما الكبر فقال أعظم الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس قلت وما سفه الحق قال يجهل الحق ويطعن على أهله.

١٣ ـ عنه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن محمد بن عمر بن يزيد ، عن أبيه قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنني آكل الطعام الطيب وأشم الريح الطيبة وأركب الدابة

______________________________________________________

بأرجلهم بدليل أن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء عن (١) لا يعاد منهم ما انفصل عنهم من الغلفة وقرينة المجاز قوله : في صورة الرجال ، وقال بعضهم : يعني أن صورهم صور الإنسان وجثتهم كجثة الذر في الصغر وهذا أنسب بالسياق لأنهم شبهوا بالذر ، ووجه الشبه إما صغر الجثة أو الحقارة ، وقوله : في صور الرجال بيان للوجه ، وحديث : الأجساد تعاد على ما كانت عليه لا ينافيه ، لأنه قادر على إعادة تلك الأجزاء الأصلية في مثل الذر.

الحديث الثاني عشر : مرسل كالحسن.

« فقال : ما تسفه (٢) الحق » أي ما معنى هذه الجملة؟ ويمكن أن يقرأ بصيغة المصدر من باب التفعل وكأنه سأل عن الجملتين معا واكتفى بذكر إحداهما ، أي إلى آخر الكلام بقرينة الجواب ، أو كان غرضه السؤال عن الأولى فذكر عليه‌السلام الثانية أيضا لتلازمهما أو لعلمه بعدم فهم الثانية أيضا.

الحديث الثالث عشر : مجهول.

وفي النهاية دابة فارهة أي نشيطة حادة قوية ، انتهى.

وكان السائل إنما سأل عن هذه الأشياء لأنها سيرة المتكبرين لتفرعها على الكبر ، أو كون الكبر سبب ارتكابها غالبا فأجاب عليه‌السلام ببيان معنى التكبر

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولم اقف على ما نقله في كتبهم.

(٢) كذا في النسخ وعليه الشرح الآتي والاحتمالات المذكورة ، ولكن الظاهر « سفه الحق » كما في المتن بدون هذا الاحتمالات والتكلفات.

٢١٢

الفارهة ويتبعني الغلام فترى في هذا شيئا من التجبر فلا أفعله فأطرق أبو عبد الله عليه‌السلام ثم قال إنما الجبار الملعون من غمص الناس وجهل الحق قال عمر فقلت أما الحق فلا أجهله والغمص لا أدري ما هو قال من حقر الناس وتجبر عليهم فذلك الجبار.

١٤ ـ محمد بن جعفر ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة « لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ

______________________________________________________

ليعلم أنها إن كانت مستلزمة للتكبر فلا بد من تركها وإلا فلا ، كيف وسيأتي أن الله جميل يحب الجمال ، وإطراقه وسكوته عليه‌السلام للإشعار بأنها في محل الخطر ومستلزمة للتكبر ببعض معانيه ، والتجبر التكبر ، والجبار العاتي.

الحديث الرابع عشر : مجهول بمحمد بن جعفر ، وفي بعض النسخ مكانه محمد بن يحيى فالخبر صحيح ، والأول أظهر لكثرة رواية محمد بن جعفر عن محمد بن عبد الحميد.

« لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ » إشارة إلى قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » (١) والمعنى لا يكلمهم كلام رضي بل كلام سخط ، مثل « اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ » (٢) وقيل : لا يكلمهم بلا واسطة بل الملائكة يتعرضون لحسابهم وعتابهم وقيل : هو كناية عن الإعراض والغضب ، فإن من غضب على أحد قطع كلامه ، وقيل : أي لا ينتفعون بكلمات الله وآياته ، ومعنى لا ينظر إليهم أنه لا ينظر إليهم نظر الكرامة والعطف والبر والرحمة والإحسان لضعتهم وحقارتهم عنده ، أو كناية عن شدة الغضب لأن من اشتد غضبه على أحد استهان به وأعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه ، كما أن من اعتد بغيره يقاوله و

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧٧.

(٢) سورة المؤمنون : ١٠٨.

٢١٣

إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » شيخ زان وملك جبار ومقل مختال.

______________________________________________________

يكثر النظر إليه ، وقيل : في قوله يوم القيامة ، إشعار بأن المعاصي المذكورة بل غيرها أيضا لا تمنع من إيصال الخير والنعمة إليهم في الدنيا ، لأن إفضاله فيها يعم الأبرار والفجار تأكيدا للحجة عليهم.

« وَلا يُزَكِّيهِمْ » أي لا يطهرهم من ذنوبهم ، أو لا يقبل عملهم ، أو لا يثني عليهم ، وتخصيص الثلاثة بالذكر ليس لأجل أن غيرهم معذور بل لأن عقوبتهم أعظم وأشد ، لأن المعصية مع وجود الصارف عنها وعدم الداعي القوي عليها أقبح وأشنع ، وذلك في الشيخ لانكسار قوته وانطفاء شهوته وطول إعذاره ومدته وقرب الانتقال إلى الله ، فهو حري بأن يتدارك ما فات ويستعد لما هو آت ، فإذا ارتكب الزنا أشعر ذلك بأنه غير مقر بالدين ومستخف بنهي رب العالمين ، فلذا استحق العذاب المهين.

وفيه إشعار بأن الشيخ في أكثر المعاصي بل جميعها أشد عقوبة من الشاب ، وعلى أن الشاب بالعفة أمدح من الشيخ ، والصارف للملك عن كونه جبارا مشاهدة كمال نعمه تعالى عليه حيث سلطه على عباده وبلاده ، وجعلهم تحت يده وقدرته فاقتضى ذلك أن يشكر منعمه ويعدل بين خلق الله ويرتدع عن الظلم والفساد ، ويشاهد ضعفه بين يدي الملك المنان ، فإذا قابل كل ذلك بالكفران استحق عذاب النيران ، والصارف للمقل الفقير عن الاختيال والاستكبار ، فقره لأن الاختيال إنما هو بالدنيا وليست عنده ، فاختياله عناد ، ومن عاند ربه العظيم صار محروما من رحمته وله عذاب أليم.

وأقول : يحتمل أن لا يكون تخصيص الملك لكون الصارف فيه أكثر ، بل لكونه أقوى على الظلم وأقدر ، وفي الصحاح أقل افتقر ، وقال الراغب : الخيلاء

٢١٤

١٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن مروك بن عبيد عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن يوسف عليه‌السلام لما قدم عليه الشيخ يعقوب عليه‌السلام دخله عز الملك فلم ينزل إليه فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال يا يوسف ابسط راحتك فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء فقال يوسف يا جبرئيل ما هذا النور الذي خرج من راحتي فقال نزعت النبوة من عقبك عقوبة لما لم تنزل إلى الشيخ يعقوب فلا يكون من عقبك نبي.

١٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن

______________________________________________________

التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه ، ومنها يتأول لفظ الخيل لما قيل أنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة ، وفي النهاية : فيه من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ، الخيلاء بالضم والكسر الكبر والعجب ، يقال : اختال فهو مختال ، وفيه خيلاء ومخيلة أي كبر.

الحديث الخامس عشر : مرسل.

والملك بضم الميم وسكون اللام السلطنة ، وبفتح الميم وكسر اللام السلطان ، وبكسر الميم وسكون اللام ما يملك ، وإضافة العز إليه لامية ، والنزول إما عن الدابة أو عن السرير وكلاهما مرويان ، وينبغي حمله على أن ما دخله لم يكن تكبرا وتحقيرا لوالده ، لكون الأنبياء منزهين عن أمثال ذلك ، بل راعى فيه المصلحة لحفظ عزته عند عامة الناس لتمكنه من سياسة الخلق وترويج الدين ، إذ كان نزول الملك عندهم لغيره موجبا لذلة ، وكان رعاية الأدب للأب مع نبوته ومقاساة الشدائد لحبه أهم وأولى من رعاية تلك المصلحة ، فكان هذا منه عليه‌السلام تركا للأولى ، فلذا عوتب عليه وخرج نور النبوة من صلبه لأنهم لرفعة شأنهم وعلو درجتهم يعاتبون بأدنى شيء فهذا كان شبيها بالتكبر ولم يكن تكبرا « فصار في جو السماء » أي استقر هناك أو ارتفع إلى السماء.

الحديث السادس عشر : حسن كالصحيح.

٢١٥

أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة وملك يمسكها فإذا تكبر قال له اتضع وضعك الله فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس وإذا تواضع رفعه الله عز وجل ثم قال له انتعش نعشك الله فلا يزال أصغر

______________________________________________________

وقال الجوهري : حكمة اللجام ما أحاط بالحنك وقال في النهاية : يقال : أحكمت فلانا أي منعته ومنه سمي الحاكم لأنه يمنع الظالم وقيل : هو من حكمت الفرس وأحكمته إذا قدعته وكففته ، ومنه الحديث : ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة ، وفي رواية في رأس كل عبد حكمه إذا هم بسيئة فإن شاء الله أن يقدعه بها قدعه ، الحكمة : حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس ، وحنكه تمنعه عن مخالفة راكبه ، ولما كانت الحكمة تأخذهم الدابة ، وكان الحنك متصلا بالرأس جعلها تمنع من هي في رأسه كما تمنع الحكمة الدابة ، ومنه الحديث : إن العبد إذا تواضع رفع الله حكمته أي قدره ومنزلته ، يقال : له عندنا حكمه أي قدر ، وفلان عالي الحكمة ، وقيل : الحكمة من الإنسان أسفل وجهه ، مستعار من موضع حكمة اللجام ، ورفعها كناية عن الإعزاز لأن في صفة الذليل تنكيس رأسه ، انتهى.

وقيل : المراد بالحكمة هنا الحالة المقتضية لسلوك سبيل الهداية على سبيل الاستعارة ، وبإمساك الملك إياها إرشاده إلى ذلك السبيل ونهيه عن العدول عنه « اتضع » أمر تكويني أو شرعي « وضعك الله » دعاء عليه ودعاء الملك مستجاب ، أو إخبار بأن الله أمر بوضعك وقدر مذلتك « رفعها الله » (١) أي الحكمة وإنما غير الأسلوب ولم ينسبها إلى الملك لأن نسبة الخير واللطف إلى الله تعالى أنسب وإن كان الكل بأمره تعالى ، وقيل : هو التنبيه على أن الرفع مترتب على التواضع من غير حاجة إلى دعاء الملك ، بخلاف الوضع فإنه غير مترتب على التكبر ما لم

__________________

(١) وفي المتن « رفعه الله » وهو الظاهر.

٢١٦

الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس.

١٧ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن بعض أصحابه ، عن النهدي ، عن يزيد بن إسحاق شعر ، عن عبد الله بن المنذر ، عن عبد الله بن بكير قال قال أبو

______________________________________________________

يدعو الملك عليه بالوضع ، وما ذكرنا أنسب.

« ثم قال له » أي الرب تعالى أو الملك « انتعش » يحتمل الوجهين المتقدمين يقال : نعشه الله كمنعه وأنعشه أي إقامة ورفعه ، ونعشه فانتعش أي رفعه فارتفع « نعشك الله » هذا أيضا إما إخبار بما وقع من الرفع ، أو دعاء له على التأكيد أو دعاء له بالثبات والاستمرار.

وأقول : هذا الخبر في طريق العامة هكذا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها ، فإن هو رفع نفسه جبذاها (١) ثم قالا : اللهم ضعه ، وإن وضع نفسه قالا : اللهم ارفعه.

الحديث السابع عشر والثامن عشر : مرسلان متقاربان في المضمون.

وفي النهاية فيه : أنك امرؤ تائه أي متكبر أو ضال متحير ، وقد تاه يتيه تيها إذا تحير وضل وإذا تكبر ، انتهى.

« أو تجبر » يمكن أن يكون الترديد من الراوي وإن كان منه عليه‌السلام فيدل على فرق بينهما في المعنى كما يومئ إليه قوله تعالى : « الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ » (٢) وفي الخبر إيماء إلى أن التكبر أقوى من التجبر ، ويمكن أن يقال في الفرق بينهما أن التجبر يدل على جبر الغير وقهره على ما أراد ، بخلاف التكبر فإنه جعل نفسه أكبر وأعظم من غيره وإن كانا متلازمين غالبا.

ثم اعلم أن الخبرين يحتملان وجوها : الأول أن يكون المراد أن التكبر ينشأ من دناءة النفس وخستها ورداءتها.

__________________

(١) جبذه : جذبه.

(٢) سورة الحشر : ٢٣.

٢١٧

عبد الله عليه‌السلام ما من أحد يتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه.

١٨ ـ وفي حديث آخر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه.

(باب العجب)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن أسباط ، عن رجل من أصحابنا من أهل خراسان من ولد إبراهيم بن سيار يرفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

الثاني : أن يكون المعنى أن التكبر إنما يكون غالبا فيمن كان ذليلا فعز ، وأما من نشأ في العزة لا يتكبر غالبا بل شأنه التواضع.

الثالث : أن التكبر إنما يكون فيمن لم يكن له كمال واقعي فيتكبر لإظهار الكمال.

الرابع : أن يكون المراد المذلة عند الله أي من كان عزيزا ذا قدر ومنزلة عند الله لا يتكبر.

الخامس : ما قيل أن اللام لام العاقبة أي يصير ذليلا بسبب التكبر وهو أبعد الوجوه.

باب العجب

الحديث الأول : مرسل.

والعجب استعظام العمل الصالح واستكثاره ، والابتهاج له والإدلال به ، وأن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير ، وأما السرور به مع التواضع له تعالى والشكر له على التوفيق لذلك وطلب الاستزادة منه فهو حسن ممدوح ، قال الشيخ البهائي قدس الله روحه : لا ريب أن من عمل أعمالا صالحة من صيام الأيام وقيام الليالي وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج ، فإن كان من حيث كونها عطية من الله

٢١٨

قال إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولو لا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبدا.

______________________________________________________

له ونعمة منه تعالى عليه وكان مع ذلك خائفا من نقصها مشفقا من زوالها ، طالبا من الله الازدياد منها ، لم يكن ذلك الابتهاج عجبا ، وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجا عن حد التقصير ، وصار كأنه يمن على الله سبحانه بسببها ، فذلك هو العجب ، انتهى.

والخبر يدل على أن العجب أشد من الذنب أي من ذنوب الجوارح ، فإن العجب ذنب القلب ، وذلك لأن الذنب يزول بالتوبة ويكفر بالطاعات ، والعجب صفة نفسانية يشكل إزالتها ، ويفسد الطاعات ويهبطها عن درجة القبول ، والعجب آفات كثيره فإنه يدعو إلى الكبر كما عرفت ، ومفاسد الكبر ما عرفت بعضها ، وأيضا العجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها ، فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها ، وما يتذكر منها فيستصغرها فلا يجتهد في تداركها ، وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويبتهج بها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها ، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما ينفع ، وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب ، والمعجب يغتر بنفسه وبربه ويأمن مكر الله وعذابه ، ويظن أنه عند الله بمكان وأن له على الله منة وحقا بأعماله التي هي نعمة من نعمه وعطية من عطاياه ، ثم إن إعجابه بنفسه ورأيه وعلمه وعقله يمنعه من الاستفادة والاستشارة والسؤال ، فيستنكف من سؤال من هو أعلم منه ، وربما يعجب بالرأي الخطإ الذي خطر له فيصر عليه وآفات العجب أكثر من أن تحصى.

٢١٩

٢ ـ عنه ، عن سعيد بن جناح ، عن أخيه أبي عامر ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من دخله العجب هلك.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن أسباط ، عن أحمد بن عمر الحلال ، عن علي بن سويد ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال سألته عن العجب الذي يفسد العمل فقال العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه

______________________________________________________

الحديث الثاني : كالسابق.

والمراد بالهلاك استحقاق العقاب والبعد من رحمة الله تعالى ، وقيل : العجب يدخل الإنسان بالعبادة وتركه الذنوب والصورة والنسب والأفعال العادية مثل الإحسان إلى الغير وغيره ، وهو من أعظم المهلكات وأشد الحجب بين القلب والرب ويتضمن الشرك بالله وسلب الإحسان والإفضال والتوفيق عنه تعالى ، وادعاء الاستقلال لنفسه ويبطل به الأعمال والإحسان وأجرهما كما قال تعالى : « لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى » (١) وليس المن بالعطاء ، وأذى الفقير بإظهار الفضل والتعيير عليه إلا من عجبه بعطيته وعماه عن منة ربه وتوفيقه.

الحديث الثالث : حسن موثق.

وأبو الحسن يحتمل الأول والثاني عليهما‌السلام لرواية ابن سويد عنهما ، وإن كان روايته عن الأول أكثر « العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله « فَرَآهُ » (٢) « حَسَناً » إشارة إلى قوله تعالى : « أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً » (٣).

« فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا » إشارة إلى قوله سبحانه : « قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً » (٤) وأكثر الجهلة على هذه الصفة ، فإنهم يفعلون أعمالا قبيحة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٤.

(٢) كذا في النسخ وفي المتن « فيراه ».

(٣) سورة فاطر : ٨.

(٤) سورة الكهف : ١٠٤.

٢٢٠