تفسير الحبري

أبو عبد الله الكوفي الحسين ابن الحكم بن مسلم الحبري

تفسير الحبري

المؤلف:

أبو عبد الله الكوفي الحسين ابن الحكم بن مسلم الحبري


المحقق: السيد محمد رضا الحسيني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

يقول عليه‌السلام عن القرآن :

«... النور المقتدى به، ذلك القرآن، فاستنطقوه! و لن ينطق! و لكن أخبركم عنه : ألا إنّ فيه علم ما يأتي و الحديث عن الماضي، و دواء دائكم، و نظم ما بينكم ...».

[ نهج البلاغة، الخطبة (١٥٦) ص (١٨٠ ]

و الأحاديث الشريفة الدالّة على هذا المعنى تنصّ على أنّ القرآن و عليّا عليه‌السلام نصبهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمين، خلّفهما في أمّته من بعده، ليكونا استمرارا لوجوده بينهم، فلا تضلّ الأمّة بعده أبدا ما تمسّكت بهما، و نهاهم عن التخلّف عنهما، و هما «الثقلان» أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهما «معا، لا يفترقان» الى يوم القيامة.

و بنصّ حديث الثقلين، فإنّ التمسّك بهما معا واجب، فلا يغني أحدهما عن الآخر، فالكتاب وحده ليس حسبنا، بل هو أحد الثقلين، و الآخر هو العترة الطاهرة : أهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و عليهم، و الإمام عليّ عليه‌السلام سيّد العترة و زعيمهم.

و إليك بعض نصوص الحديث :

١ ــ عن زيد بن ثابت، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء و الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض.

[ مسند أحمد بن حنبل (ج ٣ ص ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩) و (ج ٤ ص ٣٦٧ و ٣٧١)، و رواه في المناقب أيضا، و رواه الترمذيّ في الجامع الصحيح (كتاب المناقب ٥٤٦ ب ٣١)، و رواه الطبرانيّ في المعجم الصغير

١٦١

(ج ١ ص ١٣١ و ١٣٥) و في المعجم الكبير أيضا، و ذكره السيوطيّ في الجامع الصغير (ج ١ ص ١٠٤) و قال : صحيح‏ ].

و أمّا الجملة الثانية : فمعيّة القرآن لعليّ عليه‌السلام ، لها معنيان، على وجه منع الخلوّ :

الأوّل : إنّ القرآن هو مع عليّ عليه‌السلام جنبا الى جنب في مسير هداية العباد، فالقرآن ثاني اثنين إلى جنب أهل البيت في الخلافة عن النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهما الثقلان اللّذان خلّفهما النبيّ لهداية الامّة، و أخبر أنّهما معا لا يفترقان حتّى يردا عليه الحوض يوم القيامة.

المعنى الثاني : إنّ القرآن هو مع عليّ عليه‌السلام في الإعلان بفضله و النداء بإثبات حقّه، فإنّ الإمام هو الكاشف عن أسرار الكتاب، و الناطق عنه، و المبيّن لحقائقه الناصعة الرصينة، و المعلن عن فضله و الأمين على حفظه روحيّا و معنويّا، و لفظيّا و ظاهريّا.

فكذلك القرآن يتصدّى بفصيح آياته و لطيف كناياته للإشادة بفضل الإمام عليّ عليه‌السلام ، و بيان عظيم منزلته في الإيمان بالسبق و الثبات، و في العمل بالإخلاص و الجدّ، و في القرب من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتضحية و الفداء و الطّاعة و الحبّ.

و قد تظافرت الآثار عن كبار الصحابة، في هذا المعنى.

١ ــ فعن ابن عبّاس : قال : ما نزل في أحد من كتاب اللّه تعالى ما نزل في عليّ.

٢ ــ و عنه أيضا، قال : نزلت في عليّ ثلاث مائة آية.

١٦٢

٣ ــ و عن مجاهد، قال : نزلت في عليّ سبعون آية لم يشركه فيها أحد.

(شواهد التنزيل (ج ١ ص ٣٩ ــ ٤٣) الفصل الخامس).

و أمّا التفصيل في هذا المعنى فهو ما حاول مؤلّفو الكتب السابقة المعنونة باسم «ما نزل من القرآن في عليّ» استيعابه في كتبهم، كلّ حسب ما وقف عليه من الروايات.

و من الملاحظ أنّ هذه المؤلّفات، و بهذا العنوان بالخصوص، كانت شائعة في القرون الاولى بشكل واسع، فأكثر مؤلّفيها هم من أعلام تلك القرون مثل : الثقفيّ (ت ٢٨٣)، و ابن شمّون و فرات الكوفيّ (ق ٤)، و ابن أبي الثلج البغداديّ (ت ٣٢٥)، و الجلوديّ البصريّ (ت ٣٣٢)، و أبي الفرج الإصفهانيّ (ت ٣٥٦)، و الخيبريّ (ت ٣٧٦)، و المرزبانيّ (ت ٣٧٨)، و الجوهريّ (ت ٤٠١)، و الشيخ المفيد (ت ٤١٣)، و أبو نعيم الإصفهانيّ (ت ٤٣٠).

و من أقدمهم المؤلّف الحبريّ المتوفّى (٢٨٦).

١٦٣
١٦٤

٣

مخطوطات الكتاب‏

توجد لهذا الكتاب مخطوطتان، و كلتاهما مأخوذتان من نسخة واحدة كانت محفوظة في الخزانة المستنصريّة ببغداد، و كاتبها الخطّاط البغداديّ عليّ بن هلال الكاتب الشهير بابن البوّاب.

فلنبدأ بالحديث عن هذه النسخة الأمّ :

فمن هو ابن البوّاب؟

و ما شأن المستنصريّة؟

و ما هو مصير النسخة تلك؟

أما ابن البوّاب : فهو عليّ بن هلال البغداديّ، أبو الحسن الكاتب، المعروف بالخطّاط ابن البوّاب، من أشهر الخطّاطين في العصر البويهيّ ببغداد، كان حافظا للقرآن، و له منظومة في علم الخطّ، و كان مسؤولّا عن مكتبة بهاء الدّولة البويهيّ بشيراز، و لقد جوّد في الخطّ حتّى صار مضرب الأمثال، و مقاس الجودة مدى الأجيال، و أبدع في كتابة القرآن الكريم، فبلغ ما نسخه من المصاحف أربعة و ستّين مصحفا و طبع أخيرا في أوروبا مصحف‏

١٦٥

بخطّه، و توفّي سنة (٤١٣) و رثاه الشريف المرتضى بقصيدة (١) .

و المستنصرية من مدارس بغداد أسّسها المستنصر باللّه، المنصور بن الظاهر الخليفة العبّاسيّ السادس و الثلاثون، ولد (٥٨٨) و تولّى (٦٢٣) و مات (٦٤٠).

أنشأها سنة (٦٢٥) و افتتحها سنة (٦٣١) فعظّم بها شأن العلم و العلماء، و ألحق بها خزانة للكتب جمع بها من نفائس المؤلّفات نحوا من ثمانين ألف كتاب (٢) .

و أمّا النسخة الأمّ :

فقد ذكر النباطيّ ما نصّه : قد وقفه المستنصر بمدرسته، و شرط أن لا يخرج من خزانته، و هو بخطّ ابن البوّاب، و فيه سماع لعليّ بن هلال الكاتب، و خطّه لا يمكن أن يزوّر عليه (٣) .

و الوقف لا بدّ أن يكون قبل (٦٤٠) سنة موت المستنصر.

و بعد ذلك، نجد في نسخة طشقند أنّ كاتبها نقلها سنة (٦٦١) عن الأمّ، يقول :

«هذه النسخة نقلت من (٤) الخزانة الشريفة المستنصرية من نسخة بخط

__________________

(١) معجم الأدباء للحموي (ج ١٥ ص ١٢٠) تكملة إكمال الإكمال (ص ٤٧٠)، ديوان الشريف المرتضى (ج ٢ ص ١٦ ــ ١٩) الخطّ العربي (ص ٧٤ ــ ٩٠) المصحف الشريف دراسة تاريخية (ص ٧٨ ــ ٧٩) و الخطاط البغدادي تأليف سهيل أنور.

(٢) الحوادث الجامعة (ص ٥٣ ــ ٥٨) بغداد (ص ٤٧ ــ ٤٨ و ١٣٨ ــ ١٤٢ و ١٤٦ ــ ١٤٧).

(٣) الصراط المستقيم (ج ١ ص ١٨٧).

(٤) كذا في النسخة، و الظاهر أنّها مصحفة «في» فلاحظ.

١٦٦

ابن هلال الكاتب المعروف بابن البوّاب (رحمه اللّه).

فرغ من نسخها العبد الفقير الى اللّه محمّد بن الحسن ابن النعائم يوم السادس من شوّال سنة (٦٦١) (١) .

و وجودها سنة (٦٦١) في المستنصرية يدلّ على أنّ النسخة بقيت مصونة من عوادي الغزو المغوليّ لبغداد سنة (٦٥٦) بالرغم من أنّ دور العلم و الكتب كانت هدفا لهجوم الغزاة، و بذلك تلف كثير من التراث عدا ما تمكّن الامام المجدّد العظيم نصير الدين الطوسيّ من استنقاذه و نقله الى خزانة الرصد في مراغة (٢) .

و بعد هذا، نرى كاتب نسخة طهران قد كتبها «بالخزانة المستنصرية سنة ستّ و سبعمائة» على ما سيأتي توضيحه.

و لا ريب أنّ نسخة طهران كانت مرتبطة بنسخة ابن البوّاب، و ذلك، ــ مضافا الى أنّ كتابتها تمّت بالمستنصرية و هي مقام النسخة الأمّ ــ فإنّ على الصفحة الأولى من نسخة طهران اسم «... عليّ بن هلال الكاتب» و قد انطمست كلمات من هذا السطر موضع النقاط، و لا شكّ أنّ المراد به ابن البوّاب (٣) .

و أخيرا، فإنّ نقل العلّامة النباطيّ (ت ٨٧٧) من النسخة الأمّ في الخزانة المستنصرية، دليل على وجود النسخة الى أواخر القرن التاسع الهجري.

__________________

(١) لاحظ النموذج رقم (٥).

(٢) لاحظ تاريخ آداب اللغة لجرجي زيدان (ج ٣ ص ٢٥٠) و بغداد (ص ١٤٦).

(٣) لاحظ النموذج رقم (٧).

١٦٧

و لا نعرف بعد ذلك شيئا عن مصيرها.

و لئن قدّر أن نفقد هذا الأصل الثمين، فلقد حفظ لنا القدر صورتين ثمينتين منه، هما النسختان المعتمدتان :

الأولى : نسخة طشقند :

وصفها الأخ السيّد محمّد حسين الجلاليّ بقوله : من مخطوطات المجمع العلميّ الأوزبكيّ، ضمن مجموعة برقم (٢٩٨٨) كلّها بخطّ واحد، و هو الكتاب الثاني من المجموعة، و الأوّل كتاب في الحديث مجهول المؤلّف.

و هي من موقوفات أبي نصر برهان الدين بارسا، محمّد بن محمّد بن محمود الحافظ، من أكابر المشايخ النقشبندية في «بخارى» المتوفّى سنة (٨٦٥) نقلها الكاتب عن نسخة الخزانة المستنصرية بخطّ ابن هلال الكاتب المعروف بابن البوّاب (١) .

أقول : الذي عندي من هذه النسخة صورة من الكتاب أخذتها من الفلم الذي تفضّل به العلّامة الدكتور الفاضل الشيخ حسين عليّ محفوظ الكاظميّ، و قد جاء به من مدينة «طشقند» الروسيّة، فجزاه اللّه عن العلم و أهله خير جزاء العاملين.

و على الوجه الأوّل من الصفحة الأولى من المصوّرة سجّلت خصوصيّات الكتاب باللّغة الروسيّة ظاهرا، و يلاحظ فيها الرقم (٣٢١٦) مكتوبا باليد و تحت ذلك كتب في سطر واحد ما نصّه : «بوخارا دولت‏

__________________

(١) تفسير الحبري ــ الطبعة الأولى ــ التقديم (ص ٣١).

١٦٨

كوتوبخانه سننك أنباريدن ئالندي».

و ترجمته : أخذ من مخزن مكتبة بخارى الحكومية.

و تحت الجميع كتب بخطّ حديث : «تنزيل الآيات المنزلة في مناقب أهل البيت» و تحت ذلك و على الهامش الأيسر ختم بيضويّ الشكل كبير منقوش فيه ما يلي : «وقف خواجه بارسا ابن محمود البخاريّ» و هذا الختم يوجد على الصفحات اليسرى من الكتاب كلّه.

و خطّه واضح و جميل، بين النسخ و الثلث الثقيل، يبدأ قويّا، ثمّ يتراوح بين القوة و الضعف، مجموع النسخة في (٦٦) صفحة، و كلّ صفحة تحتوي على (٨) أسطر، في كلّ سطر معدّل (١٠) كلمات.

و جاء في آخر صفحة من الكتاب (و قد أثبتناه على ما فيه من أخطاء) :

«.... آخر التنزيل جمع

الحبريّ، و الحمد للّه ربّ العالمين

و صلواته على سيّدنا محمّد

النبيّ بآله الطاهرين

و سلّم تسليما كثيرا

هذه النسخة نقلت من الخزانة الشريفة

المستنصريّة من نسخة بخطّ ابن هلل الكاتب

المعروف بابن البوّاب (رحمه اللّه)

فرغ من نسخها العبد الفقير الى اللّه محمّد ابن الحسن

ابن النعائم يوم السادس من شوّال سنة إحدى و ستّين و ستّمائة».

و في الصفحة الأخيرة من المخطوطة ما نصّه :

١٦٩

(رحمه اللّه) من نظرها و دعا لكاتبها و مالكها

بالتوبة و المغفرة و قضا الحوائج في دنيا

و الآخرة بمحمّد و آله.

و سيأتي بيان خصوصيّاتها عند مقارنتها بالنسخة الثانية.

أمّا كاتب هذه النسخة «محمّد بن الحسن ابن النعائم» : فلم نعرف عنه شيئا لكن يحتمل أنّ يكون هو صاحب كتاب «نهج البيان عن كشف معاني القرآن» الذي ذكره شيخنا الطهرانيّ بقوله : المؤلّف لخزانة المستنصر العبّاسيّ (ت ٦٤٠) و قال في مقدمته : «... و بعد فقد كان يتردّد في خاطري جمع شي‏ء من كتاب اللّه و أسباب نزوله ... و أهديته للخزانة. الإماميّة المستنصريّة ... بمحمّد و آله الأمجاد ... الخلفاء الراشدين من بني العبّاس ...».

اقتطفنا هذه العبارات من مقدمة الكتاب، و هي مذكورة ضمن ثمان صفحات. قال شيخنا الطهراني : روى فيه عن الشيخ المفيد (ت ٤١٣) و نقل فيه عن كتاب التبيان للشيخ الطوسيّ (ت ٤٦٠) فالمؤلّف من علماء القرن السابع (١) .

و قال في علماء القرن السابع من طبقات أعلام الشيعة، ما نصّه : محمّد بن الحسن الشيبانيّ له نهج البيان، ألّفه باسم المستنصر باللّه، فإن كان هو العبّاسيّ فقد مات (٦٤٠) و إن كان المقصود العلويّ (الفاطميّ) المتوفّى (٤٨٧) فالمترجم له من القرن الخامس (٢) .

__________________

(١) الذريعة (ج ٢٤ ص ٤١٤).

(٢) الأنوار الساطعة (ص ١٥٦).

١٧٠

و هكذا تردّد شيخنا في تعيين عصر الرجل، بعد ما جزم أوّلا بكونه من القرن السابع، و الظاهر أنّ الصحيح كون الرجل مقيما ببغداد، و أنّ مراده بالمستنصريّة هي مؤسّسة المستنصر باللّه العبّاسيّ، و ذلك لذكره الخلفاء من بني العبّاس و تمجيدهم، و هذا ينافي أن يكون فاطميّ الرأي، كما لا يخفى.

و أمّا وصف الرجل ب «الشيبانيّ» فقد جاء في كلام السيّد حسن الصدر الكاظميّ (١) و أظنّه ألحق باسم الرجل سهوا، كما اشتبه السيّد الصدر في عدّه الرجل من المتقدّمين و جعله شيخا للمفيد، و ذكره أنّ المرتضى و الرّضيّ ينقلان عنه و أنّه ألّف كتابه نهج البيان باسم الخليفة المستنصر الفاطميّ (٢) .

أقول : أمّا الناحية الأخيرة فقد أوضحنا أنّ الحقّ خلاف ما ذكر، فالرجل يمجّد الخلفاء من بني العبّاس، فلا يكون مرتبطا بالفاطميّين.

و أمّا كونه شيخا للمفيد، فهذا ما نجد خلافه في كتابه نهج البيان، المحفوظ في مكتبة جامعة طهران (٣) فقد ذكر الشيخ المفيد بتعظيم وافر و ترحّم عليه ممّا يدلّ على تأخّره عنه، كما أنّ نقله عن التبيان للطوسيّ يشير الى ذلك أيضا.

و أمّا وصفه بالشيبانيّ، فلم نجد له أثرا في كتابه، و لا بدّ من الفحص عنه بدقّة أكثر.

و على كلّ حال، فلا يبعد أن يكون هذا هو كاتب النسخة و إن لم‏

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (ص ٥ ــ ٣٣٦).

(٢) المصدر السابق نفس الموضع ..

(٣) فهرس جامعة طهران (ج ١ ص ٢٣٨) و رقم النسخة في المكتبة هو (٥٨).

١٧١

يحصل لنا دليل عليه.

الثانية : نسخة طهران :

من مخطوطات مجلس الشورى الإسلامي (١) برقم (٤٠١) تقع في (٣٤) صفحة، في كل صفحة (٩) أسطر، و خطّها النسخ الجميل، و هي نسخة خزائنيّة ثمينة جدّا.

جاء في الصفحة الأولى منها، ما يلي :

ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام رواية أبي عبيد اللّه محمّد بن عمران بن موسى المرزبانيّ عليّ بن ... لل الكاتب .....

و محل النقاط في السطر الأخير كتابة ممسوحة.

و الكلمة الممسوحة من أوّل السطر يحتمل أن تكون لفظة : «بخطّ ...» أو تكون كلمة «سماع» أو «رواية» لأنّ عليّ بن هلال الكاتب قد سمع من المرزبانيّ (٢) كما أنّ النباطيّ الذي شاهد نسخة عليّ بن هلال الكاتب ذكر : «أنّ عليها سماعا لعليّ بن هلال الكاتب» (٣) .

و أما الممسوح في وسط السطر، فهو الحرف «ه» لأنّ الرجل هو عليّ ابن هلال كما جاء اسمه في نسخة طشقند، و مرّ عن النباطيّ أيضا.

__________________

(١) المسمّى سابقا ب «مجلس سنا» انظر : فهرست نسخه‏هاى خطّي مجلس سنا (ج ١ ص ٢٤٢) و جاء وصفها في (نسخة هاي خطي) (ج ٧ ص ٥٨٤ ــ ٥٨٥).

(٢) تكملة إكمال الإكمال (ص ٢٤٥) و (ص ٧ ــ ٤٦٨).

(٣) الصراط المستقيم (ج ١ ص ١٨٧).

١٧٢

و بهذا اتّضح ارتباط نسخة طهران ــ هذه ــ بالنسخة الأمّ التي كانت بخطّ ابن البوّاب، و التي أوقفها المستنصر بالخزانة المستنصريّة.

كما أنّ ما جاء في آخر هذه النسخة يشير الى ذلك، ففي الصفحة الأخيرة منها ما يلي :

آخر ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين

عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام جمع الحبريّ

كتبه الفقير إلى رحمة ربّه الغنيّ ياقوت المستعصميّ

 بالخزانة المستنصريّة رحمة اللّه على منشيها في تاسع

عشر شهر رمضان سنة ستّ و ... عمائة حامدا و مصلّيا.

و موضع النقاط من السطر الأخير مشوّه لا يقرأ، و قد سبّب ذلك ارتباكا في تاريخ النسخة، و قد تسرّب ذلك الى التشكيك في كون كاتب النسخة هو ياقوت المستعصميّ، الخطّاط البغداديّ الشهير، بالرغم من وجود ذلك في النسخة.

فنجد في صدر المخطوطة صفحة ملحقة كتب فيها من كانت النسخة بيده، بالفارسيّة ما حاصله أنّ كاتبها هو : أبو الدّر جمال الدين ياقوت المستعصميّ و أنّ تاريخ كتابتها هو سنة (٦٠٦).

لكن ما كتبه هذا الكاتب لا نصيب له من الصحّة :

أولا : لو كان تاريخ النسخة هو (٦٠٦) لم يكن معنى لأن يترحّم الناسخ على منشئ المستنصريّة الخليفة العبّاسيّ المتوفّى سنة (٦٤٠).

و ثانيا : أنّ المستنصريّة كما أسلفنا. أنشئت سنة (٦٢٥) و افتتحت سنة (٦٣١)، فكيف كتب هذا الكتاب في خزانتها سنة (٦٠٦)؟

١٧٣

و ثالثا : أنّ ياقوت المستعصميّ منسوب الى المستعصم باللّه آخر الخلفاء من بني العبّاس (٦٥٦)، و أنّ أكثر روائعه و مخطوطاته كتبها في النصف الثاني من القرن السابع، فليس هو المتوفّى في أوائل هذا القرن (١) !

و قد تنبّه الأستاذ المفهرس محمّد تقي دانش‏بزوه الى أنّ ذلك التاريخ مصطنع، و ذكر من بعده السيد أحمد الحسيني أنّ التاريخ المذكور ليس بصحيح، لكنه استدل على ذلك بقوله : «لأنّ ياقوتا توفّي سنة (٦٨٩) كما في الأعلام للزركلي ٩/ ١٥٧ ــ و بعيد أن يطول عمره هذا المقدار و لم يذكروه (٢) .

و بالرغم مما في هذا الاستدلال، فانّهما ــ أي الحسيني و الأستاذ دانش ــ لم يحلّا العقدة عن تاريخ النسخة، فلو لم يكن (٦٠٦) صحيحا، فما هو التاريخ الصحيح؟ و ما هو الحلّ؟

إنّ الاحتمالات الممكنة ثلاثة فقط ــ بعد بطلان السابق ــ :

١ ــ إنّ التاريخ هو (٦٩٦).

بدعوى أنّ الساقط محل النقاط بين «ستّ و ... مائة» هو لفظة «تسعين و ست».

و يردّه أنّ الملاحظ في محلّ النقاط أنّ الساقط ليس إلّا كلمة واحدة، حيث أنّ الفصل بين كلمة «ستّ» و «مائة» ليس إلّا مقدارا يسع كلمة واحدة.

__________________

(١) لاحظ تفصيل ترجمة هذا الخطّاط في كتاب «ياقوت المستعصميّ» تأليف الدكتور الفاضل صلاح الدين المنجد ط دار الكتاب الجديد ــ بيروت ١٣٨٥ ه.

(٢) ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم‌السلام ، هامش (ص ٢٧).

١٧٤

و أيضا : فلو فرض حذف كلمتين، فمن أين لنا التحديد ب «تسعين» دون ثمانين أو سبعين أو ستّين.

و أخيرا : فإنّ فرض اشتباه الناسخ في كتابة تاريخ النسخة، و أنه نسي كلمة فلم يبق فراغ لها بعد التشويه، بعيد جدّا، لأنّ النسّاخ يهتمّون جدّا بكتابة التواريخ لما يكتبون و خاصّة المشاهير من الخطّاطين، ممّا يقلّل عندهم السهو فيه.

٢ ــ الاحتمال الثاني : أنّ بعض الناسخين نقل النسخة عن خطّ ياقوت بما فيها من تاريخ كتبه ياقوت لنسخته، فأسقط الناسخ عند النقل كلمة «تسعين» و ما أشبه، سهوا.

بدعوى :

١ ــ أنّ خطّ هذه النسخة لا يشبه المحفوظ من خطوط معلومة النسبة الى ياقوت المستعصميّ، و أكثرها نماذج من القرآن الكريم حيث تبدو على خطّه مسحة من الجمال و الروعة و الفنّ، ممّا لم يلحظ في خطّ هذه النسخة (١) .

٢ ــ أنّ بعض تلامذة ياقوت، و هم ستّة، و كذا بعض من تأخّر عنه من الخطّاطين، حاولوا تقليد خطّ ياقوت، و لجئوا الى تزوير المخطوطات باسمه، ترويجا لأعمالهم، و انفاذا لبضاعتهم في أسواق الفنّ، و لقد تصدّى جمع للتنبيه الى مثل هذه التزويرات (٢) .

__________________

(١) لاحظ بعض النماذج في الخط العربي ص ١٧٢ و دراسة في تطوّر الكتابات الكوفية (ص ٧٤) و المصحف الشريف دراسة تاريخية (ص ٩٧) و راهنماي گنجينة قرآن طبع آستانه قدس، و القرآن الكريم لمؤتمر العالم الإسلامي ط لندن و كتاب ياقوت المستعصميّ للمنجد.

(٢) دراسة في تطور الكتابات الكوفية (ص ٧١ ــ ٧٤).

١٧٥

أقول : بعد نفي احتمال الخطأ في كتابة التاريخ بما ذكرنا سابقا، يرد على ما ذكر : أنّ الأمر الأول مدفوع بأنّ الإختلاف بين خطّ النسخة و الخطوط المنسوبة الى ياقوت ليس كبيرا، بل هناك شبه كبير بينهما، و قد جاء في كتاب «الخطّ العربيّ الإسلاميّ (١) نموذج من خطّ ياقوت و هو نسخة من «ديوان شعر الحادرة» و خطّه يطابق خطّ النسخة تماما.

و أمّا ما يلاحظ من الفرق بينها و بين النماذج القرآنية، فلعلّه ناشئ من أنّ ياقوتا كان يولي اهتماما أكبر بكتابة المصحف الشريف، كما هو المتوقّع، و كما هو ديدن الخطّاطين و قد شاهدنا منهم عدّة، فإنّهم يحاولون وضع أكبر قدراتهم و أحسن ما يملكون من ذوق و فنّ في ما يكتبون من المصاحف، و أمّا غيرها من المؤلّفات فلا يبذلون فيها كلّ ما لديهم من ذلك.

و أمّا الأمر الثاني، فهو و إن كان ملاحظة فنيّة دقيقة، إلّا أنّ مجرد وجود مزوّرين على ياقوت و غيره من الخطّاطين لا يوجب نفي نسبة ما يمكن انتسابه اليه فنيّا و تاريخيّا، و قد رأيت النسخة نفسها، فوجدتها تزدان بالروعة و الجمال و الفنّ و عليها آثار القدم، كما أنّ بعض الخبراء اعترفوا بنفاسة الخطّ و لم يستبعدوا كونها أصلية و غير مزوّرة.

٣ ــ الاحتمال الثالث : أنّ كاتب النسخة هو ياقوت المستعصميّ، (٢) و أنّ تاريخها هو سنة (٧٠٦).

أمّا الأوّل : فلأنّه هو المثبت في آخر النسخة، و لا يعارضه إلّا أنّ بعض المترجمين ذكر وفاة ياقوت في سنة (٦٨٩).

__________________

(١) تأليف تركي الجبوريّ، ص ١٩٢.

(٢) الأعلام للزركلي ــ ط الثالثة ــ (ج ٩ ص ١٥٧).

١٧٦

و يردّه ــ مع أنّ بعض المؤلّفين ذكر أنّه توفّى سنة (٦٩٨) (١) فلعلّ التاريخ الأوّل محرّف عن هذا ــ أنّ ابن الفوطيّ البغداديّ ــ و هو زميل ياقوت و معاصره ــ ذكر أنّ ياقوتا كان يتردّد الى خزانة الكتب بالمدرسة المستنصريّة ... و أنّه كان يوردهم الأخبار و ينشدهم الأشعار، و أنّه كتب عنه من شعره و من شعر غيره، ثمّ خرج مسافرا سنة (٦٩٩) (٢) .

و ذكر شيخنا الطهرانيّ في ترجمة ياقوت من طبقات أعلام الشيعة : أنّه كان خازن المكتبة المستنصرية و يوجد في الخزانة الرضوية (في مدينة مشهد المقدسة بإيران) نسخة من نهج البلاغة كتبها ياقوت المستعصمي في سنة (٧٠١) (٣) و قال : بقي الى المائة الثامنة (٤) و يؤيّد بقاءه الى القرن الثامن أنه أخذ الخط من صفي الدين (ت ٦٩٢) و ابن حبيب زكي الدين (ت ٦٨٣) كما صرّحوا به (٥) .

و العادة تقضي بوجود التلميذ بعد أستاذه بطبقة لا تقل عن عقدين أو ثلاثة غالبا.

و أما تحديد تاريخها بسنة (٧٠٦) :

فبعد بطلان الاحتمالات السابقة كلها، و ملاحظة أنّ الفراغ الواقع‏

__________________

(١) الحوادث الجامعة (ص ٥٠٠)

(٢) تلخيص مجمع الآداب (ج ٤ ق ٤ ص ٨٣٢) و الأنوار الساطعة ص ٢٠٣.

(٣) الأنوار الساطعة (ص ٢٠٣) و لاحظ مقال «المتبقى من مخطوطات نهج البلاغة» بقلم السيد عبد العزيز الطباطبائي، مجلة «تراثنا» العدد الخامس (ص ٤ ــ ٩٥) النسخة رقم (٦٨).

(٤) الحقائق الراهنة ص ٢٣٨.

(٥) ياقوت المستعصمي للمنجد ص ٣٢.

١٧٧

موضع النقاط لا يسع إلّا لكلمة واحدة، و لا يمكن أن تكون كلمة «ست» فلا بدّ أن تكون كلمة «سبع» هي المحذوفة ليكون التاريخ «ستّ و سبعمائة» فهو الاحتمال الوحيد الذي يبقى ممكنا و قابلا و سالما من أيّ اعتراض.

و قد راجعت النسخة نفسها فرأيت لأوّل نظرة، أنّ التاريخ يقرأ بوضوح :

«ستّ و سبعمائة» و الحروف «س، ب، ع» و إن عرض عليها تشويه و تمويه، إلّا أنّ بقايا الحرف «ع» واضحة كلّ الوضوح، فلا بدّ أن تكون الكلمة «سبعمائة» بلا ريب.

و قد قرأها كذلك الخبير المتضلّع الأستاذ الشيخ عبد الحسين الحائريّ مدير مكتبة المجلس الإسلاميّ، و لم يتردّد في ذلك، مصرّحا بوضوحها، و نشكره على تسهيله لنا أمر الوقوف على النسخة و أمر تصويرها، جزاه اللّه خيرا.

المقارنة بين النسختين المعتمدتين :

بالرغم من أنّ النسختين ترجعان الى أصل واحد، هي نسخة ابن البوّاب المحفوظة بالمستنصريّة، فإنّهما تختلفان من جهات عديدة هي :

١ ــ أنّ نسخة طشقند أقدم تاريخا لأنّها كتبت سنة (٦٦١) بينما الأخرى كتبت سنة (٧٠٦).

٢ ــ أنّ الاولى منقولة عن خطّ ابن البوّاب، كما صرّح كاتبها بذلك، بينما الثانية لم نجد تصريحا فيها بذلك، و إن كان ارتباطها بنسخة ابن البوّاب واضحا، لوجود اسمه عليها، و لوقوع الكتابة في الخزانة المستنصريّة التي هي مقرّ نسخة ابن البوّاب.

١٧٨

٣ ــ أنّ النسخة الأولى كاملة، بينما الثانية ناقصة في موضعين : من أواخر الحديث (١٦) الى أواخر الحديث (٤٢)، و من أواسط الحديث (٥٠) الى أواخر الحديث (٥٢).

٤ ــ أنّ نسخة طشقند و إن كانت أكمل رسما فلم يوجد فيها سقط في الكلمات و الحروف إلّا نادرا، إلّا أنّ الثانية مزدانة بالضبط الكامل بالحركات لكلّ الكلمات ممّا ساعدنا على تخطّي بعض المشاكل، بينما الأولى فاقدة للضبط إلّا نادرا.

فلذلك جعلنا الأولى أصلا في الرسم، و استفدنا من الثانية في الضبط.

و سيأتي أنّ هناك نسخا استفاد منها الحاكم الحسكانيّ و نقل عنها في كتابه القيّم «شواهد التنزيل» فيمكن أن تعدّ نسخا و لو بالواسطة، في مواقع النقل عنها، و سيأتي الحديث عنها في الفقرة التالية.

١٧٩
١٨٠