تفسير الحبري

أبو عبد الله الكوفي الحسين ابن الحكم بن مسلم الحبري

تفسير الحبري

المؤلف:

أبو عبد الله الكوفي الحسين ابن الحكم بن مسلم الحبري


المحقق: السيد محمد رضا الحسيني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

شرعيّ، و كان لفظ الموضوع فيها عامّا إلّا أنّا عرفنا من سبب النزول كون موردها شخصا معيّنا باعتباره الوحيد الذي صدق عليه الموضوع العامّ، أو كان الظرف غير قابل للتكرار، فإنّ من الواضح أنّ حكم الآية يكون مختصّا بذلك الشخص و في ذلك الظرف، و لا يمكن القول باشتراك غيره معه.

مثال ذلك، قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ... ) سورة المجادلة (٥٨) الآية (١٢).

فإنّ موضوع الآية عامّ، نودي بها كلّ المؤمنين، و الحكم فيها شرعي و هو وجوب التصدّق عند مناجاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّ هذا لا يمنع من اختصاص الآية بشخص واحد، فعند المراجعة الى أسباب النزول نجد أنّ الإمام عليّا عليه‌السلام كان هو العامل الوحيد بهذه الآية، حيث كان الوحيد الذي تصدّق و ناجى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله، و نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره من المسلمين.

فهل يصحّ القول بأنّ الآية عامّة، و ما معنى الاشتراك في الحكم لو كانت الآية منسوخة؟ و هل في الالتزام باختصاص الآية مخالفة للكتاب و السنّة؟.

و إذا سأل سائل عن الحكمة في تعميم الموضوع في الآية، مع أنّ الفرد العامل منحصر؟.

فمن الجائز أن تكون الحكمة في ذلك بيان أنّ بلوغ الإمام عليه‌السلام الى هذه المقامات الشريفة كان بمحض اختياره و إرادته، من دون أن يكون هناك جبر يستدعيه أو أمر خاصّ به، و إنّما كان الأمر و الحكم عامّا، لكنّه‏

١٠١

أقدم على الإطاعة رغبة فيها و حبّا للرّسول و مناجاته، و أحجم غيره عنها، مع أنّ المجال كان مفسوحا للجميع قبل أن تنسخ الآية، فبالرغم من ذلك لم يعمل بها غيره.

و لا يمكن أن يفسّر إقدامه و تقاعسهم إلّا على أساس أفضليّته عليهم في العلم و العمل، و تأخّرهم عنه في الرتبة و الكمال.

و بمثل هذه الحكمة يمكننا أن نوجّه افتخار الإمام عليه‌السلام بكونه العامل الوحيد بهذه الآية.

فقد روى الحبريّ في تفسيره (١) بسنده، قال : قال عليّ : آية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي، و لا يعمل بها أحد بعدي، أنزلت آية النجوى [ الآية (١٢) من سورة المجادلة (٥٨ ] فكان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا أردت أن أناجي النبيّ صلّى اللّه عليه تصدّقت بدرهم حتّى فنيت ثمّ نسختها الآية التي بعدها : ( فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(٢) .

__________________

(١) تفسير الحبري ــ بتحقيقنا ــ الحديث (٦٥) (ص ٣١٤) من الطبعة الثانية هذه.

(٢) ذكر هذا الحديث مرفوعا عن عليّ عليه‌السلام في عدّة من التفاسير و المصادر الحديثيّة مثل : تفسير القرطبي (١٧/ ٣٠٢)، و ابن جرير (٢٨/ ١٥)، و ابن كثير (٤/ ٣٢٧)، و مثل : كنز العمال (٣/ ١٥٥)، و مناقب ابن المغازلي (ص ١٤ و ص ٣٢٥)، و كفاية الطالب للكنجي (ص ١٣٥)، و أحكام القرآن للجصّاص (ج ٣ ص ٥٢٦)، و الدرّ المنثور (٦/ ١٨٥).

و رواه في الرياض النضرة للطبري (٢/ ٢٦٥) عن ابن الجوزي في أسباب النزول، و ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص ٢٧٦)، و انظر : جامع الأصول للجزري (٢/ ٢ ــ ٤٥٣)، و فتح القدير (٥/ ١٨٦).

نقلنا هذه التخريجات عن تفسير الحبري، تخريج الحديث (٦٥).

١٠٢

و لا بدّ من الوقوف عند اعتراض ابن تيميّة على أهميّة أسباب النزول، لنذكّر بأنّه إنّما أثار هذه الشبهة محاولة منه لتفويض ما استدلّ به معارضوه، حيث استدلّوا بنزول الآيات في أهل البيت عليهم‌السلام بدلالاتها الواضحة الناصّة على فضلهم و أحقيّتهم لمقام الولاية على الأمّة، و الخلافة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قيادة المسلمين.

و حيث لم يكن لابن تيميّة طريق للتشكيك في أسانيد الروايات الدالّة على نزولها في فضل أهل البيت عليهم‌السلام و لا سبيل للنقاش في دلالتها على المطلوب، عمد إلى إثارة مثل هذه الشبهة بإنكار أهميّة أسباب النزول عموما، و التشكيك في إمكان الاستفادة منها في خصوص الآيات النازلة بحقّهم عليهم‌السلام ، متّبعا هواه، و راكبا حقده الطائفيّ ضدّ أهل البيت عليهم‌السلام . و لكنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع.

الأمر الثالث :

و حاول بعض العلماء التقليل من أهميّة أسباب النزول،

استنادا الى حديث روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، إليك نصّه :

روى الكلينيّ بإسناده عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ )‏ [ الآية ٢١ من سورة الرعد ١٣ ].

قال : نزلت في رحم آل محمّد عليه و آله السلام، و قد تكون في قرابتك، ثمّ قال : فلا تكوننّ ممّن يقول للشي‏ء إنّه في شي‏ء واحد (١) .

__________________

(١) الكافي، كتاب الإيمان و الكفر، باب صلة الرحم، الحديث (٢٨) و نقله في مرآة الأنوار (ص ٣)، لكنّ الشيخ حسن بن الشيخ علي بن عبد العالي الكركيّ العامليّ في (أطائب

١٠٣

فقد احتمل الشيخ حسن الكركيّ العامليّ فيه أن يكون الامام عليه‌السلام أشار بذلك الى (أنّه لا عبرة بخصوص سبب النزول، و إنّما العبرة بعموم اللّفظ) (١) .

توضيح كلامه : أنّ مراد الإمام عليه‌السلام بالشي‏ء في قوله ( لا تكونن ممّن يقول للشي‏ء ... ) هو لفظ العامّ الدالّ بعمومه على جميع الأفراد، فالإمام عليه‌السلام يقول لا يجوز حمل العام على شي‏ء خاص واحد، لأنّ الأصل الظاهر من اللّفظ هو العموم، و لا يحمل على إرادة الخاصّ إلّا بدليل و قرينة واضحة.

و أمّا المورد الخاصّ الّذي وردت الآية فيه فلا يوجب خصوصيّة، في العام، و لا يستدعي حصر مدلول الآية به، فالآية و إن نزلت في رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم، إلّا أنّها تشمل كلّ الأرحام و القرابات فتجب صلتها، و لا تختصّ بهم.

لكن هذا الاحتمال مرفوض، لوجوه :

الأوّل : إنّ ما ذكر لو تمّ كان منافيا للالتزام بأهمّية أسباب النزول، التي مرّ التأكيد عليها، و قد عرفنا اهتمام الأئمّة عليهم‌السلام بها، إذ معه لا يبقى مجال للاستفادة من تعيين أسباب النزول.

__________________

الكلم في بيان صلة الرحم (ص ٢٠ ــ ٢١) نقله عن الكلينيّ، بإسناده عن ابن أبي عمير، و قال بعد إيراد الحديث : روى ــ أيضا ــ باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، و بإسناده عن محمّد بن فضيل الصيرفي عن الرضا عليه‌السلام مثله أيضا.

(١) أطائب الكلم (ص ٢٠).

١٠٤

الثاني : إنّ الآية المذكورة لم تنزل في خصوص رحم آل محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم، و إنّما طبّقت عليهم باعتبارهم قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي له حقّ الأبوّة على الامّة، و قد جعل المودّة في قرباه أجرا لرسالته في قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ )‏.

فلا تكون نقضا على الموارد التي صرّح فيها بنزول الآيات على أسباب خاصّة.

و الظاهر أنّ الذي دعا الشيخ الكركيّ إلى تصوّر ارتباط هذا الخبر بموضوع سبب النزول، هو قول الإمام عليه‌السلام : (نزلت في رحم آل محمّد).

فإنّ استعمال الحرف (في) ظاهر في سبب النزول كما سيأتي و لكن من الواضح أنّه لم يستعمل هنا في ذلك، و إنّما يراد به دخول المورد في حكم الآية، بقرينة عدم دلالة شي‏ء من الأخبار على أنّ ذلك هو سبب لنزولها بالمعنى المصطلح.

الثالث : إنّ اللّفظ إذا كان عامّا، و لكن علم إرادة الخاصّ منه سواء من جهة التصريح بإرادة خصوصه، أو لانحصاره به ــ فلا بدّ من الإعراض عن العموم و إرادة الخصوص، فقد يكون التصريح بسبب النزول قرينة على نفي العموم، فيكون الحكم في هذا الخبر على إطلاقه غير صحيح.

و الحقّ أنّ مراد الإمام عليه‌السلام في هذا الخبر ليس ما ذكر.

بل مراد الإمام عليه‌السلام من (الشي‏ء) هو الحكم الإلهيّ الوارد في الآية، سواء كان حكما شرعيا ــ وضعيا أو تكليفيّا ــ أم كان عقائديّا أو أخلاقيّا، فإن جميع الأحكام ــ بموجب حكمة وضعها و عللها الواقعيّة ــ لا

١٠٥

يمكن أن تكون خاصّة بمورد واحد، بل إذا وردت في مورد فلا بدّ أن تكون سائر الموارد المشابهة لها، مشاركة لها في الحكم، كما هو واضح.

و هذا هو المراد من الأخبار الأخرى التي تؤكّد على أنّ القرآن حيّ لم يمت، و إليك بعض نصوصها :

١ ــ عن أبي بصير، عن الصادق عليه‌السلام قال :

(... و لو كانت إذا نزلت آية على رجل، ثم مات ماتت الآية، لمات الكتاب، و لكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى).

٢ ــ و عن عبد الرحيم القصير، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنّه قال في قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) عليّ الهادي، و منّا الهادي.

فقلت : فأنت ــ جعلت فداك ــ الهادي؟

قال : صدقت، القرآن حيّ لا يموت، و الآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام و ماتوا ماتت الآية، لمات القرآن، و لكن هي جارية في الباقين، كما جرت في الماضين.

٣ ــ و قال عبد الرحيم، قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام :

إنّ القرآن حيّ لم يمت، و إنّه يجري كما يجري اللّيل و النهار، و كما تجري الشمس و القمر، و يجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا (١) .

إنّ هذه الأخبار تحتوي على أمرين يمكن على أساسهما الوصول الى المعنى الصحيح المراد بها :

__________________

(١) مرآة الأنوار (ص ٥).

١٠٦

١ ــ أنّ القرآن حيّ لا يموت.

٢ ــ أنّ القرآن يجري في الباقين كما جرى في الماضين.

و المراد أنّ أحكام القرآن، سواء الأحكام الشرعيّة ــ فرعيّة أو تكليفيّة ــ أم الأحكام الاعتقاديّة و الأخلاقية، مستمرّة في النفوذ، و لا تتعطّل، مهما تغيّرت الظروف و الموارد، و هذا معنى حياتها، و لو تقيّدت بالموارد التي نزلت فيها لتعطّل القرآن و مات.

و كذلك يكون القرآن جاريا على كلّ الموارد الأخرى و قابلا للتطبيق كما جرى على المورد الأوّل و طبّق عليه.

و السرّ في ذلك أنّ الموارد الخاصّة للأحكام إنّما هي ظروف و مناسبات لورود الحكم فقط، و أمّا الحكمة في تشريعها و العلّة لوضعها فإنّما هي المفاسد و المصالح الباعثة على تشريعها و وضعها، و من الواضح أنّها تدور مدار عللها لا مواردها، فلا بدّ من تعميمها لجميع ما يصلح للانطباق عليها، دائما و أبدا، و هذا هو معنى حياة القرآن و جريانه.

و إن جعلت هذه الأخبار دليلا على شي‏ء، فلا بدّ أن تكون دليلا تامّا على اشتراك الباقين مع الماضين من المكلّفين في الأحكام الشرعيّة الإلهيّة.

و أمّا دلالتها على عدم الالتزام بخصوص أسباب نزول الآيات، فلا نلتزم به أصلا، حيث أنّا ذكرنا : أنّ تخصيص الأسباب للآيات إنّما هو في غير موارد الأحكام.

و قد ظهر بما ذكرنا عدم ارتباط هذه الأخبار ببحث (البطون المتعدّدة للقرآن).

١٠٧

سواء جعلنا (البطون) على أساس تعدّد التطبيقات المختلفة كما يظهر من العلّامة المفسّر السيّد أبي الحسن العامليّ الفتونيّ، حيث قال في توجيه هذه الأخبار : صراحة هذه العبارة في انطباق مفاد القرآن على أهل كلّ زمان واضحة، إذ حاصل المعنى أنّ ما يعلمه الراسخون في العلم من بطون القرآن و تأويلاته لا بدّ من وقوع كلّ منها في وقت و جريانه في أوانه تدريجا (١) .

و ذلك : لأنّ المراد بجريانه، إنّما هو جريانه و تطبيقه المفهوم للناس، كما كان في أوّل أمره على الموارد التي نزل فيها، فلا بدّ أن تكون تطبيقاته المستقبليّة بنفس المستوي الذي كانت عليه تطبيقاته الماضية.

و أما التطبيقات الخاصّة بأهل الرسوخ في العلم فهي خارجة عن مداليل هذه الأخبار، لأنّها غير مقدورة للعرف.

كما أنّ المراد بحياة القرآن هي حياته الملموسة و ذلك بالتعامل مع آياته و الأخذ منها، و ذلك لا يتحقّق في مثل المفروض من التطبيقات الخفيّة الخاصّة بالراسخين في العلم، حيث أنّ ذلك لا يسمّى عند العرف (إحياء للقرآن).

أم جعلنا (البطون) على أساس التفسيرات المختلفة، كما ذهب السيّد الخوئي دام ظلّه إلى حمل الأخبار على أنّ الآية من القرآن إذا فسّرت في شي‏ء، فلا تنحصر الآية به، و هو كلام متّصل ينصرف على وجوه ... فالقرآن ذلول ذو وجوه، و هذا معنى أنّ للقرآن بطونا لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلّا بتوجيه من أهل البيت عليهم‌السلام (٢) .

__________________

(١) مرآة الأنوار (ص ٥).

(٢) محاضرات في أصول الفقه (ج ١ ص ٢١٤).

١٠٨

و ذلك لأنّ اتّحاد نسق الأحاديث المذكورة دالّ على أنّ جريان القرآن على الباقين هو كجريانه على الماضين، و حيث أنّ جريانه على الماضين لم يكن بالشكل المخفيّ الغامض، فكذلك على الباقين.

فالوجوه الأخرى إن كانت في الجريان ــ لدى العرف ــ كالوجه الأوّل، لم تكن (بطونا) و تفسيرات خاصّة بالراسخين في العلم، و إلّا، لم تكن (جارية) كما كانت.

ثمّ إنّ وجود تفسيرات سريّة خاصّة بالراسخين في العلم لا يلائم (حياة القرآن) بالمعنى العرفي، فإنّ حياتها في مواردها هو الاستفادة منها و تطبيقها، بينما (البطون) لا يمكن الاستفادة منها إلّا للراسخين في العلم، لفرض أنّ أفهام الآخرين قاصرة عنها.

مضافا إلى أنّا نرى بالوجدان عدم تعطّل القرآن لو التزمنا بالمعنى الذي فسّرنا به هذه الأخبار، و هو عموم أحكام القرآن و اشتراك المكلّفين كلهم فيها الباقين مع الماضين، و إن لم نلتزم بأمر (البطون) سواء فسّر على أساس التطبيقات المختلفة أم التفسيرات المتعدّدة.

و يكفي هذا دليلا على عدم ارتباط الأحاديث بأمر (البطون).

و حاصل البحث أن الاعتراضات المفروضة على الالتزام بأسباب النزول كواحد من أهمّ طرق معرفة تفسير القرآن، غير واردة مطلقا، بل هي مرفوضة، لتعارضها مع مقتضى الوجدان و صريح كلمات الأئمّة عليهم‌السلام و التزام العلماء المتصدّين لتفسير القرآن، كما أثبتنا ذلك في صدر البحث.

فمعرفة أسباب النزول أمر مهمّ و ضروريّ بلا ريب.

١٠٩

٢ ــ طرق إثباتها

لا ريب أنّ تعيين أسباب النزول و تمييز الصّحيح منها عن ما ليس بسبب، عند الإختلاف، يحتاج إلى طرق مشخّصة، سنستعرضها فيما يلي :

و لكنّي أرى أنّ أهمّ شي‏ء يجب تحصيله في هذا المجال هو تحديد المقصود لكلمة «أسباب النزول» لكي نعتمد خلال البحث و المناقشة معنى واحدا، فلا تختلط موارد النفي و الإثبات، و لا تتداخل الأدلّة و الردود.

نقول : إنّ الظاهر من كلمة «سبب» هو العلّة الموجبة لوجود الشي‏ء.

و لو التزمنا بهذا المعنى فإنّ ذلك يقتضي حصر موضوع «أسباب النزول» بما كان علّة لنزول الآية، و أنّ الآية نزلت من أجله، و عليه فإنّ أسباب النزول هي القضايا و الحوادث التي وردت الآيات من أجلها و في شأنها، أو نزلت مبيّنة لحكم ورد فيها، أو نزلت جوابا عن سؤال مطروح.

لكن لا بدّ من الإعراض عن هذا الظاهر، لأنّ الالتزام بهذا المعنى غير صحيح لوجهين:

الأوّل : إنّ هذا المعنى بعيد أن يقصده علماء الإسلام و خاصّة في مجال علوم القرآن، لأنّ السبب بهذا المعنى اصطلاح فلسفيّ لم يتداوله المسلمون إلّا في القرون المتأخّرة، و على ذلك : فلا بدّ من حمل كلمة «سبب» على معناها اللّغويّ، و هو «ما يتوصّل به إلى أمر»، و هذا يعمّ ما فيه سببيّة بالمصطلح الفلسفيّ، أو يكون مرتبطا به بشكل من الأشكال، فسبب النزول هو «كلّ ما يتّصل بالآية من القضايا و الحوادث و الشؤون»، سواء كانت علّة نزلت الآية من أجلها، أو لم تكن كذلك، بل ارتبطت بالنزول و لو بنحو الظرفيّة المكانيّة أو الزمانيّة أو الاقتران، و ما شابه ذلك.

١١٠

الوجه الثاني : إنّ ملاحظة ما ذكره المفسّرون و علماء القرآن من أسباب نزول الآيات تدلّنا بوضوح على أنّ مرادهم به ليس هو خصوص ما كان سببا بالمصطلح الفلسفيّ، بأن يكون علّة نزلت الآية من أجله، و إنّما يذكرون تحت عنوان «سبب النزول» كلّ القضايا التي كان النزول في إطارها، و ما يرتبط بنزول الآيات بنحو مؤثّر في دلالتها و معناها، بما في ذلك الزمان و المكان، و إن لم يتقيّد ذلك حتى بالزمان و المكان، و لذلك فإنّ سبب النزول يصدق على ما يخالف زمان النزول بالمضيّ و الاستقبال.

و قد لا تكون أسباب النزول إلّا خصوصيّات في موارد التطبيق تعتبر فريدة، فهي تذكر مع الآية لمقارنة حصولها عند نزولها، ككون العاملين بالآية متّصفين ببعض الصفات، أو تعتبر مقارنات نزول الآية لعمل شخص ميّزة له و فضيلة.

إلى غير ذلك ممّا يضيق المجال عن إيراد أمثلته و تفصيله، فإنّ جميع هذه الموارد يسمّونها في كتبهم ب «أسباب النزول» بينما ليس في بعضها سببيّة للنزول بالمصطلح الأوّل.

فالمصطلح القرآنيّ لكلمة «أسباب النزول» نحدّده بقولنا : «كلّ ما له صلة بنزول الآيات القرآنيّة».

فيشمل كلّ شي‏ء يرتبط بنزولها، سواء كان علّة و سببا أو كان بيانا و إخبارا عن واقع، أو تطبيقا نموذجيّا فريدا، أو ورد الحكم فيه لأوّل مرّة، أو كان في مورده جهة غريبة تجلب الانتباه أو نحو ذلك.

و أمّا الطرق التي ذكروها لتعيين أسباب النزول فهي :

١ ــ ما ذكره السيوطيّ بقوله : و الذي يتحرّر في سبب النزول أنّه ما نزلت‏

١١١

الآية أيّام وقوعه (١) .

و هذا فيه تضييق، لأنّه أخصّ ممّا يطلق عليه اسم سبب النزول عندهم، لعدم انحصاره بما كان في وقت النزول، بل الضروري هو ارتباط السبب بالآية سواء كان مقارنا لنزولها أو لا، و يعلم الربط بالقرائن مع أنّا لا ننكر مقارنة كثير من الأسباب لنزول آياتها، مع أنّ الالتجاء الى معرفة سبب النزول بما ذكره من النزول أيّام وقوعه يؤدّي الى انحصار معرفة سبب النزول بطريق المشاهدة بالحاضرين، فلا بدّ من الاعتماد على الروايات لإثباتها إلّا أن يكون مراده تعريف سبب النزول و هو الأظهر، لكنّه أيضا تضييق كما عرفت.

٢ ــ قال الواحديّ : لا يحلّ القول في أسباب نزول الكتاب، إلّا بالرواية و السماع ممّن شاهدوا التنزيل، و وقفوا على الأسباب، أو بحثوا عن علمها و جدّوا في الطلاب، و قد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار.

أخبرنا أبو إبراهيم، إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، قال : أخبرنا أبو الحسين، محمّد بن أحمد بن حامد العطّار، قال : حدّثنا أحمد بن الحسن ابن عبد الجبّار، قال : حدّثنا ليث، عن حمّاد، قال : حدّثنا أبو عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال :

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا الحديث إلّا ما علمتم، فإنّه من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار، و من كذب على القرآن من غير علم فليتبوّأ مقعده من النّار.

__________________

(١) الإتقان (ج ١ ص ١١٦).

١١٢

و السّلف الماضون (رحمهم اللّه) كانوا من أبعد الغاية احترازا عن القول في نزول الآية (١) .

و قال آخر : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتفّ بالقضايا (٢) .

٣ ــ قولهم نزلت الآية في كذا.

إنّ المراجع لكتب التفاسير، و خاصّة الكتب الجامعة لأسباب النزول، يجد أنّهم إذا أرادوا ذكر سبب نزول آية قالوا : نزلت في كذا، و الظاهر أنّ استعمال الصحابة و التابعين لهذا التعبير، و كون المفهوم من هذا التعبير ما يفهم من قولهم «السبب في نزول الآية كذا» دفعهم على المحافظة على هذه العبارة عند بيان أسباب النزول.

و يؤيّده أنّ الحرف «في» يستعمل فيما يناسب السببيّة و الربط، كما في قولك : لامه في أمر كذا، أي من أجله و على فعله (٣) .

لكن قال الزركشيّ : عادة الصحابة و التابعين أنّ أحدهم إذا قال : «نزلت هذه الآية في كذا» فإنّه يريد أنّها تتضمّن هذا الحكم، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع (٤) .

أقول : لم تثبت هذه العادة، بل المستفاد من عمل علماء القرآن هو الالتزام بالعكس، و لا بدّ أنّهم لم يفهموا الخلاف من الصحابة أو التابعين،

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي (ص ٤).

(٢) الإتقان (ج ١ ص ١١٥).

(٣) لاحظ : مغني اللبيب لابن هشام (ص ٢٢٤).

(٤) الإتقان (ج ١ ص ١١٦).

١١٣

بل الأغلب في موارد قول الصحابة و التابعين : «نزلت في كذا» إنّما هو القضايا الواقعة و الوقائع الحادثة ممّا لا معنى له إلّا الرواية و النقل، و لا مجال لحمله على الاستدلال.

و لو تنزّلنا، فإنّ احتمال كون قولهم : «نزلت في كذا» للاستدلال مساو لاحتمال كونه لبيان سبب النزول، و لا موجب لكونه أظهر في الاستدلال.

و يقرّب ما ذكرنا أنّ ابن تيميّة احتمل في الكلام المذكور كلا الأمرين : الاستدلال و سبب النزول، فقال : قولهم : «نزلت هذه الآية في كذا ...» يراد به تارة سبب النزول، و يراد به تارة أنّ ذلك داخل في الآية، و إن لم يكن السبب، كما نقول عنى بهذه الآية كذا (١).

٤ ــ و التزم الفخر الرازيّ طريقا آخر لمعرفة سبب النزول ذكره في تفسير آية النبأ، قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )‏ [ الآية ٦ من سورة الحجرات ٤٩ ].

قال : سبب نزول هذه الآية، هو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الوليد بن عقبة، و هو أخو عثمان لأمّه، إلى بني المصطلق واليا و مصّدّقا، فالتقوه، فظنّهم مقاتلين فرجع الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قال : «إنّهم امتنعوا و منعوا» فهمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإيقاع بهم، فنزلت هذه الآية، و أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم لم يفعلوا شيئا من ذلك.

قال الرازيّ : و هذا جيّد، إن قالوا بأنّ الآية نزلت في ذلك الوقت، و أمّا

__________________

(١) المصدر السابق (ج ١ ص ٥ ــ ١١٦).

١١٤

إن قالوا بأنّها نزلت لذلك مقتصرا عليه و متعدّيا الى غيره، فلا، بل نقول : هو نزل عامّا لبيان التثبّت و ترك الاعتماد على قول الفاسق.

ثم قال : و يدلّ على ضعف قول من يقول أنّها نزلت لكذا، أنّ اللّه تعالى لم يقل : «إنّي أنزلتها لكذا»، و النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينقل منه أنّه بيّن أنّ الآية نزلت لبيان ذلك فحسب.

و قال أخيرا : فغاية ما في الباب أنّها نزلت في مثل ذلك الوقت، و هو مثل التاريخ لنزول الآية، و نحن نصدّق ذلك (١) .

و يرد عليه :

إنّ الظاهر منه أنّه يحصر سبب النزول في أن يقول اللّه : «أنزلت الآية لكذا» أو يصرّح الرسول بنزولها كذلك، و كذلك يبدو منه أنّه يعتبر في كون الشي‏ء سببا للنزول أن يكون مدلول الآية خاصّا به لا عموم فيه.

و كلا هذين الأمرين غير تامّين :

أمّا الأوّل ، فلأنّ كون أمر ما سببا لمجي‏ء الوحي و نزوله هو بمعنى أنّ اللّه أوحى إلى نبيّه من أجل ذلك، فلا حاجة إلى تصريح اللّه بأنّه أنزل الآية لكذا.

و أيضا فإنّا لم نجد و لا موردا واحدا، كان تعيين سبب النزول على أساس تصريح الباري بقوله : أنزلت الآية لكذا.

أ فهل ينكر الفخر الرازيّ وجود أسباب النزول مطلقا؟

و أورد عليه المحقّق الطهرانيّ بقوله : و أطرف شي‏ء استدلاله على‏

__________________

(١) التفسير الكبير ج ٢٨ ص ١١٩).

١١٥

ضعف قول من يقول «إنّها نزلت في كذا» أنّ اللّه تعالى لم يقل «إنّي أنزلتها لكذا» و النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينقل عنه أنّه بيّن ذلك.

فإنّ فهم هذا المعنى لا ينحصر في ما ذكره، بل مجرّد نزول الآية عند الواقعة مع انطباقها عليها يكفي في استفادة هذا المعنى (١) .

أمّا الثاني : فلأنّ عموم الآية لغير الواقعة، لا ينافي كون تلك الواقعة هي السبب لنزولها، فإنّ المراد بسبب النزول ليس هو المورد الخاصّ المنفرد الذي لا يتكرّر، بل قد يكون كذلك، و قد يكون هو أوّل الموارد الكثيرة باعتبار عموم موضوع الآية.

بل ــ كما ذكر المحقّق الطهرانيّ ــ : إنّ الوقائع في زمان نزول الآية كثيرة، مع أنّ ذكر المقارنات لنزول الآيات لا معنى له، بل نزول الآية في الواقعة لا معنى له، إلّا أنّها المعنيّة بها، و لو على وجه العموم (٢) .

و المتحصّل من البحث : أنّ الطرق المثبتة لنزول الآيات تنحصر في أخبار و روايات الصحابة الذين شاهدوا الوحي و عاصروا نزوله، و عاشوا الوقائع و الحوادث و ظروفها، و التابعين الآخذين منهم، و العلماء المتخصّصين الخبراء، و سيأتي البحث عن مدى اعتبار هذه الروايات في الفقرة التالية من البحث.

٣ ــ حجّيّة رواياتها

إنّ الباحث عن أسباب النزول يلاحظ بوضوح اتّسام رواياتها بالضعف أو عدم القوّة، عند العلماء حسب ما تقرّره قواعد علم الرجال، بل يجد

__________________

(١) محجّة العلماء (ص ٢٥٨).

(٢) محجّة العلماء (ص ٢٥٨).

١١٦

صعوبة في العثور على ما يخلو سنده من مناقشة رجاليّة في روايات الباب، و كذا تكون النتيجة الحاصلة من الجهد المبذول حول أسباب النزول معرضا للشكّ من قبل علماء مصطلح الحديث باعتبار أنّ رواياتها غير معتمدة حسب أصول هذا العلم أيضا.

و نحن نستعرض هنا ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاعتراض على روايات أسباب النزول، و نحاول الإجابة عنها بما يزيل الشكّ عن حجّيّتها حسب ما يوصلنا الدليل، و وجوه الاعتراض إجمالا هي :

الأوّل : إنّ روايات الباب (موقوفة).

الثاني : إنّ روايات الباب (مرسلة).

الثالث : إنّ روايات الباب (ضعيفة).

قالوا : و لا حجّيّة لشي‏ء من هذه الثلاثة.

و مع هذه المفارقات كيف يمكن الاعتماد على روايات الباب؟ و بدونها كيف لنا أن نقف على معرفة الأسباب؟

فلنذكر كلّا منها مع الإجابة عليه :

الوجه الأوّل : الاعتراض بالإرسال و الوقف على الصحابة :

إنّ الحديث إذا اتّصل سنده الى الصحابيّ، و لم يرفعه الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّي «موقوفا»، و هو مرسل الصحابيّ، و بما أنّ الحديث إنّما يكون حجّة باعتبار اتّصاله بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كونه كلامه و كاشفا عن مراده، فلا يكون الموقوف كاشفا كذلك، بل لا يعدو من أن يكون رأيا للصحابيّ، و من المعلوم أنّه لا حجّيّة فيه لنفسه.

١١٧

و الجواب عن ذلك :

أوّلا : إنّ الصحابيّ إنّما يذكر من أسباب النزول ما حضره و شهده أو نقله عمّن كان كذلك، فيكون كلامه شهادة عن علم حسّيّ و قضيّة مشاهدة، و واقعة نزلت فيها الآية و هذا هو القدر المتيقّن من الروايات المقبولة في أسباب النزول، قال الواحديّ : لا يحلّ القول في أسباب النزول إلّا بالرواية و السماع ممّن شاهدوا التنزيل و وقفوا على الأسباب و بحثوا عن علمها (١) .

و قال آخر : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتفّ بالقضايا (٢) .

و قد عرفنا في الفقرة السابقة من هذا البحث أنّ من طرق معرفة أسباب النزول هي روايات الصحابة.

إذن، فما يذكره الصحابة في باب النزول إنّما يكون عن علم وجدانيّ حصل عندهم بمشاهدة القضايا، و وقوفهم على الأسباب، فيكون إخبارهم عنها من باب الشهادة، لا من باب الرواية و الحديث.

فلا بدّ أن يكون حجّة عند من يقول بعدالة الصحابة بقول مطلق، أو خصوص بعضهم، من دون حاجة الى رفعها الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي من قبيل رواية الصحابة لأفعال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي شاهدوها، و حضروا صدورها منه، فنقلوها بخصوصيّاتها، فهي حجّة بالإجماع من دون حاجة الى رفعها الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكلام الصحابة في هذا الباب ليس حديثا نبويّا كي يبحث فيه عن كونه‏

__________________

(١) أسباب النزول (ص ٤).

(٢) الإتقان (ج ١ ص ١١٤).

١١٨

مرسلا أو لا؟.

و قد قيّد السيوطيّ مرسل الصحابيّ المختلف فيه بكونه «ممّا علم أنّه لم يحضره» (١) ، و معنى ذلك أنّ ما لم يحضره و نقله، فلو كان فعلا من أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّي مرسلا، و إلّا فلا وجه لتسميته «حديثا» فضلا عن وصفه بالإرسال، توضيح ذلك :

إنّ نزاعهم في مرسل الصحابيّ إنّما هو في ما ذكره الصحابيّ من الحوادث التي لم يشهدها و لم يحضرها، و أمّا ما حضرها من الوقائع و شهدها من الحوادث، فإنّها لا تكون داخلة في النزاع المذكور، فإنّ ذلك ليس حديثا مرسلا، لأنّ الصحابيّ لا يروي و لا ينقل شيئا، و إنّما يشهد بما حضره و رآه، و هو نزول الوحي في تلك الواقعة و غيره ممّا يرتبط بالنزول، فلا يصحّ أن يقال أنّه حدّث و روى أو نقل شيئا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، حتّى يقال أنّه أرسله و لم يرفعه.

ثانيا : و على فرض كون كلام الصحابيّ في أسباب النزول حديثا مرويّا، نقول : إنّ حديث الصحابيّ ــ في خصوص باب أسباب النزول ــ ليس موقوفا و لا مرسلا بل هو مسند مرفوع.

قال الحاكم النيسابوريّ : ليعلم طالب الحديث أنّ تفسير الصحابيّ الذي شهد الوحي و التنزيل، عند الشيخين، حديث مسند.

قال : و مشى على هذا أبو الصلاح و غيره (٢) .

__________________

(١) تدريب الراوي (ص ١١٥) عن المستدرك للحاكم، و نقله في (ص ١١٦) عن معرفة علوم الحديث للحاكم.

(٢) تدريب الراوي (ص ١١٥).

١١٩

و مراده بالشيخين : البخاري و مسلم.

و قال النوويّ ــ معلّقا على كلام الحاكم ــ : ذاك في تفسير ما يتعلّق بسبب نزول الآية (١) .

و قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثيّ ــ معلّقا على قول بعض المحدّثين : (تفسير الصحابيّ مرفوع) ما نصّه : هو قريب إذا كان ممّا لا دخل للاجتهاد فيه، كشأن النزول و نحوه (٢) .

أقول : صريح كلماتهم أنّ حديث الصحابي في مجال أسباب النزول يعدّ ــ حسب مصطلح الحديث ــ «مسندا» و المراد به : ما رفع و اتّصل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و نسب إليه، و إن لم يصرّح الصحابيّ بأنّه أخذه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال النووي : و أكثر ما يستعمل [ أي المسند ] فيما جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، دون غيره (٣) .

و قال الحاكم النيسابوريّ و غيره : لا يستعمل «المسند» إلّا في المرفوع المتّصل (٤) .

و قال السيوطيّ ــ معلّقا على كلام الحاكم هذا ــ : حكاه ابن عبد البرّ عن قوم من أهل الحديث، و هو الأصحّ، و ليس ببعيد من كلام الخطيب، و به جزم شيخ الإسلام [ يعني ابن حجر ] في النخبة (٥) .

__________________

(١) تقريب النواوي متن تدريب الراوي (ص ١٠٧).

(٢) وصول الأخيار الى أصول الأخبار (ص ١٠٥).

(٣) تدريب الراوي (ص ١٠٧).

(٤) المصدر (ص ١٠٨).

(٥) المصدر و الموضع.

١٢٠