نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

فلا خيمة في الصحراء ، ولا خضرة ، ولا نبات ، ولا شجرة ، سوى بعض الأشجار البرية الجرداء التي تقاوم حرارة الصحراء ، والتي لاذ بها البعض ، ووضعوا قطعة من القماش على إحداها وجعلوها ظلاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّاأنّ الرياح اللاهبة تهب تحتها وتلفها بحرارة الشمس المحرقة.

وانتهت صلاة الظهر ، وعزم المسلمون على اللجوء إلى خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ، بَيدَ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوعز لهم بالاستعداد لسماع بلاغ إلهي جديد يُوضح ضمن خطبة مفصلة ، ولم يكن بمقدور البعيدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رؤية وجهه الملكوتي وسط زحام الناس ، لذا فقد صنعوا له منبراً من أربعة من أحداج الإبل ، فارتقاهُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البداية حمد الله واثنى عليه واستعاذ به ، ثم خاطب الناس قائلاً :

«أيّها الناس : يوشك أن أُدعى فأُجيب.

أنا مسؤول ، وأنتم مسؤولون.

فكيف تشهدون بحقي؟

فصاح الناس : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً ، ثم قال :

ألستم تشهدون أن لا إله إلّاالله ، وأنّي رسول الله إليكم ، وأنّ البعث حق ، وأنّ الله يبعث من في القبور؟! فقالوا : نشهد بذلك ، قال : اللهم اشهد ، ثم قال :

أيّها الناس أتسمعوني؟ قالوا : نعم ، ثم عمّ السكوت الصحراء فلم يسمع إلّاصوت الريح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانظروا ماذا صنعتم بالثقلين من بعدي؟

فقال رجل من بين القوم : ما هذان الثقلان يارسول الله؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا الثقل الأكبر فهو كتاب الله حبل ممدود من الله إليكم ، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم ، فلا تدعوه ، وأمّا الثقل الأصغر فهم عترتي وقد أخبرني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا.

ونظر الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يلتفت حوله ، وكأنّه يبحث عن أحد ، ولما وقعت

١٤١

عيناه على علي عليه‌السلام التفت إليه وأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض ابطيهما ، وشاهدهما جميع القوم ، وعرفوا أنّه ذلك الفارس المقدام ، وهنا ارتفع صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين وأولى منهم بأنفسهم ، ثم قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، وكرر هذا الكلام ثلاث مرات ، وكما قال أرباب الحديث : إنّه كرره أربعاً ، ثم رفع رأسه نحو السماء ، وقال :

اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه ، واحب من أحبّه وابغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأَدر الحق معه حيث دار.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إلّافليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ».

هنا انتهت خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان العرق يتصبب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع من حضر ، وما زال الناس لم يتفرقوا من ذلك المكان حتى نزل عليه الوحي وقرأ هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اليومَ اكملتُ لكُم دينَكُم وَأَتْمَمْتُ عَليكم نِعمتي).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الله أكبر ، الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعلي من بعدي».

في هذه الأثناء عمّ الناس النشاط والحركة ، وأخذوا يهنئون علياً عليه‌السلام بهذا المقام ، وكان من الذين هنّأوه ، أبو بكر وعمر حيث نطقا بهذه العبارة أمام أعين الحاضرين :

«بخ ، بخ لك ياابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة».

أثناء ذلك قال ابن عباس : «والله أنّه عهد سيبقى في أعناقهم» ، واستأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الشاعر المعروف «حسان بن ثابت» لينشد شعراً بهذه المناسبة ، ثم استهل قصيدته المعروفة :

يناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهم

بُخمٍّ وأسمِعْ بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكُمُ ونبيُّكمْ؟

فقالوا ولم يُبدو هناك التعاميا

إلهكَ مولانا وأنت نبيُّنا

ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا

١٤٢

فقال له قم ياعليُّ فإنني

رضيتُكَ من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاهُ فهذا وليُّهُ

فكونوا له أتباعَ صِدقٍ مَواليا

هناك دعا اللهُمَّ والِ وليَّهُ

وكُن للذي عادى علياً مُعاديا (١)

دراسة وتحليل حول آية التبليغ :

لو تغاضينا عن جميع الروايات الواردة بشأن نزول الآية الآنفة الذكر ، وكذا الروايات الواردة حول واقعة الغدير ، وأمعنا النظر بمضمون الآية نفسها وما تلاها من الآيات ، نستطيع من خلال عمق هذه الآيات اتخاذ موقف ازاء مسألة خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والتوضيح : إنّ الآية المذكورة باختلاف التعابير التي وردت فيها تؤكّد على أنّها ناظرة إلى قضية ذي ثلاث مزايا مهمّة :

١ ـ إنّها قضية تحظى بأهميّة فائقة من وجهة نظر الإسلام إلى الحد الذي يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبلاغها ، وإن لم يفعل فما بلّغ رسالة الله! وبتعبير آخر فقد كانت أمراً مرادفاً لقضية النبوة ، فإن لم يؤدّها تبقى رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ناقصة!

ومن البديهي أنّهُ ليس المراد أنّ هذا أمرٌ الهيٌّ عاد وكل أمر إلهي لا يبلغ لم تبلغ رسالة الله ، فهذا الكلام من قبيل توضيح الواضح وغني عن البيان ، بينما ظاهر الآية هو أنّ القضية المشار إليها تحظى باهتمام خاص من حيث إنّها خلاصة الرسالة والنبوة.

٢ ـ إنّ هذه القضية لا تتعلق بالصلاة والصوم والحج والزكاة وما شابه ذلك من قواعد تعاليم الإسلام ، لأنّها من آيات سورة المائدة ، ونحن نعلم أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (أو من أواخر السور) أي في آواخر عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك حيث كان قد تم بيان كافة الأركان المهمّة للاسلام (٢).

__________________

(١) روى هذا الشعر جماعة من كبار علماء السنة منهم ، الحافظ «أبو نعيم الاصفهاني» ، والحافظ «أبو سعيد السجستاني» ، و «الخوارزمي المالكي» ، والحافظ «أبو عبد الله المرزباني» ، و «الكنجي الشافعي» ، و «جلال الدين السيوطي» ، و «سبط بن الجوزي» ، و «صدر الدين الحموي».

(٢) يقول الفخر الرازي في ذيل هذه الآية ، قال أصحاب الآثار أنّه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعمر بعد ـ

١٤٣

٣ ـ إنّ عبارات الآية تدلل على أنّ القضية المقصودة من الآية كانت مسألة قد اتخذ البعض ازاءها موقفا متصلباً ، ولربّما تعرضت حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الخطر بسببها ، من هنا أعلن الباري تعالى دعمه الخاص لنبيه في هذا الصدد وقال :

(وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

ثم يؤكد تعالى في نهاية الآية :

(انَّ اللهَ لَايَهدِى القَومَ الكَافِرِينَ).

وهذه العبارة بحد ذاتها دليل على المواقف السلبية لبعض المخالفين.

إنَّ مجموع هذه الامور الثلاثة التي تستنتج من الآية تؤكد على أنّ المراد منها ليس إلّا ابلاغ خلافة ووصاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم ، فمثل هذا الأمر يمكن أن يحظى بالبحث والتمعن في آواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس سائر دعائم الإسلام التي كانت قد بُينت آنذاك ، ومثل هذا الأمر باستطاعته أن يكون مرادفاً للنبوة ومماثلاً لها ، وربّما تثار الاعتراضات نتيجة لاظهار مثل هذا الأمر قبل هذا الوقت ويكمن فيه الخوف من الخطر.

إنّ أي تفسير آخر يعطى لهذه الآية عدا مايتعلق بالولاية والإمامة والخلافة ، لا ينسجم معها.

فلو طالعتم جميع كلمات المفسرين الذين أرادوا صرف مضمون الآية إلى قضايا اخرى ، لم يستطع أي منهم أن يُشير إلى الأمر الذي تؤكّد عليه الآية ، وهذا ما حدا بهم إلى أنّ يتوقفوا عن تفسيرها.

* * *

__________________

ـ نزولها إلّاأحد وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين يوماً ، التفسير الكبير ، ج ١١ ، ص ١٣٩ ؛ وجاء في تفسير المنار أيضاً وبعض الكتب الاخرى أنّ سورة المائدة جميعها نزلت في حجة الوداع (تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ١١٦) وبالطبع فقد نقل البعض بشأن عدد الأيّام أعلاه ، أقل من ذلك.

١٤٤

توضيحات

١ ـ معنى الولاية والمولى في حديث الغدير

لقد اطلعنا على حديث الغدير المتواتر بشكل إجمالي ، والعبارة المشهورة التي جاءت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الكتب وهي : «من كنتُ مولاه فعليٌ مولاه» توضح الكثير من الحقائق ، وإن أصرّ كثيرٌ من كتاب أهل السنّة على تفسير كلمة «المولى» بمعنى الصديق والمحبّ والناصر ، لأنّ هذا أحد المعاني المعروفة لـ «المولى».

ونحن نسلّم بأنّ إحدى معاني «المولى» الصديق والمحب والناصر ، إلّاأنّ ثمّة قرائن عديدة تثبت أنّ المولى في الحديث أعلاه تعني «الولي والمشرف والقائد» وهي كما يلي بإيجاز :

١ ـ إنّ قضية محبّة علي عليه‌السلام مع جميع المؤمنين لم تكن أمراً خفياً وسريا ومعقداً ، بحيث يحتاج إلى هذا التأكيد والايضاح ، وبحاجة إلى إيقاف ذلك الركب العظيم وسط الصحراء القاحلة الساخنة والقاء خطبة عليهم لأخذ الاقرارات من ذلك الجمع.

فالقرآن يقول بصريح القول : (انَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ). (الحجرات / ١٠)

وفي موضع آخر يقول : (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ). (التوبة / ٧١)

والخلاصة : إنّ الاخوة الإسلامية ومودّة المسلمين مع بعضهم من أكثر المسائل الإسلامية بداهة ، حيث كانت موجودة منذ انطلاقة الإسلام ، وطالما أكّد عليها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً بالإضافة إلى عدم كونها مسألة تحتاج إلى بيان بهذا الاسلوب الحاد في الآية ، وأن يشعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخطر من البوح بها (تأملوا جيداً).

٢ ـ إنّ عبارة : «ألَسْت اولى بكم من انفسكم» الواردة في الكثير من الروايات لا تتناسب أبداً مع بيان مودّة عادية ، بل إنّه يريد القول إنّ تلك الأولوية والصلاحيات التي لي تجاهكم وكوني نبيّكم وإمامكم وقائدكم ، فإنّ كل ذلك ثابت لعلي عليه‌السلام وأنّ أي تفسير لهذه العبارة غير ما قيل فهو بعيد عن الانصاف والواقعية ، لاسيما مع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «من أنفسكم» (أنا أولى بكم من أنفسكم).

١٤٥

٣ ـ التهاني التي قدمها من حضر في هذه الواقعة التاريخية لعلي عليه‌السلام ، لاسيما التهاني التي قدمها أبو بكر وعمر ، إذ إنّها تبرهن على أنّ القضية لم تكن سوى تعيينه للخلافة التى تستحق التبريك والتهاني ، فالاعلان عن المودة الثابتة لدى كل المسلمين بشكل عام لايحتاج إلى تهنئة.

جاء في مسند الإمام أحمد أنّ عمراً ، قال لعلي بعد خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» (١).

ونقرأُ في العبارة التي ذكرها الفخر الرازي في ذيل الآية : (يَا أَيُّها الرَسُولُ بلِّغْ مَا أُنزِلَ الَيكَ) إنّ عمراً قال : «هنيئاً لك أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومومنة ، وبهذا فإنّ عمراً يعدهٌ مولاه ومولى المؤمنين جميعاً».

وفي تاريخ بغداد جاءت الرواية بهذا الشكل : «بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كل مسلمٍ» (٢).

وجاء في «فيض القدير» ، و «الصواعق» ، أنّ أبا بكرٍ وعمراً باركا لعلي بالقول : «أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمن» (٣).

ومن نافلة القول : إنّ المودّة العادية بين المؤمنين ليست لها مثل هذه المراسيم ، وهذا لا ينسجم إلّامع معنى الولاية التي يفيد الخلافة.

٤ ـ إنّ الشعر الذي نقلناه آنفاً عن «حسان بن ثابت» بذلك المضمون والمحتوى الرفيع ، وتلك العبارات الصريحة والجلية شاهد آخر على هذا الادّعاء ، وتشير إلى هذه القضية بما فيه الكفاية (راجعوا تلك الأبيات مرة آخرى).

* * *

٢ ـ آيات أُخرى في القرآن تؤيد حديث الغدير

روى كثيرٌ من المفسرين ورواة الحديث في ذيل الآيات الاولى من سورة المعارج :

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٨١ (على ضوء نقل الفضائل الخمسة ، ج ١ ص ٤٣٢).

(٢) تاريخ بغداد ، ج ٧ ، ص ٢٩٠.

(٣) فيض القدير ، ج ٦ ، ص ٢١٧ ؛ الصواعق ، ص ١٠٧.

١٤٦

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ* مِنَ اللهِ ذِى الْمَعَارِجِ). (المعارج / ١ ـ ٣)

سبب النزول وخلاصته :

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عيَّن علياً خليفة يوم غديرخم وقال بحقه : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، فمالبث أن انتشر الخبر ، فجاء «النعمان بن الحارث الفهري» ـ (وكان من المنافقين) (١) ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : لقد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّاالله وأنّك محمد رسول الله ، فشهدنا ، ثم أمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة فقبلنا ، فلم ترض بكل ذلك ، حتى أقمت هذا الفتى «مشيراً إلى علي عليه‌السلام خليفة لك ، وقلت : مَنْ كنتُ مولاه فعليٌ مولاه فهل هذا منك أم من الله»؟ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والله الذي لا معبود سواه إنّه من الله» ، فالتفت إِليه «النعمان بن الحارث» ، وقال : «إلهي إن كان هذا حقاً منك فانزل علينا حجارة من السماء».

وفجأةً نزلت حجارة من السماء على رأسه وقتلته فنزلت آية (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

ما ورد أعلاه يطابق الرواية التي نقلت في مجمع البيان عن أبي القاسم الحسكاني (٢) وقد نقل هذا المضمون الكثير من مفسري أهل السنّة ورواة الأحاديث مع شيء من الاختلاف ، مثل : القرطبي في تفسيرهِ المعروف (٣) ، والآلوسي في تفسير روح المعاني (٤) ، وأبو اسحاق الثعلبي في تفسيره (٥).

وينقل العلّامة الأميني هذه الرواية في كتاب الغدير عن ثلاثين من علماء السنة (مع ذكر المصدر ونص العبارة) ، منها السيرة الحلبية ، «فرائد السمطين» للحمويني ، و «درر السمطين» للشيخ محمد الزرندي ، و «السراج المنير» لشمس الدين الشافعي ، و «شرح الجامع الصغير» للسيوطي ، و «تفسير غريب القرآن» للحافظ أبو عبيد الهروي ، و «تفسير

__________________

(١) جاء في بعض الروايات أنّه «الحارث بن النعمان» وفي بعضها «النضر بن الحارث».

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ٣٥٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، ج ١٠ ، ص ٦٧٥٧.

(٤) تفسير روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٥٢.

(٥) وفقاً لنقل نور الابصار للشبلنجي ، ص ٧١.

١٤٧

شفاء الصدور» لأبي بكر النقاش الموصلي ، وكتب اخرى.

وقد أورد بعض المفسرين أو المحدِّثين الذين يُقرّون بفضائل علي عليه‌السلام على مضضٍ إشكالات مختلفة على سبب النزول هذا ، أهمها الإشكالات الأربعة التالية التي أوردها صاحب تفسير المنار وآخرون بعد ذكرهم لهذه الرواية :

الإشكال الأول : إنّ سورة المعارج مكية ، ولا تتناسب مع واقعة غدير خم.

والجواب : إنّ كون السورة مكية لا يعتبر دليلاً على أنّ جميع آياتها نزلت في مكة ، فلدينا العديد من سور القرآن الكريم التي تُدعى بالمكية وكتبت في جميع المصاحف على أنّها مكية ، بيد أنّ عدداً من آياتها نزلت في المدينة ، وكذا العكس ، فعلى سبيل المثال أنّ سورة العنكبوت من السور المكية ، والحال أنّ آياتها العشر الاولى نزلت في المدينة ، على ضوء قول الطبري في تفسيرهِ المعروف ، والقرطبي في تفسيره وآخرين من العلماء (١).

أو سورة الكهف المعروفة بأنّها مكية بينما نزلت آياتها السبع الاولى في المدينة استناداً لتفسير «القرطبي» ، و «الاتقان» للسيوطي ، وتفاسير عديدة (٢).

وهكذا فهنالك سورٌ عُدَّت بأنّها مدنية بينما نزلت آيات منها في مكة ، مثل سورة «المجادلة» فهي مدنية كما هو معروف ، إلّاأنّ الآيات العشر الاولى منها نزلت في مكة ، طبقاً لتصريح بعض المفسرين (٣).

وموجز الكلام أنّه توجد حالات كثيرة بأنّ تذكر سورة على أنّها مكية أو مدنية ، ويكتب عليها في التفاسير والمصاحف هذا الاسم إلّاأنّ جانباً من آياتها قد نزل في موضع آخر.

وعليه فلا مانع أبداً من أن تكون سورة المعارج هكذا أيضاً.

الاشكال الثاني : جاء في هذا الحديث أنّ الحارث بن النعمان جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأبطح ، ونحن نعلم أنّ الأبطح اسم لوادي مكة ، ولا تتلائم مع نزول الآية بعد واقعة الغدير بين مكة والمدينة.

__________________

(١) تفسير جامع البيان ، ج ٢٠ ، ص ٨٦ ؛ وتفسير القرطبي ج ١٣ ، ص ٣٢٣.

(٢) للمزيد من الاطلاع على الموضوع ، راجعوا الغدير ، ج ١ ، ص ٣٥٦ ، و ٢٥٧.

(٣) تفسير أبي السعود الذي كتب على هامش تفسير الرازي ، ج ٨ ص ١٤٨ ؛ والسراج المنير ، ج ٤ ، ص ٣١٠.

١٤٨

الجواب : أولاً : إنّ عبارة الأبطح في بعض الروايات فقط لا في جميعها ، وثانياً : إنّ «الابطح والبطحاء» تعني الأرض الرملية التي يجري فيها السيل ، وهنالك مناطق في المدينة وسائر المناطق يطلق عليها اسم الأبطح أو البطحاء أيضاً ، واللطيف أنّه قد اشير إليها مراراً في الشعر العربي.

منها : الشعر المعروف الذي أنشده «شهاب الدين» المشهور بـ «حيص بيص» في رثائه لأهل البيت عليهم‌السلام ، عن لسانهم في مخاطبة قاتليهم :

ملكنا فكان العفو منّا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ

وحلّلتم قتل الاسارى وطالما

غدونا عن الاسرى نعفُّ ونصفحُ

ومن الواضح أنّ مقاتل أهل البيت عليهم‌السلام كانت على الأغلب في العراق وكربلاء والكوفة والمدينة ، وما أُريق دمٌ في أبطح مكة أبداً ، نعم استشهد بعض أهل البيت عليهم‌السلام في واقعة «الفخ» التي تبعد عن مكة ما يقرب من فرسخين ، والحال أنّ الأبطح يجاور مكة (١).

وشاعرٌ آخر يرثي الإمام الحسين عليه‌السلام سيد الشهداء قائلاً :

وتأنُّ نفسي للربوعِ وقد غدا

بيت النبيِّ مقطّع الاطنابِ

بيتٌ لآلِ المصطفى في كربلا

ضربوه بين اباطحٍ وروابي

وثمّة أشعار اخرى كثيرة ورد فيها تعبير «الأبطح» أو «الأباطح» لا تعني منطقة خاصة في مكة.

وملخّص الكلام ، صحيح أنّ أحد معاني الأبطح هو بقعة في مكة ، إلّاأنّ معنى ومفهوم ومصداق الأبطح لا ينحصر بتلك البقعة.

* * *

٣ ـ كيفية ارتباط هذه الآية بما قبلها وبعدها

إنّ بعض المفسرين ومن أجل مجانبة الحقيقة الكامنة في هذه الآية توسّل بمبرر آخر

__________________

(١) الغدير ، ج ١ ، ص ٢٥٥.

١٤٩

وهو : إنّ سياق الآيات السابقة واللاحقة بشأن أهل الكتاب لا تنسجم مع قضية الولاية والخلافة والإمامة ، ولا تتناسب هذه الاثنينية مع بلاغة وفصاحة القرآن (١).

إلّا أنّ كافة المطلعين على كيفية جمع آيات القرآن يعرفون أنّ آيات القرآن نزلت تدريجياً وبمناسباتٍ مختلفة ، من هنا فكثيراً ما تتحدث سورةٌ ما حول قضايا مختلفة ، فجانبٌ منها يتحدث عن الغزوة الفلانية ، والجانب الآخر حول الحكم والتشريع الإسلامي الفلاني ، وجانبٌ يخاطب المنافقين ، وآخر يخاطب المؤمنين ، فمثلاً لو طالعنا سورة النور لوجدناها تحتوي على جوانب متعددة ، كلٌ منها ناظرٌ إلى موضوعٍ ، بدءً من التوحيد والمعاد ومروراً بتنفيذ حدّ الزنا وقصة «الافك» ، والقضايا المتعلقة بالمنافقين ، والحجاب ، وغيرها ، «وكذلك سائر السور الطوال إلى حدٍ ما» بالرغم من وجود ارتباط عام بين مجموعة اجزاء السورة.

والسر وراء هذا التنوع في المحتوى ما قيل : إنّ القرآن نزل تدريجياً وحسب المتطلبات والضرورات وفي مختلف الأحداث ، وليس على هيئة كتاب كلاسيكي أبداً بحيث يتابع موضوعاً معداً سلفاً ، على هذا الأساس لا مانع على الاطلاق من أن تنزل مقاطع من سورة المائدة بشأن أهل الكتاب ، ومقاطع منها في واقعة الغدير ، بالطبع فمن وجهة النظر العامة أنّهما يرتبطان معاً إذ إنّ تعيين خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يترك أثره على قضايا أهل الكتاب أيضاً ، لأنّه سيؤدّي إلى يأسهم من انهيار الإسلام برحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

٤ ـ لماذا لم يحتج الإمام علي عليه‌السلام بحديث الغدير؟

إنَّ البعض الآخر من اللاهثين وراء التبريرات يقول : إذا كان حديث الغدير يتمتع بهذه العظمة والواقعية فلماذا لم يحتج به علي عليه‌السلام وأهل بيته وأصحابهُ ومحبوه عند الحاجة؟ ألم يكن من الأفضل أن يستندوا إلى مثل هذه الوثيقة المهمّة من أجل إثبات خلافة علي عليه‌السلام؟!

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٦ ، ص ٤٦٦.

١٥٠

إنّ هذا الإشكال شأنه شأن سائر الإشكالات فهو ناتج عن عدم الاطلاع الكافي على كتب الحديث والتاريخ والتفسير ، فلقد رويت أحاديث عديدة في كتب علماء السنّة أنّ علياً عليه‌السلام أو الأئمّة أو أنصارهم قد احتجوا بحديث الغدير ، والمدهش هو : كيف غابت عن أنظار المشككين؟.

منها ما ينقله «الخطيب الخوارزمي الحنفي» في كتابه «المناقب» عن «عامر بن وائلة» قال : كنت مع علي عليه‌السلام يوم الشورى وسمعته يقول لهم : «لاحتجن عليكم بما لايستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك ، ثم قال : أنشدكم الله أيّها النفر جميعاً أفيكم أحد وحّد الله قبلي؟ .... فانشدكم بالله هل فيكم أحدٌ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن كنتُ مولاه فعليٌ مولاه اللهمَّ والِ مَن والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغايب ، غيري» (١).

ونقل هذه الرواية الحمويني في فرائد السمطين في الباب ٥٨ ، وابن حاتم في درر النظم ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

كما روى ابن حجر في الصواعق هذا المضمون عن الدار قطني (٢).

وفي كتاب الغدير ذكر بحث شامل وبمصادر واسعة حول «مناشدة» أمير المؤمنين عليه‌السلام في مواطن عديدة ، منها أيّام عثمان ، وأبان خلافته ، يوم الجمل ، ومرّة اخرى في الكوفة يوم صفين ، بالإضافة إلى المواضع الستة عشر الاخرى المنقولة من احتجاجات فاطمة عليها‌السلام ، والإمام الحسن عليه‌السلام ، والإمام الحسين عليه‌السلام ، وجماعة من الصحابة وغيرهم ، التي تحكي عن المعلومات الواسعة لهذا الكاتب الكبير من ناحية ، ومن ناحية آخرى تبرهن على أنّ الاحتجاج بهذا الحديث كان موضع اهتمام على مدى القرون المختلفة ، بالرغم من سعي السياسات الخاصة التي كانت مهيمنة على هذه القضية في التقليل من أهميّتها قدر الإمكان.

ونظراً إلى أنّ الغور في هذه البحوث الواسعة يخرجنا عن الهدف الذي نبتغيه ، فإنّنا نكتفي بهذا المقدار ونحيل الراغبين إلى هذا المصدر (٣) وسائر المراجع.

__________________

(١) المناقب ، ص ٢١٧.

(٢) الغدير ، ص ١٦١.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٥٩ ـ ٢١٣.

١٥١
١٥٢

٢ ـ آية الولاية

الآية الاخرى التي تعقب قضية الإمامة الخاصة ، تقول :

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذيِنَ يُقِيُمونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ). (المائدة / ٥٥)

* * *

سبب النزول :

روى الكثير من المفسرين والمحدثين في سبب نزول هذه الأية أنّها نزلت بحق عليّ عليه‌السلام.

فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن ابن عباس : إنّ علياً كان راكعاً وإذا سائل فأعطاه خاتمه ، فسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الذي أَعطاك هذا الخاتم؟ فأَومأَ إلى علي عليه‌السلام وقال : ذلك الراكع ، فنزلت آية : (إنّما وليكم الله ...) (١).

وفي الكتاب نفسه رويت روايات عديدة بنفس المضمون عن «ابن عباس» ، و «سلمة بن كهيل» وعن علي عليه‌السلام نفسه (٢).

وروي المعنى نفسه في كتاب «أسباب النزول» للواحدي عن «جابر بن عبد الله» ، وكذا عن «ابن عباس» (٣).

يقول المفسر الشهير «جارالله الزمخشري» في كتاب «الكشاف» : «إنّها نزلت في

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٩٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) أسباب النزول ، ص ١٤٨.

١٥٣

علي عليه‌السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه» (١) ، وينقل الفخر الرازي في تفسيره عن «عبد الله بن سلام» : لما نزلت هذه الآية ، قلت : يارسول الله أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه.

كما ويروى عن أبي ذر قوله : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أعطاني أحد شيئاً ، وعلي عليه‌السلام كان راكعاً فأوما إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «اللهم إنّ أخي موسى سألك فقال : رب اشرح لي صدري ـ وأشركه في أمري فأنزلت قرآنا ناطقاً «سنشدُّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً» فنزلت الآية (٢).

وبطبيعة الحال فإنّ للفخر الرازي ـ وكالعادة ـ شبهات على كيفية دلالة هذه الآية على الإمامة حيث سنشير إليها لاحقاً.

ويروي الطبري أيضاً في تفسيره روايات عديدة في ذيل هذه الآية وسبب نزولها ، إذ تفيد أكثرها أنّ هذه الآية نزلت بحق علي عليه‌السلام (٣).

وأوردت طائفة اخرى هذه الرواية بعبارات مختلفة في حق علي عليه‌السلام ، منها في كنز العمال ج ٦ ، ص ٣١٩ حيث ينقل هذه الرواية عن ابن عباس.

كما ينقل «الحاكم الحسكاني» الحنفي النيشابوري من علماء القرن الخامس المعروفين في «شواهد التنزيل» بخمسة طرق عن «ابن عباس» ، واثنين عن «انس بن مالك» ، ومثلهما عن «محمد بن الحنفية» ، وواحد عن «عطاء بن السائب» ، ومثله عن «عبد الملك بن جريح المكي» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آية «إنّما وليكم الله «نزلت بحق علي عليه‌السلام عندما تصدق بخاتمه وهو راكع (٤).

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ٦٤٩.

(٢) تفسير الكبير ، ج ١٢ ، ص ٢٦.

(٣) تفسير جامع البيان ، ج ٦ ، ص ١٨٦.

(٤) للمزيد من الاطلاع على الطرق المذكورة ، راجعوا شواهد التنزيل ص ١٦١ ـ ١٦٨.

١٥٤

ونقل المرحوم العلّامة الأميني هذه الرواية ونزول هذه الآية بحق علي عليه‌السلام عن كثير من كتب السنّة فقارب العشرين كتاباً (مع ذكر دقيق لمصادرها ووثائقها) ، وبإمكان الراغبين مراجعة ذلك الكتاب للمزيد من الاطلاع (١).

ونقل هذا المعنى في كتاب احقاق الحق عن كثير من الكتب (٢).

والأمر اللطيف الآخر هو أنّ شاعر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروف «حسان بن ثابت» أورد هذه القضية في شعره على أنّها مسألة تاريخية مُسلّم بها.

فهو يقول في شعره مخاطباً علياً عليه‌السلام :

وأنت الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاً

زكاةً فدتكَ النفس ياخير راكعِ

فانزل فيك الله خير ولاية

وَبَيّنها في محكمات الشرائعِ (٣)

ونقرأ في القصيدة الاخرى التي رواها «سبط بن الجوزي» عن «حسان» :

منْ ذا بخاتمه تَصدَّقَ راكعاً

واسرَّها في نفسه اسرارا! (٤)

وموجز القول : إنّ نزول هذه الآية بحق علي عليه‌السلام ليس بالأمر الذي يُشككُّ أو يرتاب فيه حتى أنّ مؤلف «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة» ، يقول : لقد نقلت روايات «متظافرة» بل متواترة عن طرق أهل السنّة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام بهذا الصدد. والمهم هو تبيين كيفية دلالتها على الولاية وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

كيفية دلالة الآية على الخلافة :

لقد استند في الآية المذكورة على مفهوم كلمة «الولي» ، وذكر الإمام علي عليه‌السلام على أنّه

__________________

(١) الغدير ، ج ٢ ، ص ٥٢ و ٥٣.

(٢) احقاق الحق ، ج ٢ ، ص ٣٩٩ ـ ٤٠٧.

(٣) روي شعر حسان بن ثابت في كثير من الكتب باختلاف بسيط ، منها في تفسير روح المعاني ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي وكتب اخرى.

(٤) تذكرة الخواص ، ص ١٠ ، ونقله الكنجي الشافعي أيضاً في كفاية الطالب ص ١٢٣ وعد قائليه بعدة شعراء.

١٥٥

ولي المسلمين ، صحيح أنّ لكلمة الولي معانِيَ عديدة كما أشرنا إليها آنفاً ، فتارة تعني الناصر والصديق ، واخرى جاءت بمعنى المتصرّف والحاكم المشرف وكما يقول الراغب : إنّ أصلها بمعنى أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما ثم يضيف : «الولاية» بكسر الواو بمعنى «النصرة» و «الولاية» بفتح الواو تعني تولي الأمر (١).

أمّا القرينة الموجودة في الآية فهي تدلّ على أنّ «الولي» هنا تعني المتولي والمشرف وصاحب الخيار لأنّها لو كانت تعني الناصر والصديق والمعين لشملت المؤمنين جميعاً ، كما نقرأ في الآية : (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). (التوبة / ٧١)

بَيدَ أنّ الولاية في آية البحث اعتبرت منحصرة في حالة خاصة بذلك المتصدق في ركوعه ، وكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر جاءت معها (تأملوا جيداً).

إنّ هذا التعبير يجعلنا نتيقن بأنّ (الولاية) في الآية الآنفة الذكر لا تعني الصداقة والنصرة (وكذا سائر المعاني المشابهة والقريبة لهذا المعنى) ، وعلى هذا الأساس فلا مجال إلّاأن تكون بمعنى المتولي وصاحب الأمر المشرف ، الذي توازي ولايته ولاية الله والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والآية التالية : (وَمَنْ يَتَولَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ).

وحقيقة هذه الآية أنّها تتمّة لمضمون الآية المذكورة ، وتلاحظ فيها قرينة اخرى على تفسير الولاية بمعنى تولي الأمر والاشراف ، لأنّ التعبير بـ «حزب الله» وانتصارهم على الأعداء يتعلق بإقامة حكومة إسلامية لا على أساس الصداقة العادية ، وهذا يفيد أنّ كلمة الولي في الآية تعني المشرف والحاكم والماسك بزمام امور الإسلام والمسلمين ، لانّ معنى «الحزب» هو ضربٌ من التنظيم والتضامن الاجتماعي من أجل تأمين اهداف مشتركة.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة (ولي) وذكر البعض ٢٧ معنى للمولى (الغدير ، ج ١ ، ص ٣٦٢) إلّاأنّ اصول معانيها ذانك المعنيان والبقيّة ترجع إليهما.

١٥٦

شبهات واعتراضات :

إنّ دلالة الآية على الإمامة والخلافة ـ كما رأينا ـ واضحةٌ ، ولو كانت هذه الآية قد نزلت بحق الآخرين ربّما لم يجرِ حولها أَدنى جدال! ولكن لكونها قد نزلت بحق علي عليه‌السلام ولا تنسجم مع الغاية الناشئة عن الطائفية ، فقد أصر البعض على إيراد الشبهات على صدر الآية وذيلها وسبب نزولها ودلالتها من كل جانب.

ويمكن تصنيف هذه الشبهات إلى صنفين : فبعضها ذات صبغة علمية ظاهراً فيجب الرد عليها بصورة علمية ، إلّاأنّ البعض يستند إلى ما يُستَشَهدُ بهِ ، وكذلك وجود المبررات حسب زعم مثيريها فينبغي أيضاً بحثها ونقدها بشكل إجمالي :

١ ـ الشبهة الاولى التي تعتبر من الصنف الأول هي أنّ الضمائر والأسماء الموصولة التي في الآية جاءت بصيغة ضمير الجمع ، مثل «الذين آمنوا» و «الذين يقيمون الصلاة» و «يوتون الزكاة» و «هم راكعون» فكيف والحالة هذه تنطبق على فردٍ واحدٍ.

فالآية تقول : إنّ أولياءكم هم الذين يتمتعون بهذه المزايا أي علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

والجواب : بالنظر إلى أن سبب نزول الآية الذي نقل بشكل مستفيض بل متواتر في كتب الشيعة والسنّة لم يبق مجال للشكّ في أنّها ناظرةٌ إلى شخص واحد ، وبتعبير آخر : إنّ الروايات والتاريخ الإسلامي يشهد بأنّ التصدق على السائل في حال الركوع يختص بعلي عليه‌السلام لأنّ القائم بالتصدّق واحد ، ولم تقم به مجموعة ، من هنا لابدّ من القول : إنّ التعبير بصيغة الجمع جاء من أجل احترام وتعظيم منزلة ذلك الشخص.

وكثيراً ما يُشاهد في الأدب العربي أنّ لفظ الجمع جاء تعبيراً عن المفرد ، فمثلاً جاءت كلمة «نسائنا» في آية المباهلة بصورة الجمع ، بينما المقصود منها فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقط طبقاً لصريح سبب النزول ، وفي نفس الآية جاءت كلمة«أنفسنا» بصيغة الجمع ، والحال أنّ الجميع يسلّمون بأنّ لا أحد شارك في المباهلة غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام ، وجاء في القرآن أيضاً في قصة «غزوة حمراء الأسد» : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران / ١٧٣)

١٥٧

وهنا ذكر الناطق بهذا الكلام كلمة «الناس» التي تفيد الجمع بينما جاء في التاريخ أنّ القائل ليس سوى «نعيم بن مسعود».

وجاء أيضاً بشأن نزول الآية : (فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ...). (المائدة / ٥٢)

إذ نعلم هنا أنّها نزلت بشأن «عبد الله بن أبي» ، والحال أنّ الضمائر هنا جاءت بصيغة الجمع.

كما أنّ الخطاب في الآية الاولى من سورة الممتحنة عامٌ بينما نزلت بشأن رجل يدعى «حاطب بن أبي بلتعة» ، وفي الآية التالية جاء الضمير بصيغة الجمع أيضاً : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعنا إِلَى المَدِينَة ...) بينما كان القائل هو «عبد الله بن أُبى. (المنافقون / ٨)

وكذلك في الآية : (الَّذِينَ يُنِفقُونَ امَوَالَهُمْ بِالَّليلِ وَالنَّهَارِ). (البقرة / ٢٧٤)

التي نزلت في حق علي عليه‌السلام طبقاً للكثير من الروايات ، بينما ضمائرها جميعاً جاءت بصيغة الجميع.

وجاءت الآية ٢١٥ من سورة البقرة المتعلقة بالسؤال عن الأشياء التي يجب أن ينفقوها : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) بصيغة الجمع بينما كان السائل هو شخص يدعى «عمرو بن الجموح» (١).

ولكن ما السبب في أن يأتي الكلام بصيغة الجمع في هذه الحالات مع أنّ المراد شخص واحد؟ ربّما يكون سببه في بعض الحالات ، الاحترام ، وفي بعضها إشارة إلى مؤازرة الآخرين لذلك الشخص ، وبالتمعّن في الحالات أعلاه يمكن تمييز حالات الاحترام عن حالات المؤازرة.

فضلاً عن كل ذلك فنحن نعلم أنّ ضمير الجمع «المتكلم مع الغير» قد استخدم في آيات القرآن في حالات لا حصر لها أثناء حديث الله عن نفسه ، مع أنّ ذاته المقدّسة لا نظير لها في الوحدانية والتفرد ، وهو «أحد واحد» من جميع الجوانب ، وهذا مرده إلى أنّ العظيم يمتلك جنوداً مطيعين وممثلين لأوامره في أداء ما يشاء ، وهذا يؤدّي إلى استخدام ضمير الجمع مع

__________________

(١) للمزيد من الاطلاع على مصادر هذه الروايات ، يراجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٢١٥ من سورة البقرة.

١٥٨

كونه مفرداً ، وبتعبير آخر أنّ ضمير الجمع هذا دليلٌ على عظمته وسمو مقامه.

٣ ـ الشبهة الثانيه هي أنّ من المُسلَّم به أنّ علياً عليه‌السلام لم تكن له ولاية بمعنى الحكم وقيادة المسلمين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يتعين تفسير الآية هكذا؟ الجواب عن هذا السؤال واضح ، فكثيراً ما شاهدنا خلال التعابير اليومية بأنّ يطلق اسم أو عنوان على أشخاص مرشحين أو منتخبين لذلك المنصب وإن لم يمارسوا العمل به بعد ، أو بتعبير آخر : إنّهم يتمتعون بذلك المقام بالقوة لا بالفعل.

فمثلاً يقوم إنسان في حياته بتعيين شخص ما «وصياً» له ، وبالرغم من كونه حياً فإننانقول : إنّ فلاناً وصيّه أو القيِّم على أطفاله.

فإطلاق الوصي والخليفة على علي عليه‌السلام في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من هذا القبيل أيضاً ، حيث اختاره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته لهذا الأمر بإذنٍ من الله ، وأثبت له الخلافة بعد رحيله.

ويلاحظ هذا المعنى أيضاً في الآية الكريمة إذ يطلب زكريا من الله تعالى : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً). (مريم / ٥)

واستجاب الله له ووهبه يحيى ، ومن المسلم به أنّ يحيى لم يكن خليفته ووليه ووارثه في حياته ، بل عُيّنَ لما بعد حياته.

ويشاهد نظير هذا الكلام في واقعة «يوم الانذار» (اليوم الذي جمع به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرباءَه ليدعوهم إلى الإسلام للمرة الاولى) ، فطبقاً لما ذكره «المؤرخون» الإسلاميون سواء من السنّة أو الشيعة ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أومأ إلى علي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم وقال :

«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوه» (١).

فهل يتسبب التعبير أعلاه في خلق مشكلة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فلا شكّ في أنّ الجواب سيكون بالنفي ، فالتعبير بالولي في آية البحث هو كما أشرنا إليه. أمّا شبهات الفريق الثاني (التبريرات) فهي عديدة أيضاً منها :

١ ـ قولهم : أي زكاة واجبة كانت متعلقة بذمة علي عليه‌السلام وهو الذي لم يكن يجمع لنفسه

__________________

(١) روى هذا الحديث الكثير من علماء السنّة مثل ، ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي والثعلبي والطبري ، وأورد ابن الأثير هذا الكلام في ج ٢ من كتاب الكامل ، وكذلك «أبو الفداء» في الجزء الأول من تاريخه ، وجماعة آخرون (للمزيد من الاطلاع انتظروا البحوث الآتية).

١٥٩

من مال الدنيا أي شيء؟ وإذا كان المراد الصدقة المستحبة فلا يقال لها زكاة؟

الجواب : أولاً : إنّ موارد إطلاق الزكاة في القرآن الكريم على الزكاة المستحبة كثيرة ، فكثيراً ماورد في العديد من السور المكية اسم «الزكاة» والمراد منها الزكاة المستحبة ، إذ إنّ وجوبها كان بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

والآيات ٣ من سورة النمل ، و ٣٩ من سورة هود ، و ٤ من سورة لقمان من جملة الموارد التي جاءت فيها كلمة الزكاة ، ونظراً لكون هذه السور مكية فإنّ المراد هو الزكاة المستحبة.

ثانياً : صحيح أنّ علياً عليه‌السلام لم يدخر من مال الدنيا إلّاأنّه كانت تأتيه حصة من بيت المال ، ومن المتيقن أنّه كان يمتلك وارداً بسيطاً من مجهوده أيضاً ، وأنّ الخاتم المذكور من الفضة والظاهر أنّه كان رخيصاً ، على هذا الأساس فإنّ تعلق هذا القدر من الزكاة البسيطة به عليه‌السلام ليس مستبعداً أبداً ، وأنّ المبالغة بما قالوه بشأن قيمة ذلك الخاتم لا أساس لها من الصحة على الاطلاق.

ثالثاً : ألا يتعارض الانتباه إلى السائل مع حضور القلب في الصلاة والاستغراق في مناجاة الخالق جل وعلا مع القول السائد عنه : (حتى عرف بأنّ نصلاً وقع في رجله فأخرجوه أثناء الصلاة ولم يُحسّ) (١) فكيف يتسنى له الانتباه إلى السائل أثناء الصلاة؟!

الجواب : إنّ الذي يورد هذا الإشكال غافل عن سماع صوت السائل ومساعدته فما قام به عليٌّ عليه‌السلام لا يعتبر توجها إلى غير الله ، أو إلى الذات أو الامور الدنيوية ، بل إنّه في واقع الأمر توجّه إلى الله.

فقد كان القلب المقدس لعلي عليه‌السلام يشعر بالسائلين ، ويستجيب لندائهم فقد مزج عمله العبادي هذا بعبادة اخرى ، وتصدق أثناء الصلاة ، وكلاهما كان لله وفي سبيله.

ومثل هذا الإشكال في الحقيقة إشكال على القرآن الكريم ، لأنّ الله تعالى قد امتدح في هذه الآية اعطاء الزكاة أثناء الركوع ، ولو كان هذا العمل دليلاً على الغفلة عن ذكر الله فلا ينبغي أن يستند إليها كصفة سامية وفائقة الأهميّة.

__________________

(١) نص الرواية هكذا ، روي أنّه وقع نصلٌ في رجله فلم يُتَمكن من اخراجه فقالت فاطمة عليها‌السلام أخرجوه في حال صلاته فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه حينئذٍ فأُخرج وهو في صلاته (المحجة البيضاء ، ج ١ ، ص ٣٩٨ ـ احقاق الحق ، ج ٢ ، ص ٤١٤).

١٦٠