نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

ونقرأ في الحديث الذي نقل في تفسير العياشي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «يعني آل محمد ، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام وهم حجة الله على خلقه» (١).

ونقرأ في الحديث الآخر الذي نقل في «كمال الدين» للصدوق عن الإمام الباقر عليه‌السلام :«ومنْ وضع ولاية الله وأهل استنباط علم الله في غير أهل الصفوة من بيوتات الأنبياء فقد خالف أمر الله» (٢).

* * *

أمّا فيما يتعلق بالآية الثانية أى : فهي توعز إلى الجميع بسؤال أهل الذكر عن الامور التي يجهلونها يقول الله سبحانه : (فاسأَلُوا اهْلَ الذِّكرِ ان كُنتُم لَاتعلَمُونَ). (النحل / ٤٣ والأنبياء / ٧)

فممّا لا شك فيه أنّ الذكر هنا بمعنى العلم والاطلاع ، وأهل الذكر تشمل العلماء والمطلعين بشكل عام ، وعلى هذا الأساس فقد استدل بهذه الآية بشأن التقليد ورجوع الجاهل للعالم ، إلّاأنّ المصداق الكامل لها هم الذين يستلهمون علمهم من علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والباري جلّ وعلا ، فعلمهم علم منزه من الخطأ والزلل ، علمٌ مقترن بالعصمة ، لهذا فقد فسرت هذه الآية باهل البيت عليهم‌السلام والأئمّة المعصومين ، ففي الرواية الواردة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في اجابته عندما سئل عن الآية : (نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون) (٣).

والجدير بالذكر أنّ نفس هذا المطلب أو ما يقاربه قد نقل عن التفاسير الاثني عشر لأهل السنّة ، (المراد من التفاسير الاثني عشر ، تفسير «أبو يوسف» و «ابن حجر» و «مقاتل بن سليمان» وتفسير «وكيع بن جراح» وتفسير «يوسف بن موسى القطان» وتفسير «قتادة»

__________________

(١) تفسير كنز الدقائق ، ج ٣ ، ص ٤٨٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ٤٨٦.

(٣) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ٣٦٩.

٨١

وتفسير «حرب الطائي» وتفسير «السدي» وتفسير «مجاهد» وتفسير «مقاتل بن حيان» وتفسير «أبي صالح» وتفسير «محمد بن موسى الشيرازي»).

فقد روي في هذه التفاسير عن ابن عباس أنّ المراد من الآية «فاسألوا أهل الذكر هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، هم أهل الذكر والعلم والعقل والبيان ، وهم أهل بيت النبوّة» (١).

وملخص الكلام هو : بالرغم من سعة مفهوم الآية ، إلّاأنّ نموذجها الكامل والشامل لا يتصور إلّافي الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام المنزه علمهم من الخطأ والزلل ، ومن هنا يتضح عدم معارضة نزول الآية بشأن علامات الأنبياء السابقين ، والتوراة ، والانجيل ، والسؤال من علماء اليهود والنصارى ، مع ما قيل في معنى هذه الآية.

* * *

ملاحظة

كما ذكرنا في مبحث علم الأنبياء في الجزء السابع من هذا الكتاب ، فإنّ الأنبياء المكلّفين بهداية الناس في جميع الجوانب المادية والمعنوية ، الذين تمتد حدود مسؤولياتهم إلى الجسم والروح والدنيا والآخرة ، يجب أن يكونوا على جانب كبير للغاية من العلم ليتسنى لهم انجاز هذا الواجب على أحسن وجه.

والأئمّة الذين هم خلفاء النبي يحظون بهذا الحكم أيضاً ، فلابدّ من امتلاكهم لعلم يتناسب مع واجبهم العظيم ليطمئن إليهم الناس ويسلمونهم دينهم.

ويجب أن يكون هذا العلم منزهاً من الخطأ والعيب والزلل ، وإلّا فإنّه لا يحظى بثقة الناس ، ويسمح الناس لأنفسهم بتقديم بعض آرائهم على آراء النبي أو الإمام ، باعتبار أنّ النبي والإمام يخطئان أيضاً ولا ينبغي التسليم لهما مطلقاً ، إذن فالثقة المطلقة تتبع عصمتهما.

يقول القرآن الكريم بشأن إمام بني اسرائيل «طالوت» : (انَّ اللهَ اصطَفَاهُ عَلَيْكُم وَزادَهُ

__________________

(١) احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨٢.

٨٢

بَسطَةً فِىِ العِلمِ وَالجِسمِ). (البقرة / ٢٤٧)

من هنا يقول تعالى في مقابل مزاعم بني اسرائيل الذين كانوا يقولون : إنّ طالوت من أُسرة فقيرة ومجهولة ، وأنّه خالي اليدين من مال الدنيا : أنّ الأساس الحقيقي للحكم الإلهي هو «العلم» و «القدرة» حيث وهبه الله ما يكفيه منهما.

وفيما يتعلق بيوسف عليه‌السلام عندما يصف نفسه بالأهلية للتصدي لجانب من حكم مصر ، أي إدارة بيت المال ، فهو يستند إلى العلم والأمانة : (قَالَ اجعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الارْضِ انِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ). (يوسف / ٥٥)

بل كما قلنا سابقاً بشأن علم الأنبياء : لابدّ أن يتمتعوا بجانب من علم الغيب على الأقل ليتسنى لهم القيام بواجبهم على أحسن وجه ، وأنَّ الذي يصدق بحقهم يصدق بحق الأئمّة أيضاً.

إنّ تكليفهم عالَمي أيضاً ، فلابدّ أن يكونوا مطلعين على أسرار العالم ، وواجبهم مرتبط بالماضي والمستقبل ، فكيف يمكنهم أداء رسالتهم جيداً إذا كانوا يجهلون الماضي والمستقبل ، وأن يضعوا الخطط لجميع الناس؟

إنّ حدود رسالتهم تشمل ظاهر وباطن المجتمع ، والناس ، فمن المتعذر انجاز هذه الامور المهمّة بدون العلم بالغيب ، وهذا ماورد بتعبير لطيف للغاية في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «مَنْ زعمَ أنّ الله يحتج بعبد في بلاده ثم يستر عنه جميع ما يحتاج إليه فقد افترى على الله» (١).

نعم فالعلم بأسرار العالم حالياً وفي الماضي والمستقبل هو في واقع الأمر : السبيل إلى انجاز الرسالة المهمّة في هداية البشر والتحول إلى حجة لله تعالى.

ومختصر الكلام هو أنّ أول شرط للتصدي لمقام الإمامة هو العلم والاطلاع وإلالمام بجميع العلوم الدينية ، وحوائج الناس ، وكل ما يلزم في أمر تعليم وتربية وهداية وإدارة المجتمع الإنساني ، ومن المستحيل أداء هذه المسؤولية بدون مثل هذا العلم.

__________________

(١) بصائر الدرجات وفقاً لنقل بحار الأنوار ، ج ٢٦ ، ص ١٣٧.

٨٣
٨٤

مصادر علم الأئمّة!

من الامور المهمّة الجديرة بالدقّة والاهتمام فيما يتعلق بعلم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، مصادر علم الأئمّة عليهم‌السلام ، إذ من أين يحصل لهم هذا الاطلاع الواسع على امور الدين والدنيا ، وبالتسليم بأنّ الوحي لاينزل عليهم ، وأنّ أبواب الوحي بعد وفاة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصدت والى الأبد ، فكيف يطلعون على مسائل الشريعة ومصالح الإسلام والمسلمين والحقائق المتعلقة بالماضي والمستقبل التي تعتبر ضرورية في أمر هداية الامة؟

من الممكن معرفة هذه المصادر جيدا من خلال الإشارات التي وردت في آيات القرآن والبيانات المفصلة والواسعة التي جاءت في الروايات.

* * *

إنّ هذه المصادر متنوعة وكثيرة نذكر بعضاً منها :

١ ـ العلم الكامل بكتاب الله بنحو يلمّون فيه بمعرفة تفسيره وتأويله وباطنه وظاهره ومحكمه ومتشابهه.

يقول القرآن الكريم : (وَيَقُولُ الَّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ). (الرعد / ٤٣)

يتضح من خلال هذه الآية أنّ هناك شخصا لديه علم الكتاب جميعاً (انتبهوا إلى أنّ علم الكتاب قد جاء بشكل مطلق ، وشامل لجيمع العلوم المتعلقة بعلم الكتاب ، على العكس ممّا ورد في الآية : (قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ انْ يَرْتَدَّ اليكَ طَرْفُكَ). (النمل / ٤٠)

٨٥

من المسلَّم به أنّ كتاب الله معين لا ينضب من العلوم ، وأنّ العلم به مفتاح لجميع الامور ، فعندما يستطيع «آصف بن برخيا» وزير سليمان من القيام بهذا العمل المهم نتيجة لعلمه ببعض الكتاب ، ويأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين من أقصى جنوب الجزيرة العربية (اليمن) إلى أقصى شمالها (الشام مركز حكومة سليمان) ، فمن المسلم به أنّ الذي عنده جميع علم الكتاب يستطيع القيام بأعمال أهم من ذلك كثيراً ، ولكن من الذي عنده علم الكتاب؟ يشير القرآن الكريم إلى ذلك إشارة غامضة.

فقال البعض : إنّ المراد هو الله تعالى (وعلى هذا سيكون عطف جملة «عنده علم الكتاب» عطفاً تفسيرياً ، وهذا يخالف ظاهر الكلام).

كما قال عدد من المفسرين : المراد منه هم علماء أهل الكتاب وأشخاص كسلمان ، وعبد الله بن سلّام الذين كانوا قد شاهدوا علامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب السماوية السابقة ويشهدون بحقانيته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلّا أنّ أغلب المفسرين نقلوا في كتبهم أنّ هذه الآية إشارة إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأئمّة الهدى عليهم‌السلام.

يروي المفسر الشهير القرطبي في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عطاء : قلت لأبي جعفر علي بن الحسين عليه‌السلام : إنّ الناس يظنون أنّ الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام ، فقال : «إنّما ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه» ، هو علي بن أبي طالب فقط ، وكذلك قال محمد بن الحنفية ذلك (١).

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة (سورة الرعد) نزلت في مكة والحال أنّ عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وسائر علماء أهل الكتاب أسلموا في المدينة.

وقد ورد هذا الكلام عن سعيد بن جبير أيضاً عندما سئل : هل أنّ «مَنْ عنده علم الكتاب» هو عبد الله بن سلام؟ قال : «كيف يكون هو وهذه السورة مكية» (٢)؟

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٥٦٥.

(٢) تفسير در المنثور ، ج ٤ ، ص ٦٩.

٨٦

كما ينقل الشيخ سليمان القندوزي الحنفي (١) في «ينابيع المودة» عن «الثعلبي» و «ابن المغازلي» عن «عبد الله بن عطاء» : كنت مع محمد الباقر عليه‌السلام في المسجد ورأيت ولد عبدالله بن سلام فقلت : هذا ابنُ منْ عنده علم الكتاب ، فقال : هذه الآية بحق علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

وقد رويت في نفس الكتاب رواية اخرى عن عطية العوفي عن «أبي سعيد الخدري» قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن آية (الذي عنده علم من الكتاب) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هو وزير أخي سليمان ،» ثم سألته عن آية «قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومنْ عنده علم الكتاب» ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ذاك أخي علي بن أبي طالب عليه‌السلام» (٣).

ونقرأ أيضاً في رواية اخرى عن ابن عباس أنّه قال : (مَنْ عنده علم الكتاب) إنّما هو عليّ عليه‌السلام ، لقد كان عالماً بالتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ (٤).

وملخص الكلام هو : لا يمكن تفسير هذه الآية بعلماء أهل الكتاب ابداً ، بسبب نزول هذه السورة الرعد في مكة ، وهؤلاء أسلموا بعد الهجرة في المدينة ، واستناداً إلى الروايات الآنفة فهي بحق عليّ عليه‌السلام ومن بعده تشمل (سائر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام).

نعم ، فهذا العلم الواسع بالقرآن الكريم وأسراره ، ودقائقة ، وظاهره وباطنه ، هو أحد المصادر الرئيسة لعلم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام (٥).

ومن شواهد هذا المعنى قول الآية الكريمة : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ). (آل عمران / ٧)

وللتوضيح : ثمّة جدل بين المفسرين بأنّ هل «الرَّاسِخُونَ فِى العِلمِ» معطوفة على «الله» أي ليس هنالك من يعلم تأويل القرآن سوى الله «والراسخون في العلم» ، أم أنّها مطلع جملة

__________________

(١) «قندوز» ، مدينة شمال أفغانستان نسب إليها هذا العالم السنّي.

(٢) ينابيع المودة ، ص ١٠٢.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٠٣.

(٤) ينابيع المودة ، ص ١٠٤.

(٥) وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام روايات عديدة في هذا المجال ، فللمزيد من الاطلاع راجعوا تفسير كنز الدقائق ، ج ٦ ، ص ٤٨٠ وتفسير البرهان ذيل الآية مورد البحث.

٨٧

مستقلة؟ وعليه فإنّ مفهوم الآية يكون هكذا : لا يعلم تأويل القرآن غير الله ، أمّا الراسخون في العلم فيقولون : وإن كنّا لا نعلم تأويل الآيات المتشابهة ، إلّا أننا نُسلِّم أمامها».

وما يؤيد المعنى الأول هو أولاً : من المستبعد أن تكون في القرآن أسرار لا يعلمها إلّاالله فقط ، فالقرآن نزل لتربية الناس وهدايتهم ، ولا معنى في أن تكون في هذا الكتاب آيات وجملٌ لايعلم مقصودها إلّاالله تعالى.

ثانياً : كما يقول المفسر الكبير «الطبرسي» في «مجمع البيان» : لا يوجد بين المفسرين من يقول : إنّ الآية الفلانية لايعلم معناها إلّاالله ، بل إنّهم يسعون دائماً لكشف أسرار الآيات بطرق مختلفة ، منها أحاديث المعصومين عليهم‌السلام ، وفي الواقع أنّ هذا الكلام يناقض إجماع المفسرين.

ثالثاً : إذا كان المقصود هو التسليم بدون علم فيجب أن يقال : «الراسخون في الإيمان ، لا الراسخون في العلم» ، فالذي لا يعرف شيئاً كيف يمكن تسميته راسخاً في العلم؟

رابعاً : جاء في عدّة روايات أنّ «الراسخون في العلم ، يعلمون تأويل القرآن» وهذا دليلٌ على أنّ هذه العبارة عطف على لفظ الجلالة «الله».

فنقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمّة من بعده» (١).

وجاء في رواية اخرى عنه عليه‌السلام أنّه قال : «نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله» (٢). ونقرأ في رواية اخرى أيضاً ، أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام (أو الإمام الصادق عليه‌السلام) قال في تفسير الآية : (وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلمِ) : «فرسول الله أفضل الراسخين في العلم ، قد علمه الله عزوجل جميع ما أُنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله ، وأوصيائه من بعده يعلمونه كله) (٣).

وهنالك روايات عديدة اخرى بهذا الصدد تؤيد هذا المعنى المفهوم (٤).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢١٣ ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، ح ٢.

(٤) للمزيد من التوضيح ، يراجع كتاب جامع الأحاديث ، ج ١ ، ص ٢٧ ؛ وتفسير كنز الدقائق ، ص ٤٢ ـ ٤٥ ؛ واصول الكافي ، ج ١ ، ص ٤١٥.

٨٨

من خلال البراهين الأربعة التي ذكرناها آنفا ـ وكل برهان منها يكفي لإثبات الغرض ـ فلا يبقى شك في أنّ عبارة «والراسخون في العلم» معطوفة على «الله» ومعناها علمهم بالتأويل وباطن الكتاب.

والجدير بالذكر أنّ التعبير بـ «الراسخون في العلم» جاء مرتين في القرآن الكريم ، فمرة جاء في الآية محل البحث سورة آل عمران ٧ ، ومرّة في سورة النساء حيث يقول تعالى بعد أنّ ذم أفعال أهل الكتاب (اليهود والنصارى) القبيحة المتمثلة بأكل الربا ونهب أموال الناس : (لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ مِنهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ الَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ). (النساء / ١٦٢)

ويبدو أنّ الذين ذكروا اسم «عبدالله بن سلام» وأمثاله من علماء أهل الكتاب ـ الذين أسلموا ـ في تفسير الراسخين في العلم يقصدون هذه الآية ١٦٢ من سور النساء ، لا الآية ٧ من سورة آل عمران ، لأنّ الآية التي تتحدث حول علماء أهل الكتاب الآية الاولى ، أمّا الآية التي هي محل بحثنا (الآية ٧ من سورة آل عمران) فلا علاقة لها بقضية أهل الكتاب ، (تأملوا جيداً).

كما تتضح هنا نكتة مهمّة اخرى وهي : ما ورد في خطبة الأشباح في نهج البلاغة حيث يقول عليه‌السلام : «واعلمْ أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب لاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب» (١).

وربّما يكون إشارة إلى آية سورة النساء أيضاً ، حيث يتحدث عن تسليم بعض علماء أهل الكتاب والمؤمنين بلا قيد أو شرط أمام القرآن وسائر الكتب السماوية ، لا الآية من سورة آل عمران (تأملوا جيداً كذلك).

وملخص الكلام أنّ ظاهر الآية ٧ من سورة آل عمرأن يقول : إنّ الله والراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن ، ونظراً إلى أنّ المقصود من الراسخين في العلم هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام بالدرجة الاولى ، إذن يُعرف أحد مصادر علمهم وهو القرآن الكريم وتأويله وتفسيره وظاهره وباطنه.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٩١ (خطبة الأشباح).

٨٩

ونختتم هذا الحديث بإشارة اخرى إلى آيات القرآن الكريم فنقرأ في الآية : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيَّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اوْتُوا العِلْمَ). (العنكبوت / ٤٩)

ففي مصادر أهل البيت عليهم‌السلام تلاحظ روايات كثيرة بصدد تفسير جملة «الذين اوتوا العلم» في هذه الآية بالأئمّة المعصومين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وللمزيد من الاطلاع راجعوا بحار الأنوار وتفسير البرهان (١).

٢ ـ الوراثة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

المصدر الثاني من مصادر علوم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام هو الوراثة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بمعنى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد علَّم عليّاً عليه‌السلام جميع العلوم وشرائع الإسلام ، واستنادا إلى بعض الروايات فإنّ علياً عليه‌السلام قد كتب ذلك في كتاب بخط يده وانتقل هذا العلم إلى أولاده أي الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام نسلاً بعد نسل.

أو بتعبير آخر ـ كما ورد في الروايات ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علمَ علياً عليه‌السلام ألف باب من العلم ينفتح من كل باب ألف باب.

وقد احتوى في كتاب الكافي على روايات عديدة في هذا المجال ، منها ما نقرأه في حديث عن أبي بصير حيث يقول : سألت الإمام الصادق عليه‌السلام إنّ شيعتكم يقولون : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علَّم علياً عليه‌السلام باباً من العلم ينفتح منه ألف باب ، قال الإمام عليه‌السلام : «علم رسول الله علياً ألف باب يفتح من كل باب ألف باب».

ثم قال عليه‌السلام : «يا أبا بصير! ان عندنا الجامعة ... قلت وما الجامعة؟ قال : صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واملائه ، من فَلْق فيه ، وخطّ علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الارش من الخدش» (٢).

والجدير بالذكر أنّه قد وردت روايات لا حصر لها في اشهر كتب السنة والشيعة حول

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ١٨٨ ـ ٢٠٨ ؛ وتفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٦ (لقد روي في هذين الكتابين مايقارب عشرين حديثاً بهذا الصدد).

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٣٩.

٩٠

الحديث المعروف بـ «مدينة العلم» ومن جملة رواة هذا الحديث «ابن عباس» و «جابر بن عبد الله» و «عبد الله بن عمر» و «علي عليه‌السلام».

ومن الذين نقلوا هذا الحديث في كتبهم هم «الحاكم النيسابوري» في «المستدرك» ، و «أبو بكر النيشابوري» في «تاريخ بغداد» و «ابن المغازلي» في «مناقب أميرالمؤمنين عليه‌السلام» ، والكنجي في «كفاية الطالب» و «الحمويني» في «فرائد السمطين» و «الذهبي» في «ميزان الاعتدال» و «القندوزي» في «ينابيع المودة» و «النبهاني» في «الفتح الكبير» وطائفة اخرى (١).

ونقرأ أيضاً في عدّة روايات بصريح القول أنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كانوا يقولون : ما ننقله بإمكانك أن تنقله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأننا سمعنا كل ذلك عن أجدادنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!.

فقد سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام : ربّما نسمع حديثاً منك ، ثم نشك في هل أننا سمعناه منك أم من أبيك؟

فقال عليه‌السلام : «ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته من أبي فاروه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

ويقول في مكان آخر أيضاً : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام وحديث أمير المؤمنين عليه‌السلام حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحديث رسول الله قول الله عزوجل) (٣).

وجاء عنه عليه‌السلام في رواية اخرى حيث قال بصريح العبارة : «مهما اجبتك فيه بشيء فهو من رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء» (٤).

__________________

(١) للمزيد من الاطلاع راجعوا احقاق الحق ، ج ٥ ، ص ٤٦٨ ـ ٥٠١ وللاطلاع على مصادر هذا الحديث في كتب الشيعة راجعوا كتاب جامع الأحاديث ، الطبعة القديمة ، ص ١٦ وما بعدها.

(٢) جامع الأحاديث ، ج ١ ، ص ١٧ ، ح ٤ ، باب حجية فتوى الأئمّة.

(٣) المصدر السابق ، ح ١.

(٤) المصدر السابق ، ح ٧ (وتوجد أحاديث اخرى أيضاً بهذا الصدد في نفس الكتاب).

٩١

٣ ـ الاتصال بالملائكة

من مصادر علم الأئمّة ، اتصالهم بالملائكة ، لا بمعنى أنّهم كانوا من الأنبياء والرسل ، فإنّنا نعلم أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كان خاتم الأنبياء والرسل ، وبوفاته انقطع الوحي ، بل إنّهم كانوا ك «الخضر» و «ذي القرنين» و «مريم» ، حيث كانوا على اتصال بالملائكة بناءً على ظاهر آيات القرآن ، وكانت الحقائق تلقى في قلوبهم من خلال عالم الغيب.

جاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ علياً كان مُحدَّثاً»؟ وعندما طلبوا منه عليه‌السلام معرفة من يُحدِّثه قال : يُحدِّثه ملك ، ولما سألوه : هل كان نبيّاً؟ فأومأ بيده بالنفي والانكار ، ثم أضاف : كصاحب سليمان ، أو كصاحب موسى ، أو كذي القرنين (١) ، (هناك روايات عديدة أيضاً بهذا المجال) (٢).

٤ ـ إلقاء روح القدس

المصدر الرابع لعلم الأئمّة هو فيض روح القدس.

وتوضيح ذلك : إنّ الحديث قد تكرر في آيات القرآن عن تأييد «روح القدس» فقد ورد ثلاث مرات بشأن المسيح عليه‌السلام ، (البقرة / ٨٧ و ٢٥٣ والمائدة / ١١٠) ومرّة واحدة بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (البقرة / ١١٠).

فمن هو أو ما هو «روح القدس»؟ ثمّة جدل كثير بين المفسرين ، فقد فسّره جماعة من المفسرين بـ «جبرائيل» ، وفسّر بالروح المقدسة الطاهرة للمسيح عليه‌السلام ، أو بمعنى الانجيل الذي انزل عليه ، وتارة قالوا : إنّ المراد هو اسم الله الأعظم الذي كان المسيح يحيي به الموتى (٣).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٧١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جاءت هذه المعاني الأربعة في تفسير كنز الدقائق ، ج ٢ ، ص ٧٨ ، ولكن في بعض التفاسير المعروفة ذكر التفسير الأول فقط ، واكتفى في تفسير الكبير بذكر ثلاثة معانٍ وهي ، جبرئيل ، والانجيل ، والاسم الأعظم (تفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ١٧٧).

٩٢

ولكن يستفاد من تعابير القرآن الكريم ، وكذا مختلف الروايات ، أنّ روح القدس له عدّة معان وربّما يحمل معنىً خاصاً في كل مكان ، ففي احدى آيات القرآن الكريم : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ). (النحل / ١٠٢)

يعني بحسب الظاهر «جبرئيل» الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل الله تعالى. لكن يبدو أنّه يحمل مفهوماً آخر في الموارد الثلاثة الاخرى والتي جميعها بحق المسيح عليه‌السلام ، فالتعبير «إذ أيدتك بروح القدس» ـ أو ـ «وأيدناه بروح القدس» يدل على أنّه إشارة إلى الروح التي كانت ترافق المسيح عليه‌السلام وتؤيده وتسدده.

ويفهم من الروايات التي وردت في مصادر أهل البيت عليهم‌السلام أنّ روح القدس هي الروح التي كانت مع الرسل والأنبياء والمعصومين عليهم‌السلام دائماً ، وكانت تنقل إليهم الامدادات الغيبية في مختلف الحالات ، بل يستفاد من الروايات العديدة التي وردت في مصادر السنّة أيضاً ، أنّهم كانوا يصفون الكلام أو الشعر ذي المغزى الذي يصدر عن شخص ما : «كان هذا بتأييد من روح القدس».

ومن هذا الكلام ما نقرأه في الرواية الواردة في تفسير الدر المنثور أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بحق الشاعر الإسلامي المعروف «حسان بن ثابت» : «اللهم أيّد حساناً بروح القدس كما دافع عن نبيّه» (١).

ونقرأ بشأن شاعر أهل البيت المعروف «الكميت بن زيد الأسدي» أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام قال له : كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحسان بن ثابت ، «لن يزال معك روح القدس ما ذَبَيْتَ عنّا» (٢).

وورد في رواية اخرى أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بكى كثيراً عندما أنشده الشاعر دعبل الخزاعي بعض أبيات قصيدته المعروفة «مدارس آيات» ثم قال له : «نطق

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ١ ، ص ٨٧ (ذيل الآية ٨٧ من سورة البقرة) وجاء في صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٩ و ٣٢ باب فضائل حسان بن ثابت ما يشبه هذا المضمون.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٤٩٥٤.

٩٣

روح القدس على لسانك بهذين البيتين» (١).

من هنا يتضح جيدا أنّ «روح القدس» روح معينة تعين الإنسان أثناء ادائه للاعمال المعنوية الإلهيّة ، وبطبيعة الحال فإنّها متفاوتة بتفاوت مراتب الأشخاص ، فهي لدى الأنبياء والأئمّة المعصومين تكون فعالة وتعمل بشكل استثنائي وأكثر وضوحاً ، ولدى الآخرين تكون وفقاً لقابلياتهم وإن كنّا نفتقد العلم بماهيتها وتفاصيلها.

وجاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اوْلَئِكَ المُقَرّبونَ) (الواقعة / ١٠ ـ ١١)

فقال : «فالسابقون هم رسل الله عليهم‌السلام وخاصة الله من خلقه ، جعل فيهم خمسة أرواح ، أيدّهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء ...» (٢).

وجاء في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام بهذا الصدد حيث قال بعد تعداده للأرواح الخمسة الموجودة لدى الأنبياء والأوصياء : «فبروح القدس .. عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى» (٣).

وهناك روايات كثيرة اخرى بهذا المجال في اصول الكافي وسائر الكتب ، حيث لا يسع المجال لشرحها هنا.

نعم فالإمداد الإلهي عن طريق روح القدس مصدر آخر من مصادر علم المعصومين عليهم‌السلام.

٥ ـ النور الإلهي

المصدر الخامس الذي يمكن ذكره لعلوم الأئمّة هو ماورد في العديد من الروايات في اصول الكافي ، منها ما يقوله «حسن بن راشد» : سمعت الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «... فاذا

__________________

(١) كشف الغمة ، ج ٣ ، ص ١١٨ ؛ واعلام الورى ، ص ٣٣١ ، وذانك البيتان هما ،

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميز فيّنا كلَّ حقٍ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٧١.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٧٢.

٩٤

مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق فبهذا يحتج الله على خلقه» (١).

وورد في بعض الروايات أيضاً بـ «عمود من نور» (٢) ، إلّاأنّه غالباً ما جاء تعبير «منار من نور» ، وبالطبع ليس هنالك تباين كثير بين هذين التعبيرين.

وللمزيد من الاطلاع راجعوا بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٣٢ ، إذ ينقل المرحوم العلّامة المجلسي ستة عشر رواية بهذا الصدد ، وكذلك وردت روايات عديدة في هذا المجال في بابـ «عرض الأعمال» (ج ٢٣ ، ص ٣٣٣ وما بعدها).

* * *

يستفاد من مجموع ما قيل إنّ مصادر علم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام متعددة ومتنوعة ، ويأتي علمهم بجميع معاني القرآن الكريم بالدرجة الاولى ، وفي الدرجة الثانية تأتي العلوم التي يرثونها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويليها التسديد والتأييد الإلهي ، والالهامات القلبية والاتصال بالملائكة وعالم الغيب.

ومن فيض هذه المصادر يقتبس الأئمّة المعصومون علوماً ومعارف كثيرة ليتسنى لهم إنجاز مهمّتهم التي تتجسد في المحافظة على الإسلام والقرآن وسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهداية الخلق نحو الخالق ، وتربية النفوس وإقامة الحدود وتدبير الامور على أحسن وجه.

والملاحظة الاخرى الجديرة بالاهتمام هي أنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ أرواح الأئمّة عليهم‌السلام تستلهم كل ليلة جمعة علوماً ومعارف جديدة بصدد القضايا المستجدة ، وذلك من قبل الله تعالى (لينسجموا مع متطلبات الامّة الإسلامية).

منها ما نقرأه في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : «إنّ لنا في كل ليلة جمعة سروراً».

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٨٧ ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق ، ح ٤.

٩٥

يقول الراوي فقلت : «زادك الله وما ذاك؟

قال عليه‌السلام : «إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله العرش ووافى الأئمّة معه ، فلا تُرَّدُ أرواحنا إلى أبداننا إلّابعلم مستفاد ، ولولا ذلك لأنفدنا» (١).

وتشاهد روايات عديدة في هذا البحث بهذا الصدد أيضاً يطول شرحها هنا.

نظراً إلى ما ذكرناه في هذا الفصل يتضح أنّ مصادر علم الأئمّة ليست أمراً بسيطاً ، فالمصادر التي يمتلكونها هي التي تميزهم عن سائر الناس ، وتعينهم في أدائهم للمسؤوليات المهمّة التي يتحملونها في المحافظة على الإسلام وتعاليم القرآن وهداية العباد.

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٥٤ (باب في أنّ الأئمة عليه‌السلام يزدادون في ليلة الجمعة).

٩٦

عصمة الأئمّة عليهم‌السلام

تمهيد :

التوقي من الخطأ والسهو والمعصية شرطٌ آخر من الشروط العامة للأئمّة المعصومين ، وفي الحقيقة أنّ القرائن كافّة التي تدل على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام تدل على عصمة الأئمّة عليهم‌السلام أيضاً ، لأنّ مسؤوليتهم تتشابه إلى حد كبير.

صحيح أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الواضع لُاسس الشريعة ويتصل بعالم الوحي ، أمّا الأئمّة فهم بمثابة الامتداد لوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم حماة حراس الشريعة بالرغم من عدم نزول الوحي عليهم ، لأنّهم يتبعون أثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هداية الناس ، والدفاع عن الأحكام والحدود الإلهيّة وجميع ما يتعلق بالشريعة ، من هنا فهم يشتركون في الكثير من الصفات ويتشابهون فيما بينهم.

بناءً على ذلك فإنّ جميع الأدلة الرئيسة التي ذكرناها في بحث عصمة الأنبياء (١) تصدق فيما يتعلق بالائمّة أيضاً.

* * *

بعد هذه اللمحة المختصرة نرجع إلى بعض آيات القرآن الواردة بهذا الصدد ونبدأ بالكلام من القرآن :

١ ـ (انَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ اهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (الأحزاب / ٣٣)

__________________

(١) للمزيد من الايضاح راجعوا ج ٧ ، ص ١٤٥ ـ ١٦٠ من هذا التفسير.

٩٧

في البحوث السابقة وأثناء تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة ، قرأنا ما يتعلق بعظمة مقام الإمامة والولاية في قصة إبراهيم عليه‌السلام حيث أنّ الله تبارك وتعالى قد أخضع هذا النبي العظيم إلى العديد من الاختبارات المهمّة ، ولما خرج منها ظافراً قال له : (انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً) (فالإمامة تعني الهيمنة على الجسم والروح ، وتربية النفوس والمجتمعات البشرية).

وعندما سأل إبراهيم عليه‌السلام هذا المقام لبعض ذريته وأبنائه ، جوبه بالرد الإلهي المشروط ، فقال تعالى : (لَايَنَالُ عَهدِىِ الظَّالِميِنَ) ، أي (أنّ الرهط الطاهر والمعصوم من أبنائك يستحقون هذا المقام فقط).

وقد تبيّن في تلك البحوث كيف أنّ هذا المقطع من الآية دليل على عصمة الأئمّة ، وأنّ الذين أمضوا عمرهم في طريق الكفر والشرك من ناحية الاعتقادات ، أو من ناحية أعمالهم حيث ارتكبوا الظلم بحق أنفسهم أو الآخرين ، لا يستحقون هذا المقام ، لأنّ الظلم بالمعنى الشامل للكلمة يشمل الظلم والشرك والكفر والانحرافات العقائدية ، وكذلك جميع أشكال التجاوز على الآخرين ، وظلم النفس عن طريق ارتكاب المعصية.

وحيث إنّ هذه البحوث قد جاءت هناك بشكل مفصل ومستفيض فلا نرى حاجة للتكرار ، وعليه فقد وضع القرآن الكريم الركيزة الأساسية لشرط عصمة الأئمّة في هذه الآية الكريمة.

والآن نعود إلى آية التطهير وبحث مسألة العصمة الواردة في هذه الآية :

صحيح أنّ هذه الآية تتوسط الآيات المتعلقة بنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّها تحمل نغمة مختلفة عنها ، وتشير إلى معنى آخر ، فجميع الآيات التي سبقتها وتلتها جاءت بضمير «جمع المؤنث» بينما جاءت الآية محل البحث بضمائر «جمع المذكر»!

ففي مستهل هذه الآية خاطب تعالى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرهنّ بالمكوث في بيوتهن ، وأن لا يخرجن بين الناس كما كان سائداً في الجاهلية ، ويحافظن على معايير العفة ، وأن يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة ويطعن الله ورسوله (وَقَرنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَاتَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الاولَى وَاقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَاطِعنَ اللهَ وَرَسُولَهُ). (الاحزاب / ٣٣)

٩٨

فجميع الضمائر الستة التي وردت في هذا المقطع من الآية هي على صورة جمع المؤنث (تأملوا جيداً).

ثم يتبدل لحن الآية ، ويقول : (انَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنْكُم الرِّجسَ اهلَ البَيتِ وَيُطهرِّكُم تَطهِيراً).

وقد استخدم في هذا المقطع من الآية ضميرين جمع بصورة جمع المذكر.

صحيح أنّ مطلع ونهاية كل آية يستهدف امراً واحداً ، إلّاأنّ هذا الكلام يجري في المكان الذي لا تتوفر فيه قرينة على الخلاف ، وعلى هذا فالذين رأوا أنّ هذا الجانب من الآية ناظرٌ إلىّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً فقد نطقوا خلافاً لظاهر الآية والقرينة التي فيها ، أي تباين الضمائر.

بالإضافة إلى ذلك نمتلك روايات عديدة فيما يتعلق بهذه الآية حيث نقلها أكابر علماء المسلمين سواء الشيعة أم السنّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاءت بشكل وآخر في أشهر كتب الفريقين التي تحظى بقبولهم.

هذه الروايات بأجمعها تفيد أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (لا نساء النبي) كما سيأتي بالتفصيل فيما بعد.

ولكن قبل الدخول في البحث لابدّ من التطرق إلى تفسير العبارات :

إنّ التعبير بـ «إنّما» الذي عادة ما يستعمل للحصر دليل على أنّ الموهبة الواردة في هذه الآية تخص آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا تشمل غيرهم.

وعبارة «يريد» إشارة إلى إرادة الله التكوينية ـ أي أنّ الله تعالى شاء من خلال أمر تكويني أن يطهركم ويحفظكم من كل قذارة ـ لا الإرادة التشريعية ، فالإرادة التشريعية تعني تكليفهم بصيانة أنفسهم طاهرة ، ونحن نعلم أنّ هذا التكليف لا يختص بآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بل إنّ المسلمين جميعاً مكلفون بتطهير أنفسهم.

ربّما يتصور أنّ الإرادة التكوينية تفرض نوعاً من الجبر ، وفي هذه الحالة لن تكون العصمة فضيلة وفخراً.

٩٩

لقد ذكرنا الاجابة عن هذا السؤال بالتفصيل في الجزء السابع في بحث عصمة الأنبياء ، ولابدّ من التعرض إليه باختصار : إنّ المعصومين يمتلكون نوعين من القابلية «قابلية ذاتية موهوبة» و «قابلية اكتسابية من خلال أعمالهم وملكاتهم الداخلية» ، ومن مجموع هاتين القابليتين اللتين لا تخلو إحداهما على أقل تقدير من صبغة اختيارية لتحصيل هذا المقام السامي ، وبتعبير آخر فإنّ المشيئة الإلهيّة توفر الأرضية للتوفيق من أجل بلوغ هذا المقام الشامخ ، واستثمار هذا التوفيق يتعلق بإرادتهم (تأملوا جيداً).

فترك الذنب بالنسبة لهم محال عادي لا عقلي ، فمثلاً ، محال عاديٌ أن يصطحب إنسان عالم ومؤمن الخمر إلى المسجد ويحتسيه بين صفوف الجماعة ، إلّاأنّه من المسلم به أنّ هذا الأمر ليس محالاً عقلياً ، ولا يتعارض مع كون هذا الفعل اختيارياً ، أو على سبيل المثال ، أنّ الإنسان العاقل لا يخرج إلى الزقاق والشارع عارياً كما ولدته امه أبداً ، فالقيام بهذا العمل ليس محالاً بالنسبة له ، بل مستوى تفكيره ومعرفته لا يسمح له بالقيام بمثل هذا الفعل وإن كان فعله وتركه باختياره.

وهكذا حالة ارتكاب الذنوب بالنسبة للأنبياء والأئمّة ، صحيح أنّ العصمة من الألطاف الإلهيّة ، بَيدَ أنّ الألطاف الإلهيّة تخضع لحساب ، كما يقول القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه‌السلام : لن تنال منزلة الإمامة ما لم تفلح في الابتلاءات الإلهيّة (وَاذِ ابْتَلى ابْرَاهِيمَ ربُّه بِكَلِماتٍ ...) (١). (البقرة / ١٢٤)

وأمّا كلمة «الرجس» فتعني لغةً ، الشيء القذر سواء من ناحية كونه قذراً ومقززاً لطبع الإنسان ، أو بحكم العقل ، أو الشرع ، أو جميعها.

من هنا فبعد أن يفسر «الراغب» في «المفردات» الرجس بأنّه الشيء القذر ، يذكر له أربع حالات (نفس الحالات الاربع التي ذكر ت أعلاه من ناحية طبع الإنسان ، أو العقل ، أو الشرع ، أو جميعها) ، وإذا ما فسّر الرجس في بعض تعابير العلماء بالذنب أو «الشرك» أو

__________________

(١) للمزيد من الايضاح في مجال أنّ العصمة لا تتنافى واختيارية أفعال المعصومين راجعوا ، ج ٧ ، ص ١٥٥ وما بعدها من هذا التفسير.

١٠٠