شبهة الغلو عند الشيعة

الدكتور عبدالرسول الغفار

شبهة الغلو عند الشيعة

المؤلف:

الدكتور عبدالرسول الغفار


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٢

وهذا ما ذهبت إليه الإمامية الإثنا عشرية إذ جوزت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم أن يشرع للأمة ما ينظم مصالحها ، وهذه هي السنة التي جاءت مكملة للشريعة السمحاء ، وتابع الرسول في هذا الحق الأئمة المعصومين عليهم‌السلام. أما بقية المذاهب الإسلامية فقد أنكرت ذلك على الشيعة الإمامية ، إلا أنها لم تنكر ما للحكام وأولي الأمر ـ على مذاقهم في التفسير ـ من حق التصرف والتشريع وتعطيل الحدود ، إذ له صلاحية كبرى في التقنين ، بل وجعلوا لذلك قدسية وشرافة ، والالتزام به واجب ، وإن كان يعارض النصوص القرآنية.

وهذا ماحدث في زمن الخليفة الأول إذ منع الزهراء من إرثها ، وقد خالف بحكمه هذا نصوص القرآن ، وقد استدل بما ينسب للرسول قوله : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ) وفي رواية لا نورث ما تركناه صدقة (١) على أن هذا لم يثبت صدوره من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أن الذي رواه فقط أبو بكر ، وقد احتجت الزهراء سلام الله عليها بنصوص من الذكر الحكيم كاد أن يقنع بها أبو بكر لولا نهي عمر بن الخطاب له.

ثم خالف عمر بن الخطاب نصوص القرآن بتحريمه متعة الحج ومتعة النساء ، فقال : كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليها ؛ أحدهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج إمرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة والأخرى متعتة الحج افصلوا حجكم من عمرتكم (٢) فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم.

وهذا التحريم هو الآخر مخالف لنصوص القرآن الكريم. ثم لم يجر الحد على خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويره ودخل بزوجته من ليلته ، فأي تعطيل للحدود ولحكم الله بعد هذا وأي مخالفة وراء هذا ... وهناك عشرات بل المئات من تلك المواقف التي خالفت النصوص القلرآنية ناهيك عن مخالفتها لسنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) أنظر شرح النهج ٤ | ٨٥ ، طبقات ابن سعد ٢ | ٣١٦ ، مسند أحمد ١ | ١٠ الحديث ٦٠ ، كنز العمال ١٤ | ١٣٠ كل المصادر أطبقت أن حديث ( لا نورث ... ) لم يروه إلا أبو بكر.

(٢) سنن البهيقي ٧ | ٢٠٦.

١٨١

مصاديق من تشريع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لقد سبق الاستدلال بالقرآن والسنة على جواز ممارسة الرسول لحق التشريع وقد تبين هذا في موضوع التفويض ، وسنذكر هنا مصاديق لتشريع الرسول فمن تلك المصاديق :

١ ـ إنه حرم النبيذ وكل مسكر ، وقد أمضاه الله له ذلك.

٢ ـ إنه شرع في الصلاة الركعتين الأخيرتين للرباعية وللمغرب بركعة ثالثة ، وقد أسقط الركعتين في السفر ولم يسقط الركعة الثالثة من صلاة المغرب فأجازه الله له ذلك.

٣ ـ أمر الله فرائض الصلب ، وفرض رسول الله للجد السدس فأمضاه الله له ذلك.

٤ ـ حرم الله مكة ، وحرم رسول الله المدينة ، فأجازه الله له ذلك.

٥ ـ وضع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دية العين ، ودية النفس ودية الأنف.

٦ ـ فرض الله صوم شهر رمضان ، وسن الرسول صوم شعبان وثلاثة أيام من كل شهر.

٧ ـ ولما صارت الفرائض الخمسة (١٧) سبعة عشر ركعة سن الرسول مثلي الفريضة وهي النوافل أربعاً وثلاثين ركعة ، فأجازه الله له ذلك...

٨ ـ أنزل الله الصلاة ، والرسول وقت أوقاتها فأجازه الله له ذلك.

مع النصوص

عن محمد بن عبد الحسن الصفار بإسناده عن القاسم بن محمد قال : إن الله أدب نبيه فأحسن تأديبه فقال : خذ العفو وامر بالمعروف واعرض عن الجاهلين ، فلما كان ذلك أنزل الله وإنك لعلى خلق عظيم ، وفوض إليه أمر دينه وقال : ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهنا ، فحرم الله الخمر بعينها وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل مسكر فأجازه الله ذلك ، وكان يضمن على الله الجنة فيجيز الله ذلك له وذكر الفرائض فلم يذكر الجد فأطعمه رسول الله

١٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهماً فأجازه الله ذلك ولم يفوض إلى أحد من الأنبياء غيره (١).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له كيف كان يصنع أمير المؤمنين بشارب الخمر؟ قال : كان يحده ، قلت فإن عاد قال يحده ثلاث مرات فإن عاد كان يقتله ، قلت فمن شرب الخمر كما شرب المسكر قال سواء فاستعظمت ذلك. فقال لا تستعظم ذلك إن الله لما أدب نبيه انتدب ففوض إليه وأن الله حرم مكة وأن الرسول حرم المدينة فاجاز الله له ذلك وأن الله حرم الخمر وأن رسول الله حرم المسكر فأجاز الله ذلك له ثم قال حرف وما حرف من يطع الرسول فقد أطاع الله (٢).

عن محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن أشياء من الصلاة والديات والفرائض وأشياء من أشباه هذا ، فقال : إن الله فوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

عن محمد بن يعقوب الكليني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر ، فقال له رجل : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال : نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه (٣).

الكليني بإسناده عن فضيل بن يسار قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده ، فقال عز وجل : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وأن رسول الله كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس ، لا يزل ولا يخطيء في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم إن

__________________

(١) بصائر الدرجات ٣٩٨.

(٢) بصائر الدرجات ٤٠١.

(٣) الكافي ١ | ٢٦٧.

١٨٣

الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ، ركعتين عشر ركعات ، فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر وأفرد الركعة في المفرد فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسين ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله صلى الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة ، فأجاز الله عز وجل له ذلك.

وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسكر في كل شراب فاجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهى إعانة وكراهة ، ثم رخص فصار الأخذ برخصة واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما نهاهم عنه نهي حرام ، لم يرخص فيه لأحد ولم ، يرخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر ليس لأحد أن يرخص شيئاً ما لم يرخصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم فوافق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى (١).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله أدب نبيه حتى إذا أقامه على ما أراد قال له وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ، فلما فعل ذلك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زكاه الله فقال إنك لعلى خلق عظيم ، فلما زكاه فوض إليه دينه فقال ما أتاكم الرسزل فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فحرم الله الخمر وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل مسكر فأجاز الله له ذلك كله وأن الله أنزل الصلاة وأن رسول الله

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٢٦٦.

١٨٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت أوقاتها فأجاز الله ذلك له (١).

وعن محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول من أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال لأن الأئمة منا مفوض إليهم فما أحلوا فهو حلال وما حرموا فهو حرام (٢).

وعن الصفار بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله أدب نبيه على محبته فقال إنك لعلى خلق عظيم ثم فوض إليه فقال ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال من يطيع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أطاع الله ، قال : ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي عليه‌السلام وائتمنه فسلمتم وجحد الناس ، والله لحسبكم أن تقولوا إذا قلنا وتصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله فما جعل الله لأحد من خير في خلاف أمرنا (٣).

وفي رواية على بن فضال عن عاصم عن النحوي عن أبي عبد الله ... قال أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوض إلى علي بن ابي طالب وائتمنه (٤).

عن زكريا الزجاجي ، عن الباقر عليه‌السلام كان يذكر علياً فقال : كان فيما ولي بمنزلة سليمان بن داود قال الله تعالى امنن أو امسك بغير حساب (٥).

محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن رفيد مولى ابن هبيرة ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا رأيت القائم أعطى رجلاً مائة ألف وأعطى آخر درهماً فلا يكبر في صدرك وفي رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك فإن الأمر مفوض إليه (٦).

أقول الرواية وإن كانت في تقسيم المال إلا أن هذا التصرف يدخل في ضمن تفويض الأحكام.

__________________

(١) بصائر الدرجات ٣٩٩.

(٢) (٣) وبصائر الدرجات ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٤) (٥) وبصائر الدرجات ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٦) بصائر الدرجات ٤٠٦.

١٨٥

وعن الصفار أيضاً قال : وما وجدت في نوادر محمد بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الأئمة عليهم‌السلام فقال إنا أنزلناه الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله وصي اراك الله وهي جارية في الأوصياء (١).

وعن الصفار بإسناده عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان؟ فقال : نعم وذلك أن رجلاً سأله عن مسألة فأجابه فيها سأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين (٢) ، ثم قال هذا عطاؤنا فأمسك أو أعط بغير حساب وهكذا هي في قراءة علي قال : قلت أصلحك الله فحين اجابهم بهذا الجواب يعرفهم الإمام ، فقال سبحان الله أما تسمع الله يقول في كتابه إن في ذلك لآيات للمتوسمين وهم الأئمة وإنها لبسبيل مقيم لا يخرج منها أبداً ، ثم قال نعم إن الإمام إذا نظر إلى الرجل عرفه وعرف لونه وإن سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو إن الله يقول ومن آية خلق السماوات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين فهم العلماء وليس يسمع شيئاً من الألسن تنطق إلا عرفه ناج أو هالك فلذلك يجيبهم بالذي يجيبهم به (٣).

رفع إشكال :

رب سائل يقول إن الرواية لا تدل على تفويض الأحكام والتشريع ، وإنما تدل على علم الإمام بموضوعات الأحكام ، وأن الشخص الفلاني موضوع للحكم الفلاني ، والآخر موضوع لحكم آخر ، وإن كانا متشابهين في الخصوصيات ، كما لو سئل المفتي ماذا يصنع المسافر؟ فيقول يقصر ، ثم يسأل ماذا يصنع المسافر الآخر؟ فيقول يقصر ، ثم يسأل ماذا يصنع المسافر الآخر؟ فيقول يتم ، لأنه يعلم أن الثاني قد أقام عشرة أيام.

____________

(١) بصائر الدرجات ٤٠٥.

(٢) العبارة كما في الكافي ، وأما عبارة البصائر فيها إضطراب.

(٣) بصائر الدرجات ٤٠٧ ، وأصول الكافي ١ | ٤٣٨.

١٨٦

أقول ويدفع هذا الإشكال صريح العبارة : قال ـ عبد الله بن سليمان ـ سألته عن الإمام فوض إليه كما فوض إلى سليمان؟

فقال ـ الإمام ـ نعم.

وأن سليمان نبي من الأنبياء وقد عرفنا في الصفحات السابقة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وهو كنموذج لأحد الأنبياء ، قد فوض إليه التشريع ـ هذا من جانب ـ وقد دلت آيات عديدة في إثبات حق التشريع لسليمان عليه‌السلام ـ هذا من جانب آخر ـ منها سن العقوبة ؛ وذلك لما رأى الهدهد غائباً. وحتماً إن تلك العقوبة كانت بحق ، وإلا يكون عمله عليه‌السلام جوراً ، والجور قبيح بحد ذاته فكيف لو صدر من نبي؟!

إذاً قول الإمام الصادق عليه‌السلام : نعم ، يستشف منه أن الإمام فوض إليه في التشريع والأحكام كما فوض إلى سليمان ... والله العالم.

دور الأئمة في التشريع والتفويض إليهم

أشرنا إلى أن كلمة ( أولي الأمر منكم ) في الآية الكريمة : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) المعني بها هم الأئمة المعصومون عليه‌السلام. قد دلت الروايات المتواترة على أن التفويض الذي كان للنبي قد ثبت للإمام علي عليه‌السلام ولولده من بعده نذكر طرفاً من تلك الأحاديث والروايات حتى يتبين لنا دور الأئمة عليهم‌السلام في التشريع.

الكليني بإسناده عن موسى بن اشيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فساله رجل عن آية من كتاب عز وجل فاخبره به ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فإخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني في ذلك ما شاء عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني في ذلك ما شاء الله حتى كان قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي : تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله ن فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي ، فسكنت نفسي فعلمت أن ذلك من تقية ، قال : ثم التفت إلي فقال لي : يا ابن اشيم إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود فقال : ( هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ) وفوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فما فوض

١٨٧

إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد فوضه إلينا (١).

وفي رواية الصفار فإن الله تبارك وتعالى فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا تجزع (٢).

معرفة الإمام ومنزلته

هذه الأحاديث وما ضارعها في المعنى تنص على أن خصوصية التفويض التي كانت للرسول كانت للأئمة عليهم‌السلام وأنها توارثها منه عليهم‌السلام فالتفويض لهم أحد الأسرار التي أودعها الله سبحانه فيهم لكرامتهم على الله وعلو منزلتهم فهم عباد مكرمون.

عن الصفار بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا علياً عليه‌السلام في المرض الذي توفى فيه ، فقال يا علي ادن مني حتى أسر إليك ما أسر الله إلى وأئتمنك على ما ائتمنني الله عليه ففعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلي عليه‌السلام وفعله علي بالحسن عليه‌السلام وفعله الحسن بالحسين عليه‌السلام وفعله الحسين عليه‌السلام بأبي وفعله أبي بي صلوات الله عليهم أجمعين (٣). أقول لو علمن امنزلة الإمام المعصوم عند الله سبحانه وما يمتلك من صفات وميزات وقدرات انطلاقاً من الواقع الإيماني الذي هم عليه ومعرفتهم بالله وعبوديتهم له وطاعتهم الخالصة ... لو علمنا ذلك حقاً لهان الخطاب ولأرتفع الشك والأصبح كل ماقبل في حقهم قليل بعد تنزيههم عن الربوبية والنبوة (٤).

ولمعرفة الإمام ومنزلته نذكر الخبر المروي عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه‌السلام حيث قال : كنا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٢٦٥.

(٢) بصائر الدرجات ٤٠٤.

(٣) بصائر الدرجات ٣٩٧.

(٤) كما ورد عن أمير المؤمنين ( ع ) أنه قال : إياكم والغلو فينا ، قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم ...

١٨٨

الناس فيها ، فدخلت على سيدي عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم عليه‌السلام ثم قال : يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ، بين فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عز وجل : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (١) وأنزل في حجة الوداع وهي آخر حجة كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) (٢) وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً وما ترك لهم شيئاً يحتاج إليه الا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ، إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة ، وفضلية شرفه بها وأشاد بها ذكره ، فقال : ( إني جاعلك للناس إماماً ) (٣) فقال الخليل عليه‌السلام سروراً بها : ( ومن ذريتي ) قال الله تبارك وتعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة الطاهرة فقال : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين ، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) (٤).

فلم تزل في ذريته يرثها بعض ، قرناً فقرناً حتى ورثها الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال جل شأنه : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٣٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٢٤.

(٤) سورة الانبياء ، الآية : ٧٢ و ٧٣.

١٨٩

والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (١) فكانت له خاصة فقلدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) (٢) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن اين يختار هؤلاء الجهال.

إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء ، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليهم‌السلام.

إن الآمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، إن الإمامة الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمامة تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذب عن دين الله ويدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة ، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنوور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ، ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظلماء والدال في المهالك ، من فارقه فهالك ، الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل والشمس المضيئة ، والسماء الظليلة والارض البسيطة ، والعين الغريرة والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق ، والأخ الشقيق ، والأم البرة بالولد الصغير ومفرع العباد في الداهية النآد ، الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذاب عن حرم الله.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٦٨.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٥٦.

١٩٠

الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب ، والمخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره ، لا يدانيه ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ولا له مثيل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام. أو يمكنه اختياره ، هيهات هيهات ضلت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وخسئت العيون ، وتصارغت العظماء وتجبرت الحكماء ، وتقاصرت الحكماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألباء ، وكلت الشعراء وعجزت الأدباء ، وعييت البلغاء ، عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يو صف بكله أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف وأنى؟ هو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف ا لواصفين ، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!

أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الأباطيل فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً ، تزل عنده إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعداً ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) ولقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً وضلوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مبصرين.

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) (١) وقال عز وجل : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (٢) وقال : ( ما لكم كيف تحكمون ، أم لكم كتاب فيه تدرسون. إن لكم فه لما تخيرون. أم

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٦٨.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦.

١٩١

لكم إيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون. سلهم ايهم بذلك زعيم ، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين ) (١) وقال عز وجل : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (٢) أم ( وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ) (٣) أم ( قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) (٤) أم ( قالوا سمعنا وعصينا ) (٥) بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش والذروة من هاشم ، والعترة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرضا من الله عز وجل شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف ، نامي العلم كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة ، ومفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عز وجل ، ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إن الانبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمته ما لا يأتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (٧) وقوله في طالوت : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) (٨) وقال لنبيه

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ٣٦ ، ٤١.

(٢) سورة محمد ( ص ) ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة التوبه ، الآية : ٨٧.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٢١ ـ ٢٣.

(٥) سورة البقرة : الآية : ٩٣.

(٦) سورة يونس ، الآية : ٣٥.

(٧) سورة البقرة : الآية : ٢٦٩.

(٨) سورة البقرة ، الآية : ٢٤٧.

١٩٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً ) (١) وقال في الائمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً ) (٢).

إن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده ، شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يع عبده بجواب ، ولا يحيد فيه عن الصواب ، فهو معصوم ، مؤيد ، موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذو الفضل العظيم.

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه تعدوا ـ وبيت الله ـ الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وعلا : ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (٤) وقال : ( كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) (٥) وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسلمياً كثيراً (٦).

الحديث الشريف المتقدم عن الإمام الرضا عليه‌السلام يحتوي على مضامين عالية واستدلالات قوية ، وبراهين قاطعة وحجج متينة كلها مستمدة من القرآن الكريم ونستطيع أن نقف ع لى أهم النقاط التي ذكرها الإمام سلام الله عليه في معرض حديثه مع عبد العزيز بن مسلم ، منها أنه تطرق عليه‌السلام إلى :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٣٣.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٥٣ و ٥٤.

(٣) سورة القصص ، الآية : ٥٠.

(٤) سورة محمد ( ص ) ، الآية : ٨.

(٥) سورة غافر ، الآية : ٣٥.

(٦) أصول الكافي ١ | ١٩٨ ـ ٣٠٣.

١٩٣

١ ـ بيان جهل الناس في أمر الإمامة.

٢ ـ بيان إكمال الدين وتبيان كل شيء ، وإن الله لم يقبض رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بعدما أنجز كل ما يحتاجه المسلمون من تشريع.

٣ ـ بيان دور الرسول في توضيح الرسالة ، ولم يرحل من هذه الدنيا حتى وضح للمسلمين ما غمض عليهم والتبس...

٤ ـ إن الإمامة منصب إلهي وتخصيص من الله لذوات معنية.

٥ ـ إن الظالم لا ينال منصب الإمامة.

٦ ـ إن الإمامة في ذرية إبراهيم يتوارثونها ، وقد ورثها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آبائه وأجداده من إبراهيم.

٧ ـ إن الإمامة انتقلت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ثم صارت في ولده.

٨ ـ تعريف الإمامة وإنها امتداد لخلافة الأنبياء.

٩ ـ مهمة الإمام ودوره في الحافظ على ما شرعه الله من الحلال والحرام.

١٠ ـ صفة الإمام.

١١ ـ الشروط اللازمة توفرها في الإمام.

١٢ ـ إن الناس لا يمكن لهم الإحاطة بكل ما لدى الإمام.

١٣ ـ الإمامة اودعت في آل الرسول وهم من صلب علي وفاطمة ، ومن ادعاها لنفسه من دونهم فهو كاذب.

١٤ ـ سوء اختيار القوم ، عندما رغبوا عن اختيار الله وما اختاره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم.

١٥ ـ الموازنة بين الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه وبين غيره.

١٦ ـ بيان تصور الناس وعجزهم عن الاتيان بمثل تلك الصفات المودعة في الإمام من قبل الله ، وإن ما تتحلى به شخصياتهم عليهم‌السلام من الحلم والأخلاق والشجاعة والجود والسؤدد والطاعة الكاملة للمولى ... الخ إنما هي صفات خاصة مودعة في ذوات معينين ، قد نصبهم الله أمناء وخلفاء على العباد.

هذه بعض النقاط التي تصمنها الحديث.

١٩٤

خلاصة البحث في التفويض

كما عرفت أن التفويض ينقسم إلى فرعين :

أولاً : تفويض أمر الخلق والرزق والحياة والممات ...

ثانياً : تفويض أمر الدين والسياسة والتربية والأحكام ...

والفرع الأول ينقسم إلى :

أ ـ تفويض أمر الخلق والرزق بالمعنى الأعم أو المطلق.

ب ـ تفويض أمر الخلق والرزق بالمعنى الأخص الضيق أو المقيد.

والفرع الثاني :

أ ـ تفويض أمر الدين والسياسة ... بالمعنى الأعم أو المطلق.

ب ـ تفويض أمر الدين أو السياسة ... بالمعنى الأخص الضيق أو المقيد.

ما يثبت تفويضه للمعصومين عليهم‌السلام هو القسم الثاني والرابع فقط.

١٩٥

القسم الثاني يثبت ، ويصح عقلاً من خلال سؤالهم ودعائهم طلب حاجتهم من الله سبحانه ، فإذا شاء الله شاءوا ، وإذا دعوا الله أجابهم ، فما يصدر منهم إنما هو من باب الكرامة والمنقبة ، لا أنه يصدر بقدرتهم أو بإرادتهم ، ولا هم فاعلون حقيقيون لتلك الخوارق للعادة والطبيعة ـ على وجه الاستقلال ، بل إنه فاعلون حقيقيون لكن بإذن الله تعالى ... كما تقدم.

فلا حول لهم ولا قوة إلا بالله ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، وقد ورد عنهم في المأثور من قولهم وكلماتهم في الأدعية ... ربي لا تكلني إلى نفسي طرقة عين ... فمن كان شأنه في دعائه أن لا يوكله الله إلى نفسه طرفة عين ، فكيف يوكل أمرالعباد والرزق والأحياء إليهم...؟!!

أما القسم الرابع ، فقد ثبت التفويض فيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يعلم المطيع منهم والعاصي ، أي شأنه في ذلك التمييز بين الطيب والخبيث ...

وهذا لا يمنعه أهل العقل إضافة إلى الشرع. وقد عرفت إنما كان لهم هذا التفويض في هذين القسمين خصوصاً ، كي يطلع العباد على منزلتهم ، فما تخويلهم إلا بتشريفهم وإكرامهم وإظهار عظمتهم للملأ.

ما كان يعينه النبي من الأحكام فذاك مصدره الوحي ، وما كان يختاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمصدره الإلهام ، ولا يخفى أن هذا الاختيار كان يمضيه الله سبحانه بطريق الوحي أيضاً.

عدا ذلك من التوجية أو القول فيهم بالرازقية والخالقية وبالتفويض عموماً فهو باطل وكفر وإلحاد وخروج عن الحد الشرعي والدين ن كما دلت عليه الآيات والأخبار. كما أن الأئمة عليهم‌السلام تبرؤوا ممن قال بذلك التف يض ، وحكموا بكفرهم ، بل أمروا بقتلهم لأنهم غلاة مشركون.

هذا هو موقف الفرقة الناجية الإمامية الإثنا عشرية ، وقد عرفت أن الشيخ الكليني ( رض ) هو أحد أعلامها البارزين ومجدد هذا المذهب على رأس سنة (٣٠٠) ولم نجد فيما أودعه في كتاب الكافي شيئاً يخالف تلك العقيدة التي ورثناها من أهل البيت عليهم‌السلام بل أنه صرح في عدة أبواب من كتاب الحجة في الجزء الأول من أصول الكافي بأن علم الأئمة عليهم‌السلام إنه وراثة من النبي ، وفي بعض الأحاديث قسم علم الله سبحانه وتعالى إلى

١٩٦

قسمين فقال بإسناده عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى علمين : علماً أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله ، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبيائه فقد علمناه وعلما استأثر به (١) ...

وفي الحديث الثاني من نفس الباب ، الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن لله عز وجل علمين : علماً عنده لم يطلع عليه أحد من خلقه وعلماً نبذه إلى ملائكته ورسله فما نبذه إلى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا (٢).

وفي الحديث الثالث من نفس الباب الكليني بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله عز وجل علمين : علم مبذول ، وعلم مكفوف ، فأما المبذول فإنه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلى ونحن نعلمه ، وأما المكفوف فهو الذي عند الله عز وجل علمين : علم لا يعلمه إلا هو وعلم علمه ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه (٤).

في باب ( إن الأئمة عليهم اسلام يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم شيء من صلوات الله عليهم ) ذكر الشيخ أبو جعفر الكيني ستة أحاديث وجميعها تدلل على أن علمهم عليه‌السلام وراثة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنهم حجج الله على عباده ويستحيل أن ينصب حجة عباده وهو جاهل بأمورهم أو بما يحتاجون إليه ، فإنهم يلهمون العلم والمعرفة وكل ما يحتاجه العباد إليه ، وذلك الإلهام لا يعني أنه الغيب الذي استأثره الله سبحانه لنفسه.

الكليني بإسناده عن سيف التمار قال : كنا مع أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة من الشيعة في الحجر فقال : علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً

__________________

(١) أصول الكافي ـ كتاب الحجه ، باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل. ١ | ٢٥٥ ، الحديث الأول.

(٢) المصدر السابق ١ | ٢٥٥.

(٣) المصدر السابق ١ | ٢٥٦.

(٤) المصدر السابق ١ | ٢٥٦.

١٩٧

فقلنا ليس علينا عين فقال : ورب الكعبة ورب البنية ـ ثلاث مرات لو كنت بين موسى والخضر عليهما‌السلام لأخبرتهما أني اعلم منهما ولأنبئتهما بما ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر عليهما‌السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة وقد ورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وراثة (١).

لقد اشار الإمام عليه‌السلام أن علمهم بما يكون وما هو كائن إنما هو علم خاص ورثوه من جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا العلم لا يخفى أن فيه خبر ما كان وما يكون وما هو كائن أنه علم فيه خبر السماء وخبر الأرض وكل ما يحتاجه الإمام المنصوب من قبل الله سبحانه والذي هو الدليل لأهل الأرض.

وفيما سأل المفضل أبا عبد الله عليه‌السلام قال : جعلت فداك يفرض الله طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء؟ قال : لا ، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً (٢) أقول وهذا الحديث لا يعارضه الأول كما أنه يوافق الأحاديث التي تنص على أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا أعلموا (٣).

هذه الأحاديث وعشرات غيرها ذكرها الشيخ الكليني ، لم نجد فيها ما يشم منها رائحة الفلو او الخروج عن الحد المعقول أو المألوف عند الإمامية ، فلم يقر الشيخ بما كان يفعله الغلاة في خصوص علم الغيب ، بل أكد الكليني عكسه وخلافه وعبارته صريحة فيما تقدم.

لقد ذكر الشيخ باباً مستقلاً ( في أن الأئمة عليهم‌السلام يزدادون في ليلة الجمعة ) وفي هذا الباب يؤكد على أن الأئمة يزدادون في كل ليلة جمعة علماً وإلا لنفذ علمهم ومع ذلك يتضح مما أودعه في كتابه تلك الأحاديث إن ذاك العلم هو من قبيل الإلهام ، فيوض من الرحمن ، كرامة للنبي وأهل بيته الأطهار.

الكليني بإسناده عن أبي عبد الله قال : ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٢٦١.

(٢) المصدر السابق ١ | ٢٦٢.

(٣) أنظر اصول الكافي ١ | ٢٥٨.

١٩٨

فيها سرور قلت : كيف ذلك؟ جعلت فداك قال : إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العرش ووافى الأئمة ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفذ ما عندي (١).

ثم إن الزيادة في العلم لا تعني أنه سوف يطلع أحدهم فيكون أعلم ممن سبقه من المعصومين عليهم‌السلام ، قال الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتى يبدأ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم بأمير المؤمنين عليه‌السلام ثم بواحد بعد واحد لكيلا يكون آخرنا أعلم من أولنا (٢).

وقال الكليني في ( باب نادر فيه ذكر الغيب ) بإسناده عن معمر بن خلاد قال : سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل من أهل فارس له : أتعلمون الغيب؟

فقال : قال أبو محمد عليه‌السلام : يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم وقال : سر الله عز وجل أسره إلى جبرائيل عليه‌السلام وأسره جبرائيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأسره محمد إلى من شاء الله (٣) وكان يعني بذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام. صريحة كلماتهم عليه‌السلام إنهم لا يعلمون الغيب ، بل إنه فضل وكرامة من الله سبحانه فإذا اراد بسط لهم وألهمهم من علمه ما يشاء ، وإذا لم يرد فلا يبسط لهم ، وعبارة الإمام واضحة الضلالة ( ... ويقبض عنا فلا نعلم ).

هذا هو مسلك الشيخ الكليني كمن سبقه من أعلام الطائفة وكمن لحقه إلى يومنا هذا.

وأما التفويض فقد عرفت أيضاً مسلك الشيخ فهو ما كان في أمر الخلق والرزق والدين وغير ذلك من الأمور على وجه التقييد لا أنه تفويض مطلق ، ونعني على وجه التقييد الذي يتخذ صورتين. الصورة الأولى ما

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٢٥٤ ، الحديث الثالث.

(٢) أصول الكافي ١ | ٢٥٥ ، الحديث الرابع.

(٣) أصول الكافي ١ | ٢٥٦ ، الحديث الأول من الباب.

١٩٩

فوض الله سبحانه لنبيه ، فخوله تنظيم حياة الأمة وتدبير شؤونها الدينية والسياسية والاقتصادية ـ وهذا التخويل بعض صوره هي للإمام كذلك ـ وإنما فوض إليه سبحانه كي يعلم من يطع الرسول ممن يعصيه.

أمام الصورة الثانية وهي التي ترتبط بسؤال الإمام ودعائه فلو طلبوا من الله عز وجل شيئاً لما أخلف ولا امتنع عن إجابتهم ، فلو سألوه سبحانه أن يرزق فلاناً أو ينطق الميت أو يحييه أو غير ذلك من الأمور الخارقة للعادة فهي تجري لهم على وجه الكرامة والإكرام ، ومن وجه أنهم يرزقون ويميتون ويحييون لكن بإذن الله تعالى ، على أي أن منزلتهم عند الله عظيمة جداً لا يمكن أن يتصورها أحد من البشر ، فلا يرد لهم سؤال إن سألوا ، فافهم وتدبر.

٢٠٠