شبهة الغلو عند الشيعة

الدكتور عبدالرسول الغفار

شبهة الغلو عند الشيعة

المؤلف:

الدكتور عبدالرسول الغفار


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٢

العوجاء ، الذي أثار التشكيك في كل لامعتقدات الإسلامية وبين الأحداث من المسلمين حتى أنه كان يستهزئ بالحج والطواف ورمي الجمار ، وكان يسخرمن الصلاة وهكذا حتى وصل به الأمر أن يعلن كفره بالنبي وبالله وأمام الناس وفي مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال محمد بن سنان ، حدثني المفضل بن عمر قال : كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنبر ، وأنا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرفه وحباه مما لا يعرفه الجمهور من الأمة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته ، وخطير مرتبته فإني لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث اسمع كلامه فلما استقر به المجلس إذ رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه ، فتكلم ابن أبي العوجاء فقال : لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله ، وجاز الشرف بجميع خصاله. ونال الحظوة في كل أحواله ، فقال له صاحبه : إنه كان فيلسوفاً ادّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى ، وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول ، وضلت فيها الأحلام ، وفاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر ، فرجعت خاسئات هي حسّر ، فلما استحاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء ، ودخل الناس في دينه أفواجاً ، فقرن اسمه باسم ناموسه فصار يهتف به على رؤوس الصوامع ، في جميع البلدان والمواضع التي انتهت إليها دعوته ، وعلتها كلمته ، وظهرت فيها حجته براً وبحراً ، سهلاً وجبلاً في كل يوم وليلة خمس مرات مردداً في الأذان والإقامة ، ليتجدد في كل ساعة ذكره ، ولئلا يخمل أمره.

فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تحير فيه عقلي ، وضل في أمره فكري.

حدثنا في ذكر الأصل الذي نمشي له ...

ثم ذكر ابتداء الأشياء ، وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ولا صانع ولا ندبر بل الأشياء تتكوم من ذاتها بلا مدبر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم نزل ولا نزال (١) وللإمام الصادق عليه‌السلام عدة محاورات ومناظرات

__________________

(١) توحيد المفضل ٤١.

٤١

حاسمة أفحم بها ابن أبي العوجاء ، وهكذا للمفضل بن عمر محاورات معه ولهذا السبب أملى الإمام الصادق عليه اسلام كتاب التوحيد على المفضل في أربعة مجالس في أربعة أيام (١).

أما ابن أبي العوجاء أخذ يتنقل في الأمصار والبلدان يبث فكره الإلحاد بين الناس حتى قبل في سنة ١٥٥ هـ على يد والي الكوفة محمد بن سليمان زمن أبي جعفر المنصور العباسي ، قال الطبرسي فيه :

ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء وكان خال معن بن زائدة فأمر بحسبه ، قال أبو زيد فحدثني قثم ابن جعفر والحسين بن أيوب وغيرها ان سفهاءه كثروا في مدينة السلام ثم الحوا على أبي جعفر فلم يتكلم فيه إلا ظنين فامر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأبيه رأيه فكلم ابن أبي العوجاء أبا الجبار وكان منقطعاً إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما فقال له : إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف ولك أنت كذا وكذا ، فاعلم أبو الجبار محمداً فقال أذكرتنيه والله قد كنت نسيته ، فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه ، فلما انصرف اذكره فدعا به وأمر بضرب عنقه ، فلما أيقن أنه مقتول قال : أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ، والله لقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم فضربت عنقه (٢) ...

وفي لسان الميزان قال :

إنه كان في البصرة ، وصار في آخر أمره ثنوياً ، وكان يفسد الأحاداث ، فتهدده عمرو بن عبيد ، فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان والي الكوفة فقتله وصلبه (٣).

أجواء كهذه تنتشر فيها الزندقة والأفكار الدخيلة ، ويبرز فيها التناحر العقائدي والصراع السياسي والمخاصمات المذهبية وتعدد الاحزاب إنها

__________________

(١) المصدر السابق ٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ | ٢٩٩.

(٣) لسان الميزان ٤ | ٥٢.

٤٢

أجواء مناسبة لظهور الغلو فيها ، فإن بيئة الكوفة والبصرة كانتا ملائمة جداً لنشوء كل فكرة لها مساس بالحياة السياسية آنذاك. وقد عرفنا بأن الغلو هو ظاهرة من ظواهر الفساد العقائدي والانحطاط الفكري الذي ينشأ في الوسط السياسي المضظرب وفي الأجواء التي تسودها النزاعات الدينية ، كما أنه نشأ في المراكز الحساسة من نقاط الدولة الإسلامية وبالذات في الكوفة والبصرة وبغداد اما الأمكان البعيدة عن مركز الخلافة والدولة فإن التأثير فيها أقل ، لبعدها عن الاضطرابات السياسية والنزاعات ...

وهذا يدّلل أن سبب نشوء الغلو في العقائد والأفكار الدينية إنما هو سبب سياسي بالدرجة الأولى.

ومن الأسباب الأخرى لنشوء الغلو :

ثانياً : الإنحراف في العقائد الدينية المتبناة في بدء الأمر.

ثالثاً : الأطماع الشخصية والنزوات الفردية.

رابعاً : الإنحراف الجنسي ، وهو من الأسباب المهمة لانتشار الغلو وذلك أن الكثير من المغالين كانوا مصابين إما بداء قوم لوط أو أنهم يبيحون نكاح المحارم أو أنهم يشتهون الغلمان وكل ذلك متولد من الشذوذ الجنسي والعقد النفسية.

قال أبو عمر الكشي : وقالت فرقة بنبوة محمد بن نصير النميري ، وذلك أنه ادعى أنه نبي رسول ، وأن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام أرسله ، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن عليه‌السلام ويقول فيه بالربوبية ، ويقول بإباحة المحارم ، ويحلل نكاح الرجال بغضهم بعضاً في أدبارهم ، ويقول إنه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات ، وأن الله لم يحرم شيئاً من ذلك.

وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يقوي أسبابه ويعضده ، وذكر أنه رأى بعض الناس محمد بن نصير عيناً ، وغلام له على ظهره ، وأنه عاتبه على ذلك فقال : إن هذا من اللذات وهو من التواضعلله وترك التجبر ، وافتراق الناس فيه بعده فرقاً (١).

__________________

(١) رجال الكشي ٦ | ٨٠٤.

٤٣

وفي الإغاني قال : وكان مطيع ـ ابن أياس ـ يرمى بمرض قوم لوط ، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله ، وقالوا له : أنت في أدبك وشرفك وسؤددك ترمى بهذه الفاحشة القذرة ، فلو أقتصرت عنها.

فقال : حرّبوه أنتم ، ثم دعوا إن كنتم صادقين. فانصرفوا عنه وقالوا : قبح الله فعلك وعذرك وما استقبلتنا به (١).

وأخبار هؤلاء الغلاة والزنادقة كثيرة في ولوعهم بالغلمان وانتشار داء قوم لوط بينهم.

خامساً : الأمن من سطوة الحكام والانفلاة في الانضباط ، وهذا السبب دفع بالغلاة أن يتحدثوا في كل مكان من فير أن يردعهم رادع أو يحدّثهم خوف من سلطان أو قائد أو والي ، بل إن حكام الدولتين الأموية والعباسية كانت ترغب في انتشار هذه الأمور والخرافات والترهات بين الناس وتغص الطرف عنها ، وهذه سياسة كل حكومة لا ترى من وجودها أو كيانها المبرر الشرعي ، فلا بد إذن من السكوت عن هذه وأمثالها وترك الناس في صراعاتهم حتى يصفو لهم الجو ويخلو من منافس.

سادساً : الهروب من العبادات والركون إلى اللهو والدعة والتمرد على الخالق ، في أمالي الطوسي بإسناده عن فضيل بن يسار قال : قال الصادق عليه‌السلام احذروا على شبابكم الغلاة لايفسدوهم فإن الغلاة شر خلق الله ، يصفرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله ، والله إن الغلاة لشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، ثم قال عليه‌السلام إلينا يرجع الغالي فلا نقبله ، وبنا يلحق المقصر فنقبله ، فقيل له : كيف ذلك يا ابن رسول الله. قال :

الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله أبداً ، وإن المقصر إذا عرف عمل وأطاع (٢).

__________________

(١) الأغاني ١٢ | ٧٨.

(٢) أمالي الطوسي ٥٤.

٤٤

سابعاً : ومن أي الغلو هي المصالح المادية وابتزاز الناس أموالهم والأكل بالباطل وهذا ما فعله الحلاج ، الحسين بن منصور الذي ادّعى الربوبية وقال بالتناسخ وأصحابه قالوا إن اللاهوت حل فيه ...

في عام ٢٩٩ هـ ادّعى للناس إنه إله وإنه يقول بحلول اللاهوت في الأشرف من الناس ، وانتشر له في الحاشية ذكر عظيم ، ووقع بينه وبين الشبيلي وغيره من مشايخ الصوفية ، فبعث به المقتدر إلى عيسى ليناظره ، فأحضر مجلسه وخاطبه خطاباً فيه غلظة ، فحكى أنه تقدم إليه وقال له فيما بينه وبينه : قف من حيث انتهيت ولا تزد شيئاً وإلا خسفت الأرض منه تحتك ، وكلاماً في هذا المعنى ، فتهيب عيسى مناظرته واستعفى منها ، فنقل في سية ٣٠٩ هـ إلى حامد بن العباس الوزير ، فحدث غلام لحامد كان موكلاً بالحلاج قال : دخلت عليه يوماً ومعي الطبق الذي عادتي أن اقدمه إليه كل يوم فوجدته قد ملأ البيت نفسه وهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه ليس فيه موضع ، فهالني ما رأيت وبقي مدة محموماً ، فكذبه حامد وشتمه وقال : ابعد عني ، وكان دخوله إلى بغداد مشهراً على جمل وحبس في بغداد مشهراً على جمل وحبس في دار المقتدر ، وأفتى العلماء بإباحة دمه.

وكان الحلاج قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل ووافقه على حيلة يعملها ، فخرج الرجل فأقام عندهم سنتين يظهر النسك والعبادة وقراءة القرآن والصوم ، فغلب على البلد حتى إذا تمكن أظهر أنه عمي فكان يقاد إلى مسجده ويتعامى في كل أحد شهوراً ، ثم أظهر أنه زمن فكان يحبو ويحمل إلى المسجد حتى مظت سنة وتقرر في النفوس عماه وزمانته فقال لهم بعد ذلك : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم يقول أنه يطرق هذا البلد عبد صالح مجاب الدعوة تكون عافيتك على يده ودعائه ، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء أو من الصوفية لعل الله تعالى يفرج عني ، فتعلقت النفوس لورود العبد الصالح ومضى الأجل الذي بينه وبين الحلاج فقدم البلد ولبس الثياب الصوف الرقاق وتفرد في الجامع فقال الأعمى : احملوني إليه ، فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج قال له : يا عبد الله رأيت في النوم كذا وكذا فادع الله تعالى لي ، فقال : ومن أنا وما تحكي. ثم ععى له ومسح يده عليه فقام مبصراً صحيحاً ، فانقلب البلد وكثر الناس على الحلاج ، فتركهم وخرج

٤٥

من البلد وأقام المتعامي المبرأ مما فيه شهوراً ثم قال لهم : إن من حق الله عندي ورده جوارحي عليّ أن أنفرد أكثر من هذا ، وأن يكون مقامي في الغزو ، وقد عملت على الخروج إلى طرطوس ، فمن كانت له حاجة يحملها ، فأخرج هذا ألف درهم وقال أغز بهذه عني ، وأخرج هذا مائة دينار وقال : أخرج بها غزاة من هناك ، وأعطاه كل أحد شيئاً فاجتمع له ألوف دنانير ودراهم ، فلحق بالحلاج وقاسمه عليها (١).

ومن لامثال الحلاج وابن أبي العزاقر العشرات بل المئات الذين أظهروا الزهو ولبسوا ثياب الصوفية وخدعوا الناس يشتى ألوان الخداع والمكر والشعودة ليديروا منها معاشهم ويصلحوا شأنهم المادي.

لقد صدرت من الحلاج عدة مقولات تؤكد على كفره ، ومنها قوله : ( أنا الحق ) وقوله : ( ما في الجنة إلا الله ).

ومن الشعر قوله المشهور :

ألـقاه في الـيم مـكـتوفـاً وقال لـه

إيّـاك إيّـاك أن تـبـتل بـالـماء (٢)


ومما ينسب إليه :

أرسـلت تـسأل عني كيف كـنت وما

لاقـيت بـعدك من هـم ومـن حـزن

لاكـمت إن كنت أدري كيف كنت ولا

لاكـنت إن كنت أدري كيف لم أكن (٣)


وقد انخدع بالحلاج جماعة من الناس حيث كان يوجه إليهم الكتب والمرسلات ويدعوهم إلى نفسه ويوهمهم أنه الباب والوكيل م قبل الإمام صاحب الزمان عليه‌السلام ولما أراد الله أن يفضحه ويكشفه للناس ، أنه كتب إلى أبي سهل بن إسماعيل بن علي النوبختي يقول له في مراسلة إياه :

إني وكيل صاحب الزمان عليه اسلام وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوى نفسك ، ولا ترباب بهذا الأمر.

فأرسل إليه أبو سهل يقول له :

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ | ١٤٣.

(٢) ديوان الحلاج ١٢٢.

(٣) ديوان الحلاج ١١٨.

٤٦

إني أسألك امراً يسيراً يخف مثل عليك ، وفي جنب ما ظهر على يديك ، من الدلائل والبراهين ، هو أني رجل أحب الجواري وأصبوا إليهن ، ولي منهن عدة اتحظاهن والشيب يبعدني عنهن ، وأحتاج أن اخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة لا سترغبهن ذلك ، وإلا انكشف أمري عندهن ، فصار القرب بعداً ، والوصال هجراً وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته ، تجعل لحيتي سوداء ، فإني طوع يديك ، وصائر إليك ، وقائل بقولك ، وداع إلى مذهبك مع مالي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.

فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه ، علم أنه أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه.

ثامناً : من أسباب الغلو هو التسلط على الرقاب وطلب الرياسة والزعامة.

فهؤلاء الذين اذعوا الألوهية أو النبوة ، إنما تخيلوها ملكاً ومنزلة ينالها الإنسان بمجاهداته وعهائه ، فما كانوا يتغقلوا أ ، الربوبية والعبودية لله وحده لا شريك له خالق الكائنات باريء النسمة ، الواحد الأحد الفرد الصمد ...

كما أن النبوة ليست من صنع انسان عاجز ولا منصب يناله المرء من حيث يشتهي أو يتمنى بل إنها منصب إلهي يختار الله لرسالته من يشاء حيث عي عبء كبي يختار الله تعالى له من يصلح من البشر ...

لكن هؤلاء الذين في قلوبه مرض ويعتريهم الهوس والخبل ذهبوا إلى أطماعهم وسوّلت لهم أنفسهم لأن يدعوا النبوة لهم.

الكشي بإسناده عن علي بن عقبة ، عن أبيه قال دخلت علي أبي عبد الله عليه‌السلام قال فسلمت وجلست ، فقال لي : كان في مجلسك هذا أبو الخطاب ، ومعه سبعون رجلاً كلّهم إليه ينالهم منهم شيء رحمتهم فقلت لهم : ألا أخبركم بفضائل المسلم ، فلا أحسب أصغرهم إلا قال : بلى جعلت فداك.

قلت : من فضائل المسلم أن يقال : فلان قارئ كتاب الله عز وجل ، وفلان ذو حظ من ورع ، وفلان يجتهد في عبادته لربه ، فهذه فضائل

٤٧

المسلم ، ما لكم وللرياسات. إنما المسلمون رأس واحد ، إياكم والرجال فإن الرحال للرجال مهلكة.

فإني سمعت أبي يقول : إن شيطاناً يقال له المذهب يأتي في كل صورة : إلا أنه لا يأتي في صورة نبي ولا وصي نبي ، ولا أحسبه إلا وقد تراءى لصاحبكم فاحذروه فبلغني أنهم قتلوا معه فأبعدهم الله وأسحقهم إنه لا يهلك على اله إلى هالك (١).

وبعد هذه الجولة السريعة في نشوء الغلو وأسبابه ، نبدأ حديثنا عن الغلو وأقسامه ، مبتدئين الحديث بمت غالى في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنتهين بمن غالى في الإمام المهدي المنتظر ( عج ) ذاكرين بغض مقولات الغلات في أهل البيت عليهم‌السلام أو في حق أصحابهم.

__________________

(١) الكشي ٤ | ٥٨٢.

٤٨

حد الغلو وأقسامه

من أبرز مصاديق الغلو أولئك الذين قالوا بألوهية النبي محمد والأئمة عليهم‌السلام. والألوهية والربوبية والعبودية كلها لله وحده لا شريك له دعنا نتابع هذه الفقرة من الغلو :

أولاً : في رجال الكشي ، حمدوية وإبراهيم عن محمد بن عيسى عن محمد بن أبي عمير عن محمد بن حمزة ، قال أبو جعفر محمد بن عيسى : ولقد لقيت محمداً ـ بن أبي حمزة ـ رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك يا ربي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مالك لعنك الله ، ربي وربك الله ، أما والله لكنت ما علمتك لجباناً في الحرب لئيماً في السلم (١).

ثانياً : في حديث تميم بن عبد الله بن تميم القرشي عن أبيه عن أمد بن علي الأنصاري عن الحسن بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة ... قال له المأمون يا أبا الحسن بلغني إن قوماً يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد ، فقال الرضا عليه‌السلام حدثني أبي موسى بن جعفر ، عن أبيه عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن \'بي عن أبيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ترفعوني فرق حقي فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبداً قبل أن

__________________

(١) رجال الكشي ٤ | ٥٨٩.

٤٩

يتخذني نبياً ، قال الله تبارك وتعالى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذا انتم مسلمون (١) ... الخ الحديث (٢).

وفي نوادر الراوندي بإسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ترفعوني فوق حقّى فإن الله تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً (٣).

ثالثاً : ومن الغلو في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول عمر بن الخطاب في موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قال أن محمداً مات قتلته بسيفي هذا ، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه‌السلام (٤).

لما توفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عائشة : فاستأذن عمر والمغيرة بن شعبة ودخلا عليه فكشفا الثةب عن وجهه ، قال عمر : واغشيتاه ، ما أشد غشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم قاما. فلما انتهيا إلى الباب ، قال المغيرة : يا غعمر مات والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر : كذبت ما مات رسول الله ولكنك رجل تحوسك فتنة ولن يموت رسول الله حتى يفنى المنافقين (٥).

بل وأكثر من هذا ، حيث أخذ عمر يهدّد بالقتل من قال رسول الله قد مات. قال الطبري حدّثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال لما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام عمر بي الخطاب فقال إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات والله

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيتان : ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ | ٢٠١.

(٣) نوادر الراوندي ١٦.

(٤) الملل والنحل ١ | ٢٩.

(٥) طبقات ابي سعد ح٢ ق٢ | ٥٤.

٥٠

ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات (١) ...

وفي سيرة زيني دحلان قال عمر ( من قال أن محمداً قد مات ضربته بسيفي ) (٢) وهكذا تجد الكثير من كتب التاريخ والسيرة نقلت هذا النص أو ما يشابهه كتاريخ الذهبي ١/ ٣١٧ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٥/ ٢٤٢ ، وتاريخ أبي الفداء ١/ ١٦٤ ، وأنساب الأشراف ١/ ٥٦٥ ، وتاريخ الخميس ٢/ ١٨٥ ، ومسند أحمد ٦/ ٢١٩ ، ونهاية الأرب ١٨/ ٣٨٥.

وقد وصل الغلو بعمر بن الخطاب أنه لم يذعن لابن أم مكتوم ـ عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم ـ لما قرأ عليه الآية الشريفة ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلت على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين (٣) ) ولما وجد العباس بن عبد المطلب إصرار عمر بن الخطاب وتهديده للناس إن قالوا بموت النبي ، خرج على الناس فقال : هل عندكم عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وفاته فليحدثنا؟ قالوا لا.

قال : هل عندك يا عمر من علم؟ قال : لا.

فقال العباس : اشهدوا أيها الناس أن أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهد إليه في وفاته والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله الموت (٤).

مع هذا لم ينته عمر ...!

فقال العباس : إن رسول الله يأسن كما يأسن البشر وإن رسول الله قد مات فادفنوا صاحبكم ، أيميت أحدكم إمامته ويميته إماتتين؟! هو أكرم على

__________________

(١) الطبري ٢ | ٤٤٢ وتاريخ اليعقوبي ٢ | ١١٤.

(٢) السيرة ٣ | ٣٩٠.

(٣) سورة آل عمران ، ١٤٤ أنظر تاريخ ابن كثير ٥ | ٢٤٣ وطبقات ابن سعد ح٢ ق٢ | ٥٧ وكنز العمال ٤ | ٥٣ الحديث ١٠٩٢.

(٤) تاريخ ابن كثير ٥ | ٢٤٣ وطبقات ابن سعد.

٥١

الله من ذاك فإن كان تقولون فليس على الله بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء الله ، ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً (١) ...

فهل ينتهي عمر بن الخطاب وينصاع لتلك الأدلة المفحمة ، والكلمات المعقولة؟!! كلا ، فما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه (٢).

إذن متى هدأت فورة عمر وسكن غلوائه وتراجع عن مقولته؟

عندما جاء شريكه في الأمر وصاحبه!

فأقبل أبو بكر فوجد عمر بن الخطاب قائماً يوعد الناس ويقول إن رسول الله حي لم يمت وإنه خارج إلى من أرجف به وقاطع أيديهم وضارب أعناقهم وصالبهم.

جلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً (٣) فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. ثم قرأ : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (٤) ...

فقال عمر : هذا في كتاب الله ...؟!

قال نعم.

فقال عندها عمر بن الخطاب :

والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعرقت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله قد مات (٥).

ماذا تفسر قول عمر وموقفه من موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قال له المغيرة بن شعبة يا عمر مات والله رسول الله ...؟

__________________

(١) كنز العمال ٤ | ٥٣ الحديث ١٠٩٠ ونهاية الارب ١٨ | ٢٨٦ وتاريخ الخميس ٢ | ١٨٥ ، سنن الدارمي ١ | ٣٩.

(٢) طبقات ابن سعد ح٢ ق ٢ | ٥٣ وتاريخ الخميس ٢ | ١٨٥.

(٣) كنز العمال ٤ | ٥٣ حديث ١٠٩٢.

(٤) كبقات ابن سعد ح٢ ق٢ | ٥٤.

(٥) تاريخ الطبري ٢ | ٤٤٢ وابن الأثير ٢ | ٢١٩ ، سيرة ابن هشام ٤ | ٦٥٦.

٥٢

فلم ينته ابن الخطاب.

ولمّا قرأ عليه عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ...

فلم ينته أبا حفص ...

ولّما قال العباس بن عبد المطلت : إن رسول الله قد مات ولمّا خرج على الناس وسألهم هل عند أحدكم عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وفاته ...

فلم ينته عمر الفاروق ...

فهل المغيرة بن شعبة وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم والعباس بن عبد المطلب والأنصار والمهاجرون وجميع صحابة رسول الله يكذبون على عمر الفاروق؟! إذن فعلام يعلو سيفه رؤوس المسلمين القائلين بوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم هل يصح قول البعض بأن عمر خبل في ذلك اليوم (١)؟!

أم هوي سياسي كان يضمره ، وإن صاحبه هو بطل الموقف الذي سيحق لهم المآرب التي عقدرها قبل هذا اليوم؟!

ام كان علو من عمر في حق نبيه ...؟!

في الوقت الذي اطبقت المصادر ـ جميعاً ـ التاريخية والرجالية وكتب السير أن اتشكيك في موت الرسول بوم وفاته إنما هومن مختصات عمر بن الخطاب وقد انفرد به دون بقية المسلمين بإجماع المؤرخين!!.

أقول : لا يمكن تفسير موقف عمر بن الخطاب من موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بأحد اللحتمالين : الاحتمال الأول أن نعتبر هكذا موقف نابعاً من سذاجة الخليفة عمر الفاروق ، وقصر إدراكه مما بعثة إلى الدهشة والتحيّر ...

والاحتمال الثاني أن نجزم بتنفيذ المؤامرة التي حيكت خيوطها في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحكم نسجها يوم وفاته. والذين أقدموا على تنفيذ هذه المؤامرة ، فيقيناً أن الإسلام لم يتغلغل في صدروهم.

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ | ٣٩٢.

٥٣

اما مفاد تلك المؤامرة ، هو اقصاء الإمام امير المؤمنين عليه‌السلام عن الخلافة مهما بلغ الثمن. ولو دققنا النظر في الاحتمالين لوجدنا أن الأول منه لا يمكن الأخذ به لما عرف عن الخليفة من حنكة ودهاء ، وإن كتب التراجم والسيرة تنصّ على ذلك.

قال الذهبي في تذكرة الحافظ في ترجمة عمر بن الخطاب : أبو حفص العدوي الفاروق وزير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أيد الله به الإسلام وفتح به الأمصار وهو الصادق المحدث الملهم الذي جاء عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لو كان بعدي نبي لكان عمر الذي فر منه الشيطان وأعلن به الإيمان وأعلى الأذان (١).

أما الاحتمال الثاني ، فالحقيقة تكمن فيه ، إذ نجد خيوط المؤامرة تنكشف للباحث بصورة جلية لا غبار عليها يوم احتضار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن سعد بسنده عن ابي عباس عن عكرمة ، قال : إن النبي قال في مرضه الذي مات فيه : آتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فقال عمر بن الخطاب : من لفلانة وفلانة (٢) إن رسول الله ليس بميت حتى يفتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى ، فقالت زينب زوج النبي : ألا تسمعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد إليكم؟! فلغطوا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا فلما قاموا قبض النبي مكانة (٣).

أقول : لاتعجب من ذلك ، ولاتعجب مما تقدم من قول الذهبي إذ على مذهبه أن يكون الوحي قد نزل علىعمر بن الخطاب دون النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن عمر في تصور الذهبي وأقرانه أحق بالنبوة من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو هو بمنزلة محمد دون سائر البشر!!.

وإلا فما معنى مشاكسة عمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورد طلبه ، ومنعه الصحابة من إتباعهم بالقرطاس والدواة؟! حتى قال أبو حفص أن النبي غلبه الوجع

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ | ٥ ط ١ ، دار الفكر بيروت.

(٢) اراد بهما حصن الروم.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ | ٢٤٤ ط بيروت.

٥٤

وعندكم كتاب الله فحسبنا كتاب الله (١).

فهل كان عمر بن الخطاب أحرص من الرسول في تقدير مصلحة الإسلام والمسلمين ... أم ماذا؟ وهل عمر الفاروق أصدق من النبي فيما يخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حاله وما نزل به من الموت الذي لا بدّ منه...؟! أليس قوله ذاك تكذيباً للرسول والقرآن ...؟!

والرسول يقول لهم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ...

نحن لا نريد أن نناقش هذا الأمر الذي أوقع الأمة في الغط وضجيج ، حتى أزعجوا تبيهم وساءه الذي صدر منهم فأمرهم أن يقوموا من عنده وهو القائل لهم لا ينبغي عندي التنازع.

بل نريد أن نبين خيوط المؤامرة كيف بدأت ، وكيف بدأ الغلو يمهّد لنفسه حتى اتسعت رقعته بين صنوف السذح من الناس من جانب ، وبين أهل البدع والأطماع والأهواء السياسية من جانب آخر.

نعم لقد صدق ابن أبي الحديد لمّا قال :

إن عمر لما علم أن رسول الله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتغلب أقوام عليها ، إما من الأنصار أو غيرهم وخاف أيضاً من حدوث ردّة ورجوع عن الإسلام ... ثم قال فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن اظهر ما أظهر من كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت ، وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم ... حراسة للدين والدولة أن جاء أبو بكر وكان غائباً بالسنح (٢) ...

__________________

(١) أخرجه البخاري في باب كتابه العلم ١ | ٢٢٠

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ١ | ١٢٩ ط دار أحياء التراث ، بيروت.

٥٥

الغلو في أمير المؤمنين عليه‌السلام

في خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أولاً : جاء رهط من الكوفة إلى الإمام علي عليه‌السلام وهم يقولون بربوبيته ويبدو أنهم كانوا اثني عشر رجلاً فاستتابهم فلم يتوبوا ، فأمر بالنار ليحرقوهم ، غير أنهم أصروا على مقولتهم فقتلهم جميعاً ، وقيل ألقاهم في النار.

فهؤلاء قد أظهروا غُلوهم في الإمام علي عليه‌السلام ، وقد سبق للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أشار إلى أمير المؤمنين في هذا ، حيث قال له : يا علي فيك شبهاً من عيسى بن مريم عليه‌السلام أحبته النصارى حتى أنزلوه منزلة ليس بها ، وابغضته اليهود حتى بهتوا أمه.

ثانياً : وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يهلك في رجلان محب غال ومبغض قال (١).

ثالثاً : وعن الحسين بن الحسن بن بندار القمي بإسناده عن مسمع بن عبد الملك أبي سيّار ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن علياً لما فرغ من قتال أهل البصرة : أتاه سبعون رجلاً من الزط (٢) فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم.

__________________

(١) انظر شاعر العقيدة للمؤلف ص | ١٤٥.

(٢) الزط جنس من السودان والهنود.

٥٦

وقال لهم : إني لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق ، قال ، فأبوا عليه وقالوا له أنت أنت هو ، فقال لهم : لئن لم ترجعوا عما قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله تعالى لأقتلنكم.

قال : فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا ، فامر أن تحفر لهم آبار فحفرت ، ثم خرق بعضها إلى بعض ثم فرقهم فيها ثم طم رؤوسها ثم ألهب النار في بثر منها ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتا (١).

وفي ذلك يقول عليه‌السلام :

إني إذا أبـصرت أمـراً مـنـكراً

أوقـدت نـاراً ودعـوت قـنبراً

ثـم احـتـفرت حـفراً فـحـفراً

وقـنبر يحـطم حـطماً مـنكراً

هذا ما حدث في خلافة أمير المؤمنين علي بي أبي طالب عليه‌السلام ، ولما قتل افترقت الشيعة التي قالت سابقاً بإمامة أمير المؤمنين إلى ثلاث فرق ، منها قالت أن علياً عليه‌السلام لم يقتل ولم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض ويسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً ، وهذه هي ثاني فرقة في الإسلام قالت بالوقوف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم غالت في ذلك.

كتب التراجم والفرق والمذاهب والكتب الرجالية القديمة وتوعز نشوء هذه الفرقة إلى عبد الله بن سبأ وهذا مما ترجم له في أغلب الكتب ، قديماً وحديثاً ، فمثلاً : ذكر النوبختي المتوفى بين عام ٣٠٠ ـ ٣١٠ هـ في كتابه ( فرق الشيعة ) ، وأبو خلف سعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفى سنة ٣٠١ هـ ذكره في كتابه المقالات والفرق وذكره الكشي المتوفى في ق ٤ هـ في رجاله ، والطوسي المتوفى عام ٤٦٠ هـ ذكره في رجاله ، والشهرستاني المتوفى عام ٥٤٨ هـ والعلامة الحلي وابن داوود وابن طاووس والمجلسي ومن المتاخرين الشيخ عبد الله المامقاني والسيد مرتضى العسكري ، والسيد الخوئي. ويجدر بنا أن نذكر طرفاً من تلك المقولات نسب إلى عبد الله بن سبأ :

١ ـ قال أبو خلف الأشعري ... وهذه الفرقة تسمى السبائية أصحاب عبد

__________________

(١) رجال الكشي ١ | ٣٢٥.

٥٧

الله بن سبأ وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني وساعده على ذلك عبد الله بن حرس وابن أسود وهما من أجلة أصحابه ، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وادعى أن علياً عليه‌السلام أمره بذلك ، وأن التقية لا تجوز ولا تحل ، فأخذه علي وسأله عن ذلك فأقربه وأمر بقتله ، فصاح الناس إليه من كل ناحية يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك قسيرة علي إلى المدائن ، ثم قال : وحكي جماعة من أهل العلم : أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً ، وكان يقول وهوعى يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بهذه المقالة ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي بمثل ذلك ، وهو أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي بن أبي طالب ، وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم.

فمن ها هنا من خالف الشيعة : إن اصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، ولما بلغ ابن سبأ وأصحابه نعى علي وهو بالمدائن وقدم عليهم راكب فسأله الناس فقالوا : ما خبر أمير المؤمنين ، قال ضربه أشقاها ضربة قد يعيش الرجل من أعظم منها ويموت من وقتها. ثم اتصل خبر موته فقالوا للذي نعاه كذبت يا عدو الله لو جئتنا والله بدماغه ضربة فأقمت على قتله سبعين عدلاً ما صدّقناك ، ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل أنه لا يموت حتى أماخوا بباب علي فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحياته والطامع في الوصول إليه ، فقال لهم من حضره من أهله وأصحابه وولده. سبحان الله ما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد ، قالوا إنا لنعلم أنه لم يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفة وسوطه كما قادهم بحجته وبرهانه وأنه ليسمع النجوى ويعرف تحت الديار العتل ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام ...

وقالوا بعد ذلك في علي أنه إله العالمين وأنه توارى عن خلقه سخطاً منه عليهم وسيظهر (١).

__________________

(١) المقالات والفرق ٢٠ ـ ٢١.

٥٨

٢ ـ ذكر الكشي في رجاله عن محمد بن قوله القمي بإسناده عن عبد الله ابن سنان قال حدثني أبي جعفر عليه‌السلام أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الله ، تعالى عن ذلك.

فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فدعاه وسأله ، فأقر بذلك وقال نعم أنت هو وقد كان القمي في روعي إنك أنت الله وإني نبي. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ويلك قد سخر منك الشيطان فأرجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار وقال : إن الشيطان استهواه ، فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك (١).

٣ ـ وقال الكشي حدثني محمد بن قولويه ، يإسناده عن هشام بن سالم ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، قال إنه لمّا ادعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين عليه‌السلام فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار (٢).

٤ ـ وفي رواية ابن قولويه بإسناده عن علي بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأزهري عن أبان بن عثمان ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ أنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان والله أمير المؤمنين عليه‌السلام عبداً لله طائعاً ، الويل لمن كذب علينا وإن قوماً يقولون فينا ما ال نقوله في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم نبرأ إلى الله منهم (٣).

٥ ـ وعن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي ، قال ، قال علي بن الحسين عليه‌السلام لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله ابن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي ، لقد ادع أمراً عظيماً ما له لعنه الله ، كان علي عليه‌السلام والله عبداً لله صالحاً أخو رسول الله ، ما

__________________

(١) رجال الكشي ، تصحيح ميرداماد الاستربادي ص ٣٢٣.

(٢) المصدر السابق.

٥٩

نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكرامة من الله إلا بطاعته لله.

٦ ـ الكشي بإسناده عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن ابن أبي نجران عن عبد الله قال. قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنا أهل بيت صدّيقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها وكان مسيلمة يكذب عليه.

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام أصدق من برأ الله بعد الرسول ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ (١).

وفي البحار زيادة على ما تقدم ... وكان أبو عبد الله الحسين بن علي عليه‌السلام قد ابتلى بالمختار ثم ذكر أبو عبد الله عليه‌السلام الحارث الشامي وبنان فقال : كانا يكذبان على علي بن الحسين عليه‌السلام ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعا والسري وأبا الخطاب ومعمراً وبشار الشعيري وحمزة الترمذي وصائد النهدي فقال : لعنهم الله إنا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأى كفانا الله مؤنة كل كذاب وأذاقهم حر الحديد (٢).

هذه جملة من الروايات والتي مصدرها عبد الله بن سبأ :

فمن هو عبد الله بن سبأ...؟

١ ـ قال الكشي : كان يدعي النبوة وأن علياً عليه‌السلام هو الله فاستتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه ذلك (٣).

٢ ـ وقال الشهرستاني : السبائية : أصحاب عبد الله بن سبأ ، الذي قال لعلي كرم الله وجهه : ( أنت أنت ) يعني : أنت الإله. فنفاه إلى المدائن. زعموا أنه كان يهودياً فأسلم ، وكان في اليهودية يقول في

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) البحار ٢٥ | ٢٦٣.

(٣) الكشي ١ | ٣٢٣.

٦٠