مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

ويحسب أنه يحسن صنعا ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه.

______________________________________________________

عقلا ونقلا ويواظبون عليها حتى تصير تلك الأعمال بتسويل أنفسهم وتزيين قرينهم من صفات الكمال عندهم فيذكرونها ويتفاخرون بها ويقولون إنا فعلنا كذا وكذا إعجابا بشأنهم وإظهارا لكمالهم.

« ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن » إشارة إلى قوله تعالى : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (١).

الحديث الرابع : حسن كالصحيح.

« فيندم عليه » ندامته مقام عجز واعتراف بالتقصير وهو مقام التائبين وهو محبوب لله تعالى في تلك الحالة لأنه قال سبحانه : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ » (٢).

« ويعمل العمل فيسره ذلك » المراد بالسرور هنا الإدلال بالعمل واستعظامه وإخراج نفسه عن حد التقصير كما مر « فيتراخى عن حاله تلك » أي تصير حاله بسبب هذا السرور والعجب أدون وأخس من حالة وقت الندامة ، مع كونها مقرونة بالمعصية ، في القاموس : تراخى تقاعس أي تأخر ، وراخاه باعده وتراخى السماء أبطأ المطر ، ويدل على أن العجب يبطل فضل الأعمال السابقة « فلان يكون على حاله تلك خير مما دخل فيه » ضمير دخل راجع إلى الرجل ، وضمير فيه إلى

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٢.

٢٢١

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن نضر بن قرواش ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال أتى عالم عابدا فقال له كيف صلاتك فقال مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا قال فكيف بكاؤك؟

______________________________________________________

الموصول ، ويحتمل العكس ، والفاء للتفريع ، وخير خبر لأن يكون ، أي كونه على حالة الندامة مع كونها مقرونة بالذنب خير مما دخل فيه من العجب ، وإن كان مقرونا بالحسنة ، أو ذلك الذنب لكونه مقرونا بالندامة أفضل من تلك الحسنة المقرونة بالعجب ، أو هاتان الحالتان معا خير من تينك الحالتين.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور أو مجهول.

والقرواش بالكسر الطفيلي أو عظيم الرأس ، والمدل على بناء الفاعل من الأفعال المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل ، وفي النهاية : فيه :

يمشي على الصراط مدلا ، أي منبسطا لا خوف عليه وهو من الإدلال والدالة على من لك عنده منزلة ، وفي القاموس : دل المرأة ودلالها تدللها على زوجها تريه جرأة في تغنج وتشكل كأنها تخالفه وما بها خلاف ، وأدل عليه انبسط كتدلل وأوثق بمحبته فأفرط عليه ، والدالة ما تدل به على حميمك ، انتهى.

والضحك مع الخوف هو الضحك الظاهري مع الخوف القلبي ، كما مر في صفات المؤمن : بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، والحاصل أن المدار على القلب ولا يصلح المرء إلا بإصلاح قلبه وإخراج العجب والكبر والرياء منه ، وتذليله بالخوف والخشية ، والتفكر في أهوال الآخرة وشرائط الأعمال وكثرة نعم الله عليه وأمثال ذلك ، ويدل الخبر على أن العالم أفضل من العابد ، وأن العبادة بدون العلم الحقيقي لا تنفع.

قال بعض المحققين : اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة ، وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل وغيره حالتان : أحدهما أن يكون خائفا على

٢٢٢

قال أبكي حتى تجري دموعي فقال له العالم فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل إن المدل لا يصعد من عمله شيء.

______________________________________________________

زواله ، مشفقا على تكدره أو سلبه من أصله ، فهذا ليس بمعجب ، والأخرى أن لا يكون خائفا من زواله لكن يكون فرحا به من حيث أنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه ، وهذا أيضا ليس بمعجب ، وله حالة ثالثة هي العجب وهو أن يكون غير خائف عليه ، بل يكون فرحا به مطمئنا إليه ، ويكون فرحه به من حيث أنه كمال ونعمة ورفعة وخير ، لا من حيث أنه عطية من الله تعالى ونعمة منه ، فيكون فرحه به من حيث أنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث أنه منسوب إلى الله بأنه منه ، فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها ، زال العجب بذلك عن نفسه ، فإذا العجب هو إعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم ، فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى توقع بعلمه كرامة له في الدنيا ، واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده فيما يجري على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل ، فكأنه يرى لنفسه على الله دالة ، وكذلك قد يعطي غيره شيئا فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجبا ، فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات ، أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه.

قال قتادة في قوله تعالى : « وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ » (١) أي لا تدل بعملك ، وفي الخبر : أن صلاة المدل لا ترتفع فوق رأسه ، ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت تدل بعملك ، والإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة ، دون توقع جزاء عليه ، والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء ، فإن توقع إجابة دعوته واستنكر

__________________

(١) سورة المدّثّر : ٦.

٢٢٣

٦ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن أبي داود ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عز وجل مما صنع من الذنوب.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به فقال هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه.

______________________________________________________

ردها بباطنه وتعجب كان مدلا بعمله ، فإنه لا يتعجب من رد دعاء الفساق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك ، فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه.

الحديث السادس : مرسل.

« والفاسق صديق » أي مؤمن صادق في إيمانه كثير الصدق والتصديق قولا وفعلا ، قال الراغب : الصديق من كثر منه الصدق ، وقيل : بل يقال ذلك لمن لم يكذب قط ، وقيل : بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق ، وقيل : بل لمن صدق بقوله واعتقاده ، وحقق صدقه بفعله.

الحديث السابع : كالصحيح.

« يعمل العمل » أي معصية أو مكروها أو لغوا ، وحمله على الطاعة بأن يكون خوفه للتقصير في الشرائط كما قيل بعيد ، لقلة فائدة الخبر حينئذ وإنما قال : شبه العجب ، لبيان أنه يدخله قليل من العجب يخرج به عن الخوف السابق ، فأشار عليه‌السلام في الجواب إلى أن هذا عجب أيضا.

٢٢٤

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينما موسى عليه‌السلام جالسا إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان فلما دنا من موسى عليه‌السلام خلع البرنس وقام إلى موسى فسلم عليه فقال له موسى من أنت فقال أنا إبليس قال أنت فلا قرب الله دارك قال إني إنما جئت لأسلم عليك لمكانك من الله قال فقال له موسى عليه‌السلام فما هذا البرنس قال به أختطف قلوب بني آدم فقال موسى فأخبرني بالذنب

______________________________________________________

الحديث الثامن : مرسل.

والبرنس بالضم وفي النهاية : هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبة أو ممطر أو غيره ، قال الجوهري : هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام ، وهو من البرس بكسر الباء القطن ، والنون زائدة ، وقيل : إنه غير عربي « قال أنت » أي أنت إبليس؟ وقيل : خبر مبتدإ محذوف أي المسلم أنت؟

وعلى التقديرين استفهام تعجبي « فلا قرب الله دارك » أي لا قربك الله منا أو من أحد ، وقيل : أي حيرك الله ، وقيل : لا تكون دارك قريبة من المعمورة ، كناية عن تخريب داره.

« إنما جئت لأسلم عليك » أي لم أجيء لإضلالك فتبعدني لأنه لا طمع لي فيك لقربك من الله ، أو سلامي عليك للمنزلة التي لك عند الله.

« به اختطف » يقال : خطفة من باب علم وضرب واختطفه إذا استلبه وأخذه بسرعة.

وكان الألوان في البرنس كانت صورة شهوات الدنيا وزينتها ، أو الأديان المختلفة والآراء المبتدعة أو الأعم كما روى الشيخ في مجالسه بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام إن إبليس كان يأتي الأنبياء عليهم‌السلام من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن بعث الله المسيح عليه‌السلام يتحدث عندهم ويسائلهم ، ولم يكن بأحد منهم أشد أنسا منه بيحيى بن زكريا عليه‌السلام فقال له يحيى : يا با مرة إن لي إليك حاجة ، فقال

٢٢٥

الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه قال إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه.

وقال قال الله عز وجل ـ لداود عليه‌السلام يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين

______________________________________________________

له : أنت أعظم قدرا من أن أردك بمسألة فسلني ما شئت فإني غير مخالفك في أمر تريده ، فقال يحيى : يا با مرة أحب أن تعرض على مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم؟ فقال له إبليس : حبا وكرامة وواعده لغد ، فلما أصبح يحيى عليه‌السلام قعد في بيته ينتظر الموعد وأغلق عليه الباب إغلاقا فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته ، فإذا وجهه صورة وجه القرد وجسده على صورة الخنزير ، وإذا عيناه مشقوقتان طولا وإذا أسنانه وفمه مشقوق طولا عظما واحدا بلا ذقن ولا لحية ، وله أربعة أيد يدان في صدره ويدان في منكبه ، وإذا عراقيبه قوادمه وأصابعه خلفه ، وعليه قباء وقد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع الألوان ، وإذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة ، وإذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب ، فلما تأمله يحيى عليه‌السلام قال له : ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال : هذه المجوسية ، أنا الذي سننتها وزينتها لهم ، فقال له : فما هذه الخيوط الألوان؟ قال له : هذه جميع أصباغ النساء ، لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى تقع مع لونها فأفتن الناس بها ، فقال له : فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال : هذا مجمع كل لذة من طنبور وبربط ومعزفة وطبل ونأى وصرناي ، وإن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخفهم الطرب ، فمن بين من يرقص ومن بين من يفرقع أصابعه (١) ، و

__________________

(١) قال الجزريّ : فرقعة الأصابع غمزها حتّى يسمع لمفاصلبها صوت. وقال ابن منظور في لسان العرب : الفرقعة في الأصابع والتفقيع واحد. والفرقعة الصوت بين الشيئين يضربان. وذكر في مادة « فقع » ان التفقيع صوت الأصابع إذا ضرب بعضها ببعض « انتهى » أقول : وعلى ما ذكر لا يبعد أن يكون معنى الفرقعة في الحديث ما يقال له بالفارسية « بشكن » و « ارغشتك » بقرينة السياق ، ولعله هو المتعين في الحديث والمحتمل في ساير الأحاديث.

٢٢٦

قال كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين قال يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك

______________________________________________________

بين من يشق ثيابه ، فقال له : وأي الأشياء أقر لعينك؟ قال : النساء هن فخوخي (١) ومصائدي فإني إذا اجتمعت على دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن ، فقال له يحيى عليه‌السلام : فما هذه البيضة التي على رأسك؟ قال : بها أتوقى دعوة المؤمنين ، قال : فما هذه الحديدة التي أرى فيها؟ قال : بهذه أقلب قلوب الصالحين ، قال يحيى عليه‌السلام : فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال : لا ولكن فيك خصلة تعجبني! قال يحيى : فما هي؟ قال : أنت رجل أكول ، فإذا فطرت أكلت وبشمت (٢) فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل ، قال يحيى عليه‌السلام : فإني أعطى الله عهدا أني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه ، قال له إبليس : وأنا أعطي الله عهدا أني لا أنصح مسلما حتى ألقاه ، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك.

واستحواذ الشيطان على العبد غلبته عليه واستمالته إلى ما يريده منه « أن لا يعجبوا » قيل : أن ناصبة ولا نافية أو أن مفسرة ولا ناهية ، ويعجبوا من باب الأفعال على بناء المجهول أو على بناء المعلوم ، نحو أغد البعير.

وأقول : الأول أظهر « أنصبه » كأضربه أي أقيمه وكونه على بناء الأفعال بمعنى الإتعاب بعيد « إلا هلك » أي استحق العذاب إذ جميع الطاعات لا تفي بشكر نعمة واحدة من نعمه سبحانه مع قطع النظر عن المناقشة في شرائط العبادة ، وفي غالب الناس المقاصة بالمعاصي.

__________________

(١) الفخ : آلة الصيد.

(٢) بشم من الطعام : أتخم.

٢٢٧

(باب)

(حب الدنيا والحرص عليها)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن درست بن أبي منصور ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهشام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال رأس كل خطيئة حب الدنيا.

٢ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن حماد بن بشير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم.

٣ ـ عنه ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع هذا في أولها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حب المال والشرف في دين المؤمن.

______________________________________________________

باب حب الدنيا والحرص عليها

الحديث الأول : ضعيف.

« رأس كل خطيئة حب الدنيا » لأن خصال الشر مطوية في حب الدنيا وكل ذمائم القوة الشهوية والغضبية مندرجة في الميل إليها ، ولذا قال الله عز وجل : « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » (١) ولا يمكن التخلص من حبها إلا بالعلم بمقابحها ومنافع الآخرة وتصفية النفس وتعديل القوتين.

الحديث الثاني : مجهول.

وقد تقدم مثله في أول باب الرئاسة ، وقد مضى القول فيه وأفسد هنا بمعنى أشد فسادا وإن كان نادرا.

الحديث الثالث : حسن موثق كالصحيح « بأسرع » أي في القتل والإفناء.

__________________

(١) سورة الشورى : ٢٠.

٢٢٨

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته.

٥ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن النعمان ، عن أبي أسامة زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه

______________________________________________________

الحديث الرابع : موثق.

وفي القاموس جثم الإنسان والطائر والنعام والخشف واليربوع يجثم جثما لزم مكانه فلم يبرح ، أو وقع على صدره أو تلبد بالأرض ، انتهى.

والحاصل أن الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء أي يبعثه على ارتكاب كل ضلالة ومعصية أو يكون معه ويلازمه عند عروض كل شبهة أو شهوة لعله يضله أو يزله « فإذا أعياه » المستتر راجع إلى ابن آدم ، والبارز إلى الشيطان أي لم يقبل منه ولم يطعه حتى أعياه ترصد له واختفى عند المال ، فإذا أتى المال أخذ برقبته فأوقعه فيه بالحرام أو الشبهة.

والحاصل أن المال أعظم مصائد الشيطان إذ قال من لم يفتتن به عند تيسره له ، وكأنه محمول على الغالب إذ قد يكون لا يفتتن بالمال ويفتتن بحب الجاه وبعض الشهوات الغالبة ، وقيل : فإذا أعياه ، أي أعجزه عن كل شهوة ولذة ، وذلك بأن يشيب كما ورد في حديث آخر : يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل.

الحديث الخامس : صحيح.

« من لم يتعز بعزاء الله » قال في النهاية : فيه : من لم يتعز بعزاء الله فليس منا ، أي من لم يدع بدعوة الإسلام فيقول : يا للإسلام ويا للمسلمين ويا لله ، وقيل : أراد بالتعزي التسلي والتصبر عند المصيبة وأن يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كما أمر الله تعالى ، ومعنى قوله : بعزاء الله أي بتعزية الله تعالى إياه ، فأقام الاسم

٢٢٩

حسرات على الدنيا ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس كثر همه ولم يشف غيظه

______________________________________________________

مقام المصدر ، انتهى.

وقيل : العزاء مصدر بمعنى الصبر أو اسم للتعزية ، وكلاهما مناسب ، وعلى الأول إسناده إلى الله تعالى لأنه السبب له والباء إما للآلية المجازية كما قيل في قوله تعالى : « فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ » (١) أو للسببية ، والحاصل أنه من لم يصبر على ما فاته من الدنيا وعلى البلايا التي تصيبه فيها بما سلاه الله في قوله « وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » (٢) وسائر الآيات الواردة في ذم الدنيا وفنائها ، ومدح الرضا بقضائه تعالى « تقطعت نفسه » للحسرات على المصائب وعلى ما فاته من الدنيا ، وربما يحصل الحسرات على ما يحصل له عند الموت من مفارقتها أو الأعم منها ومما يحصل له في الدنيا وجمعية الحسرات مع كونه مصدرا لإرادة الأنواع.

« ومن اتبع نظره (٣) ما في أيدي الناس » أي نظر إلى من هو فوقه من أهل الدنيا. وما في أيديهم من نعيمها وزبرجها نظر رغبة وتحسر وتمن « كثر همه » لعدم تيسرها له فيغتاظ لذلك ويحسدهم عليها ولا يمكنه شفاء غيظه إلا بأن يحصل له أكثر مما في أيديهم أو يسلب الله عنهم جميع ذلك ، ولا يتيسر له شيء من الأمرين فلا يشفي غيظه أبدا ولا يتهنأ له العيش ما رأى في نعمه أحدا ولا يتفكر في أنه إنما منعه الله ذلك لأنه علم أنه سبب هلاكه ، فهو يتمنى حالهم ولا يعلم حقيقة مالهم كما حكى الله سبحانه عن قوم تمنوا حال قارون حيث قالوا « يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ». « أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٧.

(٢) سورة البقرة : ١٥٥.

(٣) كذا في النسخ ، وفي المتن « بصره ».

٢٣٠

ومن لم ير لله عز وجل عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو ملبس فقد قصر عمله ودنا عذابه.

______________________________________________________

لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ » (١) وانتفاء الخسف الظاهري بأهل الأموال والتجبر من هذه الأمة لا يوجب انتفاء الخسف في دركات الشهوات النفسانية ومهاوي التعلقات الجسمانية والحرمان عن درجات القرب والكمال ، وخسفهم في عظيم النكال وشديد الوبال ، أعاذنا الله وسائر المؤمنين من جميع ذلك ، ويسهل لنا الوصول في الدارين إلى أحسن الأحوال.

« ومن لم ير أن لله عليه نعمة إلا في مطعم » أي من توهم أن نعمة الله عليه منحصرة في هذه النعم الظاهرة كالمطعم والمشرب والمسكن وأمثالها فإذا فقدها أو شيئا منها ظن أنه ليس لله عليه نعمة فلا ينشط في طاعة الله ، وإن عمل شيئا مع هذه العقيدة الفاسدة وعدم معرفة منعمه لا ينفعه ولا يتقبل منه ، فيكون عمله قاصرا وعذابه دانيا لأن هذه النعم الظاهرة حقيرة في جنب نعم الله العظيمة عليه من الإيمان والهداية والتوفيق والعقل والقوي الظاهرة والباطنة ، والصحة ودفع شر الأعادي وغيرها مما لا يحصى ، بل هذا الفقر أيضا من أعظم نعم الله عليه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

وقال بعض المحققين : معنى الحديث أن من لم يصبر ولم يسل أو لم يحسن الصبر والسلوة على ما رزقه الله من الدنيا بل أراد الزيادة في المال أو ألجأه مما لم يرزقه إياه تقطعت نفسه متحسرا حسرة بعد حسرة على ما يراه في يدي غيره ممن فاق عليه في العيش فهو لم يزل يتبع بصره ما في أيدي الناس ، ومن أتبع بصره ما في أيدي الناس كثر همه ولم يشف غيظه ، فهو لم ير أن لله عليه نعمة إلا نعم الدنيا وإنما يكون كذلك من لا يوقن بالآخرة ، ومن لم يوقن بالآخرة قصر عمله ، وإذ ليس له

__________________

(١) سورة القصص : ٨٠ ـ ٨٢.

٢٣١

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن يعقوب بن زيد ، عن زياد القندي ، عن أبي وكيع ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يحيى بن عقبة الأزدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أبو جعفر عليه‌السلام مثل الحريص على الدنيا مثل دودة

______________________________________________________

من الدنيا إلا قليل بزعمه مع شدة طمعه في الدنيا وزينتها فقد دنا عذابه ، نعوذ بالله من ذلك ، ومنشأ ذلك كله الجهل وضعف الإيمان ، وأيضا لما كان عمل أكثر الناس على قدر ما يرون من نعم الله عليهم عاجلا وآجلا لا جرم من لم ير من النعم عليه إلا القليل فلا يصدر عنه من العمل إلا قليل ، وهذا يوجب قصور العمل ودنو العذاب.

الحديث السادس : مجهول.

« إن الدينار والدرهم » أي حبهما وصرف العمر في تحصيلهما وتحصيل ما يتوقف عليهما « أهلكا من كان قبلكم » لأن حبهما يمنع من حبه تعالى ، وصرف العمر فيهما يمنع من صرف العمر في طاعته تعالى ، والتمكن منهما يورث التمكن من كثير من المعاصي ، ويبعثان على الأخلاق الدنية والأعمال السيئة كالظلم والحسد والحقد والعداوة والفخر والكبر والبخل ومنع الحقوق ، إلى غير ذلك مما لا يحصى ، ومفارقتهما عند الموت تورث الحسرة والندامة ، وحبهما يمنع من حب لقاء الله تعالى ، وتركهما يوجب الراحة في الدنيا وخفة الحساب في الآخرة.

الحديث السابع : كالسابق.

« مثل دودة القز » هذا من أحسن التمثيلات للدنيا وقد أنشد بعضهم فيه :

ألم تر أن المرء طول حياته

حريص على ما لا يزال يناسجه

كدود كدود القز ينسج دائما

فيهلك غما وسط ما هو ناسجه

٢٣٢

القز كلما ازدادت من القز على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما وقال أبو عبد الله عليه‌السلام أغنى الغنى من لم يكن للحرص أسيرا وقال لا تشعروا قلوبكم الاشتغال بما قد فات فتشغلوا أذهانكم عن الاستعداد لما لم يأت.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد جميعا ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان المنقري ، عن عبد الرزاق بن همام ، عن معمر بن راشد ، عن الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله قال سئل علي بن الحسين عليه‌السلام أي الأعمال أفضل عند الله قال ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من بغض

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : أغنى الغناء ، أي ليس الغناء وعدم الحاجة بكثرة المال ، بل بترك الحرص ، فإن الحريص كلما ازداد ماله اشتد حرصه فيكون أفقر وأحوج ممن لا مال له « لا تشعروا قلوبكم » أي لا تلزموه إياها ولا تجعلوه شعارها ، في القاموس : أشعره الأمر وبه أعلمه ، والشعار ككتاب ما تحت الدثار من اللباس ، وهو يلي شعر الجسد ، واستشعره لبسه وأشعره غيره ألبسه إياه ، وأشعر الهم قلبي لزق به ، وكلما ألزقته بشيء أشعرته به « الاشتغال بما قد فات » أي من أمور الدنيا سواء لم يحصل أو حصل وفات ، فإن اشتغال القلب به يوجب غفلته عن ذكر الله تعالى وحبة ، فإنه لا يجتمع حبان متضادان في قلب واحد.

الحديث الثامن : ضعيف.

والظاهر أن « عن » بعد الزهري كما في أكثر النسخ زيد من النساخ ، فإن الزهري هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن شهاب بن زهرة بن كلاب ، وهو بدل أو عطف بيان للزهري ، ويؤيده أنه قد مر هذا الخبر بعينه في باب ذم الدنيا ، وليس فيه « عن » ولا ينافي ذلك كون ما مر محمد بن مسلم بن شهاب لأنه إسناد إلى الجد الأعلى وهو شائع ، وقد مر شرح هذا الخبر فيما مضى ، ونذكر هنا بعض الفوائد.

« ما من عمل بعد معرفة الله » يدل على أن المعرفة أفضل لأنها أصل جميع

٢٣٣

الدنيا فإن لذلك لشعبا كثيرة وللمعاصي شعب فأول ما عصي الله به الكبر معصية إبليس حين « أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » ثم الحرص وهي معصية آدم وحواء عليهما‌السلام حين قال الله عز وجل لهما : « فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ » (١) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة

______________________________________________________

الأخلاق والأعمال ، ويدخل في معرفة الرسول معرفة الإمام « فإن لذلك » كأنه تعليل لكون بغض الدنيا بعد المعرفة أفضل ، وفيما مضى « وإن » كما في بعض النسخ هنا وهو أظهر ، وذلك إشارة إلى بغض الدنيا أو إلى الدنيا ، وقيل : المشار إليه العمل ، يعني أن للأعمال الصالحة لشعبا يرجع كلها إلى بغض الدنيا ، وللمعاصي شعبا يرجع كلها إلى حب الدنيا ، ثم اكتفى ببيان أحدهما عن الآخر ، وكان ما ذكرنا أظهر فالمراد بالشعب الأولى أنواع الأخلاق والأعمال الفاضلة ، وبالثانية أنواع المعاصي ، والأولى مندرجة تحت بغض الدنيا ، والثانية تحت حبها ، فبغضها أفضل الأعمال لاشتماله على محاسن كثيرة كالتواضع المقابل للكبر ، والقنوع المقابل للحرص وهكذا وبحكم المقابلة حب الدنيا أقبح الأعمال لاشتماله على رذائل كثيرة ، وهي الكبر إلى آخر ما ذكر.

« فذلك أن » وفي بعض النسخ فلذلك أي لدخول الحرص على ذريتهما ، وإنما قال أكثر لأن طلب المحتاج إليه وهو القدر الضروري من الطعام واللباس والمسكن ونحوها ليس بمذموم بل ممدوح ، لأنه لا يمكن بدونه تكميل النفس بالعلم والعمل « حيث حسد أخاه » قيل : حسده في قبول قربانه ، وقيل : في حب النساء ، وقيل : في حب الدنيا لئلا يكون له نسل يعيرون أولاده في رد قربانه ، وكان المراد بحب الدنيا أولا حب المال أو حب البقاء في الدنيا ، وكراهة الموت ، وبه ثانيا حب كل

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٥.

٢٣٤

فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك حب الدنيا رأس كل خطيئة والدنيا دنياءان دنيا بلاغ ودنيا ملعونة.

٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في مناجاة موسى عليه‌السلام يا موسى إن الدنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عند خطيئته وجعلتها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي يا موسى إن عبادي

______________________________________________________

ما لا حاجة به في تحصيل الآخرة ، وقيل : يمكن أن يكون المراد بالسبع الكبر والحرص وحب النساء وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة ، وهما شعبة واحدة بقرينة عدم ذكر الحب في المعطوف ، وأما الحسد فقد اكتفي عنه بذكر شعبه وأنواعه « دنيا بلاغ » أي كفاف وكفاية أو تبلغ بها إلى الآخرة.

الحديث التاسع : كالسابق.

« وجعلتها ملعونة » اللعن الطرد والإبعاد والسب وكان المراد بلعنها لعن أهلها أو كراهتها والمنع عن حبها ، وكل ما نهى الله تعالى عنها فقد لعنها وطردها وقيل : العرب تقول لكل شيء ضار ملعون ، والشجرة الملعونة عندهم هي كل من ذاقها كرهها ولعنها ، وكذلك حال الدنيا فإن كل من ذاق شهواتها لعنها إذا أحس بضررها.

« ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي » أقول : هذا معيار كامل للدنيا الملعونة وغيرها فكل ما كان في الدنيا ويوجب القرب إلى الله تعالى من المعارف والعلوم الحقة والطاعات وما يتوصل به إليها من المعيشة بقدر الضرورة والكفاف ، فهي من الآخرة وليست من الدنيا ، وكل ما يصير سببا للبعد عن الله والاشتغال عن ذكره ويلهى عن درجات الآخرة وكمالاتها وليس الغرض فيه القرب منه تعالى والوصول إلى رضاه فهي الدنيا الملعونة.

قيل : ما يقع في الدنيا من الأعمال أربعة أقسام : الأول : ما يكون ظاهره

٢٣٥

الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم وما من أحد عظمها فقرت عيناه فيها ولم يحقرها أحد إلا انتفع بها.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها واحد في أولها وهذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم.

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن منصور بن العباس ، عن سعيد بن جناح ، عن عثمان بن سعيد ، عن عبد الحميد بن علي الكوفي ، عن مهاجر الأسدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال مر عيسى ابن مريم عليه‌السلام على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابها فقال أما إنهم لم يموتوا إلا بسخطة ولو ماتوا

______________________________________________________

وباطنه لله كالطاعات والخيرات الخالصة ، الثاني : ما يكون ظاهره وباطنه للدنيا كالمعاصي وكثير من المباحات أيضا لأنها مبدء البطر والغفلة ، الثالث : ما يكون ظاهره لله وباطنه للدنيا كالأعمال الريائية ، الرابع : عكس الثالث ، كطلب الكفاف لحفظ بقاء البدن والقوة على العبادة وتكميل النفس بالعلم والعمل.

« بقدر علمهم » أي بعيوبها وفنائها ومضرتها « ما من أحد عظمها فقرت عينه فيها » (١) أي من عظمها وتعلق قلبه بها تصير سببا لبعده عن الله ، ولا تبقى الدنيا له فيخسر الدنيا والآخرة ، ومن حقرها تركها ولم يأخذ منها إلا ما يصير سببا لتحصيل الآخرة فينتفع بها في الدارين.

الحديث العاشر : كالسابق وقد مر مضمونه.

الحديث الحادي عشر : كالسابق أيضا.

« أما إنهم » قال الشيخ البهائي قدس‌سره : أما بالتخفيف حرف استفتاح وتنبيه يدخل على الجمل لتنبيه المخاطب وطلب إصغائه إلى ما يلقى إليه ، وقد يحذف ألفها نحو أم والله زيد قائم « إلا بسخطة » السخط بالتحريك وبضم أوله وسكون ثانيه

__________________

(١) وفي النسخة الموجودة عندنا « عيناه » بدل « عينه ».

٢٣٦

متفرقين لتدافنوا فقال الحواريون يا روح الله وكلمته ادع الله أن يحييهم لنا

______________________________________________________

الغضب « لتدافنوا » الظاهر أن التفاعل هيهنا بمعنى فعل كتواني ويمكن إبقاؤه على أصل المشاركة بتكلف « فقال الحواريون » هم خواص عيسى عليه‌السلام قيل : سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يقصرونها وينقونها من الأوساخ ويبيضونها ، مشتق من الحور وهو البياض الخالص ، وقال بعض العلماء : إنهم لم يكونوا قصارين على الحقيقة وإنما أطلق هذا الاسم عليهم رمزا إلى أنهم كانوا ينقون نفوس الخلائق من الأوساخ والأوصاف الذميمة والكدورات ، ويرقونها إلى عالم النور من عالم الظلمات.

« يا روح الله » أقول : في تسميته عليه‌السلام روحا أقوال : الأول أنه إنما سماه روحا لأنه حدث عن نفخة جبرئيل في درع مريم بأمر الله تعالى ، وإنما نسبه إليه لأنه كان بأمره ، وقيل : إنما أضافه إليه تفخيما لشأنه كما قال : الصوم لي وأنا أجزي به ، وقد يسمى النفخ روحا ، والثاني : أن المراد به يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح ، والثالث : أن معناه إنسان أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع ونطفة كما جرت العادة بذلك ، الرابع : أن معناه ورحمة منه ، والخامس : أن معناه روح من الله خلقها فصورها ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها فصيرها الله سبحانه عيسى ، السادس : سماه روحا لأنه كان يحيي الموتى كما أن الروح يصير سببا للحياة.

وكذا اختلفوا في تسميته « كلمة » في قوله سبحانه : « إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » (١) وقوله تعالى : « إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ » (٢) على أقوال : أحدها : أنه إنما سمي بذلك لأنه حصل بكلمة من الله من غير والد ، وهو قوله « كُنْ » كما قال سبحانه : « إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٤٥.

(٢) سورة النساء : ١٧١.

٢٣٧

فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها فدعا عيسى عليه‌السلام ربه فنودي من الجو أن نادهم فقام عيسى عليه‌السلام بالليل على شرف من الأرض فقال يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب لبيك يا روح الله وكلمته فقال ويحكم ما كانت أعمالكم

______________________________________________________

فَيَكُونُ » (١) والثاني : أنه سمي بذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة ، أو بشرت بها مريم على لسان الملائكة ، الثالث : أنه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام الله ووحيه.

« فنودي من الجو » بالفتح والتشديد ما بين السماء والأرض « على شرف » قال الشيخ البهائي قدس‌سره : الشرف المكان العالي قيل : ومنه سمي الشريف شريفا تشبيها للعلو المعنوي بالعلو المكاني « فقال ويحك » (٢) ويح اسم فعل بمعنى الترحم كما أن ويل كلمة عذاب ، وبعض اللغويين يستعمل كلا منهما مكان الأخرى والطاغوت فلعوت من الطغيان وهو تجاوز الحد وأصله طغيوت فقدموا لامه على عينه على خلاف القياس ، ثم قلبوا الياء ألفا فصارت طاغوت ، وهو يطلق على الكاهن والشيطان والأصنام ، وعلى كل رئيس في الضلالة ، وعلى كل ما يصد عن عبادة الله تعالى ، وعلى كل ما عبد من دون الله تعالى ، ويجيء مفردا لقوله تعالى : « يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (٣) وجمعا كقوله تعالى : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ » (٤).

وقال قدس‌سره : لعلك تظن أن ما تضمنه هذا الحديث من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على ضرب من التجوز لا الحقيقة ، وليس كذلك بل هو حقيقة فإن العبادة ليست إلا الخضوع والتذلل والطاعة والانقياد ، ولهذا جعل سبحانه اتباع الهوى والانقياد إليه عباده للهوى فقال : « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٥٩.

(٢) وفي المتن « ويحكم » بصيغة الجمع.

(٣) سورة النساء : ٦٠.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٧.

٢٣٨

قال عبادة الطاغوت وحب الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد وغفلة في لهو ولعب فقال كيف كان حبكم للدنيا قال كحب الصبي لأمه إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا وإذا أدبرت عنا بكينا وحزنا قال كيف كانت عبادتكم للطاغوت قال الطاعة لأهل المعاصي قال كيف كان عاقبة أمركم قال بتنا ليلة في عافية وأصبحنا

______________________________________________________

إِلهَهُ هَواهُ » (١) وجعل طاعة الشيطان عبادة له فقال تعالى : « أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ » (٢) ثم نقل أخبارا كثيرة في ذلك ، وقال بعد ذلك : وإذا كان اتباع الغير والانقياد إليه عباده له فأكثر الخلق عند التحقيق مقيمون على عبادة أهواء نفوسهم الخسيسة الدنية وشهواتهم البهيمية والسبعية على كثرة أنواعها واختلاف أجناسها ، وهي أصنامهم التي هم عليها عاكفون والأنداد التي هم لها من دون الله عابدون ، وهذا هو الشرك الخفي نسأل الله سبحانه أن يعصمنا عنه ويطهر نفوسنا منه بمنه وكرمه.

و « غفلة » عطف على خوف ، وعطفه على عبادة الطاغوت بعيد « في لهو » قال الشيخ (ره) : لفظة في هنا إما للظرفية المجازية كما في نحو : النجاة في الصدق ، أو بمعنى مع كما في قوله تعالى : « ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ » (٣) أو للسببية كقوله تعالى : « فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ » (٤).

« إذا أقبلت علينا » قال قدس‌سره : الشرطيتان واقعتان موقع أي المفسرة لحب الصبي لأمه « قال : الطاعة لأهل المعاصي » قال رحمه‌الله : ما ذكره هذا الرجل المكلم لعيسى على نبينا وعليه السلام في وصف أصحاب تلك القرية وما كانوا عليه من الخوف القليل والأمل البعيد والغفلة واللهو واللعب والفرح بإقبال الدنيا والحزن بإدبارها ، هو بعينه حالنا وحال أهل زماننا ، بل أكثرهم خال عن

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٣.

(٢) سورة يس : ٦٠.

(٣) سورة الأعراف : ٣٨.

(٤) سورة يوسف : ٣٢.

٢٣٩

في الهاوية فقال وما الهاوية فقال سجين قال وما سجين قال جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة قال فما قلتم وما قيل لكم قال قلنا ردنا إلى الدنيا فنزهد فيها قيل لنا كذبتم قال ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم قال يا روح الله إنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد وإني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل العذاب عمني معهم فأنا معلق بشعرة

______________________________________________________

ذلك الخوف القليل أيضا ، نعوذ بالله من الغفلة وسوء المنقلب.

« قال جبال من جمر » في القاموس : الجمر النار المتقدة ، والجمع جمر ، قال الشيخ المتقدم ذكره رحمه‌الله هذا صريح في وقوع العذاب في مدة البرزخ أعني ما بين الموت والبعث ، وقد انعقد عليه الإجماع ونطقت به الأخبار ، ودل عليه القرآن العزيز ، وقال به أكثر أهل الملل وإن وقع الاختلاف في تفاصيله ، والذي يجب علينا هو التصديق المجمل بعذاب واقع بعد الموت وقبل الحشر في الجملة ، وأما كيفياته وتفاصيله فلم نكلف بمعرفتها على التفصيل وأكثرها مما لا تسعه عقولنا ، فينبغي ترك البحث والفحص عن تلك التفاصيل ، وصرف الوقت فيما هو أهم منها أعني فيما يصرف ذلك العذاب ويدفعه عنا كيف ما كان ، وعلى أي نوع حصل ، وهو المواظبة على الطاعات واجتناب المنهيات لئلا يكون حالنا في الفحص عن ذلك والاشتغال به عن الكفر فيما يدفعه وينجي منه كحال شخص أخذه السلطان وحبسه ليقطع في غد يده ويجدع أنفه فترك الفكر في الحيل المؤدية إلى خلاصه وبقي طول ليله متفكرا في أنه هل يقطع بالسكين أو بالسيف ، وهل القاطع زيد أو عمرو.

« قيل لنا كذبتم » دل على أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما نطقت به الآية ، أو كذبتم فيما دل عليه قولكم هذا أنه يمكنكم العود ، وربما يقرأ بالتشديد أي كذبتم الرسل فلا محيص عن عذابكم « قال : يا روح الله » في بعض

٢٤٠