شبهة الغلو عند الشيعة

الدكتور عبدالرسول الغفار

شبهة الغلو عند الشيعة

المؤلف:

الدكتور عبدالرسول الغفار


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٢

والأنبياء عليهم‌السلام لأممهم : ( إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) (١) وقوله تعالى : ( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين ) (٢)

لقد تكرر هذا المعنى في تسع مواضع من القرآن الكريم

ومن الالتفاتات والتمهيد في الخطاب أن أشارت بعض الآيات إلى مهمة الرسول وهو البلاغ ولا يضره مخالفة من خالف وليس عليه تبعة من كفر ، قال تعالى : ( وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (٣)

وقال تعالى : ( ... وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) (٤)

ومن جملة التمهيد لأمر الطاعة ، هو الفات المخاطبين ـ الأمم ـ إلى ما هم عليه من اختلاف ، قوله تعالى : ( قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ) (٥)

وآيات كثيرة أكدت اختلاف الأمم وأهل الكتاب بالخصوص ..

ومن جملة التمهيد لأمر الطاعة ، الإخبار بأمانة الرسول وصدق الرسالة : قال تعالى يصف أنبياءه. ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) (٦) وقوله تعالى عن لسان نبيه عليه‌السلام ( إني لكم رسول أمين ) (٧)

هذا التمهيد في الخطاب سوف يجعل النفوس في معرض الاستعداد

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٧٢.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ١٠٩.

(٣) سورة النور ، الآية : ٥٤.

(٤) سورة التغابن ، الآية : ١٢.

(٥) سورة الزخرف ، الآية : ٦٣.

(٦) سورة يس ، الآية : ٥٢.

(٧) سورة الشعراء ، الآية : ١٢٥.

١٦١

لتلقي كلمات الرسول ومقدمة الإذعان والقبول لهاذا أمرهم الله سبحانه بالتقوى بعد الإيمان لأن إن لم يكن الإيمان لم تكن التقوى فهي رتبة أعلى ودرجة أسمى وشأنها في النسبة كالإيمان إلى الإسلام ...

وقوله تعالى : ( أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون ... ) (١)

وقوله تعالى : ( وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ) (٢)

وقوله تعالى : ( إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ) (٣)

هذه التقوى المنشودة لها أثر عميق في تحريك الضمائر والسلوك إلى الله سبحانه ، والانشاد إلى أقوال الرسول والاستسماع إليه ، على أي إن من مثل هذه الخطابات تخلق جواً من الحماس والتهيوء الفطري لينتفض الإنسان من واقعة المتردي وتحريكة إلى واقع أسمى وأفضل يصبوا إليه ...

ولو سألنا ما الثمرة المترتبة على الإطاعة...؟

قلنا أن الإطاعة بكل صورها وأشكالها تؤدي إلى السعادة الأبدية والفوز برضوان الله تعالى ورحمته : قال تعالى : ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ) (٤) وقوله تعالى : ( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقيه فأولئك هم الفائزون ) (٥) وقوله تعالى : ( وأطيعوا الله ورسوله والرسول لعلكم ترحمون ) (٦) وقوله تعالى : ( ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً .. ) (٧) وقوله تعالى : ( وإن تطيعوا الله رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً ) (٨)

أما الذين أبوا الاستماع إلى الرسول واختاروا الكفر على الإيمان فهؤلاء سوف تكون عليهم حسرة على ما فاتهم من أمر الطاعة والتفريط في جنب الله وتكذيب رسوله عند ذاك يندموا على ما فعلوا وولات حين مندم ...

__________________

(١) سورة نوح ، الآية : ٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٥٠.

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ١٠٧ و ١٠٨.

(٤) سورة النساء ، الآية : ١٣.

(٥) سورة النور ، الآية : ٥٢.

(٦) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٢.

(٧) سورة الأحزاب ، الآية : ٧١.

(٨) سورة الحجرات ، الآية : ١٤.

١٦٢

قال تعالى : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. ) (١)

نستنتج مما سبق من الآيات أن طاعة الله ورسوله واجبة لأن صلاح الأمة ورقيها بتلك الطاعة لا يحق لأحد من الناس ومخالفتهما : قال تعالى : ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا. ) (٢)

وقوله تعالى : ( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) (٣)

التفويض وأقسامه

يقسم التفويض إلى فرعين رئيسيين :

أولاً : تفويض أمر الخلق والرزق ...

ثانياً : تفويض أمر الدين والسياسة ...

ثم لكل فرع قسمان :

القسم الأول : التفويض ـ المطلق ـ بالمعنى الأعم.

القسم الثاني : التفويض ـ المقيد ـ بالمعنى الأخص.

أولاً : التفويض بالمعنى الأعم

هذا القسم من كلا الفرعين مختص بالله وحده لا شريك له ، حيث هو المشرع الأساس والأول وهو الخالق والصانع ومبدع كل شيء ـ الكائنات وكل الموجودات ـ لذا فإن امر العباد ومآلهم إليه سبحانه ، فهو اللطيف الخبير ، والبصير ، له الأمر من قبل ومن بعد. من مصاديق القسم الأول من الفرع الأول هي :

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٦٦.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦.

(٣) سورة المجادلة ، الآية : ٢٠ و ٢١.

١٦٣

الرازقية والخالقية والإهداء والإظلال ، والإحاطة ، والإماتة ، والإحياء والابتلاء ـ بالمرض ـ والإشفاء ، ... الخ

وغير ذلك من خصوصيات الرب الخالق الواحد الفرد الصمد.

قال تعالى في شأن الرزق : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ... ) (١)

وقوله تعالى : ( والله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم..) (٢)

وقوله تعالى : ( الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ) (٣)

وقوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ) (٤)

وهناك عشرات الآيات لا منازع فيها أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى وقال تعالى في شأن الخالقية :

( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) (٥)

وقوله تعالى : ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ) (٦)

وقوله تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ) (٧)

وقوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) (٨)

وقوله تعالى : ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر...) (٩)

وقوله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ) (١٠)

__________________

(١) سرة الذاريات ، الآية : ٥٨.

(٢) سورة الروم ، الآيات : ٤٠.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ١٩.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٣١.

(٥) سورة البقرة : الآية : ٢١.

(٦) سورة الرحمن ، الآية : ١٤.

(٧) سورة الأنعام ، الآية : ١.

(٨) سورة ، البقرة : الآية : ٢٩.

(٩) سورة الانبياء ، الآية : ٣٣.

(١٠) سورة الملك ، الآية : ٢.

١٦٤

وقوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) (١).

آيات كثيرة (٣٠٠) مورد في الخلق والإيجاد ..

وقال تعالى في شأن الهداية والضلالة :

( ... إن الله يضل من يشاء ويهدي من أناب ) (٢).

وقوله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) (٣).

والآيات كثيرة جداً في هذا الباب.

وفي الإحاطة ، قال تعالى : ( وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ) (٤).

وفي الإماتة والإحياء قال تعالى : ( لا إله إلا هو يحيى ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين ) (٥).

وقوله تعالى : ( وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعامً وأناسي كثيراً .. ) (٦).

وأما في الابتلاء والإشفاء قوله تعالى : ( الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين .. ) (٧).

هذه جملة من الآيات في بعض الموارد لبعض الخصوصيات التي انفرد بها الله سبحانه دون سائر خلقه ، وهناك خصوصيات كثيرة في أمر التفويض ؛ التفويض بالمعنى المطلق أو الأعم بحيث هي ثابتة للمولى دون غيره في أمر الخلق والرزق والأحياء والابتلاء والإهداء والإضلال ... الخ.

أما القسم الأول من الفرع الثاني ( تفويض أمر الدين بالمعنى الاعم ) فهو كذلك من مختصات الله سبحانه وتعالى ، لأن هذا القسم من التفويض

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٢.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ٢٧.

(٣) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٤) سورة الطلاق ، الآية : ١٢.

(٥) سورة الدخان ، الآية : ٨.

(٦) سورة الفرقان ، الآية : ٤٨ ـ ٤٩.

(٧) سورة الشعراء ، الآية : ٧٨ ـ ٨١.

١٦٥

يراد به التشريع. والتشريع بالمعنى الأعم أو المطلق يكون من مختصات الباري سبحانه :

قال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا...) (١)

وقوله تعالى : ( ... ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها..) (٢)

وقوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين...) (٣)

وقوله تعالى : ( ... أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله...) (٤)

أما الأخبار الدالة على أن هذا التفويض من مختصات الله تعالى فهي كثيرة نذكر منها :

وروى الصدوق بإسناده عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا بمرو ، فقلت له يا ابن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام قال أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين بالجبر ، ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك.

فقلت له يابن رسول الله فما أمر بين أمرين؟

فقال وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه ... الخ (٥)

التفويض الذي ورد ـ والنهي عنه ـ هو ذلك التفويض في أمر العباد والخلق والرزق وغير ذلك التي هي من مختصات الله تعالى وما ورد من

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٤٨.

(٢) سورة الجاثية ، اآية : ١٨.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ١٣.

(٤) سورة الشورى ، الآية : ٢١.

(٥) عيون أخبار الرضا ١ | ١٢٤.

١٦٦

الأحاديث في أمر التفويض الذي فوض الله به ذنبه أو الأئمة عليهم‌السلام إنما هو في أمر الدين أي وكل لهم بيان أحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه ، وإنهم أمناء الله على دينه فيحللون ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله تعالى.

قال الصدوق حدثنا محمد بن علي ماجلويه قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ياسر الخادم ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام ما تقول في التفويض؟ فقال عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر دينه فقال : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ). (١) فأما الخلق والرزق فلا ، ثم قال عليه‌السلام ، إن الله عز وجل يقول : ( قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) (٢).

ويقول تعالى : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم هل من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشكرون ) (٣)

إشارة وتوضيح :

قوله سلام الله عليه « فأما الخلق والرزق فلا » ليس المراد أن الله تعالى لم يجعل بيد نبيه أو وليه والرزق الرزق والخلق اصلاً بل المراد نفي تفويض الأمر إليهم كما تقوله المفوضة ، وهو ان الله سبحانه فوض إليهم ذلك وليس بقدر على الحيلولة دونهم وإنهم العلة التامة في ذلك ، وعلى هذا التقدير يتفق هؤلأ مع اليهود في قولهم ( يد الله مغلولة ) بل غلت ايديهم ولعنهم الله في الدنيا والاخرة.

فالمفوضة كانت تعتقد بأن النبي والأولياء كانوا يفعلون الرزق والخلق حقيقة وبدرتهم أي استقلالاً وبدون إذن الله وهذا هو الكفر بعينه.

نعم لو قلنا أنهم يفعلون ذلك حقيقة لكن بإذن الله تعالي واقداره لهم على ذلك فلا مانع منه ، حيث قوله تعالى في خطابه لعيس ( ع ) : ( وتبرأ الاكمة

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية : ٧.

(٢) سورة الرعد ، الآية : ١٦.

(٣) سورة الروم ، الآية : ٤٠ ، الحديث في عيون أخبار الرضا ٢ | ٢٠٣.

١٦٧

والابرص باذني وتحي الموتى باذني ) والأحاديث في ذم المفوضة بالمعنى الأعم كثيرة منها :

قال الصدوق بإسناده عن أبي هشام الجعفري ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الغلاة والمفوضة. فقال الغلاة كفار والمفوضة مشركون ، من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولايتنا أهل البيت عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ | ٢٠٣.

١٦٨

القسم الثاني

التفويض بالمعنى الأخص

عرفنا مما تقدم أن التفويض بالمعنى الأعم غير ثابت لهم عليهم‌السلام لأنه من مختصات الله سبحانه. أما التفويض بالمعنى الأخص وقل عنه بالمعنى الضيق فهو يسمل الفرعين أعني الفرع الأول ( تفويض أمر الخلق والرزق ... الخ ) والفرع الثاني ( تفويض أمر الدين والسياسة ).

التفويض في أمر الخلق والرزق لا يتم لهم إلا من خلال مسألتهم ودعائهم. أما كونهم يخلقون أو يرزقون أو يحيون ... بمحض إرادتهم ، أو أنهم يفعلون ذلك حقيقة او بقدرتهم وما شابه ذلك ، على وجه الاستقلال ، فهو غير صحيح ، بل إنه كفر وشرك ، والذي يدلل على أن القائل بهذا التفويض كافر هو الأدلة العقلية والنقلية وعليه يصدق الغلو على من يقول بهذا التفويض ، فهو ظال ومظل.

وما جاء في الأخبار والروايات على أهم يرزقون أو يخلقون أو مما فوض إليهم أمر الخلق والرزق والأحياء فلا بد من تأويلها أو حملها على كونهم أسباب لإيجاد هذه المصاديق في الخارج وذلك بتوسلهم إلى الله سبحانه وطلبهم الحثيث من الباري ، فسبحانه إن فعل ذلك فإنما يفعله مقارناً لإرادتهم واستجابة لطلبهم ، وهذا أحد أقسام التفويض المعقول ، وكما عرفت قبل قليل القسم الآخر ، وهو التفويض إليهم أمر الرزق والخلق ، وأنهم يفعلون ذلك بأنفسهم ولكن بإذن الله. وأنت عارف خبيراً أن الأئمة المعصومين كرامتهم من الله كبيرة ومنزلتهم عنده عظيمة ولما كانوا يشخصون بعض المصالح الخارجية ويدركون في الجملة المنافع والمضار

١٦٩

التي سوف تترتب على مسألتهم ، كان منهم السؤال والتوسل إلى الله بقضاء حاجتهم وإنجاح طلبتهم وقد ترتب على سؤالهم الإجابة الصادقة الحقة السريعة إكراماً لهم ، وسبحانه يقول : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني ) ، وقال تعالى : ( أدعوني أستجب لكم...).

هذا شأن أي مؤمن يدعو الله ، كيف لو كان الداعي إماماً معصوماً وولياً من أوليائه؟! مهما يكن ، لو حصلت لهم الإجابة فهي تعد من باب المعجزة والكرامة ، إظهاراً لعلو منزلتهم وجلالة قدرهم وعظم شأنهم وإخلاصهم ...

عن أبي الحسن علي بن أحمد الدلال القمي قال : اختلفت جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا فقال قوم : هذا محال لا يجوز على الله تعالى ، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل ، وقال آخرون : بل الله أقدر الأئمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا ، وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً ، فقال قائل : ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه ، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر ، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله ، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه ، فخرج إليهم من جهة توقيع ، نسخة :

إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام ، قسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وأما الأئمة عليهم‌السلام ، فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ، ويسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم وإعظاماً لحقهم (١).

فهذه الرواية ناظرة إلى نفي التفويض بالمعنى المتعارف المستلزم لسلب القدرة عن الله تعالى الذي يقوله المفوضة ، ومما يدل على ذلك الرواية الآتية :

__________________

(١) الإحتجاج ٢ | ٤٧١ ، وغيبة الطوسي من ١٧٨.

١٧٠

عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري قال : وجه قوم من المفوضة والمقصرة كامل بن إبراهيم المدني إلى ابي محمد عليه‌السلام قال : كامل فقلت في نفسي أسأله لا يدخل الجنة إلا من عرف معرفتي وقال بمقالتي ، قال : فلما دخلت على سيدي أبي محمد نظرت إلى ثياب بيضاء ناعمة عليه ، قلت في نفسي ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب بيضاء ناعمة عليه ، قلت في نفسي ولي الله وحجته بليس الناعم من الثاياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهاناً عن لبس مثله فقال متبسماً : يا كامل وحسر عن ذراعيه ، فإذا مسح أسود خشن على جلده ، فقال : هذه لله وهذا لكم ، فسلمت جلست إلى باب عليه ستر مرخى فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا بفتى كأنه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها ، فقال : لي يا كامل بن إبراهيم فاقشعررت من ذلك وألهمت أن قلت : لبيك يا سيدي فقال : جئت إلى ولي الله وحجته وبابه تسأله هل يدخل النة إلا من عرف معرفتك وقال بمقالتك فقلت أي والله قال إذن والله يقل داخلها ، والله إنه لدخلها قوم يقال لهم الحقيقة ، قلت يا سيدي ومن هم؟

قال قوم من حبهم لعلي يحلفون بحقه ولا يدرون ما حقه وفضله ، ثم سكت صلوات الله عليه عني ساعة ثم قال : وجئت تسأله عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا ، والله يوقول : ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله...) ثم رجع الستر إلى حالته فلم أستطع كشفه (١).

توضيح :

قوله عليه‌السلام : ( بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء شئنا ). يعني إن إرادتنا تابعة لإرادة الله في الأمور التكوينية ، فنحن يمكن أن نخلق ونرزق ونحيي ونميت ، لكن بإرادة الله وإذنه ، لا بدون إرادته منه ولا إذن ، ومن المعورف أن السؤال كان عن التفويض أمر الخلق والرزق وأشباه ذلك إليهم.

ومما ورد في دعاء الإمام الرضا عليه‌السلام :

__________________

(١) غيبة الطوسي ١٤٩.

١٧١

اللهم إني بريء من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك ، الله إني أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق الله إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا ، الله لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين ، الله أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين ، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك ولا تصلح الإلهية إلا لك ، فالعن النصارى الذين صفروا عظمتك والعن المضاهين لقولهم من بريتك.

اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، الله من زعم إنا أرباب فنحن منه براء ومن زعم أ ، إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى ابن مريم عليه‌السلام من النصارى ، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون ، فلا تؤاخذنا بما يقولون واغفر لنا ما يدعون ولا تدع على الأرض منهم دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً (١).

العبارات المنضودة في كلام الإمام سلام الله عليه كلها صريحة ناطقة بعبوديتهم لله سبحانه وأن حولهم وقوتهم بالله ومن الله. ثم براءته عليه‌السلام ممن غالى فيهم او جعلهم يخلقون أو يرزقون ... ثم أكد عليه‌السلام مقام الربوبية والتي لا يستحقها إلى الله جل ثناؤه وعلى مقامه ...

أقول لا بد أن لا يتوهم القاريء عندما يطلع على الأخبار التي فيها معاجز أهل البيت عليهم‌السلام كإحياء الميت على أيديهم وأمثاله ...

فقد اشرنا في ذلك أنه من باب الكرامة أو المعجزة أولاً. ثم إنه تجري تلك المعاجز والمناقب لإظهار مكانتهم عند الله ، وقد شرفهم سبحانه وأكرمهم باستجابة دعواتهم ثانياً.

وثالثاً : إن الذي يجري على أيديهم ليس من محض قدرتهم أو إرادتهم بل إنما هو بإشاءة ، فما شاء يشاؤون .. فهم الفاعلون الحقيقيون ، سواء كان إحياء أو إماتة ، لكن كل ذلك بإذن الله وحوله وقوته إرادته وإقداره ، لا أنهم مستقلون في ذلك بحيث لم يستمدوا قدرتهم من الله تعالى وهو لا يتمكن من ردعهم ومنعهم.

__________________

(١) البحار ٢٥ | ٣٤٣.

١٧٢

عن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله وأبي جعفر عليه‌السلام وقلت لهما أنتما ورثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال نعم قلت فرسول الله وارث الأنبياء علم كلما علموا؟ فقال لي نعم ، فقلت أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والابرص؟ فقال لي نعم بإذن الله.

ثم قالوا ادنوا مني يا أبا محمد (١) فمسح يده على عيني ووجهي وأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في الدار قال : أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة او تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً قلت أعود كما كنت ، قال فمسح علي عيني فعدت كما كنت ، قال علي فحدثت به ابن أبي عمير فقال أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق (٢).

عن صالح بن ميثم الأسدي ، قال دخلت أنا وعباية بن ربعي على امرأة في بني والبة ، قد احترق وجهها من السجود ، فقال لها عباية يا حبابة هذا ابن أخيك قالت وأي أخ؟ قال صالح بن ميثم. قالت ابن أخي والله حقاً. ابن أخي ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسين بن علي عليه‌السلام قالت فحدث بين عيني وضح فشق ذلك علي واحتسبت عليه اياماً ، فسأل عني ، ما فعلت حبابة الوالبية؟ فقالوا إنها حدث بها حدث بين عينينها ، فقال لأصحابه : قوموا إليها فجاء مع أصحابه حتى دخل علي وأنا في مسجدي هذا فقال يا حبابة ما أبطأ بك علي؟ قلت يابن رسول الله ، ماذا الذي منعني إن لم أكن اضطررت إلى المجيء إليك اضطراراً ، لكن حدث هذا بي قال فكشفت القناع فتفل عليه الحسين بن علي عليه‌السلام ، فقال : يا حبابة أحدثي لله شكراً فإن الله قد درئه عنك ، قال : فخررت ساجدة ، قالت : فقال يا حبابة ارفعي رأسك وانظري في مرآتك ، قال فرفعت رأسي فلم أحسن منه شيئاً فحمدت الله (٣) ...

__________________

(١) كان أبو بصير مكفوف البصر وكأنما رغب أن يكون مبصراً وأن يبراء من علته هذه.

(٢) بصائر الدرجات ٢٨٩.

(٣) بصائر الدرجات | ٢٩١.

١٧٣

قول الإمام صريح جداً في هذا الحديث الذي يدلل أن هذه الكرامة التي ظهرت على يده المباركة إنما كانت من الله ( ... أحدثني لله شكراً فإن الله قد درثه عنك ... ) فالإمام لم يدعي هذه المنقبة هي بقدرته استقلالاً ولم ينسبها لنفسه بل قال إن الله قد درثه عنك ... فالإمام نسب هذا الفعل إلى الله تعالى لأنه هو الذي أعطاه القدرة على ذلك ، ولكن الفعل فعل الإمام عليه‌السلام ، وهو الذي عافاها ، لكن بإذن الله ، ومعلوم أن المرأة يجب أن تشكر الله سبحانه لأن الشفاء كان بإذنه ، وقد مر في رواية أبي بصير عن الإمام الصادق الباقر عليه‌السلام حيث قال : فقلت أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤوا الأكمه والأبرص؟ فقال نعم بإذن الله. وهذا الأذن لا في مقابلة وعرضه بل في طوله ، لأن العمل أسند إليهم.

دفع وهم :

لقد مر في رواية أبي بصير أن الأئمة عليهم‌السلام يحيون الموتى ويبرؤون الأكمه والأبرص فهو من عملهم لكن بإذن الله ، وفي رواية صالح بن ميثم الاسدي ذكرت أن كرامات الأئمة عليهم‌السلام كانت عمل الله بطلب الأئمة.

أقول قد يتصور القارئ أن بين الروايتين شيء من التعارض ، ولكن ليس كذلك ، بل إن كلتا الصورتين متحققة ، أي بعض الأوقاب يطلب الأئمة من الله فيجيب دعوتهم ، وبعض الأوقات هم يفعلون بإذن الله.

وكيفما كان فما يوافق رواية أبي بصير المتقدمة قوله تعالى على لسان عيسى : ( وابرأ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ) ، وقوله تعالى : ( وتبريء الأكمه والأبرص وتحيي الموتى بإذني ).

حيث أسند الإحياء إلى عيسى إلا أنه لم يكن بمعزل من الإرادة الإلهية ، بل ربما الذي حصل هو بدعاء عيس حيث طلب من الله فأجاب دعوته. وبما أن الأئمة عليهم‌السلام أفضل من الأنبياء بني إسرائيل فبطريق أولى ، فإذا ثبت الإحياء والإبراء إلى عيسى بنص القرآن فيثبت للأئمة بطريق الأولوية. فكل ما يجاب عنه بالنسبة إلى عيسى يجاب بالنسبة إلى الأئمة وبالتالي يرتفع الإشكال.

أما التفويض في الدين والسياسة والأحكام ... بالمناظر الضيق أو

١٧٤

المعنى الأخص مما لا شك في ثبوته للأئمة المعصومين الذين ورثوا هذا الحق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكما ستعرف أن هذا القسم يراد به تشريع بعض الأحكام التي تركها الله سبحانه لنبيه ليعلم من يطجع الرسول ومن يعصيه ، وهذا قد كان سبق في علم الله ، إلا أن الرسول لم يكن ليطلع على هؤلاء ، فوكل إليه هذا المقدار من التشريع حتى يكون على بينة من أمر أصحابه بصورة خاصة والمسلمين بصورة عامة.

١٧٥

التفويض للرسول والاخبار في ذلك

لابد من القول بأن معرفة النبي ومنزلته عند الله أمر مهم في غاية الأهمية ، وهذا المعرفة سوف تكون الفصيل لفهم الأخبار والأحاديث الواردة في هذا الباب فمن كرامة الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمضى منته في أمته والتي أصبحت لزاماً على المسلمين اتباعها فأنزلها الله منزلة التشريع من حيث الوجوب في الأمر والنهي والعلة في هذا الإمضاء ، لينظر كيف طاعة المسلمين لنبيهم وإخلاصهم له.

عن الكليني بإسناده عن أب إسحاق النحوي قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعته يقول : إن الله عز وجل إدب نبيه على على محبته فقال ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (١) ، ثم فوض إليه فقال عز وجل : ( وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٢) وقال عز وجل : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (٣) ، قال : ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي وائتمنه فسلمتم وحجد الناس فوالله لنحيكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا (٤).

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ٤.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٧.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٨٠.

(٤) أصول الكافي ١ | ٢٦٥.

١٧٦

وعنه بإسناده عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهم‌السلام يقولان : إن الله عز وجل فوض إلى نبيه أمر خلقه (١) لينظر كيف كاعته ثم تلا هذه الآية : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٢).

وعنه أيضاً بإسناده عن زيد الحشام قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) (٣) قال أعطى سليمان ملكاً عظيما ثم حرت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان له أن يعطي ما شاء ويمنع من شاء ، وأعطاه الله أفضل مما أعطى سليمان لقوله : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٤).

عن محمد بن الحسين الصفار بإسناده عن أبي أسامة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله خلق محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبداً فأدبه حتى إذا بلغ أربعين سنة أوحى إليه وفوض إليه الأشياء فقال : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٥).

وعنه بإسناده عن إسماعيل بن عبد العزيز قال : قال لي جعفر بن محمد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفوض إليه أن الله تبارك وتعالى فوض إلى سليمان ملكه فقال هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ، أن الله الله فوض إلى محمد نبيه فقال : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فقال رجل إنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفوضاً إليه في الزرع والضرع. فلوى جعفر عنه عنقه مغضباً فقال في كل شيء والله في كل شيء (٦).

__________________

(١) التفويض هنا يراد به امر الدين بدليل قوله لينظر كيف طاعته ، ثم الإستدلال بالآية يؤكد من أن المراج به هي الأمور العبادية أو قل ما يخص أمر الدين. ( ما أتاكم الرسول فخدوه وما نهاكم عنه فانتهوا ... ).

وهذه الآية لا ترتبط بامر الخلق والإيجاد والرازقية وغير ذلك من الأمور التي هي مرتبطة بالله وحده سبحانه.

(٢) أصول الكافي ١ | ٢٦٦.

(٣) سورة ص | ٣٨.

(٤) أصول الكافي ١ | ٢٦٨.

(٥) بصائر الدرجات | ٣٩٨.

(٦) بصائر ٤٠٠.

١٧٧

وعنه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال : قرأت هذه الآية إلى أبي جعفر ليس لكم من الأمر شيء قول الله تعالى لنبيه وأنا أريد أن أسأله عنها فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بل وشيء يشيء مرتين وكيف لا يكون له من الأمر شيء فقد فوض الله إليه دينه فقال : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فما أحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو حلال وما حرم فهو حرام (١).

عن محمد بن سنان قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فذكرت اختلاف الشيعة فقال إن الله لم يزل فرداً متفرداً في الوحدانية ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة عليهما‌السلام فمكثوا ألف دهر ثم خلق الأنبياء وأشهدهم خلقها وأجرى عليها طاعتهم وجعل فيهم ما شاء ، وفوض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرف والإرشاد والأمر والنهي في الخلق ، لأنهم الولاة فلهم الأمر والولاية والهداية فهم أبوابه ونوابه وحجابه يحللون ما يشاء ويحرمون ما شاء ولا يفعلون إلا ما شاء عباد مكرمون لا يشبقون بالقول وهم بأمره يعملون.

فهذه الديانة التي من تقدمها غرق في بحر الإفراط ومن نقصهم عن هذه المتراتب التي رتبهم الله فيها زهق في بر التفريط ، ولم يوف آل محمد حقهم فيما يجب على المؤمن من معرفتهم ثم قال : خذها يا محمد فإنها من مخزون العلم ومكنونه (٢).

هذه الأخبار وغيرها قد وصلت في الشهرة حد التواتر ، وكلها قائلة بالتفويض للرسول في أمر الدين ، وستعرف بعد قليل إن شاء الله ما هو حدود هذا التفويض.

__________________

(١) البصائر ٤٠٢.

(٢) البحار ٢٥ | ٣٣٩.

١٧٨

حق التشريع

التشريع مظهر من مظاهر الخير ، يعطي للإنسان كياناً خاصاً وحياة فاظلة من تنسيق الشارع لعلاقات الفرد الواحد مع الآخرين وصياغة مجتمع مثالي يقوم على أسس العدالة والمساواة وحفظ التوازن ومراعاة المصالح العام زماناً ومكاناً.

ولما كان مصدر الوجود والخير هو الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي أبدع صنع الإنسان وباقي الموجودات ، فسبحانه خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وهو الذي سخر كل ما في الوجود لهذا الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم.

فسبحانه هو المنعم الحقيقي وهو المصدر المطلق للوجود والحياة ، وإذا سلمنا بهذا عرفنا أن جمسع الأسرار الموعودة في هذه الموجودات لا يعلمها غيره ولا يستطيع أن ينظمها أحد إلا هو ، فهو عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم القادر البارئ المصور.

ولما كانت الحياة لا يمكن التمتع بها على وجه الأمن والاستقرار والاطمئنان إلا بشريعة أو نظام ، يحدد الواجبات والمصالح بين الأفراد ، فقد حدث أن توالت نعم الباري على العباد ، وذلك بإنزال الشرائع وبعث الرسول على مر الأزمان إذا لا يعدو الشك في قولنا بأن المشرع الأول هو الله سبحانه ، لأنه المنعم الأول وواهب الحياة ومصدر الوجود ، وعلى هذا استحق الباري حق الطاعة.

ثم للإنعام مصاديق متواجدة بين البشر أنفسهم إذ أحدهم ينعم على

١٧٩

الآخر فيستحق الشكر أو بعضهم يملك حق الطاعة كالأب ، والسيد ومولاه ، والحاكم ، والزوج ... إلخ.

وهذه المصاديق كلما اختلفت في رتبة الإنعام ، اختلفت في مقدار الطاعة فكلما كان المنعم في رتبة أعالى من الإحسان ، وجبت له رتبة من الطاعة تساوي درجة الإنعام. إلا أن كل هذه الرتب والدرجات من الطاعة لا يمكن مقايستها مع درجة الطاعة المطلقة للمنعم المطلق وهو الله سبحانه.

فما يستحقه الإنسان من شكر وطاعة إنما هو محدود في دائرة ذلك الإحسان أما إطاعة الله تعالى لا بد أن تكون في كل آن تتجدد بإظهار الشكر الحقيقي الخالص للمولى وبما أن نعمه غير محدودة ومواهبه لا تعد ولا تحصى ، فلا بد إذا من اإذعان له كما يجب ويريد في أوامره ونواهيه والتزام أحكامه.

قال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (١) ، وقال تعالى : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) (٢) ، وقال تعالى : ( ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) (٣) ، وقال تعالى : ( له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ) (٤). بعدما عرفنا المصدر الأساسي للتشريع هو الله سبحانه ، علينا أن نسأل وهل لغير الله حق في التشريع؟

هذا ما اختلف عليه فقهاء المسلمين فمنهم من جوز ومنهم من منع ذلك.

إلا أن من بين الأحاديث والروايات نجد سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم صلاحية التشريع والذي هو أساس بحثنا الذي صدرنا عنوانه بالتفويض فالذي أجاز التشريع بغير الله استدل بالآية الكريمة : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٦٢.

(٤) سورة القصص ، الآية : ٧٠.

١٨٠