مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الطعام والمال الذي يباع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاد يعلمه وسلطان يحرسه ، ويدفع عنه ظلم الأشرار ، فحبه أن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم ، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم ، فإن ألجأه وسيلة إلى الأغراض كالمال ، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه في أعيانهما محبوبين بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون في داره بيت ماء لأنه يضطر إليه لقضاء حاجته وبوده (١) لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء ، وهذا على التحقيق ليس بحب لبيت الماء ، فكل ما يراد به التوصل إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوسل إليه ، وتدرك التفرقة بمثال وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث أنه يدفع بها فضلة الشهوة ، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ، ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به ، وقد يحب زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها ، فهذا هو الحب دون الأول ، فكذلك الجاه والمال قد يحب كل واحد منهما من هذين الوجهين فحبهما لأجل التوسل إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية ، وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة ، فإن التوصل إلى المال والجاه بالعبادة جناية على الدين وهو حرام ، وإليه يرجع معنى الرياء المخطور كما مر.

__________________

(١) كذا في نسخة المؤلّف (ره) وساير النسخ التي عندنا.

١٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : طلب الجاه والمنزلة في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيف ما كان ، أو مباح إلى حد مخصوص أو على وجه مخصوص؟.

فأقول : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه ، وجهان منها مباح ووجه منها مخطور أما المخطور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة هو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع ، ولا يكون كذلك فهذا حرام لأنه تلبيس وكذب إما بالقول وإما بالفعل ، وأما المباح فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف عليه‌السلام : « اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ » فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما ، وكان محتاجا إليه ، وكان صادقا فيه ، والثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه ، حتى لا يعلمه فلا تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ، لأن حفظ الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح ، فهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به ، كالذي يخفى عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع ، فإن قوله : إني ورع تلبيس ، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاده الورع بل يمنع العلم بالشرب.

ومن جملة المخطورات تحسين الصلاة بين يديه لتحسن فيه اعتقاده ، فإن ذلك رياء وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله ، وهو مرائي بما يفعله فكيف يكون مخلصا ، فطلب الجاه بهذا الطريق حرام ، وكذا بكل معصية ، وذلك يجري مجرى اكتساب المال من غير فرق ، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو في غيره ، فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع ، فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال.

١٢٢

٢ ـ عنه ، عن أحمد ، عن سعيد بن جناح ، عن أخيه أبي عامر ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من طلب الرئاسة هلك.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عبد الله بن مسكان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك

٤ ـ عنه ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع وغيره رفعوه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام ملعون من ترأس ملعون من هم بها ملعون من حدث بها نفسه.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن أيوب ، عن أبي عقيلة الصيرفي قال حدثنا كرام ، عن أبي حمزة الثمالي قال قال لي أبو عبد الله

______________________________________________________

الحديث الثاني : مرسل.

الحديث الثالث : صحيح.

وقال الجوهري : رأس فلان القوم يرأس بالفتح رئاسة وهو رئيسهم ، ورأسته أنا ترئيسا فترأس هو وارتأس عليهم ، وقال : خفق الأرض بنعله وكل ضرب بشيء عريض : خفق.

أقول : وهذا أيضا محمول على الجماعة الذين كانوا في أعصار الأئمة عليهم‌السلام ويدعون الرئاسة من غير استحقاق ، أو تحذير عن تسويل النفس وتكبرها واستعلائها باتباع العوام ورجوعهم إليه ، فيهلك بذلك ويهلكهم بإضلالهم وإفتائهم بغير علم ، مع أن زلات علماء الجور مسرية إلى غيرهم ، لأن كل ما يرون منهم يزعمون أنه حسن فيتبعونهم في ذلك ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخاف على أمتي زلة عالم.

الحديث الرابع : مرفوع.

« من ترأس » أي ادعى الرئاسة بغير حق ، فإن التفعل غالبا يكون للتكليف.

الحديث الخامس : مجهول إذ في أكثر نسخ الكافي عن أبي عقيل وفي بعضها عن أبي عقيلة ، والظاهر أنه كان أيوب بن أبي غفيلة لأن الشيخ ذكر في الفهرست

١٢٣

عليه‌السلام إياك والرئاسة وإياك أن تطأ أعقاب الرجال قال قلت جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها وأما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطئت أعقاب الرجال فقال لي ليس حيث تذهب إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي الربيع الشامي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال لي ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة ولا تكن ذئبا ـ ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك

______________________________________________________

الحسن بن أيوب بن أبي غفيلة ، وقال النجاشي : له كتاب أصل ، وكون كتابه أصلا ، عندي مدح عظيم فالخبر حسن موثق « إلا مما وطأت أعقاب الرجال. » أي مشيت خلفهم لأخذ الرواية عنهم ، فأجاب عليه‌السلام بأنه ليس الغرض النهي عن ذلك ، بل الغرض النهي عن جعل غير الإمام المنصوب من قبل الله تعالى بحيث تصدقه في كل ما يقول ، وقيل : وطؤ العقب كناية عن الاتباع في الفعال ، وتصديق المقال واكتفى في تفسيره بأحدهما لاستلزامه الآخر غالبا.

الحديث السادس : مجهول.

« ولا تكن ذنبا » أي تابعا للجهال والمترئسين وعلماء السوء قال في النهاية : الأذناب الأتباع جمع ذنب كأنهم في مقابل الرؤوس ، وهم المقدمون وفي بعض النسخ ذئبا بالهمز ، فيكون تأكيدا للفقرة السابقة ، فإن رؤساء الباطل ذئاب يفترسون الناس ويهلكونهم من حيث لا يعلمون « ولا تأكل بنا الناس » أي لا تجعل انتسابك إلينا بالتشيع أو العلم أو النسب مثلا وسيلة لأخذ أموال الناس أو إضرارهم ، أو لا تجعل وضع الأخبار فينا وسيلة لأخذ أموال الشيعة « فيفقرك الله » على خلاف مقصودك « ما لا نقول في أنفسنا » كالربوبية والحلول والاتحاد ونسبة خلق العالم إليهم ، أو كونهم أفضل من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الأعم منها ومن التقصير في حقهم « فإنك موقوف »

١٢٤

موقوف ومسئول لا محالة فإن كنت صادقا صدقناك وإن كنت كاذبا كذبناك.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن منصور بن العباس ، عن ابن مياح ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من أراد الرئاسة هلك.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أترى لا أعرف خياركم من شراركم بلى والله وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه إنه لا بد من كذاب أو عاجز الرأي.

______________________________________________________

أي يوم القيامة ومسئول عما قلت فينا لقوله تعالى : « وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ » (١) وفي القاموس : لا محالة منه بالفتح لا بد منه.

الحديث السابع : ضعيف.

الحديث الثامن : صحيح.

« أترى » على المعلوم أو المجهول استفهام إنكار « أنه لا بد » قيل : الضمير اسم إن وراجع إلى أن يوطأ ، ولا بد جملة معترضة و « من كذاب » خبر إن ومن للابتداء أو الضمير للشأن ومن كذاب ظرف لغو متعلق بلا بد بتقدير لا بد لنا من كذاب ، وقيل : أي لا بد في الأرض من كذاب يطلب الرئاسة ومن عاجز الرأي يتبعه.

أقول : ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الموصول ، والتقدير لا بد من أن يكون كذابا أو عاجز الرأي ، لأن الناس يرجعون إليه في المسائل والأمور المشكلة ، فإن أجابهم كان كذابا غالبا وإن لم يجبهم كان ضعيف العقل عندهم أو واقعا لأنه لا يتم ما أراد بذلك.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٢٤.

١٢٥

(باب)

(اختتال الدنيا بالدين)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن يونس بن ظبيان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله عز وجل يقول ويل للذين يختلون الدنيا بالدين وويل للذين « يَقْتُلُونَ الَّذِينَ

______________________________________________________

باب اختتال الدنيا بالدين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، وعندي صحيح لأن ابن سنان وثقه المفيد وابن طاوس (ره) وابن ظبيان روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من جامع البزنطي بسند صحيح عن الصادق أنه قال فيه رحمه‌الله : وبنى له بيتا في الجنة كان والله مأمونا على الحديث ، وهو يدل ثقته وجلالته ، والمشهور أنه ضعيف.

« ويل للذين يختلون الدنيا بالدين » أي العذاب والهلاك للذين يطلبون الدنيا بعمل الآخرة بالخديعة والمكر ، قال في النهاية : الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب ، وقال فيه : من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد ، والمشقة من العذاب ، وقال فيه : من أشراط الساعة أن تعطل السيوف من الجهاد ، وأن تختل الدنيا بالدين ، أي تطلب الدنيا بعمل الآخرة ، يقال : ختله يختله إذا خدعه وراوغه وختل الذئب الصيد إذا تخفى له ، والختل الخداع ، وفي القاموس : ختله يختله ختلا وختلانا خدعه ، والذئب الصيد تخفى له ، وخاتله خادعه ، وتخاتلوا تخادعوا واختتل تسمع لسر القوم ، انتهى.

وبناء الافتعال المذكور في عنوان الباب لم أره بهذا المعنى في كتب اللغة ، وفي بعض النسخ اختيال بالياء وهو تصحيف « الذين يأمرون بالقسط » أي بالعدل وهم الأئمة عليهم‌السلام وخواص أصحابهم « يسير المؤمن » أن يعيش ويعمل مجازا « أبي

١٢٦

يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ » وويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقية أبي يغترون أم علي يجترءون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم منهم حيران.

(باب)

(من وصف عدلا وعمل بغيره)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن يوسف البزاز ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام [ أنه ] قال إن [ من ] أشد الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم عمل بغيره.

______________________________________________________

يغترون » أي بسبب إمهالي ونعمتي يغفلون عن بطشي وعذابي ، من الاغترار بمعنى الغفلة ، ويحتمل أن يكون من الاغترار بمعنى الوقوع في الغرور والهلاك ، وقال تعالى : « ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ » (١) قال البيضاوي : أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه « يجترئون » بالهمز أو بدونه بقلب الهمزة ياء ثم إسقاط ضمها ثم حذفها لالتقاء الساكنين « لأتيحن » قال في النهاية فيه : فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا يقال : أتاح الله لفلان كذا أي قدره له وأنزله به ، وتاح له الشيء ، والحليم ذو الحلم والأناة والتثبت في الأمور أو ذو العقل ، وتنوين حيرانا للتناسب وإنما خص بالذكر لأنه بكلي معنييه أبعد من الحيرة ، وذلك لأنه أصبر على الفتن والزلازل ، والحاصل أنه لا يجد العقلاء وذوا التثبت والتدبر في الأمور المخرج من تلك الفتنة.

باب من وصف عدلا وعمل بغيره

الحديث الأول : مختلف فيه.

__________________

(١) سورة الإنفطار : ٦.

١٢٧

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن قتيبة الأعشى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال إن [ من ] أشد الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف.

« من وصف عدلا » أي بين للناس أمرا حقا موافقا لقانون العدل أو أمرا وسطا غير مائل إلى إفراط أو تفريط ، ولم يعمل به أو وصف دينا حقا ولم يعمل بمقتضاه كما إذا ادعى القول بإمامة الأئمة عليهم‌السلام ولم يتابعهم قولا وفعلا ، ويؤيد الأول قوله تعالى : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (١) وقوله سبحانه : « لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ » (٢) وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقارض من نار ، فقلت : من أنتم؟ قالوا : كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه ، ومثله كثير.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وإنما كانت حسرته أشد لوقوعه في الهلكة مع العلم وهو أشد من الوقوع فيها بدونه ، ولمشاهدته نجاة الغير بقوله وعدم نجاته به ، وكان أشدية العذاب والحسرة بالنسبة إلى من لم يعلم ولم يعمل ولم يأمر ، لا بالنسبة إلى من علم ولم يفعل ولم يأمر ، لأن الهداية وبيان الأحكام وتعليم الجهال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها واجبة كما أن العمل واجب ، فإذا تركهما ترك واجبين ، وإذا ترك أحدهما ترك واجبا واحدا ، لكن الظاهر من أكثر الأخبار بل الآيات اشتراط الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعمل ، ويشكل التوفيق بينها وبين سائر الآيات والأخبار الدالة على وجوب الهداية والتعليم ، والنهي عن كتمان العلم ، وعلى أي

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

(٢) سورة الصفّ : ٢.

١٢٨

من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن الحسين بن إسحاق ، عن علي بن مهزيار ، عن عبد الله بن يحيى ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في قول الله عز وجل « فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ » (١) قال يا أبا بصير هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه إلى غيره.

______________________________________________________

حال الظاهر أنها لا تشمل ما إذا كان له مانع من الإتيان بالنوافل مثلا ، ويبين للناس فضلها ، وأمثال ذلك وسنعيد الكلام في ذلك في محل آخر إنشاء الله تعالى.

الحديث الرابع : مجهول.

« فَكُبْكِبُوا » أقول : قبلها في الشعراء « وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ » وفسر المفسرون ما كنتم تعبدون بآلهتهم « فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ » قالوا : أي الآلهة وعبدتهم والكبكبة تكرير الكب لتكرير معناه كان من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها ، وقد مر تفسير الآيات في الباب الذي بعد باب أن الإسلام قبل الإيمان.

قوله عليه‌السلام : هم قوم ، أي ضمير « هم » المذكور في الآية راجع إلى قوم ، أو « هم » ضمير راجع إلى مدلول « هم » في الآية ، والمعنى أن المراد بالمعبودين في بطن الآية المطاعون في الباطل كقوله تعالى : « أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ » (٢) وهم قوم وصفوا الإسلام ولم يعملوا بمقتضاه كالغاصبين للخلافة حيث ادعوا الإسلام وخالفوا الله ورسوله في نصب الوصي ، وتبعهم جماعة وهم الغاوون أو وصفوا الإيمان وادعوا اتصافهم به ، وخالفوا الأئمة الذين ادعوا الإيمان بهم وغيروا دين الله وأظهروا البدع فيه ، وتبعهم الغاوون ، ويحتمل أن يكون هم راجعا إلى الغاوين ، فهم في الآية راجع إلى عبدة

__________________

(١) سورة الشعراء : ٩٤.

(٢) سورة يس : ٦٠.

١٢٩

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن علي بن عطية ، عن خيثمة قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام أبلغ شيعتنا أنه لن ينال ما عند الله إلا بعمل وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثم يخالفه إلى غيره.

(باب)

(المراء والخصومة ومعاداة الرجال)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إياكم والمراء والخصومة فإنهما يمرضان

______________________________________________________

الأوثان أو معبودهم أيضا ، لكنه بعيد عن سياق الآيات السابقة ، وقال علي بن إبراهيم بعد نقل هذه الرواية مرسلا عن الصادق عليه‌السلام : وفي خبر آخر قال : هم بنو أمية والغاوون بنو فلان أي بنو العباس.

الحديث الخامس : مجهول.

وخيثمة بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء وفتح المثلثة « ما عِنْدَ اللهِ » أي من المثوبات والدرجات والقربات.

باب المراء والخصومة ومعاداة الرجال

الحديث الأول : ضعيف.

والمراء بالكسر مصدر باب المفاعلة وقيل : هو الجدال والاعتراض على كلام الغير من غير غرض ديني ، وفي مفردات الراغب : الامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية ، وهي التردد في الأمر ، وفي النهاية فيه : لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ، المراء الجدال والتماري والمماراة المجادلة على مذهب الشك والريبة ، ويقال للمناظرة مماراة ، لأن كل واحد منهما يستخرج

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ما عند صاحبه ويمتريه ، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع ، قال أبو عبيد : ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ، ولكنه على الاختلاف في اللفظ وهو أن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر : ليس هو هكذا ، ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء بهما ، فإذا جحد كل واحد منهما قراءة صاحبه لم يؤمن أن يكون يخرجه ذلك إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه وقيل : إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنت من الأحكام وأبواب الحلال والحرام لأن ذلك قد جرى بين الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز والله أعلم.

وقال : فيه : ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا ، الجدل مقابلة الحجة بالحجة والمجادلة المناظرة والمخاصمة والمراد به في الحديث الجدل على الباطل ، وطلب المغالبة به ، فأما المجادلة لإظهار الحق فإن ذلك محمود ، لقوله تعالى : « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (١).

وقال الراغب : الخصم مصدر خصمته أي نازعته خصما يقال : خصمته وخاصمته مخاصمة وخصاما ، وأصل المخاصمة أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي جانبه ، وأن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.

وأقول : هذه الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى ، وقد ورد النهي عن الجميع في الآيات والأخبار وأكثر ما يستعمل المراء والجدال في المسائل العلمية ، والمخاصمة في الأمور الدنيوية ، وقد يخص المراء بما إذا كان الغرض إظهار الفضل والكمال ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٥.

١٣١

القلوب على الإخوان وينبت عليهما النفاق

______________________________________________________

والجدال بما إذا كان الغرض تعجيز الخصم وذلته ، وقيل : الجدل في المسائل العلمية والمراء أعم ، وقيل : لا يكون المراء إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا ، والجدل أخص من الخصومة يقال : جدل الرجل من باب علم فهو جدل إذا اشتدت خصومته ، وجادل مجادلة وجدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، والخصومة لا تعتبر فيها الشدة ولا الشغل وقال الغزالي : يندرج في المراء كل ما يخالف قول صاحبه مثل أن يقول هذا حلو فيقول هذا مر ، أو يقول : من كذا إلى كذا فرسخ ، فيقول ليس بفرسخ أو يقول شيئا فتقول أنت أحمق أو أنت كاذب ، ويندرج في الخصومة كل ما يوجب تأذي خاطر الآخر وترداد القول بينهما ، وإذا اجتمعا يمكن تخصيص المراء بالأمور الدينية والخصومة بغيرها أو بالعكس.

« فإنهما يمرضان القلوب على الإخوان » أي يغيرانها بالعداوة والغيظ ، وإنما عبر عنها بالمرض لأنها توجب شغل القلب وتوزع البال وكثرة التفكر وهي من أشد المحن والأمراض ، وأيضا توجب شغل القلب عن ذكر الله وعن حضور القلب في الصلاة ، وعن التفكر في المعارف الإلهية وخلوها عن الصفات الحسنة وتلوثها بالصفات الذميمة وهي أشد الأمراض النفسانية والأدواء الروحانية ، كما قال تعالى : « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » (١).

« وينبت عليهما النفاق » أي التفاوت بين ظاهر كل واحد منهما وباطنه بالنسبة إلى صاحبه ، وهذا نفاق ، أو النفاق مع الرب تعالى أيضا إذا كان في المسائل الدينية فإنهما يوجبان حدوث الشكوك والشبهات في النفس والتصلب في الباطل للغلبة على الخصم بل في الأمور الدنيوية أيضا بالإصرار على مخالفة الله تعالى ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠.

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكل ذلك من دواعي النفاق.

فإن قيل : هذا ينافي ما ورد في الآيات والأخبار من الأمر بهداية الخلق والذب عن الحق ودفع الشبهات عن الدين وقطع حجج المبطلين وقال تعالى : « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (١) وقال : « وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (٢).

قلت : هذه الأخبار محمولة على ما إذا كان الغرض محض إظهار الفضل أو الغلبة على الخصم أو التعصب وترويج الباطل ، أو على ما إذا كان مع عدم القدرة على الغلبة وإظهار الحق وكشفه ، فيصير سببا لمزيد رسوخ الخصم في الباطل ، أو على ما إذا أراد إبطال الباطل بباطل آخر ، أو مع إمكان الهداية باللين واللطف يتعدى إلى الغلظة والخشونة المثيرتان للفتن أو بترك التقية في زمنها ، وأما مع عدم التقية والقدرة على تبيين الحق فالسعي في إظهار الحق وإحيائه وإماتة الباطل بأوضح الدلائل وبالتي هي أحسن مع تصحيح النية في ذلك من غير رياء ولا مراء فهو من أعظم الطاعات ، لكن للنفس والشيطان في ذلك طرق خفية ينبغي التحرز عنها والسعي في الإخلاص فيه أهم من سائر العبادات.

ويدل على ما ذكرنا ما ذكره الإمام أبو محمد العسكري عليه‌السلام في تفسيره (٣) قال : ذكر عند الصادق عليه‌السلام الجدال في الدين وأن رسول الله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام قد نهوا عنه ، فقال الصادق عليه‌السلام : لم ينه عنه مطلقا لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن ، أما تسمعون الله يقول : « وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقوله تعالى : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٦.

(٣) كتاب التفسير منسوب الى الإمام عليه‌السلام وفي صحة هذا الانتساب أيضا كلام ذكره الأستاد الشعرانى (ره) في مقدّمة تفسير مجمع البيان فراجع.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله تعالى على شيعتنا وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : « وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى » (١) قال الله تعالى : « تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » فجعل علم الصدق والإيمان بالبرهان ، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن ، قيل : يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن؟ قال : أما الجدال بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى ، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة ، لأنك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين ، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما في يده حجة له على باطله ، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.

وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحيائه له فقال الله حاكيا عنه : « وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ » (٢) فقال الله في الرد عليهم : « قُلْ » يا محمد « يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ » فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال الله تعالى « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ » ، أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يعيده بعد أن يبلى ، بل ابتداءه

__________________

(١) سورة البقرة : ١١١.

(٢) سورة يس : ٧٨.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أصعب عندكم من إعادته ثم قال : « الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً » أي إذا كمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر ، ثم قال : « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ » أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي ، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوز أما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.

قال الصادق عليه‌السلام : فهذا الجدال بالتي هي أحسن ، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم وأما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرم لأنك مثله ، جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر ، فقال : قام إليه رجل فقال : يا ابن رسول الله أفجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال الصادق عليه‌السلام : مهما ظننت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شيء فلا تظن به مخالفة الله أو ليس الله تعالى قال : « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » وقال : « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ » لمن ضرب الله مثلا أفتظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالف ما أمره الله به فلم يجادل بما أمره الله ولم يخبر عن الله بما أمره أن يخبر به.

وروى أبو عمرو الكشي بإسناده عن عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الناس يعيبون علي بالكلام وأنا أكلم الناس فقال : أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم ، وأما من يقع ثم لا يطير فلا.

وروي أيضا بإسناده عن الطيار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ فقال : أما مثلك فلا يكره ، من إذا طار يحسن أن يقع وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هكذا لا نكرهه.

١٣٥

٢ ـ وبإسناده قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث من لقي الله عز وجل بهن دخل الجنة من أي باب شاء من حسن خلقه وخشي الله في المغيب والمحضر وترك المراء وإن كان محقا.

______________________________________________________

وبإسناده أيضا عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما فعل ابن الطيار؟ قال : قلت : مات ، قال : رحمه‌الله ولقاه نضرة وسرورا فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت.

وبإسناده أيضا عن أبي جعفر الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : ما فعل ابن الطيار؟ فقلت : توفي ، فقال : رحمه‌الله أدخل الله عليه الرحمة والنضرة فإنه كان يخاصم عنا أهل البيت.

وبإسناده أيضا عن نضر بن الصباح قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام يقول لعبد الرحمن ابن الحجاج : يا عبد الرحمن كلم أهل المدينة فإني أحب أن يرى في رجال الشيعة مثلك.

وبإسناده أيضا عن محمد بن حكيم قال : ذكر لأبي الحسن عليه‌السلام أصحاب الكلام ، فقال : أما ابن حكيم فدعوه.

فهذه الأخبار كلها مع كون أكثرها من الصحاح تدل على تجويز الجدال والخصومة في الدين على بعض الوجوه ولبعض العلماء ، ويؤيد بعض الوجوه التي ذكرناها في الجمع.

الحديث الثاني : كالأول.

« من لقي الله بهن » أي كن معه إلى الموت أو في المحشر « من أي باب شاء » كأنه مبالغة في إباحة الجنة له ، وعدم منعه منها بوجه « في المغيب والمحضر » أي يظهر فيه آثار خشية الله بترك المعاصي في حال حضور الناس وغيبتهم ، وقيل : أي عدم ذكر الناس بالشر في الحضور والغيبة والأول أظهر « وإن كان محقا »

١٣٦

٣ ـ وبإسناده قال من نصب الله غرضا للخصومات أوشك أن يكثر الانتقال.

______________________________________________________

قد مر أنه لا ينافي وجوب إظهار الحق في الدين ولا ينافي أيضا جواز المخاصمة لأخذ الحق الدنيوي لكن بدون التعصب وطلب الغلبة ، وترك المداراة بل يكتفي بأقل ما ينفع في المقامين بدون إضرار وإهانة وإلقاء باطل كما عرفت.

الحديث الثالث : كالسابق أيضا.

« من نصب الله » النصب الإقامة ، والغرض بالتحريك الهدف ، قال في المصباح : الغرض الهدف الذي يرمي إليه ، والجمع أغراض ، وقولهم : غرضه كذا على التشبيه بذلك ، أي مرماه الذي يقصده ، انتهى.

وهنا كناية عن كثرة المخاصمة في ذات الله سبحانه وصفاته فإن العقول قاصرة عن إدراكها ، ولذا نهى عن التفكر فيها كما مر في كتاب التوحيد ، وكثرة التفكر والخصومة فيها يقرب الإنسان من كثرة الانتقال من رأي إلى رأي لحيرة العقول فيها وعجزها عن إدراكها ، كما ترى من الحكماء والمتكلمين المتصدين لذلك ، فإنهم سلكوا مسالك شتى ، والاكتفاء بما ورد في الكتاب والسنة وترك الخوض فيها أحوط وأولى ، ويحتمل أن يكون المراد الانتقال من الحق إلى الباطل ، ومن الإيمان إلى الكفر ، فإن الجدال في الله والخوض في ذاته وكنه صفاته يورثان الشكوك والشبه ، قال الله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ » (١) وقال جل شأنه « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ » (٢). « إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ » إلى غير ذلك من الآيات في ذلك.

وأوشك من أفعل المقاربة بمعنى القرب والدنو ، ومنهم من ذهب هنا إلى ما يترتب على مطلق الخصومة مع الخلق وقال : الانتقال التحول من حال إلى

__________________

(١) سورة : الحجّ ٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦٨.

١٣٧

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن عمار بن مروان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تمارين حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك.

٥ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن عطية ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كاد جبرئيل عليه‌السلام يأتيني

______________________________________________________

جال ، كالتحول من الخير إلى الشر ومن حسن الأفعال إلى قبح الأعمال المقتضية لفساد النظام ، وزوال الألفة والالتئام ، وقيل : المراد كثرة الحلف بالله في الدعاوي والخصومات فإنه أوشك أن ينتقل مما حلف عليه إلى ضده ، خوفا من العقاب فيفتضح بذلك ولا يخفى ما فيهما.

الحديث الرابع : مجهول.

والحليم يحتمل المعنيين المتقدمين أي العاقل ، والمتثبت المتأني في الأمور والسفيه يحتمل مقابليهما ، والمعنيان متلازمان غالبا وكذا مقابلاهما ، والحاصل أن العاقل الحازم المتأني في الأمور لا يتصدى للمعارضة ، ويصير ذلك سببا لأن يبطن في قلبه العداوة ، والأحمق المتهتك يعارض ويؤذي ، في القاموس قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية ، أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه ، أو قلاه في الهجر وقليه في البغض.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

« ما كاد » في القاموس كاد يفعل كذا : قارب وهم ، وفي بعض النسخ ما كان وفي الأول المبالغة أكثر أي لم يقرب إتيانه إلا قال ، والشحناء بالفتح البغضاء والعداوة ، والإضافة إلى المفعول أي العداوة مع الرجال ، ويحتمل الفاعل أيضا أي العداوة الشائعة بين الرجال والأول أظهر ، وعداوتهم تأكيد ، أو المراد بالأول فعل ما يوجب العداوة أو إظهارها قال في المصباح : الشحناء العداوة والبغضاء ، وشحنت عليه شحنا من

١٣٨

إلا قال يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسن بن الحسين الكندي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال جبرئيل عليه‌السلام ـ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إياك وملاحاة الرجال.

٧ ـ عنه ، عن عثمان بن عيسى ، عن عبد الرحمن بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إياكم والمشارة فإنها تورث المعرة وتظهر المعورة.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عنبسة

______________________________________________________

باب تعب حقدت وأظهرت العداوة ومن باب نفع لغة.

الحديث السادس : صحيح.

وقال في النهاية : فيه نهيت عن ملاحاة الرجال أي مقاولتهم ومخاصمتهم ، يقال : لحيت الرجل ألحاه إذا لمته وعذلته ، ولاحيته ملاحاة ولحاء إذا نازعته.

الحديث السابع : مجهول.

وفي النهاية : فيه : لا تشار أخاك هو تفاعل من الشر أي لا تفعل به شرا يحوجه إلى أن يفعل بك مثله ، ويروى بالتخفيف وفي الصحاح المشارة المخاصمة.

« فإنها تورث المعرة » قال في القاموس : المعرة الإثم والأذى والغرم والدية والخيانة « تظهر العورة » أي العيوب المستورة ، وقال الجوهري : العورة سوءة الإنسان وكل ما يستحيي منه ، وفي بعض النسخ المعورة اسم فاعل من أعور الشيء إذا صار ذا عوار أو ذا عورة وهي العيب والقبيح وكل شيء يستره الإنسان أنفه أو حياءا فهو عورة ، والمراد بها هنا القبيح من الأخلاق والأفعال ، وعلى النسختين المراد ظهور قبائحه وعيوبه أما نفسه فإنه عند المشاجرة والغضب لا يملكها فيبدو منه ما كان يخفيه أو من خصمه فإن الخصومة سبب لإظهار الخصم قبح خصمه لينتقص منه ويضع قدره بين الناس.

الحديث الثامن : صحيح.

١٣٩

العابد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إياكم والخصومة فإنها تشغل القلب وتورث النفاق وتكسب الضغائن.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن عطية ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كاد جبرئيل عليه‌السلام يأتيني إلا قال يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن مهران ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أتاني جبرئيل عليه‌السلام قط إلا وعظني فآخر قوله لي إياك ومشارة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز.

______________________________________________________

« فإنها تشغل القلب » عن ذكر الله وبالتفكر في الشبه والشكوك والحيل لدفع الخصم ، وبالغم والهم أيضا ، والضغائن جمع الضغينة وهي الحقد ، وتضاغنوا انطووا على الأحقاد.

الحديث التاسع : حسن كالصحيح وقد مر بعينه سندا ومتنا وكأنه من النساخ.

الحديث العاشر : مجهول.

وروى الشيخ في مجالسه عن الرضا عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياكم ومشارة الناس فإنها تظهر العرة وتدفن الغرة ، الأولى بالعين المهملة والثانية بالمعجمة وكلاهما مضمومتان ، وروت العامة أيضا من طرقهم هكذا ، قال في النهاية فيه إياكم ومشارة الناس فإنها تدفن الغرة وتظهر العرة ، الغرة هيهنا الحسن والعمل الصالح شبهه بغرة الفرس وكل شيء ترفع قيمته فهو غرة ، والعرة هي القذر وعذرة الناس فاستعير للمساوئ والمثالب.

١٤٠