شبهة الغلو عند الشيعة

الدكتور عبدالرسول الغفار

شبهة الغلو عند الشيعة

المؤلف:

الدكتور عبدالرسول الغفار


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٢

ذكره : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ) (١) فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ( إلا من ارتضى من رسول ) ، كان الله محمد ممن ارتضاه ، وأما قوله تعالى : ( عالم الغيب ) فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ، ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يفضيه إلى الملائكة ، فذلك يا حمران ، علم موقوف عنده إليه فيه الشيئة ، فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا يمضيه ، فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم إلينا (٢).

الإمام سلام الله عليه في حديثه مع حمران يفرق بين العلم الذي استأثره الله لنفسه ، وهو الذي إن شاء يمضيه وإن لم يشاء لن يمضيه. هذا علم خاص به ، وبين العلم الذي قدره وأمضاه ، وهذا قد ينتهي إلى الرسول ومنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأئمة عليهم‌السلام.

وعن سدير أيضاً قال : كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه‌السلام إذا خرج إلينا وهو مغضب ، فلما أخذ مجلسه قال : يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل ، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت أي بيوت الدار هي ، قال سدير : فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير ومسير وقلنا له : جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم عملاً كثيراً ، ولا ننسبك إلى علم الغيب ، قال : فقال : يا سدير ، ألم تقرأ القرآن؟ قلت : بلى ، قال فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليم كرفك ) (٣) قال : قلت جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال : قلت أخبرني به؟ وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال : قلت أخبرني به؟ قال قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب؟! قال : قلت جعلت فداك ما أقل هذا فقال : يا سدير ما أكثر هذا ، أن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به ، يا سدير فهل

__________________

(١) سورة الجن ، الآية : ٢٦.

(٢) أصول الكافي ١ | ٢٥٦.

(٣) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

١٤١

وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضاً : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) (١) قال : قلت جعلت فداك ما أقل هذا فقال يا سدير : ما أكثر هذا ، وأن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به يا سدير ، فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضاً : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) (٢) قال : فقلت : قد قرأته جعلت فداك ، قال : أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت : لا ، بل من عنده علم الكتاب كله ، قال : فأوما بيده إلى صدره وقال : علم الكتاب والله كله عندنا علم الكتاب والله كله عندنا (٣).

وعن عمار السباطي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : نزل جبرائيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برمانتين من الجنة ، فلقيه علي عليه‌السلام فقال : ما هاتان الرمانتان اللتان في يدك؟ فقال : أما هذا فالنبوة ، ليس لك فيها نصيب ، وأما هذا فالعلم ثم فلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصفين فأعطاه نصفها وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصفها ثم قال : أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه ، قال : فلم يعلم والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرفاً مما علمه الله عز وجل إلا وقد علمه علياً ثم انتهى العلم إلينا ، ثم وضع يده على صدره (٤).

يستفاد من الحديث عدة أمور منها :

١ ـ أن النبوة مختصة بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس للإمام علي نصيب فيها وهذا خير ذليل للرد على من غلا في حق أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٤٣.

(٢) سورة الرعد الآية ٤٣ أنظر أصول الكافي ١ | ٢٥٧.

(٣) أصول الكافي ١ | ٢٥٧.

(٤) أصول الكافي ١ | ٢٦٤.

١٤٢

٢ ـ أن علم الرسول عند الإمام أمير المؤمنين ، وقد صار إليه أما بتعليم وأما بوراثة أو بطريق ما.

٣ ـ ما كان عند الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقل إلى ولده المعصومين وكان الإمام أبي جعفر واحداً منهم حيث أشار إلى صدره.

عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنا قال : إن علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الاسماع ، فقال أما الغابرفما تقدم من علمنا ، وأما المزبور فما يأتينا ، وأما النكت في القلوب فإلهام وأما النقر في الأسماع فامر الملك (١).

في الحديث إشارة إلى نوع العلم وأقسامه ، وإلى طريق أخذ العلم فنوع العلم قسمان ما كان وما يكون. أما كيفية أخذه فيتم أما بطريق الإلهام ، وأما بطريق أمر الملك.

الطبرسي في الاحتجاج يذكر التوقيع الذي خرج عن صاحب الزمان عليه‌السلام رداً على الغلاة لكتاب كتبه محمد بن علي بن هلال الكوفي إليه عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام :

يا محمد بن علي تعالى الله عز وجل عما يصفون سبحانه وبحمده ، ليس نحن شركاؤه في عمله ولا في قدرته بل لا يعلم الغيب غيره كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) (٢).

وأنا وجميع آبائي من الأولين : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النبيين ومن الآخرين محمد رسول الله وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن مضى من الأئمة صلوات الله عليهم أجميعن ، إلى مبلغ أيامي ومنتهى عصري عبيد الله عز وجل يقول الله عز وجل : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) (٣).

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٢٦٤.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٦٥.

(٣) سورة طه ، الآية : ١٢٤ ـ ١٢٦.

١٤٣

يا محمد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم ، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه ، فأشد الله الذي لا إله إلا هو به شهيداً ، ورسوله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملائكته وأنبياءه وأولياءه عليهم‌السلام وأشهدك وأشهد كل من سمع كتابي هذا أني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول أنا نعلم الغيب ونشاركه في ملكه ، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه الله لنا وخلقنا له ، أو يتعدى بنا عما قد فسرته لك وبيتنه في صدر كتابي.

وأشهدكم : أن كل من نبرأ منه فإن الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الكتاب أمانة في عنقك وعنق من سمعه أن لا يكتمه لأحد من موالي وشيعتي ، حتى يظهر على هذا التوقيع الكل من الموالي لعل الله عز وجل يتلافاهم فيرجعون إلى دين الله الحق ، وينتهون عما لا يعلمون منتهى أمره ، ولا يبلغ منتهاه ، فكل من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته فقد حلت عليه اللعنة من الله وممن ذكرت من عباده الصالحين (١).

نقل الكشي عن حمدويه قال : حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن ابن المغيرة قال : كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن عليه‌السلام فقال يحيى : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال سبحان الله ضع يدك على رأسي ، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت.

قال ثم قال : لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وبهذا الخبر يتأكد أن علمهم عليهم‌السلام إنما ورثوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن علم الغيب الذي هو مختص بالله ليس لهم ، بل استأثرهم الله سبحانه بفيوضات وإلهام ، والقرآن الكريم يؤكد ذلك المعنى أو المقدار المستأثر : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول ... ) (٣).

ومما يؤكد الذي قلناه الخبر المروي عن أبي عمرو عن حمدويه قال :

__________________

(١) الاحتجاج ٢ | ٤٧٤.

(٢) رجال الكشي ٤ | ٥٨٧.

(٣) سورة الجن ، الآية : ٢٦ ـ ٢٧.

١٤٤

حدثنا يعقوب عن ابن أبي عمير عن شعيب عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أنهم يقولون ، قال : وما يقولون؟ قلت يقولون تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب. فرفع يده إلى السماء وقال سبحان الله سبحان الله لا والله ما يعلم هذا إلا الله (١).

والخبر المروي عن أحمد بن علي القمي السلولي ، قال : حدثني أحمد ابن محمد بن عيسى عن صفوان ، عن عنبسة بن مصعب ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : أي شيء سمعت من أبي الخطاب؟

قال سعمته يقول : إنك وضعت على صدره وقلت له عه ولا تنس! وإنك تعلم الغيب وأنك قلت له : هو عيبة علمنا ، وموضع سرنا ، أمين على أحيائنا وأمواتنا.

قال : لا والله ما مس شيء من جسدي إلا يده ، وأما قوله أني قلت أعلم الغيب : فوالله الذي لا إله إلا هو ما أعلم الغيب ، ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنا قلت له ، قال : وقدامه وجويريه سوداء تدرج.

قال : لقد كان مني إلى أم هذه ، أو إلى هذه كخطة القلم فأتتني هذه ، فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني.

ولقد قاسمت مع عبد الله بن الحسن حائطاً بيني وبينه ، فأصابه السهل والشراب وأصابني الجبل ، فلو كنت أعلم الغيب لأصابني السهل والشراب وأصابه الجبل. وأما قوله إني قلت له هو عيبة علمنا ، وموضع سرنا ، أمين على أحيائنا وأمواتنا ، فلا أجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إي كنت قلت له شيء من هذا قط (٢).

بجد فيما تقدم عبارات صريحة منهم عليهم‌السلام في نفي الغيب الذي كان يتصوره الغلاة في حقهم وهو الغيب الذاتي ، أما العرضي أو الذي يكون بالتبعية من قبيل علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الوصايا وما ورثوه ، فهذا أمر محقق

__________________

(١) رجال الكشي ٢ | ٥٨٨.

(٢) رجال الكشي ٤ | ٥٨١.

١٤٥

وشيء عادي بالنسبة لهم ، لأن علمهم هذا ليس طويلاً قبال علم الله ، بل إنما هو في العرض يتحقق لهم. وما ورد في الأخبار أنهم يعلموم ما كان وما هو كائن إلى قيام الساعة ، أو أنهم يعلمون أسماء أصحابهم وشيعتهم وهم في الاصلاب ، وكذا يعلمون أسماء أعدائهم ويعلمون متى يموتون وأي شيء يحصل لهم من البلايا والمصائب ، وما أخبروه عن الحوادث التي تقع في المستقبل ، وأنهم يعرفون الإضمار وحديث النفس ، ويعرفون منطق الطير ولغة الحيوانات ... إلى غير ذك من العناوين التي قد يتصورها المخالف أنها من الغلو في حق الأئمة عليهم‌السلام ، بل وربما بعض المواقف أيضاً يدعيها غلواً فيهم ... فهذا الإدعاء وذاك التصور من المخالفين غير صحيح.

وأقول كل ذلك لم يكن من الغلو بشيء بل هي مراتب حقة لهم ، وأنهم عباد مكرمون أكرمهم الله بالعلم واليقين الثابت ، وليس هم أقل شأناً من النبي سليمان عندما أطاعته الريح والحيوانات والجن والطير ، ليس هم أقل شأناً من عيسى الذي كان يحيى الموتى بإذن الله!

نعم إن هؤلاء الأنبياء سلام الله عليهم امتازوا بالنبوة ونزول الوحي عليهم ، والأئمة المعصومون لم يكن لهم ذلك ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا : نزهونا عن الألوهية وقولوا فينا ما شئتم ، وفي بعض الأخبار يستفاد منها تنزيههم عن التبوة كذلك.

ورب سائل يسأل كيف ورثوا هذه العلوم من النبي؟ وهل علمهم كان فقط بالوراثة؟ من أن علمهم قد يكون بالوراثة وقد يكون بغيره ، فأما الأول الأخبار والروايات مستفيضة ومتواترة حتى بلغت حد الشهرة ، فإن علومهم ورثوها عن الكتب التي أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام والتي فيها علم كل شيء وما كان وما سيكون ، ومن الأحكام فيها تبيان كل شيء حتى ارش الخد ، وكذلك ورثوا الصحيفة الجامعة ، وورثوا مصحف فاطمة وكتاب الجفر ...

وأما القسم الثاني مع علومهم فكان بالإلهام والنقر في الأسماع و ...

عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام عن أبائه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين اكتب ما أملي عليك ، قال علي عليه‌السلام يا نبي الله وتخاف ـ علي ـ النسيان؟

١٤٦

قال لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت الله لك أن يحفظك فلا ينساك لكن اكتب لشر كائك. قال : قلت ومن شركائي يا نبي الله ، قال الآئمة من ولدك بهم يسقي أمتي الغيث وبهم يستجاب دعاؤهم وبهم يصرف البلاء عنهم وبهم تنزل الرحمة من السماء وهذا أولهم وأومى بيده إلى الحسن ثم أومى بيده إلى الحسين ثم قال الآئمة من ولدك (١).

عن بكر بن كرب قال كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعنا ، يقول أما والله عندنا ما لا نحتاج إلى الناس وإن الناس يحتاجون إلينا إن عندنا الصحيفة سبعون ذراعاً بخط علي واملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها من كل حلال وحرام وإنكم لتأتون فتدخلون علينا فنعرف خياركم من شراركم (٢).

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن عندنا صحيفة من كتب علي طولها سبعون ذراعاً فنحن نتبع ما فيها لا نعدوها ، وسألته عن ميراث العلم ما بلغ أجوامع هو من العلم أم فيه تفسير كل شيء من هذه الأمور التي تتكلم فيه الناس مثل الطلاق والفرايض؟

فقال إن علياً كتب العلم كله القضاء والفرايض ، فلو ظهر أمرنا لم يكن شيء إلا فيه نمضيها (٣).

وعن جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر عليه‌السلام قال : قال أبو جعفر إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

عن عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن جبرائيل أتى رسول الله بصحيفة مختومة بسبع خواتيم من ذهب وأمر إذا حضره أجله أن يدفعها إلى علي بن أبي طالب فيعمل بما فيه ولا يجوزه إلى غيره وأن يأمر كل وصي من بعده أن يفك خاتمه ويعمل بما فيه ولا يجوز غيره (٥).

وعن علي بن ميسرة عن أبي أراكة قال كنا مع علي عليه‌السلام فحدثنا

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٨٨ الحديث ٢٢.

(٢) بصائر الدرجات ١٦٢ الحديث الأول من الباب ١٢.

(٣) بصائر الدرجات ١٦٣ الحديث ٧ نفس الباب.

(٤) بصائر الدرجات ١٦٤ الحديث ١٢.

(٥) بصائر الدرجات ١٦٦ الحديث ٢٤.

١٤٧

أن علياً ورث من رسول الله السيف وبعض يقل البغلة ، وبعض يقول ورث صحيقة في حمائل السيف إذ خرح علي عليه‌السلام ونحن في حديثه فقال أيم الله لو انبسط ويؤذن لي لحدثتكم حتى يحول الحول لا أعبد حرفاً وأيم الله إن عندي لصحف كثيرة قطايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة وما ورد على العرب أشد عليهم منها وإن فيها لستين قبيلة من العرب مبهرجة ما لها في دين الله من نصيب (١).

وعن محمد بن حكيم عن أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام قال إنما هلك من كان قبلكم بالقياس إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه حتى أكمل له جميع دينه حلاله وحرامه فجاءكم مما تحتاجون إليه في حياته وتستغيثون به وبأهل بيته بعد موته وإنها مصحف عند أهل بيته حتى أن فيه لأرش خدش الكف ، ثم قال : إن أبا حذيفة لعنه الله ممن يقول قال علي وأنا قلت (٢) لا يخفى أن أبا حنيفة كان يعمل بالقياس وكانت بينه وبين الإمام الصادق عليه‌السلام عدة مناظرات وقد تتلمذ في أواخر عمره على الإمام الصادق حتى قال كلمته المشهورة ( لو لا السنتان لهلك النعمان ... ).

ومن الصحف التي عندهم هي صحف إبراهيم موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، عن فيض بن المختار عن أبي عبد الله قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفيضت إليه صحف إبراهيم وموسى فائتمن عليها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وائتمن عليها الحسن وائتمن عليها الحسين حتى انتهت إلينا (٣).

وعن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم في حديث بريهة حين سئل موسى ابن حعفر عليه‌السلام فقال يا بريهة كيف علمك بكتاب الله؟

قال أنا به عالم. قال فكيف ثقتك بتأويله؟

قال ما أوثقني بعلمي فيه ، قال فابتدأ موسى عليه‌السلام في قراءة الإنجيل فقال بريهة والمسيح ـ صيغة قسم ـ لقد كان يقرأها هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح ثم قال إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة قال هشام فدخل بريهة والمرأة على أبي عبد الله وحكى هشام الكلام الذي يجري بين

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٦٦ الحديث ٢٤.

(٢) بصائر الدرجات ١٦٧ الحديث ٣.

(٣) بصائر الدارجات ١٥٧ | الحديث ١٠.

١٤٨

موسى وبين بريهة فقال بريهة جعلت فداك أين لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ فقال هي عندنا وراثة من عندهم مقرؤها كما قرؤها ونقولها كما قالوها والله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري ، فلزم بريهة أبا عبد الله عليه‌السلام حتى مات (١).

وعن ليث المرادي أنه حدثه عن سدير بحديث فأتيته فقلت فإن ليث المرادي حدثني عن بحديث فقال ما هو قلت جعلت فداك حديث اليماني قال نعم كنت عند أبو عبد الله عليه‌السلام فمر بنا رجل من أهل اليمن فسأله أبو جعفر عن اليمن فأقبل يحث فقال له أبو جعفر عليه‌السلام هل تعرف صخرة في موضع كذا وكذا قال نعم ورايتها فقال الرجل ما رأيت رجلاً أعرف بالبلاد منك فلما قام الرجل قال لي أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا الفضل تلك الصرخة التي حيث غضب موسى فألقى الألواح فما ذهب من التوراة التقمته الصخرة فلما بعث الله رسوله أدته إليه وهي عندنا (٢).

وعن الأصبغ بن نباتة قال : قال لما تقدم علي الكوفة صلى بهم أربعين صباحاً فقرأ بهم سبح اسم ربك الأعلى ، فقال المنافقون والله ما يحس أن يقرأ ابن أبي طالب القرآن ولو أحسن أن يقرأ بنا غير هذه السورة ، قال فبلغه ذلك فقال ويلهم إني لأعرف ناسخة ومنسوخة ومحكمه ومتشابهه وفصله من وصله وحروفه من معانية والهل ما حرف نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا وأنا أعرف فيمن أنزل وفي أي يوم نزل وفي أي موضع نزل ، ويلهم أما يقرأون أن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى. والله عندي ورثتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إبراهيم وموسى ، ويلهم ، والله إني أنا الذي أنزل الله في ( وتعيها إذن واعية ) (٣) فإنا كنا عند رسول الله فخبرنا بالوحي فأعيه ويفوتهم ، فإذا خرجنا قالوا ماذا قال آنفا (٤).

ومن جملة الكتب التي ورثوها ، مصحف فاطمة عليها‌السلام وهي ليست قرآن أو أحكام بل فيها علم غزير وهو علم ما سيكون.

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٥٦ | الحديث ٤.

(٢) بصائر الدرجات ١٥٧ | الحديث ٧.

(٣) سورة الحاقة ، الآية : ١٢.

(٤) بصائر الدرجات ١٥٥ ، الحديث ٣.

١٤٩

عن حماد بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول تظهر الزنادقة في سنة ثمانية عشرين ومائة وذلك لأني نظرت في مصحف فاطمة. قال فقلت : وما مصحف فاطمة عليها‌السلام فقال إن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فأرسل إليها ملكاً يسلي عنها غمها يحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لها إذا أحسست بذلك فسمعت الصوت فقولي لي فأعلمته فجعل يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً قال : ثم قال أما أنه ليس فيه من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون (١).

وعن علي ابن رئاب عن أبي عبيدة قال سأل أبا عبد الله عليه‌السلام بعض أصحابنا عن الجفر ، فقال هو جلد ثور مملوء علماً ، فقال له ما الجامعة؟ فقال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلا وفيها ـ حتى ـ ارش الخدش.

قال له فمصحف فاطمة؟ فسكت طويلاً ثم قال إنكم تبحثون عما تريدون وعما لا تريدون. إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس وسبعين يوماً وقد دخلها حزن شديداً على أبيها وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة (٢).

ويعلم من الحديث أن مصحف فاطمة ليس كما يزعمه المخالفون أنه قرآن آخر غير الذي بأيدي الناس حتى يكفرون الشيعة به ، ولا هو كتاب مسائل في الحلال والحرام ، بل إنه علم ما يكون ...

وعن أبي بصير ، قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له إني أسئلك جعلت فداك عن مسألة ليس هيهنا أحد يسمع كلامي فرفع أبو عبد الله عليه‌السلام ستراً بيني بين بيت آخر فاطلع في ثم قال يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال قلت : جعلت فداك أن الشيعة يتحدثون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم علياً عليه‌السلام باباً يفتح منه ألف باب. قال فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام يا أبا محمد

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٧٧ ، الحديث ١٨.

(٢) المصدر السابق ١٧٣ ، الحديث ٦.

١٥٠

علم والله رسول الله علياً ألف باب يفتح له من كل باب ألف باب.

قال : قلت له والله هذا لعلم فنكت ساعة في الأرض ثم قال إنه لعلم وما هو بذلك ثم قال يا أبا محمد وإن عندنا الجماعة وما يدريهم ما الجامعة قال قلت جعلت فداك وما الجامعة؟

قال صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واملأ من فلق فيه وخط علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، كل شيء يحتاج الناس إليه حتى الارش في الخدش ، وضرب بيده إلي ، فقال بأذن لي يا أبا محمد؟ قال : قلت جعلت فداك إنما أنا لك أصنع ما شئت قال فغمزني بيده ، فقال حتى ارش هذا كأنه ـ مغضب ـ قال : قلت جعلت فداك هذا والله العلم. قال إنه لعلم وليس بذلك ثم سكت ساعة ، ثم قال إن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر مسك شاة أو جل بعير. قال : قلت جعلت فداك ما الجعفر؟ قال وعاء أحمر أو أدم أحمر فيه علم النبيين والوصيين ، قلت هذا والله العلم ، قال إنه لعلم ، وماهو بذلك ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها‌السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة. قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد وإنما هو شيء أملاها الله وأوحى إليها قال قلت هذا والله ه العلم. قال إنه لعلم وليس بذاك. قال ثم سكت ساعة ثم قال إن عندنا لعلم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. قال : قلت جعلت فداك هذا والله هو العلم قال : إنه لعلم وما هو بذاك ،. قال : قلت جعلت فداك فأي شيء هو العلم؟ قال ما يحدث بالليل والنهار الأمر بعد الأمر ، والشيء إلى يوم القيامة (١).

لقد اشتمل الحديث على عدة فقرات مهمة وهي :

إن الإمام الصادق عليه‌السلام بين أن الرسول علم علياً ألف باب ومن كل باب يفتح له ألف باب ، لا كما قال أبو بصير باب واحد ...

ثم بين الإمام سلام الله عليه الجامعة وطولها سبعون ذراعاً وإنه من املاء الوحي على الرسول وقد خطه الإمام علي بيمينه ، وإن فيها كل المسائل الشرعية من الحلال والحرام ما كبر وصغر.

ثم بين سلام الله عليه الجفر وإنه وعاء علم النبيين سواء على شكل كتاب

__________________

(١) بصائر الدرجات ١٧١ | الحديث ٣.

١٥١

مخطوط فيه آثارهم ووصاياهم أو أنه سر مكنون مستودع في ذلك الوعاء.

ثم بين مصحف فاطمة عليها‌السلام وأن حجمه ثلاث أضعاف حجم القرآن الكريم وقد توهم البعض أنه ( القرآن ) الذي نزل على صدر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن حجمه الحقيقي هو ثلاث مرات ، وهو ليس كذلك ، بل الإمام عين حجم هذا المصحف لا إنه هو القرآن الحقيقي ، وفرق بين أن يقول هو القرآن وبين أن يمثل حجمه بالقرآن وهذا لا يخفى على أدنى شخص يعرف اللغو أو شيئاً من البلاغة.

والعبارة صريحة منه عليه‌السلام قال : والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد. إنما هو شيء املاها الله وأوحى إليها ...

وقد طبل المخالفون والمغرضون ، فقالوا إن الشيعة تزعم أن لديها القرآن الأصلي وهو الذي يسمى بمصحف فاطمة. وبعضهم قال إن الشيعة تدعى أن لها قرآنين أحدهما أكبر من الآخر. وإلى غير ذلك من أكاذيبهم وطعونهم ثم بين الإمام الصادق عليه‌السلام في آخر فقرة من الحديث أن عنده علم ما كان علم ما كائن أي أخبار المستقبل.

أقول : دلت الأخبار الكثيرة على أن فاطمة كانت تسمع صوتاً ولا ترى له شخصاً فعلم أنها كانت محدثة ، تحدثها الملائكة وهكذا الأئمة عليهم‌السلام وهذا ليس غلو في حقهم ، بل إنما أمر خصه الله بهم على وجه التكريم.

وعن الحكم بن عيينة قال دخلت على علي بن الحسين يوماً فقال لي يا حكم : هل تدري ما الآية التي كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام يعرف صاحب قتله ويعلم بها الأمور العظام التي كان يحدث به الناس؟

قال الحكم فقلت في نفسي قد وقفت على علم من علم علي بن الحسين عليه‌السلام أعلم بذلك تلك الأمور العظام.

قال فقلت : لا والله لا أعلم به أخبرني بها يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال والله : قول الله : ( وما أرسلنا من رسول ) (٢) ( ولا نبي ولا محدث ) فقلت وكان علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟ قال نعم وكل إمام من أهل البيت فهو محدث (٢).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٦٤ ، سورة إبراهيم ، الآية : ٤.

(٢) بصائر الدرجات ٣٣٩ | الحديث ٣.

١٥٢

وعن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله من أهل بيتي اثنا عشر محدثاً. فقال له عبد الله بن زيد كان أخا علي لأمه سبحان الله كان محدثاً ـ كالمنكر لذلك ـ فأقبل عليه أبو جعفر عليه‌السلام فقال أما والله إن ابن أمك بعد وقد كان يعرف ذلك. قال فلما قال ذلك سكت الرجل. فقال أبو جعفر هي التي هلك فيها أبو الخطاب لم يدر تأويل المحدث والنبي (١).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله قال : كان علي محدثاً وكان سلمان محدثاً قال : قلت فما آية المحدث؟ قال يأتيه فينكت في قلبه كيت وكيت (٢).

وعن علي بن جعفر الحضرمي عن سليم بن قيس أنه سمع علياً عليه‌السلام يقول إن أوصياني من ولدي مهديون كلنا محدثون فقلت يا أمير المؤمنين من هم؟ قال الحسن والحسين عليهما‌السلام ثم ابني علي بن الحسين عليهم‌السلام. قال : وعلي يومئذ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد وهم الذين أقسم الله بهم فقال ( ووالد وما ولد ) ، أما الوالد فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ولد يعني هؤلاء الأوصياء قلت : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام أيجتمع إمامان؟

قال : لا إلا واحدهما مصمت لا ينطق حتى يمضى الأول. قال سليم الشامي سألت محمد بن أبي بكر ، قلت كان علي عليه‌السلام محدثاً؟ قال نعم. قلت : وهل يحدث الملائكة إلا الأنبياء؟ قال أما تقرأ ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث )؟ قلت فأمير المؤمنين محدث؟ قال نعم وفاطمة كانت محدثة ولم تكن نبيه (٣).

يدل هذا الحديث وحديث حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام أن فاطمة عليها‌السلام كانت محدثة وأن سلمان الفارسي كان أيضاً محدث.

وقد عرفت أن ذلك من علوهم في الصفاء ومنزلتهم في الإيمان والتقوى وما نالوا هذه المنزلة إلا بطاعتهم لله وعبوديتهم الخالصة له سبحانه ، فأكرمهم الله ، بأن جعل لهم ملائكة تحدثهم فيأنسون بأنسهم في الحديث الذي يكون على شكل القذف في القلب أو الوقر في السمع.

__________________

(١) بصائر الدرجات ٣٤٠ | الجديث ٤.

(٢) أمالي ابن الشيخ ٣٦٠.

(٣) بصائر الدرجات ٣٩٢ ، الحديث ١٦.

١٥٣

عن الحسن بن محبوب عن الأحوال قال سمعت زرارة يسأل أبا جعفر الباقر عليه‌السلام قال أخبرني عن الرسول والنبي والمحدث؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام الرسول الذي يأتيه جبرائيل قبلاً فيراه يكلمه فهذا الرسول. وأما النبي فإنه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم عليه‌السلام ونحو ما رآى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرائيل من عنده بالرسالة كان محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرائيل ويكلمه بها قبلاً ، ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه يأتيه الروح فيكلمه ، ويحدثه من غير أن يكون رآه في اليقظة ، وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه (١).

عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال كنت بالمدينة فلما شدوا على دوابهم وقع في نفسي شي من أمر الحدث فأتيت أبا جعفر عليه‌السلام فاستأذنت فقال من هذا قلت زرارة ، قال ادخل ، ثم قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملي على علي عليه‌السلام فنام نومة ونعس فلما رجع نظر إلى الكتاب فمد يده قال من أملى هذا عليك قال أنت قال لا بل جبرائيل (٢).

عن أبي حمزة الثمالي قال كنت أنا والمغيرة بن سعيد جالسين في المسجد فأتانا الحكم بن عيينه فقال سمعت من أبي جعفر عليه‌السلام حديثاً ما سمعه أحد قط فسألناه فأبى أن يخبرنا به فدخلنا عليه فقلنا إن الحكم بن عيينة أخبرنا أنه سمع منك ما لم يسمعه منك أحد قط فأبى أن يخبرنا به فقال نعم وجدنا علم علي عليه‌السلام في آية من كتاب الله : ( وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) فقلنا ليست هكذا هي ، فقال في كتاب علي وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، فقلت وأي شيء المحدث فقال ينكت في أذنه فيسمع طنيناً كطنين الطست فقلت إنه نبي ثم قال لا مثل الخضر ومثل ذي القرنين (٣).

__________________

(١) بصائر الدرجات ٣٩٠ ، الحديث ٩.

(٢) بصائر الدرجات ٣٤٢.

(٣) بصائر الدرجات ٣٤٤.

١٥٤

أقول سبق في كيفية أخذ العلم بواسطة الإلهام أو بأمر الملك. والنكت في القلب والأذن واحد ، حيث أن الأذن طريق محسوس وموصل إلى القلب ، والقلب وعاء للخطابات والمعرفة ، لهذا كانت الخطابات القرآنية تصور القلوب وهي وعاز الفهم ، والفقه ، والمعرفة ، والإيمان والكسب ، والطهارة ، والقساوة ، والزيغ ، والمرض ، والخشوع ، والنفاق ... الخ.

اتضح من كل ما تقدم أن الأئمة عليهم‌السلام لم يعلموا الغيب ولم يقل أحد منهم بذلك أما علمهم بالمغيبات وأخبارهم بما يجري على شيعتهم وما سيقع من الحوادث ، فقد عرفت إنما كان من العلم الذي ورثوه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الصحف التي كانت عندهم.

قال الزجاج كما يحكيه الشيخ الطوسي في معنى الآية : ( وعنده مفتاح الغيب لا يعلمه إلا هو ... ) قال : يريد عنده الوصله إلى علم الغيب وكل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه افتح علي.

وقال ابن عمر مفتاح الغيب خمس ثم قرأ : ( إن الله عنده علم الساعة ... ) الآية قال الشيخ الطوسي : وتأويل الآية إن الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدات الأمور وعواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصوب وأصلح ويؤخر ما تأخيره أصوب وأصلح وإنه الذي يفتح باب لمن يريد من الأنبياء والأولياء ، لأنه لا يعلم الغيب سواه ولا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد إلا الله (١).

أم ما ورد في أن مفاتيح الغيب خمس فهي كما يذكرها الطبرسي ( قدس ) في تفسيره لقوله تعالى : ( إن الله عنده علم الساعة ). قال : أي استأثره سبحانه ولم يطلع عليه أحد من خلقه فلا يعلم وقت قيام الساعة سواه أو ينزل الغيث ، فيما يشاء من زمان أو مكان والصحيح أن معناه ويعلم نزول الغيث في مكانه وزمانه كما جاء في الحديث أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ويقرأ هذه الآية : ( ويعلم ما في الأرحام ) أي ويعلم ما في أرحام الحوامل ، أذكر أم أنثى ، أصحيح أم سقيم ، واحد أو أكثر؟ ( وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ) أي ماذا تعمل في المستقبل وقيل ما يعلم بقاءه غداً فكيف يعلم تصرفه ، ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) أي في

__________________

(١) مجمع البيان ٢ | ٣١١.

١٥٥

أي أرض يكون موته وقيل إنه إذا رفع خطوة لم يدر أنه يموت قبل أن يضع الخطوة أم لا. وإنما قال بأي أرض لأنه أراد بالأرض المكان ...

وقد روي عن أئمة الهدى عليهم‌السلام إن هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى (١). إلا أن تلك الأخبار غير تامة ن لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الأطهار عليهم‌السلام كانوا يعلمون تلك الأشياء على التفصيل والتحقيق ، لكن ليس على أوجه الاستقلال ، بل الله سبحانه اطلعهم على ذلك. الآيات الخمسة الأخيرة من سرة لقمان أوضحت لنا الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلا الله وهي :

١ ـ قيام الساعة إلا الله وهي :

٢ ـ نزول الغيث أي المطر.

٣ ـ ما يكون في أرحام الحوامل من حمل.

٤ ـ ماذا تفعل النفس في المستقبل من الطاعات أو المعاصي.

٥ ـ موت الإنسان وبأي أرض يحصل له ذلك.

لقد بينا فيما تقدم أن علم الله الذي استأثره لنفسه يشمل الغيب بكل صوره وهذه الأقسام الخمسة إنما هي بعض مصاديقه. علوم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرة وغزيرة وأسرارهم عجيبة مما تدهش العقول ، وكراماتهم لا تعد ولا تحصى ومما ذهبت به الركبان ، وكيف لا يكونوا كذلك حيث أن فضائلهم تحصى أخفاها المؤالف والمخالف ، أخفى فضائلهم المؤلف من مواليم حباً لهم وتقية ، كما أخفى فضائلهم المخالف وأعداءهم كرهاً منهم لهم ، وحقداً وبغضاً وحسداً ... ومع ذلك فإن الذي يشاع قد ملأ الخافقين ...

والمحب الحقيقي لا بد أن يسلك الطريق والمنهج السليم ، ولا بد ان يترفع عن الغلو في حق أهل البيت عليهم‌السلام ، قد يظن المغالي إنما يحسن صنعاً في محبوبه ، وما درى أنه قد يخرج بغلوه ذاك من ربقة الإيمان بل من كونه مسلماً فيقع في الشرك أو الكفر ، أعاذانا الله منه...

نعم قد يتوهم البعض فيقول :

ومن أحد مصاديق الخروج عن الحد المعقول في موضوع علم

__________________

(١) مجمع البيان م ٤ | ٣٢٤.

١٥٦

الغيب وإن الأئمة عليهم‌السلام يعلمون على الإطلاق وإن علمهم احاط باللوح المحفوظ بل إنهم أفضل من اللوح المحفوظ و ... هو قول الحافظ رجب ابن محمد البرسي الحلي صاحب كتاب ( مشارق أنوار اليقين في أسرار المؤمنين ) حيث قال :

... وكيف لا يطلعون على الغيب وعلمه واجب لهم من وجوه :

الأول : إن الله سبحانه سطر في اللوح المحفوظ علم ما كان وما يكون ثم أبرز إلى كل نبي منهم ما يكون له ولأوصيائه إلى ظهور الشريعة التي يأتي بعده حتى ختمت الرسل بخاتمهم وختمت الشرايع بخاتمها ، فوجب أن يكون عندهم ما سبق وما لحق إلى يوم القيامة (١). أقول وهذا كلام متين ليس فيه غلو ولم يخرج عن الحد المعقول.

نعم إنهم يطلعون على قدر ما اطلعهم الله عليه ، أما كونهم يعلمون كل الغيب على وجه الاستقلال فهذا باطل.

وقال ... وماذا عرف الناس من معنى على العلي ، إنما شاهدوا منه ليثاً خلائلاً ، وهذا صائلاً وهزبراً صلائلاً وعصباً قائلاً وبليغاً قالبلاً إلى أن يقول ... يؤيد هذا المدعي ما رواه طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين أنه قال يا طارق الإمام كلمة الله وحجة الله ووجه الله وحجاب الله وآية الله ، يختاره الله ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه ، أخذ له بذلك العهد على جميع عباده ، فمن تقدم عليه كفر بالله من فوق عرشه ، فهو يفعل ما يشاء وإذا شاء الله شاء.

ويكتب على عضده ( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ) (٢) فهو الصدق والعدل وينصب له عمود من نور من الأرض إلى السماء يرى فيه أعمال العباد ويلبس الهيبة وعلم الضمير ، ويطلع على الغيب (٣) ويرى ما بين المشرق والمغرب فلا يخفى عليه من شيء من عالم الملك والملكوت ، ويعطي منطق الطير عند ولايته.

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين ص ٦٨ ط حجريه.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١١٥.

(٣) وزاد في نسخة : ويعطي التصرف على الإطلاق ، كما أشار إليه المجلسي في البحار ٢٥ | ٢٦٩ ، الهامش.

١٥٧

فهذا الذي يختاره الله لوحيه ويرتضيه لغيبه ويؤيده بكلمته ويلقنه حكمته ويجعل قلبه مكان مشيئته وينادي له بالسلطنة ويذعن له بالأمره ، ويحكم له بالطاعة وذلك لأن الإمامة ميراث الأنبياء ومنزلة الأصفياء وخلافة الله وخلافة رسل الله فهي عصمة وولاية وسلطنة وهداية ، وإنه تمام الدين ورجح الموازين (١) ...

وقال في موضع آخر من كتابه :

فصل ثم صرح لنا أن الوالي هو المحيط بكل شيء فهو محيط بالعالم والله من ورائهم محيط ، فقال : ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ... ) (٢) فأخبرنا سبحانه أن جميع ما جرى به قلمه وخطه في اللوح الحفيظ مما في الأرض والسماء ، هو الإمام المبين وعلي ، فاللوح المحفوظ علي وهو أعلى وأفضل من اللوح بوجوه.

الأول : إن اللوح وعاء الخط وظرف المسطور والإمام محيط بالسطور ، وأسرار السطور فهو أفضل من اللوح.

الثاني : إن اللوح المحفوظ بوزن مفعول ، والإمام المبين بوزن فعيل ، وهو بمعنى فاعل فهو علام بأسرار اللوح واسم الفاعل أشرف من اسم المفعول.

الثالث : إن الوالي المطلق ولايته شاملة للكل ومحيط بالكل ، واللوح داخل فيها فهو دال على اللوح ودال عليه وعالم بما فيه (٣) ...

__________________

(١) مشارق الأنوار ص ١١٧ ط حجرية.

(٢) سورة يس ، الآية : ١٢.

(٣) مشارق أنوار اليقين ص ١٢٩ ، ط حجرية.

١٥٨

من الغلو ـ القول بالتفويض المطلق

تقدم الكلام عن معنى الجبر والتفويض أو ( القضاء والقدر ) وما يرتبط بموضوع حرية الإرادة ، ثم لمحنا هناك عن موضوع التفويض ، الذي يراد به تخويل أمر العباد إلى الرسول والأئمة وهو ما نبحثه هنا إن شاء الله.

الحديث عن التفويض بمعنى التخويل ، والذي يتضمن معنى التشريع أيضاً ، سوف يكون من عدة جوانب ، أهمها الحديث عن :

الآيات المنصوصة على إطاعة الرسول.

التفويض للرسول ـ بمعنى التشريع والأخبار في ذلك.

حق التشريع ..

مصاديق من تشريع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

دور الأئمة المعصومين عليهم‌السلام في التشريع.

معرفة الإمام ومنزلته.

تفويض أمر الخلق.

خلاصة البحث.

الآيات التي تنص على إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أكثر من أربعين مورداً في القرآن الكريم ينص على حق الطاعة ، الذي هو في الأساس حق مشروع لله سبحانه وتعالى في ذمة الخلق وفي أعناقهم ، وهذا الحق يتفرع منه عنوان ثانوي ليشمل دائرة أوسع ، بحيث يكون للنبي

١٥٩

ولأولى الأمر حق أيضاً ، على العباد إطاعتهم. وجل تلك النصوص الكريمة قرنت إطاعة النبي بإطاعة الله سبحانه ، قال تعالى : ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) (١)

وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٢) وقوله تعالى : ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا ) (٣) وقوله تعالى : ( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله ) (٤) وقوله تعالى : ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله ) (٥)

آيات كثيرة عطفت إطاعة الرسول على إطاعة الله سبحانه وكأنها إطاعة واحدة حيث إطاعة الله توجب إطاعة الرسول ، وكذلك إطاعة الرسول توجب إطاعة الله تعالى لذا أكد اقرآن الكريم على هذه الثمرة ، فقال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (٦)

وقال تعالى :

ثم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما جاءهم برسالة السماء التي تدعو قريش والعرب والناس كافة إلى توحيد الله أولاً ، وامتثال أوامره في العبادات والمعاملات ثانياً ، والاقتداء بسنة نبيه ثالثاً ، كان لا بد م التمهيد في الخطاب حتى يستعد الناس لتلقي هذه الأوامر والإذعان لها. وقد حصل ذلك بأروع الصور ، وبالتفاتات مهمة صاغها المولى لعباده حتى يفقهوا قول الرسول ويعوه ، فمثلاً صورت بعض الآيات الكريمة أن مهمة الرسول هو الإبلاغ والإنذار والإرشاد ، أما اجر ذلك فليس في حسبان الرسول شيء منه بل أجر ما يؤديه أنما هو على الله سبحانه قال تعالى يحكي عن قول الرسول

__________________

(١) سورة آل عمران ، : الآية : ١٣٢.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٥٩.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٤٦.

(٤) سورة الانفال ، الآية : ١.

(٥) سورة المجادلة ، الآية : ١٣.

(٦) سورة النساء ، الآية : ٨.

١٦٠