مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٩

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن الوليد بن صبيح قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما عهد إلي جبرئيل عليه‌السلام في شيء ما عهد إلي في معاداة الرجال.

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام من زرع العداوة حصد ما بذر.

(باب الغضب)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل.

______________________________________________________

الحديث الحادي عشر : حسن أو موثق.

وكلمة « ما » في الأولى نافية وفي الثانية مصدرية والمصدر مفعول مطلق للنوع ، والمراد هنا المداراة مع المنافقين من أصحابه كما فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مع الكفار أيضا قبل الأمر بالجهاد ، أو الغرض بيان ذلك للناس.

الحديث الثاني عشر : مرفوع.

« حصد ما بذر » في الصحاح بذرت البذر زرعته أي العداوة مع الناس كالبذر يحصد منه مثله وهو عداوة الناس له.

باب الغضب

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« كما يفسد الخل العسل » أي إذا أدخل الخل العسل ذهبت حلاوته وخاصيته وصار المجموع شيئا آخر ، فكذا الإيمان إذا دخله الغضب فسد ولم يبق على صرافته

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وتغيرت آثاره ، فلا يسمى إيمانا حقيقة ، أو المعنى أنه إذا كان طعم العسل في الذائقة فشرب الخل ذهبت تلك الحلاوة بالكلية فلا يجد طعم العسل ، فكذا الغضب إذا ورد على صاحب الإيمان لم يجد حلاوته وذهبت فوائده ، قال بعض المحققين : الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة وأنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد ، ويستخرجها الكبر الدفين من قلب كل جبار عنيد ، كما يستخرج الحجر النار من الحديد ، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين فمن أسعرته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان ، حيث قال : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » فمن شأن الطين السكون والوقار ، ومن شأن النار التلظي والاستعار ، والحركة والاضطراب والاصطهار ، ومنه قوله تعالى : « يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ » (١) ومن نتائج الغضب الحقد والحسد ، وبهما هلك من هلك وفسد من فسد.

ثم قال : اعلم أن الله تعالى لما خلق الإنسان معرضا للفساد والموتان بأسباب خارجة منه أنعم عليه بما يحميه الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه ، أما السبب الداخل فإنه ركبه من الرطوبة والحرارة ، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة ، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى يتفشى أجزاؤها بخارا يتصاعد منها ، فلو لم يتصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان ، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون حافظا له من الهلاك بهذا الأسباب ، وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها ، فافتقر إلى

__________________

(١) سورة الحجّ : ٢٠.

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

قوة وحمية تثور من باطنه ، فيدفع المهلكات عنه فخلق الله الغضب من النار ، وغرزه في الإنسان وعجنه بطينته ، فمهما قصد في غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثورانا يغلي به دم القلب ، وينتشر في العروق ، ويرتفع إلى أعالي البدن كما يرتفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر ، ولذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين ، والبشرة بصفائها تحكي لون ما ورائها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه ، فإن صدر الغضب على من هو فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، وصار حزنا ، ولذلك يصفر اللون وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تولد منه تردد بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.

وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب لطلب الانتقام ، وإنما يتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ، والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ، وفيه لذتها ولا تسكن إلا به.

ثم الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة وبحسب ما يطرء عليها من الأمور الخارجة من التفريط والإفراط والاعتدال ، أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها بأن لا يستعملها فيما هو محمود عقلا وشرعا ، مثل دفع الضرر عن نفسه على وجه سائغ ، والجهاد مع الأعداء والبطش عليهم وإقامة الحدود على الوجه المعتبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتحصل فيه ملكة الجبن بل ينتهي إلى عدم الغيرة على حرمه وأشباه ذلك.

وهذا مذموم معدود من الرذائل النفسانية وقد وصف الله تعالى الصحابة

١٤٣

٢ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن أبيه ، عن ميسر قال ذكر الغضب عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار فأيما رجل غضب على قوم وهو قائم

______________________________________________________

بالشدة والحمية فقال : « أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ » (١) وقال تعالى : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » (٢) وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب وأما الإفراط فهو الإقدام على ما ليس بجميل واستعمالها فيما هو مذموم عقلا وشرعا مثل الضرب والبطش والشتم والنهب والقتل والقذف وأمثال ذلك فيما لا يجوزه العقل والشرع.

وأما الاعتدال فهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله تعالى بها عباده ، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : خير الأمور أوساطها ، فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس نفسه ضعف الغيرة وخمسة النفس واحتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه ، ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه ليسكن من ثورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين ، فهو الصراط المستقيم وهو أدق من الشعر وأحد من السيف ، فينبغي أن يسعى في ذلك بحسب جهده ويتوسل إلى الله تعالى في أن يوفقه لذلك.

الحديث الثاني : حسن.

« فيما يرضى أبدا » فيه تنبيه على أنه ينبغي أن لا يغضب وإن غضب لا يستمر عليه بل يعالجه قريبا بالسعي في الرضا عنه إذ لو استمر عليه اشتد غضبه آنا فآنا وشيئا فشيئا إلى أن يصدر عنه ما يوجب دخوله النار كالقتل والجرح وأمثالهما ، أو

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

(٢) سورة التوبة. ٧٣.

١٤٤

فليجلس من فوره ذلك فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسه فإن الرحم إذا مست سكنت.

______________________________________________________

يصير الغضب له عادة وخلقا فلا يمكنه تركه حتى يدخل بسببه النار.

واعلم أن علاج الغضب أمران : علمي وفعلي أما العلمي فبأن يتفكر في الآيات والروايات التي وردت في ذم الغضب ومدح كظم الغيظ والعفو والحلم ويتفكر في توقعه عفو الله عن ذنبه وكف غضبه عنه ، وأما الفعلي فذكر عليه‌السلام هنا أمران : الأول قوله « فأيما رجل » ما زائدة « من فوره » كان من بمعنى في ، وقال الراغب : الفور شدة الغليان ، ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب ويقال فعلت كذا من فوري أي في غليان الحال وقبل سكون الأمر.

وقال البيضاوي في قوله تعالى : « وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا » (١) أي من ساعتهم هذه ، وهو في الأصل مصدر فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي ، والمعنى أن يأتوكم في الحال ، وقال في المصباح : فار الماء يفور فورا نبع وجرى ، وفارت القدر فورا وفورانا ، وقولهم الشفعة على الفور من هذا ، أي على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه ثم استعمل في الحالة التي لا بطؤ فيها يقال : جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره أي حركته التي وصل فيها ولم يسكن بعدها ، وحقيقته أن يصل ما بعد المجيء بما قبله من غير لبث ، انتهى.

وضمير فوره للرجل ، وقيل : للغضب والأول أنسب بالآية ، و « ذلك » صفة فوره « فإنه سيذهب » كيمنع والرجز فاعله ، أو على بناء الأفعال والضمير المستتر فاعله وراجع إلى مصدر فليجلس والرجز مفعوله ، وفي النهاية الرجز بكسر الراء العذاب والإثم والذنب ، ورجز الشيطان وساوسه ، انتهى.

وذهاب ذلك بالجلوس مجرب كما أن من جلس عند حملة الكلب وجده ساكنا لا يحوم حوله ، وفيه سر لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، وربما

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٢٥.

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يقال : السر فيه هو الإشعار بأنه من التراب وعبد ذليل لا يليق به الغضب ، أو التوسل بسكون الأرض وثبوتها ، وأقول : كأنه لقلة دواعيه إلى المشي للقتل والضرب وأشباههما ، أو للانتقال من حال إلى حال أخرى ، والاشتغال بأمر آخر فإنهما مما يذهل عن الغضب في الجملة ، ولذا ألحق بعض العلماء الاضطجاع والقيام إذا كان جالسا والوضوء بالماء البارد وشربه ، الجلوس في ذهاب الرجز.

وأقول : يؤيده ما رواه الصدوق في مجالسه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليهما‌السلام أنه ذكر عنده الغضب فقال : إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا ويدخل بذلك النار ، وأيما رجل غضب وهو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان وإن كان جالسا فليقم وأيما رجل غضب على ذي رحمه فليقم إليه وليدن منه وليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت ، وما رواه العامة عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غيظه.

وقال بعضهم : علاج الغضب أن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقال عند الغيظ ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال : يا عويش قولي : اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ، ويستحب أن تقول ذلك ، وإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائما واضطجع إن كنت جالسا ، وأقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك ، واطلب بالجلوس والاضطجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الغضب جمرة تتوقد ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه ، فإن وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان جالسا فلينم ، فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد وليغتسل ، فإن النار لا يطفئها إلا الماء ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضب أحدكم فليتوضأ وليغتسل فإن الغضب من النار ، وفي رواية أن الغضب من الشيطان وأن الشيطان خلق من النار ، وإنما يطفئ النار الماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ، وقال ابن عباس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا غضبت فاسكت ، وقال أبو سعيد الخدري : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن وجد من ذلك شيئا فليلصق خده بالأرض ، وكان هذا إشارة إلى السجود وهو تمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب ليستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.

وأما العلاج الثاني فهو خاص بذي الرحم حيث قال : وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه أي الغاضب من ذي رحمه « إذا مست » على بناء المجهول أي بمثلها ويحتمل المعلوم أي مثلها ، وما في رواية المجالس المتقدم ذكره أظهر ويظهر منها أنه سقط من رواية الكتاب بعض الفقرات متنا وسندا فتفطن ، إذ هي عين هذه الرواية والظاهر أن سكنت على بناء المعلوم المجرد ، ويحتمل المجهول من بناء التفعيل.

وقيل : ضمير فليدن راجع إلى ذي الرحم وضمير منه إلى الرجل وهو بعيد هنا وإن كان له شواهد من بعض الأخبار ، منها ما رواه الصدوق (ره) في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : لما دخلت على الرشيد سلمت عليه فرد على السلام ثم قال : يا موسى بن جعفر خليفتين يجبي إليهما الخراج؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوأ بإثمي وإثمك وتقبل الباطل من أعدائنا علينا فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٤٧

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن داود بن فرقد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الغضب مفتاح كل شر.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعت أبي عليه‌السلام يقول أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل بدوي فقال إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلام

______________________________________________________

بما علم ذلك عندك ، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت ، فناولني يدك جعلني الله فداك (١) فقال : ادن فدنوت منه فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني ، وقال : اجلس يا موسى فليس عليك بأس فنظرت إليه فإذا أنه قد دمعت عيناه فرجعت إلى نفسي فقال : صدقت وصدق جدك ، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت على الرقة وفاضت عيناي ، إلى آخر الخبر.

وأقول : هذا لا يعين حمل خبر المتن على دنو الغاضب فإنه يدنو كل من يريد تسكين الغضب ، فإنه إذا أراد الغاضب تسكين غضبه يدنو من المغضوب وإذا أراد المغضوب تسكين غضب الغاضب يدنو منه.

الحديث الثالث : صحيح.

« مفتاح كل شر » إذ يتولد منه الحقد والحسد والشماتة والتحقير ، والأقوال الفاحشة وهتك الأستار والسخرية والطرد والضرب والقتل والنهب ، ومنع الحقوق ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الحديث الرابع : مجهول.

وقال في النهاية : فيه « أوتيت جوامع الكلم » يعني القرآن جمع الله بلطفه

__________________

(١) هذا اما من اضافات الراوي واما دليل على ضعف الرواية وعدم صدوره من المعصوم عليه‌السلام ، والرواية مرفوعة ، راجع المصدر.

١٤٨

فقال آمرك أن لا تغضب فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه فقال لا أسأل عن شيء بعد هذا ما أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا بالخير قال وكان أبي يقول أي شيء أشد من الغضب إن الرجل ليغضب فيقتل « النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ » ويقذف المحصنة.

٥ ـ عنه ، عن ابن فضال ، عن إبراهيم بن محمد الأشعري ، عن عبد الأعلى قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام علمني عظة أتعظ بها فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه رجل فقال له يا رسول الله علمني عظة أتعظ بها فقال له انطلق ولا تغضب ثم أعاد إليه فقال له انطلق ولا تغضب ثلاث مرات.

______________________________________________________

في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة واحدها جامعة أي كلمة جامعة ومنه الحديث في صفته : أنه كان يتكلم بجوامع الكلم أي أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ « فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرات » كان أصل السؤال كان ثلاث مرات فالإعادة مرتان أطلقت على الثلاث تغليبا ، والمعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل ذلك يجيبه بمثل الجواب الأول « حتى رجع الرجل » أي تفكر في أن تكرار السؤال بعد اكتفائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجواب واحد غير مستحسن ، فأمسك وعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجيبه بما أجابه إلا لعلمه بفوائد هذه النصيحة وأنها تكفيه أو تفكر في مفاسد الغضب فعلم أن تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب بالذكر لتلك الأمور « فيقتل النفس » أي إحدى ثمرات الغضب قتل النفس مثلا وهو يوجب القصاص في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة ، والأخرى قذف المحصنة وهي العفيفة وهو يوجب الحد في الدنيا والعقاب العظيم في الآخرة.

الحديث الخامس : مجهول كالحسن.

وقال في المصباح : وعظه يعظه وعظا وعظة أمره بالطاعة ووصاه بها « فاتعظ » أي ائتمر وكف نفسه ، وقال بعض المتقدمين : الوعظ تذكير مشتمل على زجر وتخويف وحمل على طاعة الله بلفظ يرق له القلب والاسم الموعظة.

١٤٩

٦ ـ عنه ، عن إسماعيل بن مهران ، عن سيف بن عميرة عمن سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من كف غضبه ستر الله عورته.

٧ ـ عنه ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن حبيب السجستاني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه‌السلام يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي.

______________________________________________________

الحديث السادس : مرسل.

« ستر الله عورته » أي عيوبه وذنوبه في الدنيا فلا يفضحه بها ، أو في الآخرة فيكون كفارة عنها أو الأعم منهما ، وقيل : لأنه إذا لم يغضب لا يقول فيه الناس ما يفضحه ، واختلفوا في أن من كان شديد الغضب وكف غضبه ومن لا يغضب أصلا لكونه حليما بحسب الخلقة ، أيهما أفضل ، فقيل : الأول لأن الأجر على قدر المشقة وفيه جهاد النفس وهو أفضل من جهاد العدو ، وغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهور إلا أن غضبه لم يكن من مس الشيطان ورجزه ، وإنما كان من بواعث الدين ، وقيل : الثاني لأن الأخلاق الحسنة من الفضائل النفسانية وصاحب الخلق الحسن بمنزلة الصائم القائم.

الحديث السابع : مجهول أو حسن.

لأن الكشي روى في حبيب أنه كان شاربا ثم دخل في هذا المذهب ، قال : وكان من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام منقطعا إليهما وكفى بهذا مدحا ، ويقال : ناجيته أي ساررته « عمن ملكتك عليه » أي من العبيد والإماء أو الرعية أو الأعم وهو أولى ، وغضب الخلق ثوران النفس وحركتها بسبب تصور المؤذي والضار إلى الانتقام والمدافعة ، وغضب الخالق عقابه التابع لعلمه بمخالفة أوامره ونواهيه وغيرهما ، وفيه إشارة إلى نوع من معالجة الغضب وهو أن يذكر الإنسان عند غضبه على الغير غضبه تعالى عليه ، فإن ذلك يبعثه على الرضا والعفو طلبا لرضاه سبحانه وعفوه لنفسه.

١٥٠

٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن يحيى بن عمرو ، عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه يا ابن آدم اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي لا أمحقك فيمن أمحق ـ وارض بي منتصرا فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

٩ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله وزاد فيه وإذا ظلمت بمظلمة

______________________________________________________

الحديث الثامن : مجهول.

والمراد بذكره له تعالى ذكر قدرته سبحانه عليه وعقابه ، وبذكر الله له ذكر عفوه عن أخيه فيعفو عن زلاته ومعاصيه جزاء بما صنع ، وقوله : لا أمحقك ، بالجزم بدل من أذكرك ، والمحق هنا إبطال عمله وتعذيبه ومحو ذكره أو إحراقه ، في القاموس : محقة كمنعه أبطله ومحاه كمحقه فتمحق وامتحق وأمحق كافتعل ، والله الشيء ذهب ببركته ، والحر الشيء : أحرقه ، وفي النهاية : المحق النقص والمحو والإبطال ، والانتصار الانتقام ، ولما كان الغرض من إمضاء الغضب غالبا هو الانتقام من الظالم ، رغب سبحانه في تركه بأني منتقم من الظالم لك وانتقامي خير من انتقامك ، والخيرية من وجوه شتى ، الأول : أن انتقامه على قدر قدرته وانتقامه سبحانه أشد وأبقى ، الثاني : أن انتقامه يفوت ثوابه وانتقامه تعالى لا يفوته ، الثالث : أن انتقامه يمكن أن يتعدى إلى ما لا يستحقه فيعاقب عليه ، الرابع : أن انتقامه يؤدي غالبا إلى المفاسد الكلية والجزئية بانتهاض الخصم للمعاداة بخلاف انتقامه تعالى.

الحديث التاسع : موثق كالصحيح.

وفي هذا الخبر وقع قوله وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك مكان قوله في الخبر السابق وأرض بي منتصرا ، ومفادهما واحد ، ولما كان هذا في اللفظ أطول أطلق عليه لفظ الزيادة. وإنما ذكر ما بعدها مع كونه مشتركا بينهما للعلم بموضع الزيادة ، وفي المصباح الظلم اسم من ظلمه ظلما من باب ضرب ،

١٥١

فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن في التوراة مكتوبا يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيمن أمحق وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك.

١١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد وعلي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد جميعا ، عن الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يا رسول الله علمني قال اذهب ولا تغضب فقال الرجل قد اكتفيت بذاك فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفا ولبسوا السلاح فلما رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم ثم ذكر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تغضب فرمى السلاح ثم جاء يمشي إلى القوم الذين هم عدو قومه فقال يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعلي في مالي أنا أوفيكموه فقال القوم فما كان فهو لكم نحن أولى بذلك منكم قال فاصطلح القوم وذهب الغضب.

______________________________________________________

ومظلمة بفتح الميم وكسر اللام ويجعل المظلمة اسما لما يطلبه عند الظالم كالظلامة بالضم.

الحديث العاشر : موثق وقد مر.

الحديث الحادي عشر : ضعيف على المشهور.

« ليس فيه أثر » أي علامة جراحة لتصح مقابلته للجراحة ، والأثر بالتحريك بقية الشيء وعلامته ، وبالضم وبضمتين أثر الجراحة يبقى بعد البرء « فعلى في مالي » أي لا أبسطه على القبيلة ليكون فيه مضايقة أو تأخير ، و « أنا » إما تأكيد للضمير المجرور لأنهم جوزوا تأكيده بالمرفوع المنفصل ، أو مبتدأ وخبره

١٥٢

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك.

١٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الغضب ممحقة لقلب الحكيم وقال من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

______________________________________________________

« أوفيكموه » على بناء الأفعال أو التفعيل ، والضمير راجع إلى الموصول أي على دية ما ذكر ، والإيفاء والتوفية إعطاء الحق تاما.

الحديث الثاني عشر : حسن كالصحيح.

والجمرة القطعة الملتهبة من النار شبه بها الغضب في الإحراق والإهلاك ، ونسبها إلى الشيطان لأن بنفخ نزعاته ووساوسه تحدث وتشتد وتوقد في قلب ابن آدم وتلتهب التهابا عظيما ويغلي بها دم القلب غليانا شديدا كغلي الحميم فيحدث منه دخان بتحليل الرطوبات وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن ، والدماغ والوجه كما يرتفع الماء والدخان في القدر ، فلذلك تحمر العين والوجه والبشرة وتنتفخ الأوداج والعروق وحينئذ يتسلط عليه الشيطان كمال التسلط ويدخل فيه ويحمله على ما يريد ، فيصدر منه أفعال شبيهة بأفعال المجانين ولزوم الأرض يشمل الجلوس والاضطجاع والسجود كما عرفت.

الحديث الثالث عشر : مرفوع.

والمحقة مفعلة من المحق وهو النقص والمحو والإبطال ، أي مظنة له وإنما خص قلب الحكيم بالذكر لأن المحق الذي هو إزالة النور إنما يتعلق بقلب له نور وقلب غير الحكيم يعلم بالأولوية وإذا عرفت أن الغضب يمحق قلب الحكيم

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يعني عقله ظهر لك حقيقة قوله : من لم يملك غضبه لم يملك عقله.

قال بعض المحققين : مهما اشتدت نار الغضب وقوي اضطرامها أعمى صاحبه وأصمه عن كل موعظة ، فإذا وعظ لم يسمع بل تزيده الموعظة غيظا ، وإن أراد أن يستضيء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر على ذلك ، إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب ، فإن معدن الفكر الدماغ ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان إلى الدماغ مظلم مستولي على معادن الفكر ، وربما يتعدى إلى معادن الحس فيظلم عينه حتى لا يرى بعينه ويسود عليه الدنيا بأسرها ويكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار ، فاسود جوه وحمى مستقره وامتلاء بالدخان جوانبه ، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ وانمحى نوره فلا يثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ، ولا ترى فيه صورة ، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج ، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق ، فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ ، وربما يقوى نار الغضب فتفنى الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظا كما يقوى النار في الكهف فيتشقق وتنهد أعاليه على أسافله ، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه ، فهكذا حال القلب مع الغضب.

ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف ، وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام ، واضطراب الحركة والكلام ، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ، ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته ، واستحالة خلقته ، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن ، وإنما قبحت صورة الباطن أولا ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانيا فهذا أثره في الجسد ، وأما

١٥٤

١٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كف نفسه

______________________________________________________

أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش وقبيح الكلام الذي يستحيي منه ذوو العقول ، ويستحيي منه قائله عند فتور الغضب وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ ، وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة ، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فيمزق ثوب نفسه ويلطم وجهه وقد يضرب يده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران ، والمدهوش المتحير ، وربما سقط صريعا لا يطيق العدو والنهوض لشدة الغضب ، ويعتريه مثل الغشية ، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة على الأرض وقد تكسر وتراق المائدة إذا غضب عليها وقد يتعاطى أفعال المجانين فليشتم البهيمة والجماد ، ويخاطبه ويقول : إلى متى منك كذا ويا كيت وكيت كأنه يخاطب عاقلا حتى ربما رفسته دابة فيرفسها ويقابلها به ، وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإظهار السوء والشماتة بالمساءة والحزن بالسرور ، والعزم على إفشاء السر وهتك الأستار والاستهزاء وغير ذلك من القبائح ، فهذه ثمرة الغضب المفرط وقد أشير إليها في تلك الأخبار.

الحديث الرابع عشر : ضعيف على المشهور.

والأعراض جمع العرض بالكسر وفي القاموس : العرض بالكسر الحسد وكل موضع يعرق منه ورائحته طيبة كانت أو خبيثة و

النفس ، وجانب الرجل يصونه من نفسه وحسبه أن يتنقص ويثلب ، أو سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره أو موضع المدح والذم منه ، أو ما يفتخر به من حسب وشرف ، وقال : النفس الروح والدم والجسد والعظمة والعزة والهمة والأنفة والعيب والعقوبة.

وقوله عليه‌السلام : من كف نفسه عن أعراض الناس ، أي عن هتك عرضهم بالغيبة

١٥٥

عن أعراض الناس أقال الله نفسه يوم القيامة ومن كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة.

١٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة.

______________________________________________________

والبهتان والشتم وكشف عيوبهم وأمثال ذلك « أقال الله نفسه » قيل : المراد بالنفس هنا العيب ، وأقول : يمكن أن يكون المراد بالنفس هنا أيضا المعنى الشائع ، لأن الإقالة وإن كان الغالب نسبتها إلى العثرات والذنوب ، لكن يمكن نسبتها إلى النفس أيضا ، فإن الإقالة في الأصل هو أن يشتري الرجل متاعا فيندم فيأتي البائع فيقول له : أقلني أي اترك ما جرى بيني وبينك ، ورد علي ثمني وخذ متاعك ، واستعمل في غفران الذنوب لأنه بمنزلة معاوضة بينه وبين الرب تعالى ، فكأنه أعطى الذنب وأخذ العقوبة ، والنفس مرهونة في تلك المعاملة يقتص منها ، فكما يمكن نسبة الإقالة إلى الذنب يمكن نسبتها إلى النفس أيضا ، بل هو أنسب لأنه يريد أن يفك نفسه عن العقوبة كما قال تعالى : « كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » (١) وقال سبحانه « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » (٢) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم ، مع أنه يمكن تقدير مضاف أي عثرة نفسه.

الحديث الخامس عشر : ضعيف على المشهور.

__________________

(١) سورة الطور : ٢١.

(٢) سورة المدّثّر : ٣٨.

١٥٦

(باب الحسد)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم قال قال أبو جعفر عليه‌السلام إن الرجل ليأتي بأي بادرة فيكفر وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

______________________________________________________

باب الحسد

الحديث الأول : صحيح ، وفي القاموس : البادرة ما يبدر من حدتك في الغضب من قول أو فعل ، وفي النهاية : البادرة من الكلام الذي يسبق من الإنسان في الغضب وإذا عرفت هذا فهذه الفقرة تحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المعنى أن عدم منع النفس عن البوادر وعدم إزالة مواد الغضب عن النفس وإرخاء عنان النفس فيها ينجر إلى الكفر أحيانا أو غالبا كما ترى من كثير من الناس يصدر منهم عند الغضب التلفظ بما يوجب الكفر من سب الله سبحانه ، وسب الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام أو ارتكاب أعمال يوجب الارتداد ، كوطي المصحف الكريم بالرجل ، ورميه.

الثاني : أن يراد به الحث على ترك البوادر مطلقا ، فإن كل بادرة تصير سببا لنوع من أنواع الكفر المقابل للإيمان الكامل.

الثالث : أن يقرأ فتكفر على بناء المجهول من باب التفعيل ، أي البوادر عند الغضب مكفرة غالبا لعذر الإنسان فيه في الجملة ، لا سيما إذا تعقبتها ندامة وقلما لم تتعقبها بخلاف الحسد ، فإنها صفة راسخة في النفس تأكل الإيمان ، ويمكن حملها حينئذ على ما إذا غلب عليه الغضب بحيث ارتفع عنه القصد ، ويمكن أن يقرأ بالياء كما في النسخ على هذا البناء أيضا أي ينسب إلى الكفر وإن كان معذورا عند الله لرفع الاختيار فيكون ذكر البعض مفاسد البادرة ، في النهاية : الحسد أن يرى الرجل

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لأخيه نعمة فيتمنى زوالها عنه ، وتكون له دونه ، والغبطة أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه ، انتهى.

واعلم أنه لا حسد إلا على نعمة ، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيها حالتان أحدهما أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها ، سواء أردت وصولها إليك أم لا ، فهذه الحالة تسمى حسدا ، والثانية أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكنك تشتهي لنفسك مثلها ، وهذه تسمى غبطة ، وقد يخص باسم المنافسة ، فأما الأول فهو حرام مطلقا كما هو المشهور ، أو إظهارها كما يظهر من بعض الأخبار إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الخلق فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها ، فإنك لا تحب زوالها من حيث إنها نغمة بل من حيث هي آلة الفساد ، ولو آمنت فساده لم تغمك تنعمه.

وأما الحسد المذموم فمع قطع النظر عن الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة الواردة في ذمها والنهي عنها ، وصريح العقل أيضا يحكم بقبحها فإنه سخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض ، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك فيها مضرة وسيأتي ذكر بعض مفاسدها.

وأما المنافسة فليست بحرام بل هي إما واجبة أو مندوبة أو مباحة ، كما قال تعالى : « وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ » (١) وقال سبحانه : « سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » (٢) فأما الواجبة فهي ما إذا كانت في نعمه دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، فإنه إن لم يحب أن يكون له مثل ذلك يكون راضيا بالمعصية وهو حرام ، والمندوبة فيما إذا كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات ، والمباحة فيما إذا كانت لغيره نعمة مباحة يتنعم فيها على وجه مباح ، فيتمنى أن

__________________

(١) سورة المطفّفين : ٢٦.

(٢) سورة الحديد : ٢١.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون له مثلها يتنعم بها من غير أن يريد زوالها عنه في الجميع.

وأقول : يمكن أن يفرض فيها فرد حرام كان يتمنى منصبا حراما أو مالا حراما أو مالا حلالا ليصرفها في الحرام ، بل مكروه أيضا كان يتمنى مال شبهة أو مالا حلالا ليصرفها في المصارف المكروهة.

وقيل : للحسد أسباب كثيرة يحصر جملتها سبعة : العداوة والتعزز والكبر ، والتعجب ، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة ، وحب الرئاسة ، وخبث النفس وبخلها ، فإنه إنما يكره النعمة عليه إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير ، وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه ، وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه وهو المراد بالتعزز ، وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه بنعمته ، وهو المراد بالتكبر ، وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيرا فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما أخبر الله تعالى عن الأمم الماضية إذ قالوا « ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا » ، وقالوا « أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا » ، وأمثال ذلك كثيرة ، فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم وهو المراد بالتعجب ، وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه ، وإما أن يكون بحب الرئاسة التي يبتني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها ، وإما أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله.

فهذه أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد ، فيعظم الحسد لذلك ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة ، بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة ، وأكثر المحاسدات يجتمع فيها جملة من هذه الأسباب.

واعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل ، والعلم المنافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقا أن الحسد

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ضرر عليك في الدنيا والدين ، وأنه لا ضرر به على المحسود في الدين والدنيا ، بل ينتفع بها في الدنيا والدين ، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة ، أما كونه ضررا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى ، وكرهت نعمته التي قسمها لعباده ، وعدله الذي أقامه في ملكه تخفى حكمته ، واستنكرت ذلك واستبشعته ، وهذه جناية على حدقة التوحيد ، وقذى في عين الإيمان ، وناهيك بها جناية على الدين ، وقد انضاف إليه أنك غششت رجلا من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبيائه في حبهم الخير لعباد الله ، وشاركت إبليس وسائر الكفار في حبهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم ، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب والإيمان فيه. والحاصل أن الحسد مع كونه في نفسه صفة منافية للإيمان يستلزم عقائد فاسدة كلها منافية لكمال الإيمان واليقين ، وأيضا لاشتغال النفس بالتفكر في أمر المحسود والتدبير لدفعه يمنعها عن تحصيل الكمالات والتوجه إلى العبادات ، وحضور القلب فيها ، وتولد في النفس صفاتا ذميمة كلها توجب نقص الإيمان ، وأيضا يوجب عللا في البدن وضعفا فيها يمنع الإتيان بالطاعات على وجهها ، فينقص بل يفسد الإيمان على أي معنى كان ، ولذا قال عليه‌السلام : يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب.

وأما كونه ضررا في الدنيا عليك ، فهو أنه تتألم بحسدك وتتعذب به ، ولا تزال في كد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله عن نعم يفيضها عليهم ، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها عليهم وتتأذى وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم ، فتبقى مغموما محزونا متشعب القلب ضيق النفس كما تشتهيه لأعدائك ، وكما يشتهي أعداؤك لك ، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لله در الحسد حيث بدء بصاحبه فقتله ، ولا تزول النعمة على

١٦٠