مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله

______________________________________________________

عليه ألان له القول ، قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول؟ قال : يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه اتقاء فحشه.

قال عياض : قوله : لبئس ، ذم له في الغيبة والرجل عيينة بن حصن الفزاري ، ولم يكن أسلم حينئذ ، ففيه لا غيبة على فاسق ومبتدع ، وإن كان قد أسلم فيكون عليه‌السلام أراد أن يبين حاله ، وفي ذلك الذم يعني لبئس ، علم من أعلام النبوة ، فإنه ارتد وجيء به إلى أبي بكر وله مع عمر خبر.

وفيه أيضا أن المداراة مع الفسقة والكفرة مباحة وتستحب في بعض الأحوال بخلاف المداهنة المحرمة ، والفرق بينهما أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا ، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذل له من دنياه حسن العشرة وطلاقة الوجه ، ولم يرو أنه مدحه حتى يكون ذلك خلاف قوله لعائشة ، ولا من ذي الوجهين وهو عليه‌السلام منزه عن ذلك ، وحديثه هذا أصل في جواز المداراة وغيبة أهل الفسق والبدع.

وقال القرطبي : قيل أسلم هو قبل الفتح وقيل بعده ، ولكن الحديث دل على أنه شر الناس منزلة عند الله ولا يكون كذلك حتى يختم له بالكفر ، والله سبحانه أعلم بما ختم له وكان من المؤلفة وجفاة الأعراب.

وقال النخعي : دخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير إذن فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأين الإذن؟ فقال : ما استأذنت على أحد من مضر ، فقالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : هذا أحمق مطاع ، وهو على ما ترين سيد قومه ، وكان يسمى الأحمق المطاع ، وقال الآبي : هذا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعليم لغيره لأنه أرفع من أن يتقى فحش كلامه.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

٢٨١

عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شر الناس عند الله يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم.

٣ ـ عنه ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام من خاف الناس لسانه فهو في النار.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن أبي حمزة ، عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شر الناس يوم القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم.

(باب البغي)

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن ابن قداح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن أعجل الشر عقوبة البغي.

______________________________________________________

« يكرمون » على بناء المجهول.

الحديث الثالث : صحيح.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

باب البغي

الحديث الأول : ضعيف.

والبغي مجاوزة الحد وطلب الرفعة والاستطالة على الغير ، في القاموس : بغى عليه يبغي بغيا علا وظلم وعدل عن الحق واستطال وكذب ، وفي مشيته : اختال ، والبغي الكثير من البطر ، وفئة باغية خارجة عن طاعة الإمام العادل ، وقال الراغب : البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوزه ، فتارة يعتبر في الكمية وتارة في الكيفية ، يقال : بغيت الشيء إذا طلبت أكثر مما يجب ، وابتغيت كذلك ،

٢٨٢

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله

______________________________________________________

والبغي على ضربين محمود وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع ، ومذموم وهو تجاوز الحق إلى الباطل ، وبغى تكبر وذلك لتجاوزه منزلته إلى ما ليس له ويستعمل ذلك في أي أمر كان ، قال تعالى : « يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ » (١) وقال : « إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » (٢) و « بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ » (٣) « إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ » (٤) وقال تعالى : « فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي » (٥) فالبغي في أكثر المواضع مذموم ، انتهى.

والمراد بتعجيل عقوبته أنها تصل إليه في الدنيا أيضا بل تصل إليه فيها سريعا.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ، إن الباطل كان زهوقا.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من سل سيف البغي قتل به.

والظاهر أن ذلك من قبل الله تعالى عقوبة على البغي وزجرا عنه وعبرة ، لا لما قيل : سر ذلك أن الناس لا يتركونه بل ينالونه بمثل ما نالهم أو بأشد ، وتلك عقوبة حاضرة جلبها إلى نفسه من وجوه متكثرة ، انتهى ، وأقول : مما يضعف ذلك أنا نرى أن الباغي يبتلي غالبا بغير من بغى عليه.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

« فإنهما يعدلان » إلخ ، أي في الإخراج من الدين والعقوبة والتأثير في فساد

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢.

(٢) سورة يونس : ٢٣.

(٣) سورة الحجّ : ٦٠.

(٤) سورة القصص : ٧٦.

(٥) سورة الحجرات : ٩.

٢٨٣

عليه‌السلام قال يقول إبليس لجنوده ألقوا بينهم الحسد والبغي فإنهما يعدلان عند الله الشرك.

٣ ـ علي ، عن أبيه ، عن حماد ، عن حريز ، عن مسمع أبي سيار أن أبا عبد الله عليه‌السلام كتب إليه في كتاب انظر أن لا تكلمن بكلمة بغي أبدا وإن أعجبتك نفسك وعشيرتك.

٤ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ويعقوب السراج جميعا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام أيها الناس إن البغي يقود أصحابه إلى النار وإن أول من بغى على الله عناق بنت آدم فأول قتيل قتله الله عناق وكان مجلسها جريبا في جريب وكان لها عشرون إصبعا في كل إصبع

______________________________________________________

نظام العالم إذ أكثر المفاسد التي نشأت في العالم من مخالفة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام وترك طاعتهم ، وشيوع المعاصي إنما نشأت من هاتين الخصلتين كما حسد إبليس على آدم عليه‌السلام وبغى عليه ، وحسد الطغاة من كل أمة على حجج الله فيها ، فطغوا وبغوا فجعلوا حجج الله مغلوبين وسرى الكفر والمعاصي في الخلق.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« أن لا تكلم » وفي بعض النسخ أن لا تكلمن وهما إما على بناء التفعيل ، أي أحدا فإنه متعد أو على بناء التفعل بحذف إحدى التائين « بكلمة بغي » أي بكلام مشتمل على بغي ، أي جور أو تطاول « وإن أعجبتك نفسك وعشيرتك » الظاهر أن فاعل أعجبتك الضمير الراجع إلى الكلمة ، ونفسك بالنصب تأكيد للضمير وعشيرتك عطف عليه ، وقيل : نفسك فاعل أعجبت والأول أظهر.

الحديث الرابع : حسن كالصحيح.

وهذا جزء من خطبة طويلة أثبتها في أوائل الروضة ، وذكر أنه خطب بها بعد مقتل عثمان وبيعة الناس له « وكان مجلسها جريبا » قال في المصباح : الجريب الوادي ثم أستعير للقطعة المميزة من الأرض فقيل فيها جريب ، ويختلف مقداره

٢٨٤

ظفران مثل المنجلين فسلط الله عليها أسدا كالفيل وذئبا كالبعير ونسرا مثل البغل فقتلنها وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا.

______________________________________________________

بحسب اصطلاح أهل الأقاليم كاختلافهم في مقدار الرطل والكيل والذراع ، وفي كتاب المساحة : اعلم أن مجموع عرض كل سبع شعيرات معتدلات يسمى إصبعا والقبضة أربع أصابع ، والذراع ست قبضات ، وكل عشرة أذرع يسمى قصبة وكل عشر قبضات يسمى أشلا ، وقد يسمى مضروب الأشل في نفسه جريبا ، ومضروب الأشل في القصبة قفيزا ، ومضروب الأشل في الذراع عشيرا ، فحصل من هذا أن الجريب عشرة آلاف ذراع ، ونقل عن قدامة أن الأشل ستون ذراعا وضرب الأشل في نفسه يسمى جريبا فيكون ثلاثة آلاف وست مائة ، انتهى.

فقوله عليه‌السلام : في جريب كان المعنى مع جريب فيكون جريبين أو أطلق الجريب على أحد أضلاعه مجازا للإشعار بأنها كانت تملأ الجريب طولا وعرضا أو يكون الجريب في عرف زمانه عليه‌السلام مقدارا من امتداد المسافة كالفرسخ ، وفي تفسير علي بن إبراهيم : وكان مجلسها في الأرض موضع جريب.

والمنجل كمنبر حديدة يحصد بها الزرع ، والنسر طائر معروف له قوة في الصيد ، ويقال لا مخلب له ، وإنما له ظفر كظفر الدجاجة ، وفي تفسير علي بن إبراهيم ونسرا كالحمار « وكان ذلك في الخلق الأول » أي كانت تلك الحيوانات كذلك في أول الخلق في الكبر والعظم ، ثم صارت صغيرة كالإنسان ، و « آمن » أفعل تفضيل وما مصدرية « وكانوا » تامة والمصدر إما بمعناه أو استعمل في ظرف الزمان نحو رأيته مجيء الحاج ، وعلى التقديرين نسبة الأمن إليه على التوسع والمجاز.

والحاصل أن الله عز وجل قتل الجبارين الذين جبروا خلق الله على ما أرادت نفوسهم الخبيثة من الأوامر والنواهي وبغوا عليهم ولم يرفقوا بهم على أحسن الأحوال والشوكة والقدرة لفسادهم ، فلا يغتر الظالم بأمنه واجتماع أسباب عزته ، فإن الله هو القوي العزيز.

٢٨٥

(باب)

(الفخر والكبر)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة الثمالي قال قال علي بن الحسين عليه‌السلام عجبا للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آفة الحسب الافتخار والعجب.

______________________________________________________

باب الفخر والكبر

الحديث الأول : صحيح.

وقد مر بعض القول في ذم الكبر والفخر ودوائهما ، والتفكر في أمثال تلك الأخبار ، وزجر النفس على خلاف هاتين الرذيلتين مما ينفع في التخلص منهما كما مرت الإشارة إليه.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

والحسب : الشرف والمجد الحاصل من جهة الآباء وقد يطلق على الشرافة الحاصلة من الأفعال الحسنة والأخلاق الكريمة ، وإن لم تكن من جهة الآباء ، في القاموس : الحسب ما تعده من مفاخر آبائك أو المال أو الدين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الفعال الصالح ، أو الشرف الثابت في الآباء أو البال ، أو الحسب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء ، والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم.

وأقول : الخبر يحتمل وجوها « الأول » أن لكل شيء آفة تضيعه ، وآفة الشرافة من جهة الآباء الافتخار والعجب الحاصلان منها ، فإنه يبطل بهما هذا الشرف الحاصل له بتوسط الغير عند الله وعند الناس.

الثاني : أن المراد بالحسب الأخلاق الحسنة والأفعال الصالحة ويضيعهما

٢٨٦

٣ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن محمد بن إسماعيل ، عن حنان ، عن عقبة بن بشير الأسدي قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أنا عقبة بن بشير الأسدي وأنا في الحسب الضخم من قومي قال فقال ما تمن علينا بحسبك إن الله رفع بالإيمان من كان الناس يسمونه وضيعا إذا كان مؤمنا ووضع بالكفر من كان الناس يسمونه شريفا إذا كان كافرا فليس لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى.

______________________________________________________

الافتخار بهما وذكرهما ، والإعجاب بهما كما مر.

الثالث : أن يكون المراد به أن الحسب يستتبع آفة الافتخار ويوجبها ، لا أن آفة الافتخار بالحسب تضيعه كما قيل ـ والأول أظهر الوجوه ، ويؤيده ما روي في شهاب الأخبار ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : آفة العلم النسيان ، وآفة الحديث الكذب وآفة الحلم السفه ، وآفة العبادة الفترة ، وآفة الشجاعة البغي ، وآفة السماحة المن وآفة الجمال الخيلاء ، وآفة الحسب الفخر ، وآفة الظرف الصلف (١) وآفة الجود السرف وآفة الدين الهوى.

وقال الراوندي (ره) في ضوء الشهاب : نهي الحسيب عن الاستطالة والتفاخر الذي يضع الرفيع وكفاك مانعا من الافتخار قوله عليه‌السلام : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ومعناه أني لا أذكر ذلك على سبيل الافتخار والمبارأة وإلا فأي مظنة فخر فوق سيادة سيد ولد آدم.

الحديث الثالث : مجهول.

وفي القاموس : الضخم بالفتح وبالتحريك العظيم من كل شيء « ما تمن » ما للاستفهام الإنكاري أو نافية « فليس لأحد » إشارة إلى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) الظرف : البراعة وذكاء القلب ، وقيل : حسن العبارة ، وقال الجزريّ في النهاية : الظرف في اللسان : البلاغة ، وفي الوجه : الحسن ، وفي القلب : الذكاء ، وقال في مادة « صلف » : آفة الظرف الصلف ، هو الغلوّ في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبر.

٢٨٧

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عيسى بن الضحاك قال قال أبو جعفر عليه‌السلام عجبا للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به.

______________________________________________________

أَتْقاكُمْ » (١) وكفى بهذه الآية واعظا وزاجرا عن الكبر والفخر.

الحديث الرابع : مجهول.

« وعجبا » بالتحريك مصدر باب علم ، وهو إما بتقدير حرف النداء أو مفعول مطلق لفعل محذوف ، أي عجبت عجبا ، فعلى الأول « للمتكبر » صفة لقوله عجبا وعلى الثاني خبر مبتدإ محذوف بتقدير هو للمتكبر والضمير المحذوف راجع إلى عجبا ، وقال النحويون : لا يمكن أن يكون صفة لعجبا لأن الفعل كما لا يكون موصوفا فكذلك النائب الوجوبي له لا يكون موصوفا ، وحذف الفعل وإقامة المصدر مقامه في تلك المواضع واجب.

وروى الراوندي قدس‌سره في ضوء الشهاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجبا كل العجب للمختال الفخور ، وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفة وهو بين ذلك لا يدري ما يفعل به ، ثم قال (ره) : العجب والتعجب حالة تعرض للإنسان عند جهله بسبب الشيء ، وقيل : العجب ما لا يعرف سببه ولا يوصف الله تعالى بذلك لأنه عالم لذاته وقوله عليه‌السلام : عجبا ، الألف فيه بدل من الياء ، لأنهم كثيرا ما يفزعون من الكسرة إلى الفتحة طلبا للخفة كأنه ينادي عجب نفسه ويستحضره لما يرى ويستبدع ، وهذا على التشبيه والتمثيل ، وإلا فالعجب لا ينادي ويجوز أن يكون كل العجب بدلا من عجبي ، ويجوز أن يكون حالا من عجبي ، ويجوز أن يكون صفة مصدر يدل عليه الكلام كأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أعجب عجبا كل العجب ، ثم حذف فقال : أعجب كل العجب ، ويجوز أن يكون الألف للندبة.

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٣.

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال (ره) في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عجبا للمؤمن ، عجبا مصدر فعل محذوف ، أي عجبت عجبا.

وأقول : هذا الخبر وأمثاله نسخ أدوية من الحكماء الربانية لمعالجة أعظم الأدواء الروحانية وهو الفخر المترتب على الكبر ، وحاصلها أن في الإنسان كثير من صفات النقصان ، وإن كان فيه كمال فمن رب الإنس والجان ، فلا يليق به أن يفتخر على غيره من الإخوان ، وفيها إشعار بأن دفع هذا المرض باختياره وعلاجه مركب من أجزاء علمية وعملية ، فأما العلمية فبأن يعرف الله سبحانه بجلاله ويوحده في ذاته وصفاته وأفعاله وأن يعلم أن كل موجود سواه مقهور مغلوب عاجز لا وجود له إلا بفيض وجوده ورحمته وأن الإنسان مخلوق من أكثف الأشياء وأخسها وهو التراب ، ثم النطفة النجسة القذرة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم الجنين الذي غذاؤه دم الحيض ، ثم يصير في القبر جيفة منتنة يهرب منه أقرب الناس إليه ، وهو فيما بين ذلك ينقلب من طور إلى طور ومن حال إلى حال ، من مرض إلى صحة ، ومن صحة إلى مرض إلى غير ذلك من الأحوال المتبادلة ، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا نشورا.

وإلى هذا أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : وهو فيما بين ذلك ما يدري ما يصنع به ثم لا يعلم ما يأتي عليه في البرزخ والقيامة ، كما ذكر سابقا في باب الكبر.

وأنه يعلم أن استكمال كل شيء سواء كان طبيعيا أو إراديا لا يتحقق إلا بالانكسار والضعف ، فإن العناصر ما لم تنكسر صورة كيفياتها الصرفة لم تقبل صورة كمالية معدنية أو حيوانية أو إنسانية ، والبذر ما لم يقع في التراب ولم يقرب من التعفن والفساد لم يقبل صورة نباتية ولم تخرج منه سنبلة ولا ثمر ، وماء الظهر ما لم يصر منيا منتنا لم تفض عليها صورة إنسانية قابلة للخلافة الربانية.

٢٨٩

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فقال يا رسول الله أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أما إنك عاشرهم في النار.

______________________________________________________

فمن تفكر في أمثال هذه الحكم والمعارف أمكنه التحرز من الكبر والفخر بفضله تعالى.

وأما العملية فهي المداومة على التواضع لكل عالم وجاهل وصغير وكبير ، والاقتداء بسنن النبي والأئمة الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم ، وتتبع سيرهم وأخلاقهم وحسن معاشرتهم لجميع الخلق.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

« أما إنك عاشرهم في النار » أي أن آباءك كانوا كفارا وهم في النار ، فما معنى افتخارك بهم وأنت أيضا مثلهم في الكفر باطنا ، إن كان منافقا ، أو ظاهرا أيضا إن كان كافرا ، فلا وجه لافتخارك أصلا.

والحاصل أن عمدة أسباب الفخر بل أشيعها وأكثرها الفخر بالآباء وهو باطل لأن آباءه إن كانوا كفرة أو ظلمة فهم من أهل النار ، فينبغي أن يتبرء منهم لا أن يفتخر بهم وإن كان باعتبار أن لهم ما لا فليعلم أن المال ليس بكمال يقع به الافتخار ، بل ورد في ذمه كثير من الأخبار ، ولو كان كمالا كان لهم لا له ، والعاقل لا يفتخر بكمال غيره ، وإن كان باعتبار أنه كان خيرا أو فاضلا أو عالما فهذا أجهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره ، ولذلك قيل :

لئن فخرت بآباء ذوي شرف

لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا (١)

فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته كمال غيره ، وأيضا ينبغي أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه نطفة قذرة ، وجده البعيد تراب ذليل ، وقد عرفه الله نسبه فقال : « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ

__________________

(١) وقال الشاعر الفارسيّ :

گيرم پدر تو بود فاضل

از فضل پدر تو را چه حاصل

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » (١) فمن أصله من التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينته حتى صار حمأ مسنونا كيف يتكبر ، وأخس الأشياء ما إليه نسبه ، فإن قال : أفتخر بالأب القريب فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحتقر نفسه بهما.

والسبب الثاني الحسن والجمال فإن افتخر به فليعلم أنه قد يزول بأدنى الأمراض والأسقام ، وما هو في عرضة الزوال ليس بكمال يفتخر به ، ولينظر أيضا إلى أصله وما خلق منه كما مر ، وإلى ما يصير إليه في القبر من جيفة منتنة ، وإلى ما في باطنه من الخبائث مثل الأقذار التي في جميع أعضائه والرجيع الذي في أمعائه ، والبول الذي في مثانته ، والمخاط الذي في أنفه ، والوسخ الذي في أذنيه ، والدم الذي في عروقه ، والصديد الذي تحت بشرته ، إلى غير ذلك من المقابح والفضائح ، فإذا عرف ذلك لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن.

الثالث : القوة والشجاعة ، فمن افتخر بها فليعلم أن الذي خلقه هو أشد منه قوة ، وأن الأسد والفيل أقوى منه ، وأن أدنى العلل والأمراض تجعله أعجز من كل عاجز ، وأذل من كل ذليل ، وأن البعوضة لو دخلت في أنفه أهلكته ولم يقدر على دفعها.

الرابع : الغناء والثروة.

الخامس : كثرة الأنصار والأتباع والعشيرة وقرب السلاطين والاقتدار من جهتهم ، والكبر والفخر بهذين السببين أقبح لأنه أمر خارج عن ذات الإنسان وصفاته ، فلو تلف ماله أو غصب أو نهب أو تغير عليه السلطان وعزله لبقي ذليلا عاجزا ، وإن من فرق الكفار من هو أكثر منه مالا وجاها ، فالمتكبر بهما في غاية الجهل.

__________________

(١) سورة السجدة : ٨.

٢٩١

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آفة الحسب الافتخار.

______________________________________________________

السادس : العلم وهذا أعظم الأسباب وأقواها فإنه كمال نفساني عظيم عند الله تعالى وعند الخلائق ، وصاحبه معظم عند جميع المخلوقات ، فإذا تكبر العالم وافتخر فليعلم أن خطر أهل العلم أكثر من خطر أهل الجهل ، وأن الله تعالى يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العالم ، وأن العصيان مع العلم أفحش من العصيان مع الجهل ، وأن عذاب العالم أشد من عذاب الجاهل ، وأنه تعالى شبه العالم الغير العامل تارة بالحمار وتارة بالكلب ، وأن الجاهل أقرب إلى السلامة من العالم لكثرة آفاته وأن الشياطين أكثرهم على العالم ، وأن سوء العاقبة وحسنها أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه ، فلعل الجاهل يكون أحسن عاقبة من العالم.

السابع : العبادة والورع والزهادة ، والفخر فيها أيضا فتنة عظيمة ، والتخلص منها صعب ، فإذا غلب عليه فليتفكر أن العالم أفضل منه فلا ينبغي أن يفتخر عليه ، ولا ينبغي أيضا أن يفتخر على من تأخر عنه في العلم أيضا إذ لعل قليل عمله يكون مقبولا وكثير عمله مردودا ولا على الجاهل والفاسق إذ قد يكون لهما خصلة خفية وصفة قلبية موجبة لقرب الرب سبحانه ورحمته ، ولو فرض خلوهما عن جميع ذلك بالفعل فلعل الأحوال في العاقبة تنعكس ، وقد وقع مثل ذلك كثيرا ، ولو فرض عدم ذلك فليتصور أن تكبره في نفسه شرك ، فيحبط عمله فيصير هو في الآخرة مثلهم بل أقبح منهم والله المستعان.

الحديث السادس : قد مر سندا ومتنا إلا زيادة « والعجب » في آخر الأول ، وكان الراوي رواه على الوجهين.

٢٩٢

(باب القسوة)

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن عمرو بن عثمان ، عن علي بن عيسى رفعه قال فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه‌السلام يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك والقاسي القلب مني بعيد.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن حفص ، عن إسماعيل بن دبيس عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا خلق الله العبد في أصل الخلقة كافرا لم يمت حتى يحبب الله إليه الشر فيقرب منه فابتلاه بالكبر والجبرية فقسا قلبه وساء

______________________________________________________

باب القسوة

الحديث الأول : مجهول مرفوع.

« لا تطول في الدنيا أملك » تطويل الأمل هو أن ينسى الموت ويجعله بعيدا ، ويظن طول عمرة أو يأمل آمالا كثيرة لا تحصل إلا في عمر طويل ، وذلك يوجب قساوة القلب وصلابته وشدته ، أي عدم خشوعه وتأثره عن المخاوف وعدم قبوله للمواعظ ، كما أن تذكر الموت يوجب رقة القلب ووجله عند ذكر الله والموت والآخرة ، قال الجوهري : قسا قلبه قسوة وقساوة وقساء وهو غلظ القلب وشدته ، وأقساه الذنب ، ويقال : الذنب مقساة للقلب.

الحديث الثاني : مرسل.

قيل : قوله كافرا ، حال عن العبد ، فلا يلزم أن يكون كفره مخلوقا لله تعالى.

أقول : كأنه على المجاز ، فإنه تعالى لما خلقه عالما بأنه سيكفر فكأنه خلقه كافرا ، أو الخلق بمعنى التقدير ، والمعاصي يتعلق بها التقدير ببعض المعاني كما مر تحقيقه ، وكذا تحبيب الشر إليه مجاز فإنه لما سلب عنه التوفيق لسوء أعماله وخلي بينه وبين نفسه وبين الشيطان فأحب الشر فكأن الله حببه إليه ،

٢٩٣

خلقه وغلظ وجهه وظهر فحشه وقل حياؤه وكشف الله ستره وركب المحارم فلم ينزع عنها ثم ركب معاصي الله وأبغض طاعته ووثب على الناس لا يشبع من الخصومات فاسألوا الله العافية واطلبوها منه.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمتان لمة من الشيطان ولمة من الملك فلمة

______________________________________________________

كما قال سبحانه : « حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ » (١) وإن كان الظاهر أن الخطاب لخلص المؤمنين.

« فيقرب منه » أي العبد من الشر أو الشر من العبد ، وعلى التقديرين كأنه كناية عن ارتكابه ، وقال الجوهري : يقال : فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة مثال فروجة أي كبر ، وغلظ الوجه كناية عن العبوس أو الخشونة وقلة الحياء « وكشف الله ستره » كناية عن ظهور عيوبه للناس ، وقيل : المراد به كشف سره الحاجز بينه وبين القبائح وهو الحياء ، فيكون تأكيدا لما قبله.

وأقول : الأول أظهر كما ورد في الخبر « ثم ركب المحارم » (٢) أي الصغائر مصرا عليها ، لقوله : فلم ينزع عنها ، أي لم يتركها « ثم ركب معاصي الله » أي الكبائر ، وقيل : المراد بالأول الذنوب مطلقا ، وبالثاني حبها أو استحلالها بقرينة قوله : « وأبغض طاعته » لأن بغض الطاعة يستلزم حب المعصية ، أو المراد بها ذنوبه بالنسبة إلى الخلق ، والوثوب على الناس كناية عن المجادلات والمعارضات.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

وقال الجزري : في حديث ابن مسعود : لابن آدم لمتان لمة من الملك ولمة من الشيطان ، اللمة : الهمة والخطرة تقع في القلب ، أراد إلمام الملك أو الشيطان به و

__________________

(١) سورة الحجرات : ٧.

(٢) وفي المتن « وركب المحارم ».

٢٩٤

الملك الرقة والفهم ولمة الشيطان السهو والقسوة.

(باب الظلم)

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم ، عن المفضل بن صالح ، عن سعد بن طريف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال الظلم ثلاثة ظلم يغفره الله وظلم لا يغفره الله وظلم لا يدعه الله فأما الظلم الذي لا يغفره

______________________________________________________

القرب منه ، فما كان من خطرات القلب فهو من الملك ، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان ، انتهى.

« فلمة الملك الرقة والفهم » أي هما ثمرتها أو علامتها ، والحمل على المجاز لأن لمة الملك إلقاء الخير والتصديق بالحق في القلب ، وثمرتها رقة القلب وصفاؤه وميلة إلى الخير ، وكذا لمة الشيطان إلقاء الوساوس والشكوك والميل إلى الشهوات في القلب ، وثمرتها السهو عن الحق والغفلة عن ذكر الله وقساوة القلب. (١)

باب الظلم

الحديث الأول : ضعيف.

والظلم وضع الشيء غير موضعه ، فالمشرك ظالم لأنه جعل غير الله تعالى شريكا له ، ووضع العبادة في غير محلها ، والعاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة ، فالشرك كأنه يشمل كل إخلال بالعقائد الإيمانية ، والمراد المغفرة بدون التوبة

__________________

(١) وقال سيدنا الأستاذ الطباطبائى دام ظله ـ على ما حكى عنه ـ قوله عليه‌السلام : الرقة والفهم ـ وقوله ـ السهو والغفلة ، من قبيل بيان المصداق ، والأصل في ذلك قوله تعالى : « الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ ، وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » والمقابلة بين الوعدين يدلّ على أن أحدهما من الملك والاخر من الشيطان.

٢٩٥

فالشرك وأما الظلم الذي يغفره فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله وأما الظلم الذي لا يدعه فالمداينة بين العباد.

٢ ـ عنه ، عن الحجال ، عن غالب بن محمد عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ » (١) قال قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة.

______________________________________________________

كما قال عز وجل : « إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » (٢).

« وأما الظلم الذي يغفره » أي يمكن أن يغفره بدون التوبة كما قال « لِمَنْ يَشاءُ » « وأما الظلم الذي لا يدعه » أي لا يترك مكافأته في الدنيا أو الأعم ، ولعل التفنن في العبارة لأنه ليس من حقه سبحانه حتى يتعلق به المغفرة ، أو المعنى لا يدع تداركه للمظلوم إما بالانتقام من الظالم أو بالتعويض للمظلوم ، فلا ينافي الأخبار الدالة على أنه إذا أراد تعالى أن يغفر لمن عنده من حقوق الناس يعوض المظلوم حتى يرضى « والمداينة بين العباد » أي المعاملة بينهم كناية عن مطلق حقوق الناس ، فإنها تترتب على المعاملة بينهم أو المراد به المحاكمة بين العباد في القيامة ، فإن سببها حقوق الناس ، قال الجوهري : داينت فلانا إذا عاملته فأعطيت دينا وأخذت بدين ، والدين الجزاء والمكافاة ، يقال : دانه دينا أي جازاه.

الحديث الثاني : مرسل « إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ » قال في المجمع : المرصاد الطريق ، مفعال من رصده يرصده رصدا رعي ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه أي عليه طريق العباد ، فلا يفوته أحد ، والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمالهم لأنه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد ، وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال : معناه إن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

__________________

(١) سورة الفجر : ١٤.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

٢٩٦

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن وهب بن عبد ربه وعبيد الله الطويل ، عن شيخ من النخع قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام إني لم أزل واليا منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا فهل لي من توبة قال فسكت ثم أعدت عليه فقال لا حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن

______________________________________________________

وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد ، وقال عطاء : يعني يجازى كل أحد وينتصف من الظالم للمظلوم ، وروي عن ابن عباس في هذه الآية قال : إن على جسر جهنم سبع مجالس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم فإن جاء بها تامة جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة ، وفي القاموس : المرصاد الطريق والمكان يرصد فيه العدو وقال : القنطرة الجسر وما ارتفع من البنيان ، والمظلمة بكسر اللام ما تطلبه عند الظالم وهو اسم ما أخذ منك ، ذكره الجوهري.

الحديث الثالث : مجهول.

والنخع بالتحريك قبيلة باليمن منهم مالك الأشتر « حتى تؤدي » أي مع معرفتهم وإمكان الإيصال إليهم ، وإلا فالتصدق أيضا لعله قائم مقام الإيصال كما هو المشهور ، إلا أن يقال أرباب الصدقة أيضا ذوو الحقوق في تلك الصورة ، ولعله عليه‌السلام لما علم أنه لا يعمل بقوله لم يبين له المخرج من ذلك ، والله يعلم.

الحديث الرابع : موثق.

٢٩٧

إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الوليد بن صبيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما من مظلمة أشد من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونا إلا الله عز وجل.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن إسماعيل بن مهران ، عن درست بن أبي منصور ، عن عيسى بن بشير ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لما حضر علي بن الحسين عليه‌السلام الوفاة ضمني إلى صدره ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي عليه‌السلام حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله.

٦ ـ عنه ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم ، عن حفص بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه من خاف القصاص كف عن ظلم الناس.

______________________________________________________

« لا يجد صاحبها عونا » أي لا يمكنه الانتصار في الدنيا لا بنفسه ولا بغيره ، وظلم الضعيف العاجز أفحش ، وقيل : المعنى أنه لا يتوسل في ذلك إلى أحد ، ولا يستعين بحاكم ، بل يتوكل على الله ويؤخر انتقامه إلى يوم الجزاء ، والأول أظهر ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : قال الله عز وجل : اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري ، وروي أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن العبد إذا ظلم فلم ينتصر ولم يكن من ينصره ورفع طرفه إلى السماء فدعا الله تعالى ، قال جل جلاله : لبيك عبدي أنصرك عاجلا وآجلا ، اشتد غضبي على من ظلم أحدا لا يجد ناصرا غيري.

الحديث الخامس : ضعيف.

الحديث السادس : مجهول.

وضمير عنه راجع إلى أحمد ، فينسحب عليه العدة.

وقيل : المراد بالقصاص قصاص الدنيا ولا يخفى قلة فائدة الحديث حينئذ ، بل المعنى أن من خاف قصاص الآخرة ومجازاة أعمال العباد كف نفسه عن ظلم

٢٩٨

٧ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن إسحاق بن عمار قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام من أصبح لا ينوي ظلم أحد غفر الله له ما أذنب

______________________________________________________

الناس ، فلا يظلم أحدا ، والغرض التنبيه على أن الظالم لا يؤمن ولا يوقن بيوم الحساب ، فهو على حد الشرك بالله والكفر بما جاءت به رسل الله عليهم‌السلام ، ويحتمل أن يكون المراد القصاص في الدنيا ، لكن للتنبيه على ما ذكرنا أي من خاف قصاص الدنيا ترك ظلم الناس ، مع أنه لا قدر له في جنب قصاص الآخرة فمن لا يخاف قصاص الدنيا ويجترئ على الظلم فمعلوم أنه لا يخاف عقاب الآخرة ، ولا يؤمن به ، فيرجع إلى الأول مع مزيد تأكيد وتنبيه.

الحديث السابع : موثق.

وظاهره أن من دخل الصباح على تلك الحالة وهي أن لا يقصد ظلم أحد غفر الله له كل ما صدر عنه من الذنوب غير القتل وأكل مال اليتيم ، وكان المراد بعدم النية العزم على العدم ، ولا ينافي ذلك صدوره منه في أثناء اليوم ، لكن ينافي ذلك الأخبار الكثيرة الدالة على المؤاخذة بحقوق الناس ، وقد مر بعضها ، وتخصيص هذه الأخبار الكثيرة بل ظواهر الآيات أيضا بمثل هذا الخبر مشكل ، وإن قيل : بأن الله تعالى يرضي المظلوم.

ويمكن توجيهه بوجوه : الأول : أن يكون الغرض استثناء جميع حقوق الناس سواء كان في أبدانهم أو في أموالهم ، وذكر من كل منهما فردا على المثال ، لكن خص أشدهما ، ففي الأبدان القتل ، وفي الأموال أكل مال اليتيم ، فيكون حاصل الحديث أن من أصبح غير قاصد بالظلم ولم يأت به في ذلك اليوم غفر الله له كل ما كان بينه وبين الله تعالى من الذنوب كما هو ظاهر الخبر الآتي.

الثاني : أن يكون التخصيص لأنهما من الكبائر والباقي من الصغائر كما هو ظاهر أكثر أخبار الكبائر ، وما سواهما من الكبائر من حقوق الله ، ويمكن شمول

٢٩٩

ذلك اليوم ما لم يسفك دما أو يأكل مال يتيم حراما.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصبح لا يهم بظلم أحد غفر الله ما اجترم.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه أو في ماله أو في ولده.

١٠ ـ ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال

______________________________________________________

سفك الدم للجراحات أيضا ولا استبعاد كثيرا في كون هذا العزم في أول اليوم مع ترك كبائر حقوق الناس مكفرا لحقوق الله وسائر حقوق الناس بأن يرضى الله الخصوم.

الثالث : أن يكون المعنى من أصبح ولم يهم بظلم أحد ولم يأت به في أثناء اليوم أيضا غفر الله له ما أذنب من حقوقه تعالى ما لم يسفك دما قبل ذلك اليوم ولم يأكل مال يتيم قبل ذلك اليوم ، ولم يتب منهما ، فإن من كانت ذمته مشغولة بمثل هذين الحقين لا يستحق لغفران الذنوب ، وعلى هذا يحتمل أن يكون « ذلك اليوم » ظرفا للغفران لا للذنب ، فيكون الغفران شاملا لما مضى أيضا كما هو ظاهر الخبر الآتي وقد يأول الغفران بأن الله يوفقه لئلا يصر على كبيرة ، ولا يخفى بعده.

ثم اعلم أن قوله : حراما يحتمل أن يكون حالا عن كل من السفك والأكل فالأول للاحتراز عن القصاص وقتل الكفار والمحاربين ، والثاني للاحتراز عن الأكل بالمعروف وأن يكون حالا عن الأخير لظهور الأول.

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

وفي القاموس : جرم فلان أذنب ، كأجرم واجترم فهو مجرم ، و « ما » يحتمل المصدرية والموصولة.

الحديث التاسع : حسن كالصحيح وسيأتي الكلام في مؤاخذة الولد.

الحديث العاشر : كالسابق ومعلق عليه.

٣٠٠