مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المحسود بحسدك.

ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلا أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع ، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة ، وأما إنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح ، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد من أن يدوم إلى أجل قدره الله فلا حيلة في دفعه ، بل كل شيء عنده بمقدار ، ولكل أجل كتاب.

وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح ، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه ، وهتك ستره وذكر مساويه ، فهذه هدايا تهديها إليه أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلسا محروما عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة ، فأضفت له نعمة إلى نعمة ، ولنفسك شقاوة إلى شقاوتك ، وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم ، وكونهم معذبين مغمومين ، ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد ، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم.

ثم اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ومن آذاك لا يمكنك أن لا تبغضه غالبا وإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله ، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما فرقا ، ولا يزال الشيطان ينازعك في الحسد له ولكن إن قوي ذلك فيك حتى يبعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية فأنت إذا حسود عاص بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة ، وليس

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضا حسود عاص لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : « وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا » (١) وقال : « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً » (٢) وقال : « إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ » (٣) أما بالفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس هو عين الحسد بل محل الحسد القلب دون الجوارح ، نعم هذا الحسد ليست مظلمة يحبب الاستحلال منها ، بل هو معصية بينك وبين الله ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح وأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهية ما يترشح منه بالطبع من حيث زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهية من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ولا مدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة وتصب عليهما من بلية سواء ، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتا إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقا بحب الله تعالى مثل السكران الواله ، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهو عين الرحمة ، ويرى الكل عباد الله ، وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ويرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ، ويعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة ، فمهما قابل ذلك بكراهة ألزم قلبه فقد أدى ما كلفه ، وذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه ، وروي مرفوعا أنه ثلاثة في المؤمن له منهن مخرج ومخرجه من الحسد أن لا يبغي ، والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه

__________________

(١) سورة الحشر : ٩.

(٢) سورة النساء : ٨٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٢٠.

١٦٢

٢ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد والحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن جراح المدائني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن محبوب ، عن داود الرقي قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضا إن عيسى ابن مريم كان من شرائعه السيح في البلاد فخرج في بعض سيحه ومعه رجل

______________________________________________________

كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال النعمة عن العدو ، وتلك الكراهة تمنعه من البغي ومن الإيذاء ، فإن جميع ما ورد في الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهرها على أن كل حاسد آثم ، والحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال فكل محب لمساءة المسلمين فهو حاسد ، فإذا كونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل فهو في محل النظر والإشكال.

وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال : أحدها : أن تحب مساءتهم بطبعك وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه ، وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك وهذا معفو عنه قطعا لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه ، الثانية : أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك ، فهذا هو الحسد المخطور قطعا ، الثالثة : وهي بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقتك لنفسك على حسدك ، ومن غير إنكار منك على قلبك ، ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاها ، وهذا محل الخلاف وقيل : إنه لا يخلو من إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه.

الحديث الثاني : مجهول.

الحديث الثالث : مختلف فيه وصحته أقوى.

وفي القاموس : ساح الماء يسيح سيحا وسيحانا جرى على وجه الأرض ، والسياحة بالكسر والسيح الذهاب في الأرض للعبادة ومنه المسيح ، انتهى.

١٦٣

من أصحابه قصير وكان كثير اللزوم لعيسى عليه‌السلام فلما انتهى عيسى إلى البحر قال بسم الله بصحة يقين منه فمشى على ظهر الماء فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه‌السلام جازه بسم الله بصحة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى عليه‌السلام فدخله العجب بنفسه فقال هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فما فضله علي قال فرمس في الماء فاستغاث بعيسى فتناوله من الماء فأخرجه ثم قال له ما قلت يا قصير قال قلت هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء فدخلني من ذلك عجب فقال له عيسى لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله على ما قلت ـ فتب إلى الله عز وجل مما قلت قال فتاب الرجل وعاد

______________________________________________________

وأقول : كان من شرائع عيسى عليه‌السلام السياحة في الأرض للاطلاع على عجائب قدرة الله وهداية عباد الله ، والفرار من أعدائه وملاقاة أوليائه ، فنسخ ذلك في شرعنا ، وقد روي : لا سياحة في الإسلام ، وسياحة هذه الأمة الصيام « فدخله العجب » فإن قيل : هذا إما عجب كما صرح به ، أو غبطة حيث تمنى منزلة عيسى عليه‌السلام لكنه تجاوز عن حد نفسه حيث لم يكن له أن يتمنى تلك الدرجة الرفيعة التي لا يمكن حصولها له ، فكيف فرعه عليه‌السلام على النهي عن الحسد؟ قلت : الظاهر أنه كان الحامل له على الجرأة على هذا التمني الحسد بمنزلة عيسى واختصاصه بالنبوة حيث قال : فما فضله علي؟ أو أنه لما رأى مساواته لعيسى عليه‌السلام في فضيلة واحدة حسد عيسى على نبوته وأنكر فضله عليه كما قال بعض الكفار « أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ».

« فرمس في الماء » أي غمس فيه على بناء المجهول فيهما ، لا يقال : سيأتي عدم المؤاخذة بالخطورات القلبية وقصد المعصية وهنا أخذ بها ، لأن الظاهر أن قوله « فقال » المراد به الكلام النفسي؟ لأنا نقول : الأفعال القلبية التي لا مؤاخذة بها هي التي تتعلق بإرادة المعاصي أو كان محض خطور من غير أن يصير سببا لشكه في العقائد الإيمانية أو حدوث خلل فيها ، وهيهنا ليس كذلك مع أنه لا يدل ما سيأتي إلا على أنه لا يعاقب بها وهو لا ينافي حط منزلته عن صدور مثل هذه

١٦٤

إلى مرتبته التي وضعه الله فيها فاتقوا الله ولا يحسدن بعضكم بعضا.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر

______________________________________________________

الغرائب منه ، وقوله عليه‌السلام : يا قصير! دل على جواز مخاطبة الإنسان ببعض أوصافه المشهورة ، لا على وجه الاستهزاء ، والظاهر أن ذلك كان تأديبا له.

قوله عليه‌السلام وعاد ، أي في نفسه واعتقاده « إلى مرتبته » أي الإقرار بحط نفسه عن الارتقاء إلى درجة النبوة وسلم لعيسى عليه‌السلام فضله ونبوته وترك الحسد له.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

« كاد الفقر أن يكون كفرا » أقول : هذه الفقرة تحتمل وجوها :

الأول : ما خطر بالبال أن المراد به الفقر إلى الناس وهذا هو الفقر المذموم ، فإن سؤال الخلق وعدم التوجه إلى خالقه ومن ضمن رزقه في طلب الرزق وسائر الحوائج نوع من الكفر والشرك ، لعدم الاعتماد على الله سبحانه وضمانه ، وظنه أن المخلوق العاجز قادر على إنجاح حوائجه وسوق الرزق إليه بدون تقديره ، وتيسيره وتسبيبه ، فبعضها يقرب من الكفر ، وبعضها من الشرك.

الثاني : أن المراد به الفقر القاطع لعنان الاصطبار ، وقد وقعت الاستعاذة منه ، وأما الفقر الممدوح فهو المقرون بالصبر ، قال الغزالي : سبب ذلك أن الفقير إذا نظر إلى شدة حاجته وحاجة عياله ، ورأى نعمة جزيلة مع الظلمة والفسقة وغيرهم ، ربما يقول : ما هذا الإنصاف من الله؟ وما هذه القسمة التي لم تقع على العدل فإن لم يعلم شدة حاجتي ففي علمه نقص ، وإن علم ومنع مع القدرة على الإعطاء ففي جوده نقص ، وإن منع لثواب الآخرة فإن قدر على إعطاء الثواب بدون هذه المشقة الشديدة فلم منع ، وإن لم يقدر ففي قدرته نقص ، ومع هذا يضعف

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتقاده بكونه عدلا جوادا كريما مالكا لخزائن السماوات والأرض ، وحينئذ يتسلط عليه الشيطان ويذكر له شبهات حتى يسب الفلك والدهر وغيرهما ، وكل ذلك كفر أو قريب منه ، وإنما يتخلص من هذه الأمور من امتحن الله قلبه للإيمان ، ورضي عن الله سبحانه في المنع والإعطاء ، وعلم أن كل ما فعله بالنسبة إليه فهو خير له وقليل ما هم.

الثالث : ما ذكره الراوندي قدس‌سره حيث قال : معنى الحديث والله أعلم أنه إشارة إلى أن الفقير يسف إلى المأكل الدنية والمطاعم الوبية ، وإذا وجد أولاده يتضورون من الجوع والعري ، ورأى نفسه لا يقدر على تقويم أودهم وإصلاح حالهم ، والتنفيس عنهم كان بالحري أن يسرق ويخون ويغصب وينهب ، ويستحل أموال الناس ويقطع الطريق ويقتل المسلم أو يخدم بعض الظلمة ، فيأكل ما يغصبه ويظلمه ، وهذا كله من أفعال من لا يحاسب نفسه ولا يؤمن بيوم الحساب ، فهو قريب إلى أن يكون كافرا بحتا ، وفي الأثر : عجبت لمن له عيال وليس له مال كيف لا يخرج على الناس بالسيف؟ انتهى.

وأقول : المعاني متقاربة والمال واحد.

وأما قوله عليه‌السلام : وكاد الحسد أن يغلب القدر ، ففيه أيضا وجوه :

الأول : ما ذكر الراوندي (ره) حيث قال : إن المعنى أن للحسد تأثيرا قويا في النظر في إزالة النعمة عن المحسود أو التمني لذلك ، فإنه ربما يحمله حسده على قتل المحسود وإهلاك ماله وإبطال معاشه فكأنه سعى في غلبة المقدور ، لأن الله تعالى قد قدر للمحسود الخير والنعمة ، وهو يسعى في إزالة ذلك منه ، وقيل : الحسد منصف لأنه يبدأ بصاحبه وقيل : الحسود لا يسود ، وقيل : الحسد يأكل الجسد ، وكاد يعطي أنه قرب الفعل ولم يكن ، ويفيد في الحديث شدة تأثير الفقر

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والحسد وإن لم يكونا يغلبان القدر ، ويقال : إن كاد إذا أوجب به الفعل دل على النفي ، وإذا نفى دل على الوقوع ، انتهى.

وقريب منه ما قيل فيه مبالغة في تأثير الحسد في فساد النظام المقدر للعالم ، فإنه كثيرا ما يبعث صاحبه على قتل النفوس ونهب الأموال وسبي الأولاد وإزالة النعم حتى كأنه غير راض بقضاء الله وقدره ، ويطلب الغلبة عليهما ، وهو في حد الشرك بالله.

الثاني : ما قيل : المعنى أن الحسد قد يغلب القدر بأن يزيد في المحسود ما قدر له من النعمة.

الثالث : أن يكون المراد غلبة القدر بتغيير نعمة الحاسد وزوال ما قدر له من الخير.

الرابع : أن يكون المراد كاد أن يغلب الحسد في الوزر والإثم القول بالقدر مع شدة عذاب القدرية.

الخامس : أن يكون إشارة إلى تأثير العين فإن الباعث عليه الحسد كما فسر جماعة من المفسرين قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ » بإصابة العين ، وروى العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخاصة عن الصادق عليه‌السلام : لو كان شيء يسبق القدر سبقه العين ، وقال الطبرسي رحمه‌الله في قوله تعالى : « لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ » (١) خاف العين عليهم لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال ، وهم إخوة أولاد رجل واحد عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبو مسلم ، وقيل : خاف عليهم حسد الناس إياهم وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشتهم فيحبسهم أو يقتلهم خوفا على ملكه ، عن الجبائي ، وأنكر العين وذكر أنه لم يثبت بحجة وجوزه كثير

__________________

(١) سورة يوسف : ٦٧.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

من المحققين ، ورووا فيه الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن العين حق تستنزل الحالق ، والحالق المكان المرتفع من الجبل وغيره ، فجعل عليه‌السلام كأنها تحط ذروة الجبل من قوة أخذها وشدة بطشها ، وورد في الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعوذ الحسن والحسين عليهما‌السلام بأن يقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان هامة ومن كل عين لامة ، وروي أن إبراهيم عليه‌السلام عوذ ابنيه ، وأن موسى عوذ ابني هارون بهذه العوذة ، وروي أن بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا فقالت أسماء بنت عميس : يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، وروي أن جبرئيل عليه‌السلام رقا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلمه الرقية ، وهي : بسم الله أرقيك من كل عين حاسد ، الله يشفيك ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين.

ثم اختلفوا في وجه تأثير الإصابة بالعين فروي عن الجاحظ أنه قال : لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة تتصل به وتؤثر فيه ، ويكون هذا المعنى خاصة في بعض الأعين كالخواص في بعض الأشياء ، وقد اعترض على ذلك بأنه لو كان كذلك لما اختص ذلك ببعض الأشياء دون بعض ، ولأن الأجزاء تكون جواهر والجواهر متماثلة ، ولا يؤثر بعضها في بعض ، وقال أبو هاشم : هو فعل الله بالعادة لضرب من المصلحة وهو قول القاضي.

وقال الفخر الرازي في تفسير الآية التي في سورة يوسف : لنا ههنا مقامان الأول إثبات أن العين حق ، ثم استدل على ذلك بإطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك ، ثم استدل بالروايات المتقدمة وغيرها ، ثم قال : المقام الثاني في الكشف عن ماهيته فنقول : إن الجبائي أنكر هذا المعنى إنكارا بليغا ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلا عن حجة ، وأما الذين اعترفوا به فقد ذكروا فيه وجوها : الأول : قال الجاحظ تمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فتؤثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار وإن كان مخالفا في وجه التأثير لهذه الأشياء ، قال القاضي : وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن ، واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئا فقد يحب بقائه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه وقد يكره بقائه كما إذا استحسن الحاسد بحصول شيء حسن لعدوه فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله ، والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب ، فحينئذ يسخن القلب والروح جدا ، وتحصل في الروح الباصر كيفية قوة مسخنة ، وإن كان الثاني فإنه تحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه ، والحزن أيضا يوجب انحصار الروح في داخل القلب ، وتحصل فيه سخونة شديدة ، فثبت أن عند الاستحسان القوي يسخن الروح جدا فيسخن شعاع العين ، بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة ، فظهر الفرق بين الصورتين ولهذا السبب أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العائن بالوضوء ، ومن إصابته العين بالاغتسال.

أقول : على ما ذكره إذا عاين شيئا عند استحسان شيء آخر وحصول تلك الحالة فيه أو عند حصول غضب شديد على رجل آخر أو حصول هم شديد من مصيبة أو خوف عظيم من عدو أن يؤثر نظره إليه وإلى كل شيء يعاينه ، ومعلوم أنه ليس كذلك.

ثم قال الرازي : الثاني : قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : لا يمتنع أن يكون العين حقا ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشخص أو ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به ، فهذا التغيير غير ممتنع ثم لا يبعد أيضا أنه

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لو ذكر ربه عند ذلك الحالة وبعد عن الإعجاب وسأل ربه فعنده تتغير المصلحة والله سبحانه يبقيه ولا يفنيه ، ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل : للعين حق.

الوجه الثالث : هو قول الحكماء قالوا : هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا ، ولا تكون القوي الجسمانية لها تعلق به ، والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعا على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو كان موضوعا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان عن المشي عليه ، وما ذلك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه منه ، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة ، وأيضا أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيا له حصل في قلبه غضب وسخن مزاجه ، فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذاك التصور النفساني ولأن مبدء الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية ولما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان ، فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان ، وأيضا جواهر النفوس مختلفة بالمهية ، فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه وتتعجب منه ، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه ، والنصوص النبوية نطقت به ، فعند هذا لا يبقى في وقوعه شك ، وإذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.

أقول : ورأيت في شرح هذا للشريف الأجل الرضي الموسوي قدس الله روحه كلاما أحببت إيراده في هذا الموضع قال : إن الله يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها ، فغير ممتنع أن يكون

١٧٠

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن معاوية بن وهب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام آفة الدين الحسد والعجب والفخر.

______________________________________________________

تغييره نعمة زيد مصلحة لعمرو ، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيدا نعمته أقبل على الدنيا بوجهه ونأى عن الآخرة بعطفه ، وإذا سلب نعمة زيد للعلة التي ذكرناها عوضه عنها وأعطاه بدلا منها عاجلا وآجلا ، فيمكن أن يتأول قوله عليه‌السلام : العين حق على هذا الوجه ، على أنه قد روي عنه عليه‌السلام ما يدل على أن الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره ، وصغر أمره ، وإذا كان الأمر على هذا فلا ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعظمه في صدره ، وفخامته في عينه ، كما روي أنه قال لما سبقت ناقته العضباء وكانت إذا سوبق بها لم تسبق : ما رفع العباد من شيء إلا وضع الله منه ، ويجوز أن يكون ما أمر به المستحسن تغيير للشيء عند رؤيته من تعويذه بالله والصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن فلا تغيير عند ذلك ، لأن الرائي لذلك قد أظهر الرجوع إلى الله تعالى والإعاذة به ، فكأنه غير راكن إلى الدنيا ولا مغتر بها ، انتهى كلامه رضي الله عنه.

الحديث الخامس : صحيح.

والحسد والعجب من معاصي القلب ، والفخر من معاصي اللسان ، وهو التفاخر بالآباء والأجداد والأنساب الشريفة ، وبالعلم والزهد والعبادة والأموال والمساكن والقبائل وأمثال ذلك ، فبعض تلك كذب وبعضها رياء ، وبعضها عجب ، وبعضها تكبر وتعظم وتعزز ، وكل ذلك من ذمائم الأخلاق ، ومن صفات الشيطان ، حيث تعزز بأصله فاستكبر عن طاعة ربه ، قال الراغب : الفخر المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ، ويقال له الفخر ، ورجل فاخر وفخور وفخير على التكثير ، قال تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » (١)

__________________

(١) سورة لقمان : ١٨.

١٧١

٦ ـ يونس ، عن داود الرقي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عز وجل لموسى بن عمران عليه‌السلام يا ابن عمران لا تحسدن الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي ومن يك كذلك فلست منه وليس مني.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن الفضيل

______________________________________________________

وقال في النهاية : الفخر ادعاء العظم والكبر والشرف ، وفي المصباح فخرت به فخرا من باب نفع وافتخرت مثله والاسم الفخار بالفتح وهو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب وغير ذلك إما في المتكلم أو في آبائه.

الحديث السادس : مختلف فيه صحيح عندي ومعلق على السند السابق ، وكأنه أخذه من كتاب يونس.

« لا تحسدون الناس » إشارة إلى قوله تعالى : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » (١) « وَلا تَمُدَّنَ » إشارة إلى قوله سبحانه : « وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى » (٢) قال البيضاوي : أي لا تمدن نظر عينيك إلى ما متعنا به استحسانا له وتمنيا أن يكون لك مثله ، وقال الطبرسي رحمه‌الله : أي لا ترفعن عينيك من هؤلاء الكفار إلى ما متعناهم وأنعمنا عليهم به أمثالا في النعم من الأولاد والأموال وغير ذلك ، وقيل : لا تنظرن إلى ما في أيديهم من النعم ، وقيل : ولا تنظرن ولا يعظمن في عينيك ، ولا تمدها إلى ما متعنا به أصنافا من المشركين ، نهى الله رسوله عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليهما ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من الدنيا.

الحديث السابع : ضعيف.

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.

(٢) سورة طه : ١٣١.

١٧٢

بن عياض ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن المؤمن يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط.

(باب العصبية)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن داود بن النعمان ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه.

______________________________________________________

وهو بحسب الظاهر إخبار بأن الحاسد منافق كما مر ، وبحسب المعنى أمر بطلب الغبطة وترك الحسد ، وقد مر معناهما ، لا يقال : المغتبط يتمنى فوق مرتبته والأفضل من نعمته ، فهو ساخط بالنعمة غير راض بالقسمة كالحاسد ، وإلا فما الفرق؟ لأنا نقول : الفرق أن الحاسد غير راض بالقسمة حيث تمنى أن يكون قسمته ونصيبه للغير ، ونصيب الغير له ، فهو راد للقسمة قطعا ، وأما المغتبط فقد رضي أن يكون مثل نصيب الغير له ، ورضي أيضا بنصيبه إلا أنه لما جوز أن يكون له أيضا مثل نصيب ذلك الغير ، وكان ذلك ممكنا في نفسه ولم يعلم امتناعه بحسب التقدير الأزلي ولم يدل عدم حصوله على امتناعه ، لجواز أن يكون حصوله مشروطا بشرط كالتمني والدعاء ونحوهما ، وهذا مثل من وجد درجة من الكمال ، يسأل الله تعالى ويطلب عنه التوفيق لما وفقها.

باب العصبية

الحديث الأول : صحيح.

وقال في النهاية فيه : العصبي من يعين قومه على الظلم ، العصبي : هو الذي يغضب لعصبته ويحامي عنهم ، والعصبة الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم ، أي يحيطون به ويشتد بهم ، ومنه الحديث : ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية ، والتعصب المحاماة والمدافعة ، وقال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، الربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها ، فاستعارها للإسلام يعني ما يشد المسلم به نفسه من عرى الإسلام ، أي حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه ، وتجمع الربقة على ربق مثل كسرة وكسر ، ويقال للحبل الذي يكون فيه الربقة ربق ، ويجمع على رباق وأرباق ، انتهى.

والتعصب المذموم في الأخبار هو أن يحمى قومه أو عشيرته أو أصحابه في الظلم والباطل ، أو يلج في مذهب باطل أو مسألة باطلة لكونه دينه أو دين آبائه أو عشيرته ، ولا يكون طالبا للحق بل ينصر ما لم يعلم أنه حق أو باطل للغلبة على الخصوم أو لإظهار تدربه في العلوم ، أو اختار مذهبا ثم ظهر له خطاؤه ، فلا يرجع عنه لئلا ينسب إلى الجهل أو الضلال ، فهذه كلها عصبية باطلة مهلكة توجب خلع ربقة الإيمان ، وقريب منه الحمية ، قال سبحانه : « إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ » قال الطبرسي (ره) : الحمية الأنفة والإنكار ، يقال : فلان ذو حمية منكرة إذا كان ذا غضب وأنفه أي حميت قلوبهم بالغضب كعادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له.

وقال الراغب : عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت بالحمية ، فقيل : حميت على فلان أي غضبت ، انتهى.

وأما التعصب في دين الحق والرسوخ فيه والحماية عنه ، وكذا في المسائل اليقينية والأعمال الدينية أو حماية أهله وعشيرته بدفع الظلم عنهم ، فليس من العصبية والحمية المذمومة ، بل بعضها واجب.

ثم إن هذا الذم والوعيد في المتعصب ظاهر ، وأما المتعصب له فلا بد من تقييده بما إذا كان هو الباعث له والراضي به ، وإلا فلا إثم عليه ، وخلع ربقة الإيمان إما كناية عن خروجه من الإيمان رأسا للمبالغة أو عن إطاعة الإيمان للإخلال

١٧٤

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية.

٤ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن خضر ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من تعصب عصبه الله بعصابة من نار.

______________________________________________________

بشريعة عظيمة من شرائعه ، أو المعنى خلع ربقة من ربق الإيمان التي ألزمها الإيمان عليه من عنقه.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح ، وقد مضى مضمونه.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور وفي النهاية : الأعراب ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ، ولا يدخلونها إلا لحاجة ، وقال : الجاهلية الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين ، والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك ، انتهى.

وكأنه محمول على التعصب في الدين الباطل.

الحديث الرابع : مجهول.

وقال الجوهري : العصب الطي الشديد وتقول : عصب رأسه بالعصابة تعصيبا ، والعصب العمامة وكل ما يعصب به الرأس ، وقال الفيروزآبادي : العصابة بالكسر ما عصب به ، والعمامة ، وتعصب شد العمامة وأتى بالعصبية.

١٧٥

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن صفوان بن مهران ، عن عامر بن السمط ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال لم يدخل الجنة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين

______________________________________________________

الحديث الخامس : مجهول.

« لم تدخل الجنة » على بناء الأفعال ، والحمية الأنفة والغيرة ، وفي القاموس :

الحمي من لا يحتمل الضيم وحمي من الشيء كرضى حمية : أنف ، وفي النهاية : فيه أن المشركين جاءوا بسلى جزور فطرحوه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلي ، السلى : الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفا فيه وقيل : هو في الماشية السلى ، وفي الناس المشيمة ، والأول أشبه لأن المشيمة تخرج بعد الولد ولا يكون الولد فيها حين تخرج.

أقول : قد مرت قصة السلى في باب مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ذكره عليه‌السلام أن ذلك صار سببا لإسلام حمزة رضي‌الله‌عنه إشارة إلى ما رواه الطبرسي (ره) في إعلام الورى بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم بإسناده قال : كان أبو جهل تعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآذاه بالكلام ، واجتمعت بنو هاشم فأقبل حمزة وكان في الصيد فنظر إلى اجتماع الناس فقالت له امرأة من بعض السطوح : يا أبا يعلى إن عمرو بن هشام تعرض لمحمد وآذاه ، فغضب حمزة ومر نحو أبي جهل وأخذ قوسه فضرب بها رأسه ثم احتمله فجلد به الأرض واجتمع الناس وكاد يقع فيهم شر ، فقالوا : يا أبا يعلى صبوت إلى دين ابن أخيك؟ قال : نعم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله على جهة الغضب والحمية ، فلما رجع إلى منزله ندم فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا ابن أخ أحقا ما تقول؟ فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة من القرآن فاستبصر حمزة وثبت على دين الإسلام ، وفرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسر أبو طالب بإسلامه وقال في ذلك :

صبرا أبا يعلى على دين أحمد

وكن مظهرا للدين وفقت صابرا

١٧٦

أسلم غضبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث السلى الذي ألقي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

______________________________________________________

وحط من أتى بالدين من عند ربه

بصدق وحق ولا تكن حمز كافرا

فقد سرني إذ قلت أنك مؤمن

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وناد قريشا بالذي قد أتيته

جهارا وقل ما كان أحمد ساحرا

وأقول : قد اختلفوا في سبب إسلام حمزة قال علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي : ومما وقع له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة رضي‌الله‌عنه ، وهو ما حدث به ابن إسحاق عن رجل ممن أسلم أن أبا جهل مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصفا ، وقيل : عند الحجون ، فأذاه وشتمه ونال منه ما نكرهه ، وقيل : أنه صب التراب على رأسه ، وقيل : ألقى عليه فرثا ووطي برجله على عاتقه فلم يكلمه رسول الله ومولاة لعبد الله بن جذعان في مسكن لها تسمع ذلك وتبصره ، ثم انصرف رسول الله إلى نادى قريش فجلس معهم ، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشحا بسيفه ، راجعا من قنصه أي من صيده ، وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت ، فمر على تلك المولاة فأخبرته الخبر ، وقيل : أخبرته مولاة أخته صفية قالت له : إنه صب التراب على رأسه وألقى عليه فرثا ووطي برجله على عاتقه ، وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان ، فقال لها حمزة : أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت : نعم ، فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد ، فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه ورفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة ثم قال : أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد علي ذلك إن استطعت؟ وفي لفظ إن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول : سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ، فقالوا : ما نراك إلا قد صبأت! فقال حمزة : ما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله حق والله لا أنزع فامنعوني

١٧٧

٦ ـ عنه ، عن أبيه ، عن فضالة ، عن داود بن فرقد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

إن كنتم صادقين ، فقال لهم أبو جهل : دعوا أبا يعلى فإني والله قد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا وتم حمزة على إسلامه ، فقال لنفسه لما رجع إلى بيته : أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما صنعت! ثم قال : اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

يا بن أخي إني وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غي شديد! فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكره ووعظه ، وخوفه وبشره فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أشهد أنك لصادق فأظهر يا بن أخي دينك.

وقد قال ابن عباس في ذلك نزل : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » (١) يعني حمزة « كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » يعني أبا جهل ، وسر رسول الله بإسلامه سرورا كثيرا لأنه كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة (٢) ومن ثم لما عرفت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عز كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه ، وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم ، الذين لا جوار لهم ، انتهى.

وأقول : ظاهر بعض تلك الآثار أن قصة السلى التي مر ذكرها غير ما كان سبب إسلام حمزة ، ولم يذكر الأكثر قصة إمرار السلى على أسبالهم وما وقع في الخبرين هو المعتمد ، ولا تنافي بينهما لا مكان وقوع الأمرين معا في قصة السلى.

الحديث السادس : صحيح.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٢.

(٢) الشكيمة : الانفة والحمية.

١٧٨

قال إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ـ وكان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب فقال « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ».

______________________________________________________

« كانوا يحسبون أن إبليس منهم » أي في طاعة الله وعدم العصيان لمواظبته على عبادة الله تعالى أزمنة متطاولة ولم يكونوا يجوزون أنه يعصي الله ويخالفه في أمره لبعد عدم علم الملائكة بأنه ليس منهم بعد أن أسروه من بين الجن ورفعوه إلى السماء فهو من قبيل قولهم عليهم‌السلام : سلمان منا أهل البيت ، ويمكن أن يكون المراد كونه من جنسهم ويكون ذلك الحسبان لمشاهدتهم تباين أخلاقه ظاهرا للجن وتكريم الله تعالى له وجعله بينهم بل رئيسا على بعضهم كما قيل ، فظنوا أنه كان منهم وقع بين الجن ، أو يقال : كان الظان جمع من الملائكة لم يطلعوا على بدو أمره ، وعلى بعض هذه الوجوه أيضا يحمل ما روى العياشي عن جميل بن دراج قال : سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال : لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء ، وكان من الجن وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة ترى أنه منها وكان الله يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان.

« فاستخرج ما في نفسه » أي أظهر إبليس ما في نفسه أي أخذته الحمية والأنفة والعصبية وافتخر وتكبر على آدم بأن أصل آدم من طين وأصله من نار ، والنار أشرف من الطين وأخطأ في ذلك بجهات شتى : منها أنه إنما نظر إلى جسد آدم ولم ينظر إلى روحه المقدسة التي أودع الله فيها غرائب الشؤون ، وقد ورد ذلك في الأخبار ، ومنها أن ما ادعاه من شرافة النار وكونها أعلى من الطين في محل المنع ، فإن الطين لتذلله منبع لجميع الخيرات ، ومنشأ لجميع الحبوب والرياحين والثمرات ، والنار لرفعتها واشتعالها يحصل منها جميع الشرور والصفات الذميمة ، والأخلاق السيئة فثمرتها الفساد وآخرها الرماد ، وقد أوردنا بعض الكلام فيه في كتابنا الكبير.

١٧٩

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعلي بن محمد القاساني ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال سئل علي بن الحسين عليه‌السلام عن العصبية فقال العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار

______________________________________________________

ثم اعلم أن هذا الخبر مما يدل على أن إبليس لم يكن من الملائكة وقد اختلف أصحابنا والمخالفون في ذلك ، فالذي ذهب إليه أكثر المتكلمين من أصحابنا وغيرهم أنه لم يكن من الملائكة ، قال الشيخ المفيد برد الله مضجعه في كتاب المقالات : أن إبليس من الجن خاصة وأنه ليس من الملائكة ولا كان منها ، قال الله تعالى : « إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ » (١) وجاءت الأخبار متواترة عن أئمة الهدى من آل محمد عليهم‌السلام بذلك ، وهو مذهب الإمامية كلها وكثير من المعتزلة وأصحاب الحديث ، انتهى.

وذهب طائفة من المتكلمين إلى أنه من الملائكة واختاره من أصحابنا شيخ الطائفة روح الله روحه في التبيان (٢) وقال : وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام والظاهر في تفاسيرنا ، ثم قال رحمه‌الله : ثم اختلف من قال كان منهم فمنهم من قال أنه كان خازنا للجنان ومنهم من قال : كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ومنهم من

__________________

(١) سورة الكهف : ٥٠.

(٢) وقالوا في معنى قوله تعالى : « انه « كانَ مِنَ الْجِنِّ » اى صار من الجن كما ان قوله : « وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » معناه صار من الكافرين ، أو المعنى ان إبليس كان من طائفة من الملائكة يسمون جنا من حيث كانوا خزنة الجنة ، وقيل : سموا جنا لاجتنانهم من العيون واستشهدوا بقول الاعشى في سليمان :

« وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا اجر ».

الى آخر ما قالوا في جواب القائلين بانه كان من الجن ، وما يرد عليهم في ذلك ، ومن أراد الاطلاع على جميع الأقوال فليراجع المجلد الثالث والستين من الطبعة الحديثة من كتاب بحار الأنوار ص ٢٨٦.

١٨٠