شبهة الغلو عند الشيعة

الدكتور عبدالرسول الغفار

شبهة الغلو عند الشيعة

المؤلف:

الدكتور عبدالرسول الغفار


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٢

أولاً : الصفات الثبوتية وهذه على نحوين :

١ ـ الصفات الثبوتية الحقيقية والتي تسمى بالصفات الكمالية. ( صفات الجمال والكمال ) كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة.

٢ ـ الصفات الثبوتية الإضافية : كالخالقية والرزاقية وهذه ترجع إلى صفة القيومية لمخلوقاته.

ثانياً : الصفات السلبية ( الجلال ) وهي ترجع جميعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان عنه أو قل سلب نقصه عنه سبحانه ، مثل سلب الجسمية والسكون والحركة والثقل والخفة ...

وقد ذكرنا فيما تقدم أن الحشوية كانت تذهب إلى التجسم أو التشبيه ، فإن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي : إنهم أجزوا على ربهم الملامسة والمصافحة وإن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الخلاص والاتحاد المحض.

بل وأكثر من هذا فقد حكي عن الكعبي عن بعضهم : إنه كان يجور الرؤية في دار الدنيا ، وان يزوروه ويزورهم.

وحكي عن داود الجورابي أنه قال بالنسبة لله تعالى : أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقال أن معبوده : جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأذنين ، ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء.

ثم إن الحشوية قد أجرت الألفاظ التي هي في القرآن على ظاهرها كالاستواء والوجه واليدين والجنب والمجيء والاتيان والفوقية وغير ذلك فهي تعني في إطلاقها المعاني الخارجية الصادقة على الأجسام.

وقد زادت الحشوية على تلك المعاني إنهم ضعوا الأكاذيب وافتعلوا الأخبار ونسبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في الحقيقة أخبار مقتبسة من اليهود ، فمثلاً قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وأن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد.

ثم نسبت المشبهة إلى النبي أقوال منها : أنه قال : ( لقيني ربي ،

١٠١

فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله (١) ...

ولو تخطينا البحث لوجدنا أن الحشوية كمصطلح يشمل عامة جمهور المسلمين إلا أنهم في عقائد متباينة ومذاهب مختلفة فهي تشمل فرقة الشكاك والبترية أصحاب الحديث وعلى نذهبهم سفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله ولبن أبي ليلى ومحمد بن إدريس والشافعي ومالك بن أنس وإضرابهم (٢) ...

وقد اختلف جمهور المسلمين ـ أي السلف منهم ـ مع المعتزلة فالأولى كانت تثبت الصفات للخالق والمعتزلة كانت تنفي عنه ، ورأي السلف في الصفات أنها كما وردت في القرآن وغير قابلة للتأويل بل تحمل على ظاهرها ، وفي نفس الوقت اعتقادهم بالله أنه لا شريك له وليس كمثله شيء ... غير أن متأخري السلف ، قالوا لا بد من إجراء هذه الصفات على ظاهرها والقول بتفسيرها كما وردت من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر ، فوقعوا في التشبيه الصرف ، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف (٣).

ومن جملة المجسمة أو المشبهة طائفة تسمى بالكرامية وهم أصحاب عبد الله محمد بن كرام وربما تشعبت هذه الفرقة لتشمل اثنتي عشرة فرقة تقول بالتجسيم مع اختلاف في صورة هذا التجسيم وهيئته.

وإن مقالة محمد بن كرام تنص على أم معبوده جوهر استقر على العرش ، وفي وجوده ذاتاً من فرق وأنه مماس للعرش من الصفحة العليا ، وجوز الانتقال والتحول النزول وإلى غير ذلك من مقولات التجسيم التي قالت به أصول هذه الفرقة كالعابدية والتونية والزرمينية والاسحاقية والواحدية والهيمصمية ، فهذه الفرق أثبتت الجهات الست لله سبحانه ، ومنهم أثبت له سبحانه بعض الجهات كافوقية والتحتية وقد أخطأ الشهرستاني عندما نسب التشبيه إلى الشيعة فقال : وكان التشبيه بالأصل والواصع في الشيعة ، وإنما عادت إلى بعض أهل السنة بعد ذلك ، وتمكن الاعتزال فيهم لما رأوا أن

__________________

(١) انظر الملل والنحل ١ | ٩٧.

(٢) المقالات والفرق ص ٦.

(٣) الملل والنحل ١ | ٨٤.

١٠٢

ذلك أقرب إلى المعقول وأبعد من التشبيه والحلول (١).

في الحقيقة أن التشبيه والتجسيم أخذه السلف أي جمهور السنة من اليهود والنصارى لما دخلت الأخبار والإسرائيليات في ثقافتهم وقام رواة الأحاديث يسألون بعض اليهود والنصارى في مسألة الخالق وبدء الكون وقصص تميم بن اوس الداري النصراني الذي كان يبثها بين المسلمين في مسجد الرسول بإجازة من الخليفة عمر بن الخطاب وذلك في الأسبوع ساعة واحدة وقد زادها عثمان بن عفان في زمنه فجعلها ساعتين في يومين في الاسبوع.

أما الغلاة الذين لعنوا على لسان الأئمة المعصومين وتبرؤوا منهم إنما هم خرجوا من ربقة الإسلام بمقولتهم الفاسدة فكيف يصدق عليهم أنهم من الشيعة؟!.

ففي حديث الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام للحسين بن خالد توضيح ذلك : قال عليه‌السلام : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه يراء في الدنيا والآخرة يا بن خالد إنما وضع والأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله تعالى ...

ثم إن صدر الحديث هو قول ابن خالد الرضا عليه‌السلام يكشف هذه ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن أبائك الأئمة عليهم‌السلام (٢) ... فكان جواب الرضا أن الغلاة هي التي وضعت تلك الأخبار. وإليك نص الحديث :

قال الصدوق بإسناده عن الحسن بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : يا ابن رسول الله إن الناس ينسبونا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمة عليهم‌السلام فقال : يا ابن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمة

__________________

(١) الملل والنحل ١ | ١٥٥.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ | ١٤٢ ـ ١٤٣.

١٠٣

عليهم‌السلام في التشبيه والجبر أكثر أم الأخبار رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك؟

فقلت بل ما ريو عن النبي في ذلك أكثر ، قال :

فليقولوا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول بالتشبيه والجبر إذاً ، فقلت له : إنهم يقولون : إن رسول الله لم يقل من ذلك شيئاً وإنماروي ذلك عليه ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة يا ابن خالد إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله تعالى من أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا ومن والاهم فقد عادانا ومن عادهم فقد والانا ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا ومن جفاهم فقد برانا ومن برهم فقد جافانا ومن اكرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أكرمنا ومن قبلهم فقد ردنا ومن ردهم فقد قبلنا ومن أحسن إليهم فقد أساءنا ومن أساهء إليهم فقد أحسن إلينا ، ومن صدقهم فقد كذبنا ومن كذبهم فقد صدقنا ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم فقد أعطانا ، يا ابن خالد من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم ولياً ولا نصيراً (١).

إن كتبنا العقائدية والحديثية زاخرة بالأخير والواردة عن أهل البيت والأئمة المعصومين عليه‌السلام التي تؤكد على نفي التشبيه والتجسيم منه سبحانه وعلى سبيل المثال نذكر بعضها :

الكليني بإسناده عن الحسين بن سعيد قال سئل ابو جعفر الثاني عليه‌السلام يجوز أن يقال لله إنه شيء؟ قال نعم نخرجه من الحدين : حد التعطيل وحد التشبيه (٢).

محمد بن يعقوب بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال للزنديق حين سأله : ما هو؟ قال هو شيء بخلاف الأشياء أرجع بقولي إلى إثبات معنى وإنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يحبس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ | ١٤٣.

(٢) أصوا الكافي باب إطلاق القول بأنه شيء ، الحديث الثاني حـ ١ | ٨٢

١٠٤

تنقصة الدهور ولا تغيره الأزمان ، فقال له السائل : فتقول إنه سميع بصير؟ قال هو سميع بصير : سميع بغير جارحة وبصير بغير إله ، بل يسمع ويبصر بنفسه ليس قولي : إنه سميع بنفسه وبصير يبصر بنفسه إنه شيء والنفس شيء آخر ولكن أردت عبارة عن نفسي إذا كنت مسؤولاً وإفهاماً لك إذا كنت سائلاً ، قأقول : إنه سميع بكله لا إن الكل منه له بعض وكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى إنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.

قال هل السائل : فما هو؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : هو الرب وهو المعبود وهو الله وليس قولي : الله إثبات هذه الحروف : ألف ولام وهاء ولا راء ولا باء ولكن ارجع إلى معنى وشيء خالق الأشياء وصانعها ونعت هذه الحروف وهو المعنى سمي به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود جل وعزّ.

قال له السائل : فإنا لم نجد موهوماً إلا مخلوقاً ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام لو كان ذلك كما نقول لكان التوحيد عنا مرتفعاً لأنا لم نكلف غير موهوم ، لكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك به تحده الحواس مدرك به تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق ، إذ كان النفي هو الإبطال والعدم.

والجهة الثانية : البشبيه ، إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار إليهم ، إنهم مصنوعون وإن صانعهم غير وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيهاً بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد إذ لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لبيانها ووجودها (١) ...

الكليني بإسناده عن داود الرقي قال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل ( وكان عرشه على الماء ) (٢) فقال ما يقولون؟ قلت : يقولون : إن العرش كان على الماء والرب فوقه ، فقال كذبوا من زعم هذا

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) سورة هود ، الآية : ٧.

١٠٥

فقد صير الله محمولاً ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه (١)...

من الغلو ـ القول بالجبر أو التفويض

من العقائد المهمة والشائكة الملتبسة هي مسألة الجبر والتفويض ، والتي ترتبط بالمصطلح العقائدي الآخر ( القضاء والقدر ).

لقد برزت عقائد وفرق تنادي كل واحد منها بما يميزها عن الأخرى في تلك المسألة وأصل الموضوع هو البحث عن مسألة حرية الإرادة التي تعتبر الجذر الأساس لفكرة القضاء والقدر ، والتي شغلت علماء المسلمين منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع منه. ولم يشهد العالم الإسلامي تياراً فكرياً جاوفاً وصراعاً عقائدياً حاداً كالتيار الذي أحدثه هذا الموضوع.

ولا ننسى أن جذور هذا البحث إنما ورثه السملمون من الأمم السابقة والحضارات المتقدمة وبالخصوص الحاضرة اليونانية والمعتقادات والدينية السائدة هناك ، والخلافات التي أحدثتها تلك المذاهب بين اليونايين.

مسألة الجبر والتفويض أو القضاء والقدر ترتبط بالتوحيد من جانب ، وبالعدل الإلهي والقدرة الإلهية من جانب آخر.

وقد انقسم المسلمون المتكلمون في هذه المسألة إلى فرقتين متميزتين :

الفرقة الأولى : قالت إن كل أفعال الإنسان كسائر الموجودات الكونية هي افعال الله تعالى. وليس للإنسان أي مشيئة أو إرادة في ذلك الفعل وبعبارة أخرى أنكروا حرية الإنسان في أعماله وتصرفاته. وهذه تسمى بالمجبرة.

الفرقة الثانية : قالت إن أفعال الإنسان هي أفعال حقيقية اختارها بإرادته وحريته من دون أن يكون لله عليه سلطان أو إرداة فيها. وبعبارة أخرى قالوا بأصالة اختيار الإنسان ، وإنمه يتمتع بكامل الحرية في أفعاله وتصرفاته ، وأما دائرة حريته فهي واسعة لا يحدثا شيء ولا يردعها رادع. وهذه تسمى بالمفوضة. وقد ذهب كل فريق إلى استنباط الأدلة والتدليل على صحة

__________________

(١) أصول الكافي ١ | ١٣٢.

١٠٦

إن التفكير في هذه الأمور تورثه الحيرة والندم لأنها قد توصله إلى التشكيك في كثير من معتقداته الدينية ، لهذا جاء النهي عن البحث في هذا الموضوع فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لما سئل عن القدر : طريق مظلم فلا تسلكوه وبحر عميق فلا تلجوه وسر الله فلا تكلفوه.

ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذم القدرية فقال : ( إن القدرية مجوس هذه الأمة ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدرية خصماء الله في القدر وقد تذرع بهذا الحديث كل من المجبرة والمفوضة وكل واحد منها كفرت الأخرى ونسبتها إلى القدرية.

فالمجبرة تسمى المفوضة بالقدرية لأنهم ينكرون القدر وينفون الإرادة الإلهية عن كل تصرفات الإنسان لأن الإنسان مختار في أفعاله ، له مطلق الحية والإرادة في تصرفاته.

والمفوضة تسمى المجبرة بالقدرية لأنهم يثبتون القدر لله ويقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله والإنسان عديم الإرادة.

والمستفاد من أخبار المعصومين عليهم‌السلام إن كلا الفريقين هم ينتمون إلى القدرية لكن إنتماء تضاد بينها ، فالمجبرة ينسبون الخير والشر والطاعة والمعصية وكل أفعال الخلق إلى غير الإنسان أي إلى الله سبحانه وهذا ما يوافق المجوس القائلين بكون فاعل الخير والشر غير الإنسان ، وهذا مما ينطبق على المجبرة من حيث إثبات القدر لله وسلب الاختيار من الإنسان.

وأما المفوضة فهم القائلون بخالقين : الأول وهو الله الذي خلق الأشياء وأكملها ثم انفصلت عنه فلا سبيل لها في الأرتباط به سبحانه والثاني وهو الإنسان بالنسبة لأفعاله ، لأنه مختار في كل تصرفاته وحريته مطلقاً لا دخل لإرادة الله فيها. وهذا مما يوافق المانوية الذين قالوا أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والأخر ظلمة وأنهما أزاليان لم يزلا (١) وهذه أثنينية ، وهي شرك بالله ، ويوافق المجوسية إذ أثبتوا أصلين قديمين مدبرين هما يزدان وأهرمن أي النور والظلمة.

__________________

(١) الملل والنحل ١ | ٢٢٤.

١٠٧

المذهب من خلال الأدلة العقلية والآيات الكريمة فمثلاً استدل المجبرة على صحة عقيدتهم بالآيات القرآنية منها :

قوله تعالى : ( يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) (١) وقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (٢) وقولة تعالى ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) (٣). أما المفوضة فقد استدلوا بآيات غيرها منها : قوله تعالى : ( اليوم تجزي كل نفس بما كسبت ) (٤) وقوله تعالى ( كل امرئ بما كسبت رهين ) (٥) وقوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ) (٦) وقوله تعالى ( ذلك بإن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (٧) وقوله تعالى : ( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) (٨). وقوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (٩) وتعالى ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) (١٠) وهكذا آيات كثيرة استدلوا بها على أن الإنسان مختار في فعله له حرية الإرادة في تصرفاته.

الإنسان عندما يستعرض شريط الحياة والوجود والحوادث والحركة الدؤبة في هذا الكون فإنه يجد نفسه لا ينفلت من إطار الجبر والقهر في وجوده قبل أن يولد وإلى أن يلقى حتفه ، فليست له إرادة أو اختيار في وجوده كما أن عدمه أو موته هو الآخر ليس من فعل إرادته وحرية أفعاله.

وفي الوقت نفسه لو أن الإنسان أنعم النظر فيما حوره من تصرفات وافعال سوف يجد أن حياته اليومية وما يصحبها من حركة وسكون تصرفات كلها تنطلق من حريته الخاصة وإرادته الجيدة التي لا قسر ولا جبر ولا إكراه عليه من غيره.

هذا اللون من النتائج سوف يجعل الإنسان في حيرة ويجد نفسه عاجزاً في تبني أي فكرة كي يطبقها أو يجعلها محوراً لعقائده الفكرية والدينية ، بل

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٨. (٦) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ٩٦. (٧) سورة الانفال ، الآية : ٥.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٥. (٨) سورة الجاثية ، الآية : ٢٨.

(٤) سورة غافر ، الآية : ١٧. (٩) سورة الكهف ، الآية : ٢٩.

(٥) سورة الطور ، الآية : ٢١. (١٠) سورة المائدة ، الآية : ٣٠.

١٠٨

فيصدق عليهم جميعاً ـ المجبرة والمفوضة ـ تسميتهم بالقدرية ، لما عرفت من أنهم ينفقون القدر ويجعلون سلطان الإنسان هو المتحكم ، كما أنه يصدق عليهم قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجوس هذه الأمة. فالقدرية القائلون بالاختيار يلتقون مع المعتزلة.

والقدرية القائلون بالجبر يلتقون مع الأشاعرة والفقهاء من أهل الحديث والسنة ، وأول من قال بالقدرية بمعنى الاختيار هو أحد النصارى من أهل العراق الذي اعتنق الإسلام ثم رجع عنه وقد أخذ عنه معبد الجهني وغليان الدمشقي فالأول تبنى هذه الفكرة ونشرها في الكوفة وحواليها ثم البصرة وبعد ذلك أصبح الداعي الأول لأهل العراق. أما غيلان الدمشقي فأخذ على عاتقه نشر فكرة الاختيار في بلاد الشام.

وقد اعتنق فكرة الاختيار والتفويض جماعة كبيرة من أهل العراق بسبب دعوة معبد الجهني إياها ، الذي عمل لها زمناً طويلاً إلى أن اشترك مع ثورة عبد الرحمن بن الاشعث ثم أسر وأخيراً صلبه الحجاج بن يوسف الثقفي. وبعد الجهني برز واصل بن عطاء كصاحب مدرسة. أما غيلان الدمشقي لما استفحل أمره في الشام وضواحيها وقد آل الأمر في الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز عمل له مناظرة كلامية استطاع بها أن يقنعه ووعده أن يرجع ...

ثم قيل أنه قتله هشام بن عبد الملك لما أفحمه الأوزاعي في إحدى مناظراته في القدر. وقيل أن هشام بن الحكم تصدى لقتله بعدما أن تناطرا في القدر.

وأول من قال بالقدر بمعناه السائد عند الأشاعرة والجهمية والفقهاء من أهل السنة ، هو الجعد بن درهم مولى بني الحكم وهو من قاطني الشام ، وله اتصال مع اليهود هناك ، ومنهم أخذ فكرة الجبر وبثها بين المسلمين ، ثم استعمله الحكام الأمويون وكان يتولى لهم تربية أبنائهم ويروج لما يعتقده ، وقد أخذ منه الجهم بن صفوان (١) فكرة الجبر عندما إلتقى به في الكوفة وأصبحت مدرسته هي الأخرى في الكوفة تناقض مدرسة واصل بن عطا وقد

____________

(١) قال الشهرستاني : هو من الجبرية الخالصة ، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية. الملل والنحل ١ | ٧٩.

١٠٩

تبنى الحكام الأمويين المجرسة الجهمية أي الجبرية وروجوا لها بل تحمس للدفاع عنها طبقة الأمراء والولاة والقضاة ، وهم الذين يوعزون تصرفاتهم وظلمهم إلى الباري عز وجل وعلى الناس مجاراتهم لأنهم مجبرون في الرضوخ والتسليم طالما أفعال هؤلاء الظلمة مخلوقة لله ـ على حد زعمهم ـ فهي ليس من إرادة الإنسان وحريته.

بهذا التعليل استطاع بني أمية أن يذلوا الرقاب وبستولوا على السلطة ويرتكبوا أفظع الجرائم في التاريخ ويقارفوا المنكرات ويلهو ويولعوا في الشهوات والملذات وكان على رأسهم يزيد بن معاوية.

فليس من الغريب أن نجد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهم يحتلون الصدارة في قصور الحكام وتشملهم الرعاية الخاصة من قبل الأمويين طالما نفسوا لهم كربتهم في أعذارهم وأباحوا لهم ارتكاب كل جرم يخطر ببالهم.

فمثلاً من جملة ما قاله الجهم بن صفوان : إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازاً ، كما تنسب إلى الجمادات ... والثواب والعقاب جبر ، كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً.

وعلى هذا قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقضي تشبيها فنفى كونه : حياً عالماً ، وأثبت كونه : قادراً ، فاعلاً ، خالقاً ، لأنه لا يوصف شيء من خلقه : بالقدرة ، والفعل ، والخلق (١) ...

وممن قال بفكرة الجهمية من الجبرية هم النجارية (٢) والضرارية (٣) وأكثر معتزلة أهل الري.

__________________

(١) انظر الملل والنحل ١ | ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) نسبة إلى الحسين بن محمد النجار.

(٣) نسبة إلى ضرار بن عمرو.

١١٠

قال الحسين النجار : الباري تعالى مريد نفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق ، فالتزم ؛ وقال : هو مريد الخير والشر ، والنفع والضر. وقال أيضاً : معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب. وقال : هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ...

أما ضرار بن عمرو فقال : الباري تعالى عالم قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز ، وأن أفعال العباج مخلوقة للباري تعالى حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة وجوز لذلك حصول فعل بين فاعلين (١).

هذه هي الجبرية التي صيرت الإنسان كالريشة في مهب الريح لا يملك شيئاً من تصرفاته وأفعاله.

ثم جاء الأشعري (٢) ليؤكد تلك المقالة التي ذهب إليها المجبرة ، فقال إن أعمال العباد مخلوقة لله ومقدروة له ، ولقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (٣) لا يشاركه في الخلق غيره ، وقال : أخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع ثم قال : الإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى ، والفكر والمعيصية بخذلانه ، والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة ، والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية (٤).

استدل المجبرة القائلون بأن الأفعال مخلوقة لله بعدة أمور يمكن إيجازها بما يأتي :

أولاً : قالوا أن الإسلام غير قادر على أفعاله ولا موجوداً لها بنفسه ، ولو كان الإنسان قادراً ، لزم اجتماع قادرين على فعل أو مقدور واحد ، لأن الله قادر على كل شيء ، والإنسان إذا قلنا قادراً على إيجاد فعله ، كانت قدرتان قد اجتمعتا وهذا باطل بدليل لو أراد الإنسان إيجاد فعل وكانت ارادة الله تعالى عدمه ، أدى إلى اجتماع النقيضين ، وإن وقع أحدهما دون الآخر

__________________

(١) انظر الملل والنحل ١ | ٨١ ـ ٨٢.

(٢) هو ابن الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري الذي اختاره أهل الكوفة للتحكيم كمندوب من قبل جند الإمام علي عليه‌السلام في حربهم مع معاوية في صفين.

(٣) سورة الصافات ، الآية : ٩٦.

(٤) الملل والنحل ١ | ٩٣.

١١١

أدى إلى ترجيح أحدهما وترك الآخر بدون مرجح ، وكل ذلك باطل ... إذن لا بد من القول بقدرة واحدة هي قدرة الخالق وإن أفعال العباد مخلوقة له.

ثانياً : لما كانت قدرة الله تعالى مطلقة ، أي أنه قادر على كل شيء ، ويفعل ما يريد وإرادته لا تقهر ولا ترد ، إذن لا مجال للقول بأي قدرة للعبد ، وإذا قلنا أن العبد يعنل بقدرته ، أدى بنا إلى تعطيل قدرة الله ووصفه بالعجز ، وهذا يناقض قدرته وإشاءته في كل آن.

ثالثاً : كون الأفعال الصادرة من العباد مخلوقة لله ، لأنها محتاجة إلى مرجح وهذا المرجح لا بد أن يكون مرجعه إلى الله وإلا لو كان بترجيح من العبد فلا يؤدي إلى النتيجة الفاعلة ، بمعنى أن كل ترجيح ـ لو كان من العبد ـ هو محتاج إلى ترجيح آخر ، والترجيح الثاني مفتقر إلى ترجيح ثالث ، وهكذ يقع التسلسل.

إذن لا بد من القول بأن ، افعال العبد صادرة بترجيح خارجي منوط بالله سبحانه.

هذه بعض استدلالات الأشاعرة وأهل الجبر ومن تابعهم من الفقهاء من أهل السنة والحديث ، إلا أنها استدلالات ضعيفة قابلة للرد ليس هذا محلها ، وقد تصدى لردها المعتزلة وعلماء الكلام على مر التاريخ ، وإن كتبهم زاخرة بالردود والنقوض ، على أنها هي الأخرى قابلة للرد والنقض.

فمن جملة الردود التي تصح في المقام هي :

أولاً : لو كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأن الإنسان مجبور عليها فهذا يعني إبطال الثواب والعقاب وهذا خلاف ما يصرح به القرآن الكريم حيث قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )(١) وقوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسؤولون )(٢) وقال تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة )(٣) وقال تعالى : ( ولتسألن عما كنتم تعملون )(٤) وقوله تعالى : (... هل تجزون إلا ما كنتم تعملون )(٥) وقوله تعالى : ( فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) (٦) وقوله تعالى : ( إن

__________________

(١) سورة الزلزال ، الآية : ٧ ـ ٨.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة المدثر ، الآية : ٣٨.

(٤) سورة النحل ، الآية : ٩٣.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٩٠.

(٦) سورة يس ، الآية : ٥٤.

١١٢

الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ) (١) وهكذا آيات كثيرة تنص على المجازاة وإداء المعروف لمن أحسن في الدنيا والعقوبة لمن أساء فيها.

ثانياً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تكليف بما لا يطاق وهذا غير صحيح ، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (٢).

ثالثاً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فما فائدة بعض الأنبياء والرسل وإنزال الكتب والشرائع؟! أو لم تكن الغاية من بعثهم لهداية الناس وإنذارهم وتعليمهم العبادة الحقة وتحذيرهم من السقوط والهلكة؟!

قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ) (٣) وقال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (٤) وإلى غير ذلك من الآيات البينات (٥).

رابعاً : إن كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وقد أجبرهم عليها ، فإن عقابه للعاصي ظلم ـ لأن العبد مجبور على فعله ـ والظلم قبيح على الله ...

قال تعالى : ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذك العجل .. ) (٦) وقال تعالى : ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ... ) (٧) وقال تعالى :

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٠.

(٢) أصول الكافي ١ | ١٦٠.

(٣) سورة الجمعة ، الآية : ٢.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢١٣.

(٥) لقد أفاد الشيخ الخراساني في الكفاية بعد إيراده السؤال المتقدم فقال : لينفع به ـ ببعث الرسل وإنزال الكتب ـ من حسنت سريرته وطابت طينته لتكمل به نفسه ويخلص مع ربه انسه ماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وقد استدل الشسخ بآيات أخرى غير التي استدلينا بها ، منها قوله تعالى : ( فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ).

ثم قال : وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته : ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة كيلا يكون للناس على الله حجة ). انظر كفاية الأصول ٢ | ٥ ، ط الشابندر ، بغداد ١٣٢٩ هـ.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ٥٤.

(٧) سورة آل عمران ، الآية : ١١٧.

١١٣

( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ... ) (١) وإلى ذلك عشرات الآيات المباركات.

خامساً : إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله ، إذن فلا حجة لله على عباده في ارتكاب المعاصي ، بل إن الحجة البالغة سوف تكون للعصاة ...

إلا أن القرآن الكريم يصرح بأن الفعل القبيح إنما صدر بإرادة الإنسان وهو المسؤول عنها والحجة لله تعالى.

قال تعالى : ( ما سلككم في سقر؟ قالوا : لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ) (٢). فقوله تعالى : ( كنا نخوض مع الخائضين ) واضحة الدلالة من أن أفعالهم كانت صادرة باختيارهم.

إلى غير ذلك من الادلة التي لا يصمد عندها المجبر وبها تبطل مزاعمهم الفاسدة. لكن أنى لهم الردع وقد ترعرعوا في نعيم العيش ، ينقلبون في قصور الحكام والخلفاء وينهلون من أموالهم ومنحهم. فهم الوسيلة لتعضيد الملوك والخلافاء على جورهم والدرع الحصين الذي وقى أولئك الجبابرة ، ومنحهم الشرعية الكاملة لتصرفاتهم وغصبهم للخلافة وجورهم ... فهم بغية أهل الفسق والفجور من الحكام والولاة كما أنهم وجدوا من الظلمة المتنفذين المرتع الخصب لتحقيق المصالح وإشباع الرغبات ...

هذا بيان يكشف لنا فساد عقيدة المجبرة بل وكفرنا وقد مر في الصفحات المتقدمة قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم.

أما المعتزلة التي غربت قبال تشريق المجبرة والأشاعرة وأهل الحديث ، فقد اتفقوا على أن العبد خالق لأفعاله قادر عليها ، صادرة منه بحريته المطلقة وإرادته الكاملة ، وبهذا الاعتقاد أظهرت الخاق الباريء بمظهر العاجز الذي لا يتمكن إعمال إرادته في إرادة مخلوقه .. لأنه ـ حسب زعمهم ـ قد أوجد الكائنات وأبدعها وانتهى من خلقها وتركها وشأنها من دون إعمال مشيئته فيها ، وإن أفعال العباد هي إحدى ظواهر الوجود المتحررة عن مباشر المشيئة الإلهية.

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١٧.

(٢) سورة المدثر ، الآية : ٤٢ ـ ٤٦.

١١٤

والمعتزلة تضم اثنتي عشر فرقة : منها الواصلية والهزلية والنظامية والجاحظية والجبائية ... وكلها قائلة بفكرة معبد الجهني المؤسس الأول ثم تابعه الحسن البصري وواصل بن عطاء ... والجميع يقرون الحرية المطلقة للإنسان ، وإنه في معزل عن إرادة الله تعالى ، وهذا لا يخفى من كونه من معتقدات المجوس الثنوية الذين قالوا بإله الخير وإله الشر.

لأن فكرة المعتزلة تجعل للإنسان إرادة خاصة متفكة عن إرادة الله تعالى وهذا يبعد الإنسان عن إطار التوحيد ليقذفه في حياض الشرك حيث يصبح الإنسان في هذه الحرية صاحب إرادة وحكومة مطلقة ، بعبارة أخرى أن الله ـ على حد زعمهم ـ أوجد المخلوقات بأسبابها الخاصة ثم انفصل عنها وجعلها ذوات مستقلة لا ارتباط لها بالأسباب والعلل المؤثرة من قبل الله تعالى. وهذا يقضي أن في الوجود قوتين وقدرتين ، وهذا هو الشرك بعينه ... إلا أن المعتزلة أغمضت عن ذلك.

المؤتمر الحقيقي هو الله وحده لا شريك له حيث لو أراد سبحانه أن يذهب بأثر إرادة الإنسان في أفعاله لفعل. فلا ينفك الوجود بما فيه من أسباب وعلل وناقصة من القدرة الإلهية بل لا يخرج من كونه من فعل الله سبحانه وإنه مفتقر إليه في كل آن. وبعبارة أخرى أن إعطاء القدرة والاختيار هو فعل الله سبحانه لكن الفعل المقدور والمختار من قبل العبد هو فعل العبد.

من كل ماتقدم عرفت عقيدة المجبرة والمعتزلة واتضح أن كل واحد منها غالت في عقائدها وأصبحت على طرفي نقيض ، وهما في الشرك والكفر قد سقطوا من حيث شاؤوا أو أبوا.

وهذا الغلو لا يوجد عند متكلمي الشيعة ، بل هو مرفوض ، بل إن نسبة إلى الفرق المتقدمة هو أليق.

والذي يعطينا الحل المناسب والصحيح هو الأخذ بقول أهل البيت عليه‌السلام حيث وضعوا القول الفيصل في المسألة وأقروا أن الأمر بين الأمرين فلا جبر إذن ولا تفويض ، وهذا هو مذهب الإمامية الإثنا عشرية فلا هم على رأي المجبرة ولا هم على رأي المعتزلة ، بل أقروا أن الإنسان موجود لأفعاله ، ولكن بالقدرة التي أودعها الله فيه ، فإذا وجد الداعي وارتفع المحذور صدر الفعل عن فاعله ، ونسب إليه ما فعله ، وشأنه في ذلك شن الإحراق للنار من حيث قيام المعلول بعلته.

١١٥

فلو لم يكن سبحانه يفيض علينا من قدرته حرية الإرادة والإمكانات والقوى والحياة في كل آن ، لما كنا قادرين على أي عمل نفعله ، لهذا إن أفعالنا الإرادية ترتبط بنا لكونها صاردى من عندنا وفق مصالح يشخصها العبد. وفي نفس الوقت إن هذه الإرادة هي ذخائر المولى ـ الخالق ـ في العبد.

وبهذا التقرير يتضح أن الأمور لا بد أن تجري بأسبابها ، وأن من جملة الأسباب هو خلق الإنسان وخلق الإرادة فيه ، وإن أفعالنا الاختيارية صاردة من ذلك السبب وهي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإزادة الله هي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإرادة الله هي منذ الأزل ولا تنافي هذه الارادة مع حرية البشر في اختيارهم لأفعالهم وبهذا الاختيار تحسن المكافئة على فعل الخير ويجزي العاصي بما فعل من سوء ، قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ) (١) وقوله تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء إنخذ إلى ربه سبيلا ) (٢) وقوله تعالى : ( إن هو إلا ذكر للعاملين لمن شاء منكم أن يستقيم ... ) (٣).

عن الصدوق بإسناده عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فقلت له يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ قال عليه‌السلام : من زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليه‌السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك.

فقلت له يابن رسول الله فما أمر بين أمرين؟

فقال وجود السبيل إلى اتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه. فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك؟ فأما الطاعات فإرادة الهل ومشته فيها الأمر بها والرضى لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها قلت : فهل لله فيها القضاء؟ قال : نعم ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قصاء ، قلت : ما

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة الإنسان ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة التكوير ، الآية : ٢٧ و ٢٨.

١١٦

معنى هذا القضاء؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة (١).

وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقد ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أخذ إلا كسرتموه؟

قلنا إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله تعالى لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبه ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرتم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادراً ولا منها مانعاً ، وإن ايتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه. ثم قال عليه‌السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه (٢).

عن الحسن بن علي الوشاء قال سألت الإمام أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقلت : الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعز من ذلك ، قال : ثم قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك (٣).

اهذا يستجب الدعاء بهذا المأثور : ( إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي. كما يستجب الإكثار من قوله تعالى : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) والإمعان فيها دائماً.

ومن الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام الجماعة لأمهات المطالب المتقدمة والتي تكشف عن معنى القصاء والقدر وتوضح عقيدة أهل الجبر وتفضح مقولة أهل الاختيار والتفويض وتبين الأمر بين الأمرين هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لما رجع من حرب صفين إذ كان جالساً في الكوفة فأتاه شيخ فجثا بين يديه ثم قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم وبطن واد إلا بقضاء من الله

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ | ١٢٤.

(٢) المصدر نفسه ١ | ١٤٤.

(٣) أصول الكافي ١ | ١٥٧.

١١٧

وقدر ، فقال له الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟

فقال له : مه يا شيخ فوالله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ أنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والوجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسنين أولى بالعقوبة من المذنب تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله تبارك وتعالى كلف تهيراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملك مفوضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بنيهما باطلاً ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فأنشأ الشيخ يقول :

أنـت الإمـام الـذي تـرجوا بطاعته

يوم الـنجاة مـن الـرحمـن غـفرانـا

أوضحت مـن أمـرنا ما كان ملتـبسا

جـزاك ربـك بـالإحـسان إحسانا (١)

وسيأتي البحث إن شاء الله عن التفويض بمعنى التشريع أو التخويل للرسول أمر العباد.

١١٨

من الغلو ـ القول بالحلول والتناسخ

فكرة الحلول والتناسخ تعتمد على مسألة الروح ، ومنها تنبثق الفلسفات القديمة الحاكية عن العقائد المتبناة ودورها في بناء الثقافة الزراداشتية واليهودية والنصرانية كما أن المسلمين اوغلوا في البحث عن الروح منذ القرن الأول الهجري وتنامت هذه المسألة بحهنا وجدلاً في القرن الثاني الهجري.

والإنسان الذي تبرز فيه بعض الغرائز وتتحكم في سيره الفكري والثقافي ، سوف تشغله كثيراً عن أصول المسائل ومهام الأمور ليرتمي في المسائل والذي أغمض عنها الشارع المقدس ـ كالروح ـ وسكت عن أجزائها ، وإنما جعل الروح من أمر الله فحسب.

والإنسان حريص على ما منع ، فيجب أن يخوض غمار كل مجهول ويسلك كل واد قفر ويتجشم الصعاب في بغيته وهذا التطلع هو شيء غريزي ، وتنفلت هذه الغريزة عن حدودها المعقولة إذا صادفت التعنت في طريقها المرسوم ، كالاقتحام في لحح الغوامض والبحث عما لا طائل من ورائه.

فقد تطلع الإنسان منذ أقدم العصور ليعرف روح آدم عليه‌السلام التي انحدر هو منها وكذا روح المسيح عيسى بن مريم التي شابهتها في الإبداع والكينونة.

١١٩

وقد غفل الإنسان أن هذه وأمثالها من الأمور الغيبية التي استأثرها الله سبحانه بعلمه الذي لم يطلع عليه أحد. ومع ذلك فقد نوه القرآن الكريم إلى معنى الروح ولو إجمالاً فقد تعرض إلى روح آدم وروح عيسى عليهما‌السلام ...

ففي معرض خلق آدم وسجود الملائكة ـ بإمر من الله تعالى : ـ ، قال عز وجل ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )...(١).

وفي خلق عيسى عليه‌السلام قال تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقيها إلى مريم وروح منه ) (٢) وقوله تعالى : ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ) (٣)

أما بالنسبة إلى خلق الإنسان قال تعالى : ( .. الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه...) (٤).

فما هي الروح...؟ ويسئلونك عن الروح ...

لقد أجاب سبحانه تعالى بجملة واحدة ( قل ـ يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) (٥).

إذن الروح ليست قديمة كما يزعم الفلاسفة القدماء والنصارى والمجوس بل هي حادثة مخلوقة ، لكن هل هي كسائر الموارد المخلوقة التي لها ورن وتشغل حيزاً من المكان؟! وهل تتصف بأشياء يدركها الحس الخارجي كاللون والطعم والشكل والأبعاد ... لقد عرف العلم الحديث أكثر من ست وثلاثين نوعاً من أحوال المادة وقد غاب عنه أضعاف ما عرفه ولا

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٧١.

(٣) سورة التحريم ، الآية : ١٢.

(٤) سورة السجدة ، الآية : ٧ ـ ٩.

(٥) سورة الإسراء ، الآية : ٨٥.

١٢٠