نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

الإمام المهدي عليه‌السلام

تمهيد :

على العكس مما يتصوره بعض الجهلة فإنّ الاعتقاد بقيام المهدي عليه‌السلام وحكومته العالمية ، لا يختص فقط بالشيعة واتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، بل إنّ جميع الفرق الإسلامية دون استثناء يعتقدون بظهور رجل من ذرية الرسول في آخر الزمان يسمى المهدي ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، ونقلوا رواية هذا الموضوع في كتبهم عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد كُتبت مصنفات كثيرة وذكرت روايات عديدة في هذا الصدد على أيدي علماء السنّة والشيعة سنشير إلى بعضٍ منها في الأبحاث القادمة.

هذه الروايات من الروايات المتواترة والقطعية وأيّدها جميع المحققين من الإسلاميين ـ بصرف النظر عن مذاهبهم الخاصة ، باستثناء عدد محدود مثل «ابن خلدون» ، و «أحمد أمين المصري» اللذان شككا في صدور هذه الروايات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبين ايدينا مجموعة من القرآئن الدالة على أنّ الباعث الذي حملهم على هذا السلوك لم يكن ضعف الروايات ، بل لعلهم كانوا يتصورون بأنّ الروايات المتعلقة بظهور المهدي تنطوي على الخارق من العادات بحيث لا يسعهم تصديقها بسهولة.

هذا في الوقت الذي وافقت على ذلك أكثر الفرق الإسلامية تعصباً لاسيما الوهابيون ، واعترفوا بتواتر أحاديثه.

والشاهد على هذا الادّعاء بيان صدر قبل عدّة سنوات من قبل رابطة العالم الإسلامي

٣٢١

الواقعة بشدة تحت نفوذ الوهابيين وحكومة آل سعود ، جواباً على سؤالٍ موجهٍ لهم بشأن ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام.

وكان هذا البيان بمثابة جواب لأحد أهالي (كينيا) باسم «أبو محمد» وبتوقيع الامين العام «لرابطة العالم الإسلامي» «محمد صالح القزاز» ، وقد ورد في هذا البيان مايلي :

انَّ «ابن تيمية» مؤسس مذهب الوهابيين يؤيد الأحاديث المتعلقة بالمهدي عليه‌السلام. وقد تطرق البيان بعد ذلك إلى الرسالة التي اعدها خمسة من علماء الحجاز المعروفين في هذا الشأن : ونقرأ في مقطع من هذه الرسالة :

(عندما يظهر الفساد في العالم وينتشر الكفر والظلم ، سوف يملأ الله تعالى العالم عدلاً بـ (المهدي) كما مليء ظلماً وجوراً ، وأنه آخر الخلفاء الراشدين الاثنى عشر الذين أخبر عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب الصحاح المعتبرة ....)

وقد نقل الكثير من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأحاديث المتعلقة بالمهدي ، ومن جملتهم : عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب ، طلحة بن عبيد الله ، عبد الرحمن بن عوف ، عبد الله بن عباس ، عمار بن ياسر ، عبد الله بن مسعود ، أبو سعيد الخدري ، ثوبان ، قرة بن اياس المزني ، عبد الله بن الحارث ، أبو هريرة ، حذيفة بن اليمان ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، أبو امامة ، جابر بن ماجد ، عبد الله بن عمر ، أنس بن مالك ، عمران بن الحصين ، وام سلمة.

وهؤلاء عشرون شخصاً ممن نقلوا روايات المهدي ، ويوجد كثير غيرهم.

كما نقلت أحاديث كثيرة حول ظهور المهدي عبر أولئك الصحابة أنفسهم بما يمكن اعتبارها من ضمن الروايات النبوية ، لأنّ هذه المسألة ليست بالتي يمكن الاجتهاد حولها (ولذلك فإنّ الصحابة سمعوا بها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

ثم يضيف : إنّ هاتين المسألتين ـ أي روايات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وروايات الصحابة التي لها هنا حكم الحديث ـ وردتا في الكثير من المتون الإسلامية المعروفة وكتب الحديث الرئيسية فضلاً عن (السنن) و (المعاجم) و (المسانيد).

ومن جملتها (سنن أبي داود ، سنن الترمذي ، ابن ماجة ، ابن عمرو ، مسند أحمد ، وابن

٣٢٢

ليلى ، والبزاز ، وصحيح الحاكم ، ومعاجم الطبراني ، والدارقطني ، وأبو نعيم ، والخطيب البغدادي ، وابن عساكر وغيرهم.

ثم يضيف : ولأهميّة هذه القضية كتب وألّف البعض من علماء المسلمين كتباً خاصة بموضوع أخبار المهدي ، من ضمنهم (أبو نعيم الاصفهاني) في [أخبار المهدي] و (ابن حجر الهيثمي) في [القول المختصر في علامات المهدي المنتظر] والشوكاني في [التوضيح في تواتر (ما) جاء في المنتظر والدجال والمسيح] و (ادريس العراقي المغربي) في كتاب [المهدي] وأبو العباس ابن (عبد المؤمن المغربي) في كتاب [الوهم المكنون في الرد على ابن خلدون].

يضيف بعد ذلك : وقد صرح قسم من علماء المسلمين الكبار ـ قديماً وحديثاً ـ في تأليفاتهم بأنّ الأحاديث المتعلقة بالمهدي وصلت إلى حد التواتر (ولهذا فهي غير قابلة للانكار).

ومن جملة هؤلاء (السخاوي) في كتاب [الفتح المغيث] ومحمد بن أحمد السفاويني في [شرح العقيدة] ، وأبو الحسن الابري في [مناقب الشافعي] ، وابن تيميه في كتاب فتاواه ، والسيوطي في [الحاوي] ، وادريس العراقي في كتابه ، والشوكاني في [التوضيح] ، ومحمد جعفر الكناني في [نظم التنافر].

ويقول في نهاية هذا المبحث : إنّ (ابن خلدون) فقط حاول النيل من أحاديث المهدي ولكن سادة الدين وعلماء المسلمين ردّوا أقواله ، وبعض آخر مثل (ابن عبد المؤمن) ألّفوا كتباً خاصة في الرد عليه.

وخلاصة القول : إنّ حفظة الحديث وعظماء الشريعة قد صرحوا بأنّ أحاديث المهدي تشتمل على روايات صحيحة وحسنة تؤدي بمجموعها إلى التواتر.

ويستنتج في الختام : (وبناءً على ذلك فإنّ الاعتقاد بظهور المهدي يعتبر واجباً على كل مسلم ، وهو جزء من عقائد أهل السنّة والجماعة ، ولا ينكر ذلك إلّاكل جاهل أو مبتدع) (١).

__________________

(١) من الرسالة المؤرخة في ٢١ مايو ١٩٧٦ التي جاءت بتوقيع مدير المجمع الفقهي الإسلامي محمد منتظر ـ

٣٢٣

ومن الضروري أيضاً الإشارة إلى هذا المطلب ، أنّه حسب اعتقاد طائفة من المحققين ، فإنّ الاعتقاد بوجود المهدي لا يقتصر على المسلمين فقط ، بل إنّ سائر اتباع المذاهب الاخرى أيضاً في انتظار مصلح كبير لهذا العالم ، وقد اشير إلى هذا المعنى في مصادرهم المختلفة ، وللتعرف على الشرح الوافي لهذا الموضوع لابدّ من مطالعة الكتب المصنّفة بشأن ظهور المهدي (١).

* * *

والآن ومع الأخذ بنظر الاعتبار اسلوب مباحث الكتاب التي تدور حول محور التفسير الموضوعي ، ننتقل إلى الآيات التي تشير إلى هذا الظهور الكبير :

١ ـ حكومة الصالحين في الأرض

نقرأ في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكرِ انَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصّالِحُونَ* انَّ فِى هَذَا لَبَلَاغَاً لِّقَومٍ عَابِدِينَ). (الأنبياء / ١٠٥ ـ ١٠٦)

تأتي هذه الآيات بعد الآيات التي تبيّن الأجر الاخروي للصالحين ، وفي الواقع فانها تكشف عن الاجر الدنيوي لهم ، وهو أجرٌ مهمٌ جداً ، ذلك أنّه يهيء أرضية السعادة وتطبيق أحكام الله تعالى ، وصلاح ونجاة المجتمع الإنساني.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «الأرض» بمعناها المطلق تشمل كل الكرة الأرضية ، وجميع أنحاء العالم (إلّا إذا كانت هناك قرينة خاصة) ، فإنّ هذه الآية تعدّ بشارةً بخصوص الحكومة العالمية للصالحين ، وإذ لم يتحقق هذا المعنى في الماضي ، فلابدّ من انتظار تحققه في المستقبل ، وهذا هو نفس الشيء الذي نتوخاه تحت عنوان «الحكومة العالمية للمهدي».

__________________

ـ الكناني ، وهي الرسالة التي جاءت نتيجة مباحثة المذكور مع أربعة أشخاص آخرين من فقهاء الحجاز المعروفين وهم ، الشيخ صالح بن عثيمين ، والشيخ أحمد محمد جمال ، والشيخ أحمد علي ، والشيخ عبد الله الخياط.

(١) بإمكانكم مراجعة كتاب ثورة المهدي العالمية بهذا الشأن.

٣٢٤

وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام أيضاً إذ تقول الآية : ولقد كتبنا هذا الوعد في كتب الأنبياء السابقين أيضاً ، وهذه إشارة إلى أنّ هذا الوعد ليس وعداً جديداً ، بل إنّه امرٌ متجذر ورد في المذاهب الاخرى أيضاً.

والمراد بـ «الزبور» على الأقوى نفس «زبور داود» ، وهو عبارة عن مجموعة من المناجاة ، والأدعية ، ونصائح داود النبي المذكورة في كتب العهد القديم (الكتب الملحقة بالتوراة) باسم «مزامير داود».

واللطيف أنّه ـ بالرغم من كل التحريفات التي طالت كتب العهد القديم بمرور الزمان ـ فإنّ هذه البشارة الكبيرة يمكن ملاحظتها بشكل واضح في نفس هذا الكتاب أي «مزامير داود».

ونقرأ في المزمور / ٣٧ الجملة / ٩ : (... لأن الأشرار سينقطعون ، وأمّا المتوكلون على الرب فسيكونون ورثة الأرض ، وحالاً يختفي الأشرار ، وكلما بحثت عنهم فسوف لن تجد لهم أثراً).

وجاء في الجملة / ١١ : (أما المتواضعون فقد ورثوا الأرض ، وهم يتلذذون من وفور النعمة).

وورد المعنى نفسه أيضاً في الجملة / ٢٧ من نفس المزمور بالعبارة التالية : (لأنّ مباركي الرب سيرثون الأرض ، اما ملعونوه فسوف يتقطعون).

وجاء في الجملة / ٢٩ : (فالصديقون ورثوا الأرض ، وسيسكنونها أبداً).

ومن الواضح أن التعابير السابقة من قبل «الصديقون» ، «المتوكلون» «المتبركون» و «المتواضعون» إشارة لعبارة «عبادي الصالحون» التي وردت في القرآن الكريم.

والمراد من «الذكر» في الآية الآنفة ، الذكر حسب اعتقاد الكثير من مفسّري التوراة ، وتشهد على ذلك الآية : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرقَانَ وَضِياءً وَذِكرى لِلّمُتَّقِينَ). (الأنبياء / ٤٨)

واحتمل البعض الآخر أنّ المراد من «الذكر» ، «القرآن» ، وجميع كتب الأنبياء السابقين

٣٢٥

من «الزبور» ، (وبناء على ذلك فإنّ معنى الآية يصبح بهذا الشكل : لقد كتبنا هذه البشارة في جميع كتب الأنبياء السابقين بالاضافة «للقرآن»).

وعلى أيّة حال فإنّ هذه البشارة قد جاءت أيضاً في قسم من ملحقات التوراة مثل كتاب «النبي اشعياء» كما نقرأ ذلك في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب :

«الاذلاء بعدالة الحكم ، وستكون الأرض حقاً نكالاً «ورمزاً لليقظة» للمساكين ... حزام ظهرها العدل ... ونطاق وسطها سيكون الوفاء ... سيسكن «سيأنس» الذئب مع الشاة ... وسيكون الطفل الصغير راعيها ... لأن الأرض ستمتليء من علم الله ، كما تمتليء البحار من المياه).

كما تلاحظ مثل هذه الإشارات في كتاب التوراة نفسه أيضاً من جملتها : الفصل / ١٣ رقم ١٥ : (سنعطي الأرض إلى واحد من أولاد إبراهيم. ولو عد أحد ذرات غبار الأرض لعدَّ ذريته).

وجاء في الفصل / ١٧ الجملة / ٢٠ : (اعطيته «إسماعيل» بركتي واربيته (ابناؤه) إلى أقصى غاية وسيظهر منه اثنا عشر سيداً وامّة عظيمة).

لاحظوا الجملة الثانية عشر فانه سيبعث السرور ممّا يدل على أنّ الأئمّة الاثني عشر كلهم من ذريته وأولاده.

وفي الفصل / ١٨ الجملة / ١٨ : (سيتبارك منه جميع أقوام الدنيا ...).

وهناك تعابير واشارات اخرى من هذا القبيل لو اردنا ذكرها لطال بنا المقام.

* * *

لقد وردت هذه المسألة بشكل صريح في الروايات الإسلامية أيضاً ـ بالإضافة إلى الإشارات الواضحة لمسألة قيام المهدي عليه‌السلام في الآية السابقة ، ومنها أنّ المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» نقل في نهاية هذه الآية عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : «هم أصحابُ المهديِّ في آخر الزَّمانِ».

٣٢٦

وجاء في تفسير القمي أيضاً في نهاية هذه الآية مايلي : «قال القائمُ وَاصحابُه».

ليس من شك في أنّه من الممكن أن يقيم عباد الله الصالحون حكومة على جزء من الأرض ، كما حصل في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض الأعصار الاخرى ، إلّاأنّ استقرار الحكومة بأيدي الصالحين على وجه الأرض كلها ستحصل في عصر المهدي عليه‌السلام فقط ، وهناك روايات كثيرة بلغت حد التواتر ، وقد وردت عن طرق السنّة والشيعة بهذا الصدد.

كما أنَّ «الشيخ منصور علي ناصف» مؤلف كتاب «التاج الجامع للاصول» ـ وهو كتاب يضم الاصول الخمسة المعروفة لدى السنّة ، وقد كتب علماء الازهر تقاريض مهمة عليه ـ أورد في الكتاب المذكور ما يلي : «اشتهر بين العلماءِ سَلَفاً وخَلَفاً انَّهُ في آخِر الزمانِ لابدَّ من ظهورٍ لرجلٍ من أهلِ البيت مُسَمّى المهدي يستولي على الممالكَ الإسلاميةِ ويتَّبعُهُ المسلمونَ ويَعدِلُ بينهم ويؤيِّدُ الدين».

ثم يضيف قائلاً : «وقد روى أحاديث المهدي جماعة من خيارِ الصَّحابةَ ، واخرَجَها أكابرُ المَحَدّثين : كابي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والطبراني ، وأبي يعلي والبزاز والإمام أحمد والحاكم (١).

لم يستطع حتى ابن خلدون المعروف بمخالفته لأحاديث المهدي ، انكار شهرة هذه الأحاديث بين جميع علماء الإسلام أيضاً (٢).

ومن الذين أوردوا تواتر هذه الأخبار في كتبهم «محمد الشبلنجي» العالم المصري المعروف في كتاب «نور الأبصار» إذ يقول : «تواتُرِ الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنَّ المهدي من أهل بيتهِ وأَنّه يملأ الأرضَ عدلاً».

لقد ورد هذا التعبير في الكثير من الكتب الاخرى أيضاً ، حتى أنّ «الشوكاني» من علماء السنّة المعروفين يقول في كتاب ألَّفَهُ حول تواتر الأحاديث المرتبطة بالمهدي عليه‌السلام ، وخروج الدجال ، وعودة المسيح عليه‌السلام ، بعد بحثٍ مفصّل بشأن تواتر الأحاديث المتعلقة بالمهدي عليه‌السلام :

__________________

(١) التاج الجامع للُاصول ، ج ٥ ص ٣٤١ (ورد هذا المطلب كهامش في تلك الصفحة).

(٢) ابن خلدون ، ص ٣١١.

٣٢٧

«هذا يكفي لمن كان عندَهُ ذرَّةٌ من الإيمان وقليل من انصافٍ» (١).

ومن المستحسن هنا أن نذكر على الأقل بعضاً من روايات النخبة الواردة في أشهر المصادر الإسلامية كنموذج من هذا البيدر :

١ ـ ينقل «أحمد بن حنبل» من أئمّة السنّة الاربعة في كتابه «مسند أحمد» عن «أبو سعيد الخدري» أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تقوم الساعَةَ حتى تمتلأ الأرض ظلماً وعدواناً ، قال ثم يخرجُ رجلٌ من عترتي او مِنْ أهل بيتي يملأها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَتْ ظلماً وعدواناً» (٢).

٢ ـ ونقل الحافظ أبو داود السجستاني نفس هذا المعنى في كتابه «السنن» مع فارق ضئيل (٣).

٣ ـ نقل الترمذي المحدّث المعروف بسند صحيح (طبقاً لتصريح منصور علي ناصف في التاج) عن عبد الله ، عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لو لم يبقَ من الدنيا إلّايومٌ لطوَّلَ اللهُ ذلك اليومَ حتى يبعثَ رجلاً منّي أو من أهل بيتي يواطيُ اسمَهُ اسمي ، واسم ابيهِ اسم ابي (٤) ، يملأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً ، كما مُلئَتْ ظلماً وجوراً» (٥).

وأورد الحاكم النيسابوري في «المستدرك» ما يشبه هذا الحديث مع فارق قليل ، ويقول في نهايته : هذا حديث صحيح (٦).

٤ ـ ونقل أيضاً في صحيح «أبي داود» عن امّ سلمة أنّها قالت : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه كان يقول : «المهديُّ من عترتي من ولدِ فاطمَةَ» (٧).

__________________

(١) نقلاً عن كتاب التاج ، ج ٥ ، ص ٣٦٠.

(٢) مستدرك أحمد ، جملة ٣ ، ص ٣٦.

(٣) سنن أبي داود ، ج ٤ ص ١٥٢.

(٤) صرّح بعض العلماء الكبار أنّ الصحيح هنا ، اسم ابيه اسم ابني ، وبهذا الشكل يكون موافقاً تماماً للاسم المبارك للامام المهدي حسب اعتقاد الشيعة أي (محمد بن الحسن العسكري).

(٥) التّاج ، ج ٥ ، ص ٣٤٣.

(٦) المستدرك ، ج ٤ ، ص ٥٥٨.

(٧) صحيح أبي داود ، ج ٢ ، ص ٢٠٧.

٣٢٨

٥ ـ نقل الحاكم النيسابوري في المستدرك ، حديثاً أكثر تفصيلاً بهذا الشأن عن أبي سعيد الخدري عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ينِزِلُ بأُمتي في آخِرِ الزمانِ بلاءٌ شديد من سلطانهِمْ ، لم يُسمع بلاءٌ اشدّ منه ، حَتّى تضيقَ عَنْهُمُ الأرضُ الرَّحْبَةُ ، وحتى يملأُ الأرضَ جوراً وظَلماً ، لا يجدُ المؤمنُ مَلْجأً يَلتَجِأُ اليهِ مِنَ الظلْمِ فيبعثُ اللهُ عزَّ وجَلَّ رجُلاً من عترتي ، فيمَلأُ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلَئِتْ ظُلماً وَجَوراً ، يرضى عنه ساكن السماء وساكنُ الارضِ ، لا تدَّخِرُ الأرضُ مِنْ بَذرها شَيْئاً الّا اخْرَجَتْهُ ، ولا السماءُ من قطرها شيئاً الّا صَبَّهُ اللهُ عليهم مدراراً» (١).

وبعد ذكر هذا الحديث يقول الحاكم : هذا حديث صحيح وبالرغم من أنّ «البخاري» و «مسلم» لم يورداه في كتبهما.

ومثل هذه الأحاديث ـ الواردة عن مختلف الرواة من المصادر المشهورة ـ كثيرة جدّاً ، وتشير إلى الحكومة العالمية التي ستقام في نهاية المطاف على اليد المقتدرة الكفوءة للإمام المهدي عليه‌السلام ، ويملأ العدل والقسط كل مكان ، ويتحقق بالتالي مضمون الآية السابقة : (أنَّ الأرضِ يَرثُها عباديَ الصالحون).

٢ ـ آية سورة النور

نقرأ في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِىِ الارْضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلُيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ امْناً يَعْبُدُونَنِى لَايُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ). (النور / ٥٥)

لقد بُشر المؤمنون الصالحون في هذه الآية المباركة وبشكل صريح ، أنّهم سيمسكون زمام السلطة والحكومة على الأرض في نهاية المطاف ، وسيُنشر الدين الإسلامي ، وستتبدل حالات اللا أمن والخوف إلى الاستقرار والأمن ، وتُقلع جذور الشرك في جميع أنحاء العالم ،

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ، ج ٤ ، ص ٤٦٥.

٣٢٩

ويتمكن عباد الله من مواصلة عبادة الله الواحد الأحد بكل حرية ، وتتم الحجّة على الجميع ، بحيث لو أنّ أحداً أراد أن يواصل مسير الكفر سيكون فاسقاً ومقصراً ، (أرجو أن تتأملوا في القسم الأخير من الآية بدقّة).

وبالرغم من أنّ هذه الامور الهامة كانت تعد وعداً إلهياً تحقق في عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأزمنة اللاحقة من بعده بنحو أوسع للمسلمين في العالم ، وعاد الإسلام الذي كان يوماً ما تحت قبضة الأعداء يعاني من وطأة الظلم بحيث لم يسمحوا له بأدنى فرصةٍ للظهور والبروز على الساحة ، ويعيش المسلمون في حالة دائمة من الخوف والفزع ، عاد في نهاية المطاف وانتشر ليس في شبه جزيرة العرب فحسب ، بل عمَّ أجزاءً عظيمة واسعة من العالم ، وانكفأ الأعداء منهزمين في جميع الجبهات ، ولكن بالرغم من هذا كله ، فإنّ حكومة الإسلام العالمية التي يجبُ أن تعمّ كافة أرجاء المعمورة وآفاق الأرض ، وتقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان بشكل نهائي ، وتنشر الأمن والآمان والهدوء والحرية والتوحيد الخالص ، لم تتحقق بعد ، إذن يجب انتظار تحقق هذا الأمر.

سيتحقق هذا الأمر طبقاً لما ورد في الرواية المتواترة التي أشرنا إليها آنفاً في عصر قيام المهدي عليه‌السلام ، وبناءً على ما تقدم فإنّ احدى مصاديق هذه الآية تحقق في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأعصار المقارنة له ، وسيتحقق شكله الأوسع في عصر قيام المهدي عليه‌السلام ، ولا منافاة بين هذين الأمرين ، ولابدّ من تحقق هذا الوعد الإلهيّ في كلا المرحلتين.

المراد من الاستخلاف هنا خلافة الأقوام الكافرة الماضية ، إذ تزول فيها حكومتهم وتحل محلها حكومة الحق ، نظير ما جاء في قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلَائِفَ فِى الارْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). (يونس / ١٤)

وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيتين ٦٩ و ٧٤ من سورة الأعراف.

وبناءً على ذلك ، فالذين تصوروا أنّ الآية تعد دليلاً واضحاً على خلافة الخلفاء الأربعة ـ أمثال الفخر الرازي ـ باعتبار أنّ أولئك هم الذين استخلفوا الرسول ، وأنّ الوعد الإلهيّ قد تحقق في عصرهم ، إنّما وقعوا في الخطأ ، لأنّ هذه الآية لا يراد بها خلافة الرسول ، بل خلافة

٣٣٠

الأقوام السابقة كما ورد ذلك في الآيات الثلاثة الآنفة الذكر ، وكما ورد في قوله تعالى : (وَاوْرَثنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الارْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا). (الأعراف / ١٣٧)

من البديهي أنّ بني اسرائيل ورثوا الفراعنة وسيطروا على جميع أنحاء ذلك البلد الواسع الملي بالبركات (مصر وأطرافها).

على أيّة حال فإنّ الآية تُبشر بقيام حكومة المؤمنين الصالحين في جميع أنحاء العالم ، تلك الحكومة التي تحقق مقدار واسع منها في عصر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ، وهي وإن لم تعمُ جميع العالم ، إلّاأنّها كانت نموذجاً على تحقق هذا الوعد الإلهي ، ولكن لم تتحقق بعد على هيئة حكومة عالمية تعمّ أرجاء المعمورة ، والمصداق النهائي لها سوف يتحقق بقيام حكومة الإمام المهدي عليه‌السلام مع توفر الأرضية والظروف بمشيئة الله تعالى ، إذ ستُملأ الدنيا عدلاً وقسطاً طبقاً لما ورد في الروايات الصادرة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، ونحن بانتظار تحقق هذا الوعد القرآني.

والروايات الواردة في المصادر المختلفة في تفسير هذه الآية تؤكد وتؤيد هذه المسألة أيضاً.

ومنها إنّ المفسّر المعروف «القرطبي» ينقل في تفسير «الجامع لاحكام القرآن» في نهاية هذه الآية عن «سليم بن عامر» ، عن «المقداد بن اسود» ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما على ظهر الأرض بيتُ حجرٍ ولا مدرٍ إلّاأدخَلَهُ الله كَلِمَةَ الإسلام» (١).

وفي تفسير «روح المعاني» نُقل عن «الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام» أنّه قال في تفسير هذه الآية : «هم والله شيَعتُنا أهل البيتِ يُفعَلُ ذلِكَ بهمْ على يَدِ رَجُلٍ منّا وهو مهديُّ هذه الامّة وهو الَّذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبقَ من الدنيا إلّايوم واحد لطوَّلَ الله تعالى ذلك اليومَ حتى يِلِيَ رجلٌ من عترتيِ اسمُهُ اسمي يملأُ الأرضَ عدلاً وقسِطاً كما مُلِئَتْ ظلماً وجَوراً».

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٧ ص ٤٦٩٢.

٣٣١

ويمكن مشاهدة هذا المعنى باختلاف قليل في الكثير من مصادر أهل البيت عليهم‌السلام.

وبالرغم من أنّ «الآلوسي» لم يقيمّ هذا الحديث برأي ايجابي في تفسير «روح المعاني» ، إلّاأنّه يقول في نهايته :

وردت عدّة روايات عن طرقنا تؤيد هذا المعنى ـ وإن لم نعوّل عليها ـ كرواية «عطية» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن تلا هذه الآية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أهل البيت هاهنا وأشار إلى القبلة» (١).

وينقل القرطبي حديثاً آخر بهذا الشأن أيضاً أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «زُوِيَتْ لي الأرضُ فَرأَيتُ مشارِقَها ومغارِبَهَا وسيبلُغ مِلْكُ امَّتي ما زويَ لي منها» (٢).

يتّضح من كل ما أسلفناه ، الجواب عن الكثير من مؤآخذات المخالفين لمنطق اتباع أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير هذه الآية.

وتوضيح ذلك : إنّه كما قلنا سابقاً : إنّ تحقق هذا الوعد الإلهي له عدّة مراحل ، واحدى هذه المراحل حصلت مع المؤمنين الصالحين في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ بعد فتح مكة وسيطرة الإسلام على الجزيرة العربية ، شعر المسلمون في ظل الإسلام والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمنٍ نسبي واستولوا على جزء عظيم من المنطقة ، وتحقق بذلك ما ورد بشأن نزول هذه الآية.

(وقد ورد سبب نزول هذه الآية في العديد من التفاسير ، ومنها أسباب النزول ، ومجمع البيان ، وفي الظلال ، والقرطبي (باختلاف بسيط) ، أنّه عندما هاجر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون إلى المدينة واستقبلهم الأنصار بأحضانهم ، نهض العرب بأجمعهم ضدهم ، بحيث إنّهم اضطروا إلى عدم مفارقة اسلحتهم ، فينامون الليل بالسلاح ، ويستيقظون الصبح مع السلاح ، وكان الاستمرار على هذه الحالة يثقل على المسلمين ، وأخذ بعضهم يتساءل إلى متى ستستمر هذه الحالة؟ هل سيأتي زمان ننام فيه الليل براحة بال واطمئنان ، ولا نخشى احداً سوى الله؟ فنزلت هذه الآية ، وبشرت بقرب حلول هذا الوقت).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ذيل آية مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، ذيل آية مورد البحث.

٣٣٢

والمرحلة الاخرى لهذا الوعد ، حصلت في زمن الخلفاء إذ سيطر الإسلام على أجزاء واسعة من العالم وأخضعها لسلطته ، فعادت على المسلمين بمزيد من الأمن والاستقرار.

إلّا أنّ المرحلة الثالثة والنهائية أي عالمية الإسلام وحاكميته المطلقة على العالم المتزامنة مع الأمن والاستقرار وانتصار جيش التوحيد على معسكر الشرك ولم يتحقق بعد ، وسيقتصر تحققهُ على عصر قيام المهدي عليه‌السلام فقط ، وهذه المعاني الثلاثة التي تمثل سلسلة مراحل لحديثٍ واقعي لا توجد بينها أيّة منافاة.

كما يستفاد من هذه الآية أيضاً ، أنّ هذا الوعد الإلهيّ يختص بالأفراد الذين يمتلكون الإيمان والعمل الصالح ، ويقيناً كلما تحقق هذان الشرطان وفي أي عصر ومصر سوف تتهيّأ للمسلمين احدى مراحل هذه الحاكمية الإلهيّة ، وبالمقابل كلما حدثت هزيمة ما ، وعاد المسلمون أذلاء ضعفاء في قبضة الأعداء ، يجب أن نعلم بأنّ ذينك الأساسين اللذين يمثلان شرطي تحقق الوعد الإلهيّ قد طوتهما صحف النسيان ، فالإيمان عاد ضعيفاً ، والاعمال آلت ملوثة!

* * *

٣ ـ آية ظهور الحق

نقرأ في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِى ارسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ). (التوبة / ٣٣)

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية تأتي بعد آية : (يُرِيدُونَ انْ يُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِافواهِهِم وَيَأَبَى اللهُ الَّا انْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).

وأعطى الله في هذه الآيات ـ كما في الآيات السابقة ـ الوعد في غلبة وانتصار الإسلام على كافة الأديان في العالم.

وحول السؤال القائل : ما هو المقصود بانتصار الإسلام على كافة الأديان؟ اعطى المفسرون عدّة احتمالات.

٣٣٣

فالفخر الرازي يعطي خمسة تفاسير هنا تعد جواباً على الاسئلة المرتبطة بكيفية هذه الغلبة :

١ ـ المقصود بالغلبة هو الغلبة النسبية والموضعية ، ذلك إنّ الإسلام انتصر بمنطقه على جميع الأديان والمذاهب.

٢ ـ المراد هو الانتصار على الأديان في الجزيرة العربية.

٣ ـ المراد إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع الأديان الإلهيّة (فسّرت جملة «ليظهره» هنا بمعنى الإخبار).

٤ ـ المراد النصر والغلبة المنطقية ، أي أنّ الله ينصر منطق الإسلام على سائر الأديان.

٥ ـ المراد النصر النهائي على جميع الأديان والمذاهب عند نزول عيسى عليه‌السلام وقيام المهدي عليه‌السلام إذ سيصبح الإسلام عالمياً.

ولا شك بأنَّ تفسير الآية بالنصر المنطقي وبصورة وعدٍ مستقبلي لا ينطوي على مفهوم صحيح ، لأنّ النصر المنطقي للإسلام كان واضحاً منذ البداية ، إضافة إلى ذلك فإنّ مادة «الظهور» و «الاظهار» (ليظهره على الدين كُلِّهِ) وكما يستفاد من موارد استعماله في القرآن المجيد ، بمعنى الغلبة الخارجية والعينية كما نقرأ ذلك في قصة أصحاب الكهف : (انَّهُم انْ يَظْهَرُوا عَليَكُم يَرجُمُوكُم). (الكهف / ٢٠)

ونقرأ في قوله تعالى : (كَيفَ وَانْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرقُبُوا فِيكُم الًّا وَلَا ذِمَّهً). (التوبة / ٨)

ومن البديهي أنّ عَبَدة الأصنام من قوم أصحاب الكهف ، ومشركي مكة لم ينتصروا منطقياً على المؤمنين بالله اطلاقاً ، واقتصرت غلبتهم على الغلبة الخارجية فقط ، وبناءً على هذا فإنّ المراد بغلبة الإسلام على جميع الأديان هي الغلبة الخارجية والعينية ، وليس الغلبة المنطقية والفكرية.

إنَّ هذه الغلبة ـ وكما ورد نظير ذلك في البحث الماضي ـ لها مراحل مختلفة :

حصلت احدى مراحلها في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومرحلتها الأوسع حصلت في القرون

٣٣٤

التالية ، ومرحلتها النهائية ستحصل عند قيام المهدي عليه‌السلام ، لأنّ الآية الشريفة تتحدث عن غلبة الإسلام على جميع الأديان دون أي قيد وشرط ، والغلبة المطلقة دون أي قيد أو شرط إنّما تتحقق بشكل كامل عندما تلقي ظلالها على جميع أرجاء المعمورة ، كما ورد في رواية رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : «لا يبقى على ظهر الأرض بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ الّا أدخَلَهُ اللهُ كلمة الإسلامِ» (١).

ونقل شبيه هذا المعنى في تفسير «الدرّ المنثور» عن «سعيد بن منصور ، و «ابن المنذر» و «البيهقي» في سننه عن «جابر بن عبد الله» أنّه قال في تفسير هذه الآية :

«لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ صاحبُ ملةٍ الّا الإسلام» (٢).

أجل سيتحقق هذا الوعد الكبير في ذلك اليوم الكبير.

ونقل هذا المعنى عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية السابقة ، إذ قال : «والله ما نزل تأويلها بَعْدُ ولا ينزلُ تأويلها ، حتى يخرُجَ القائمُ ، فاذا خرجَ القائمُ لم يبق كافرٌ بالله العظيم» (٣).

وهذه الملاحظة على جانب من الأهميّة إذ إنّ الآية : (هُوَ الَّذِى ارسَلَ رسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الّدِينِ كُلِّهِ) قد ورد في ثلاث سورٍ من القرآن : الاولى في التوبة الآية ٣٣ (كما مرَّ سابقاً) ، والثانية في سورة الفتح الآية ٢٨ ، والثالثة في سورة الصف الآية ٩.

هذا التكرار يبيّن أنّ القرآن المجيد قد تابع هذه المسألة بتأكيد متزايد.

ونقرأ في حديث آخر نُقل في مصادر السنّة عن أبي هريرة : المقصود من الآية : (لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، خروج عيسى بن مريم عليه‌السلام (ونحن نعلم أنّ خروج عيسى ابن مريم عليه‌السلام وطبقاً لما ورد في الروايات الإسلامية سيكون أثناء قيام المهدي عليه‌السلام) (٤).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، الآية التي نحن بصددها.

(٢) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٣١.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١٢.

(٤) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٣١.

٣٣٥

ونختم هذا البحث بحديث منقول عن «قتادة» المفسّر المعروف ، إذ يقول في تفسير هذه الآية : «الأديانُ ستَّةٌ : الَّذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئون ، والنصارى ، والمجوس ، والذين اشركوا ، فالأديان كُلُّها تدخل في دين الإسلام» (١).

ومن الواضح أنّ هذا المعنى لم يتحقق بَعْدُ بشكل نهائي ، ولن يتحقق إلّافي عصر قيام المهدي عليه‌السلام.

وهذه الملاحظة جديرة بالاهتمام أيضاً ، وهي : أنّ المقصود بزوال الديانة اليهودية والمسيحيّة ليس بشكل كامل ، بل المقصود حاكمية الإسلام على العالم اجمع (تأملوا جيداً).

* * *

آثار انتظار المهدي عليه‌السلام :

تصوّر بعض الجهلة أنّ انتظار ظهور المهدي عليه‌السلام بناءً على الآيات والروايات الآنفة ، يمكن أن يتسبب في الركود والتخلف ، أو الهروب من تحمّل أعباء المسؤوليات ، والاستسلام أمام الظلم والاضطهاد ، ذلك أنّ الاعتقاد بهذا الظهور الكبير يعني في مفهومه اليأس وقطع الأمل في إصلاح العالم قبله ، بل وحتى الاعانة على انتشار الظلم والفساد لكي تتهيأ الأرضية المناسبة لظهوره!

لقد مرّت سنوات عديدة وألسن المخالفين والمنكرين لقيام المهدي عليه‌السلام تتناول هذا الحديث ، وأشار إلى ذلك ابن خلدون ، في الوقت الذي تعد هذه المسألة على العكس من ذلك تماماً ، وأنّ انتظار هذا الظهور الكبير له آثار بناءة جداً ، سنشير إليها لاحقاً بشكل سريع ومختصر ، كي يتّضح أنّ مثل هذا الحكم يعدُ حكماً متسرعاً وغير دقيق أمام مسألة اشير إليها في القرآن المجيد ، وكذلك في الأحاديث المتواترة الواردة في الكتب المعروفة للسنّة ، والمصادر المشهورة للشيعة ، ومبيّنة بشكل صريح.

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٣١.

٣٣٦

حقيقة الانتظار وآثاره البناءة :

لقد كان الحديث يدور حول حقيقة الإيمان بظهور المهدي عليه‌السلام ببرنامجه العالمي الذي يملأ بموجبه العالم عدلاً وقسطاً ويقطع جذور الظلم والاضطهاد ، فهل لتلك الحقيقة آثار تربوية بناءة أم آثار سلبية؟

وهل أنّ الإيمان بمثل هذا الظهور يحمل الإنسان على الاستعراض في افكار تخيلية بحيث يغفل عن واقعه المعاش ويجعله مستسلماً أمام كل الظروف؟

أم أنّ ذلك في حالة صحة هذه العقيدة يعد نوعاً من الدعوة للثورة وبناء الفرد والمجتمع؟ هل يبعث على التحرك أم الركود؟

هل يخلق روح تحمّل المسؤولية أم يكون داعياً إلى الهروب من اعباء المسؤوليات؟! وأخيراً : هل هو عامل مخدّر أم منبّه؟

ولكن قبل توضيح ومتابعة هذه الاسئلة ، يعدُ الالتفات إلى هذه النقطة أمراً ضرورياً جدّاً ، وهي : أنّ أفضل القوانين وارقى المفاهيم إذا وقعت في ايدي الأفراد غير الكفوئين أو غير اللائقين أو الانتهازيين يمكن أن تتعرض إلى المسخ الشديد ، بحيث تعطي نتائج مغايرة للهدف الأصلي تماماً ، وتتحرك بالاتّجاه المضاد منها ، ولهذه القضية نماذج كثيرة ، ومسألة «الانتظار» وبالنحو الذي سنراه في عداد هذه المسائل.

وعلى أيّة حال فإنّ التخلّص من كافة أنواع الخطأ في الحساب في مثل هذه الأبحاث ، لابدّ ـ كما يقال ـ من أخذ الماء من مصدره ، لكي لا يُؤثر فيه التلويث المحتمل للأنهار والقنوات التي يمرُ فيها الماء خلال مسيره.

أي إنّنا سنتوجه في بحث مسألة «الانتظار» مباشرةً نحو المصادر الإسلامية الأصلية ، ونُخضع مضامين الأحاديث المختلفة التي تؤكد على مسألة «الانتظار» للبحث والتحقيق ، كي نصل إلى الهدف الأساسي.

والآن تأمّلوا في هذه الطائفة من الروايات بدقّة :

١ ـ سأل سائل من الإمام الصادق عليه‌السلام : ماذا تقول فيمن مات وهو على ولاية الأئمّة

٣٣٧

بانتظار ظهور حكومة الحق؟

فقال الإمام عليه‌السلام في جوابه : «هو بمنزلة مَنْ كان مع القائم عليه‌السلام في فسطاطِه ـ ثم سكت هنيئَةً ـ ثم قال : هو كَمَنْ كانَ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونُقل هذا المضمون نفسه في روايات كثيرة وبتعابير مختلفة.

٢ ـ وجاء في بعضٍ منها : «بمنزلة الضاربِ بسيفهِ في سبيل الله».

٣ ـ وفي البعض الآخر : «كمَنْ قارَعَ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسيفِهِ».

٤ ـ وفي البعض الآخر : «بمنزلةِ مَنْ كانَ قاعداً تحت لِواءِ القائمِ».

٥ ـ وفي البعض الآخر : «بمنزلةِ المجاهِدِ بين يديْ رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٦ ـ وفي البعض الآخر : «بمنزلةِ مَنْ استشهِدَ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

انَّ هذه التشبيهات السبعة الواردة في هذه الروايات الستّة بشأن انتظار ظهور المهدي عليه‌السلام ، تكشف عن هذه الحقيقة ، بوجود نوع من الرابطة والتشابه بين مسألة «الانتظار» من جهة ، و «الجهاد» ، ومقاتلة الأعداء بأعلى صورة من جهة اخرى (تأملوا).

٧ ـ ورد انتظار مثل هذه الحكومة أيضاً في روايات متعددة ، واشير إليه على أنّه أفضل العبادات.

ونقل هذا المضمون في بعض الأحاديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي البعض الآخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ونقرأ في حديث أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أَفضَلُ اعمالِ امَّتي انتِظارُ الفرجِ من اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (٢).

ونقرأ في حديث آخر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَفضَلُ العبادَةِ انتظارُ الفرج» (٣).

وهذا الحديث سواء نظرنا فيه إلى مسألة انتظار الفرج بالمعنى الواسع للكلمة أو بالمفهوم الخاص لها أي بمعنى انتظار ظهور المصلح العالمي الكبير ، يُوضّح أهميّة الانتظار في بحثنا هذا.

__________________

(١) محاسن البرقي طبقاً لنقل بحار الأنوار ، ج ١٣ ، ص ١٣٦.

(٢) اصول الكافي بناءً على نقل بحار الأنوار ، ج ١٣ ، ص ١٣٧.

(٣) اصول الكافي بناءً على نقل بحار الأنوار ، ج ١٣ ، ص ١٣٦.

٣٣٨

كل هذه التعابير تقول بأجمعها إنّ الانتظار يعد ثورة مقرونة بشكل مستمر بالجهاد الواسع الشامل ، اجعلوا هذه المسألة نصب أعينكم كي ننتقل إلى مفهوم الانتظار ، ثم نستخلص النتيجة من مجموع هذه المفاهيم.

مفهوم الانتظار :

«الانتظار» : يُطلق عادةً على حالة من يشعر بعدم الارتياح من الوضع الموجود ، ويسعى من أجل ايجاد وضع أفضل.

ومثله كمثل المريض الذي ينتظر تحسن حالته ، أو الأب الذي يعيش حالة انتظار عودة ولده من السفر ، أو مَن يشعر بعدم الارتياح من مرض أو فراق الولد ويسعى من أجل وضعٍ أفضل.

وكذا الحال بالنسبة للتاجر الذي يشعر بعدم الارتياح من وضع السوق المضطرب ويعيش الانتظار كي تنتهي الأزمة الاقتصادية ، فانه يعيش كلا الحالتين «عدم الانسجام مع الوضع الموجود» ، و «السعي من أجل وضعٍ أفضل».

وبناءً على ذلك فإنّ مسألة انتظار حكومة الحق والعدالة للامام «المهدي» وقيام المصلح العالمي مركّبة في الواقع من عنصرين ، عنصر «النفي» وعنصر «الإثبات». ويمثل عنصر النفي عدم الانسجام مع الوضع الموجود ، ويمثل عنصر الإثبات السعي من أجل الحصول على الوضع الأفضل.

وإن حلّت هاتان الخصلتان بصورة متجذرة في روح الإنسان فستكونان مصدراً لنوعين من الأعمال الواسعة الشاملة.

وهذان النوعان من الاعمال يتمثلان بترك أي نوع من أنواع التعاون والانسجام مع عوامل الظلم والفساد ، وحتى النضال والاشتباك معها من جهة ، وبناء الذات واعدادها والمحافظة عليها من الزلل ، واكتساب الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية من أجل تبلور تلك الحكومة العالمية والشعبية الموحّدة من جهة اخرى.

٣٣٩

ولو تأملنا جيداً نرى أنّ كلاً منها يعدُ بنّاءً وعامل تحرّكٍ ووعيٍ ويقظة.

ومع أخذ المفهوم الأساس «للانتظار» بنظر الاعتبار يمكن أن نُدرك جيدا معنى الروايات المتعددة التي نقلناها آنفاً بشأن البشارة ، ونتيجة عمل المنتظرين. والآن نفهم لماذا عُدَّ المنتظرون الحقيقيون أحياناً كالذين مع المهدي عليه‌السلام في فسطاطه ، أو تحت لوائِهِ ، أو كالضارب بسيفه في سبيل الله ، أو المتشحط بدمه ، أو المستشهد؟

أليست هذه الحالات إشارة إلى المراحل المختلفة ، ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدالة ، والتي تتناسب مع مقدار الاستعداد ودرجة انتظار الأفراد؟

أَي ، كما أنّ ميزان تضحية المجاهدين في سبيل الله ودورهم متفاوت فيما بينهم ، فإنّ الانتظار وبناء الذات والاستعداد له درجات متفاوتة أيضاً ، بحيث إنّ كلاً منها يتشابه مع ما يقابلها من حيث «المقدمات» و «النتيجة» ، فكلاهما يمثلان الجهاد ، وكلاهما يريدان الاستعداد وبناء الذات ، فمن كان في فسطاط قائد مثل تلك الحكومة أي في مركز القيادة العامة لحكومة عالمية لا يسعه أن يكون فرداً غافلاً وغير مبال ، لأنَّ ذلك المكان ليس لكائن مَنْ كان ، إنّه مكان أولئك الذين يليقون حقاً بتلك المنزلة والأهميّة.

وكذلك فإنّ الذي يحمل السلاح بيده ويقاتل بين يدي قائد هذه الثورة ضد المخالفين لحكومته ، حكومة الصلح والسلام والعدالة ، لابدّ وأن يمتلك استعداداً روحياً وفكرياً وقتالياً عالياً.

ولغرض المزيد من الاطلاع على الآثار الواقعية لانتظار ظهور المهدي عليه‌السلام نرجو الالتفات إلى التوضيح التالي :

الانتظار يعني الاستعداد التام :

لو كنت ظالماً ومضطهداً كيف يمكن أن أنتظر فرداً تكون دماء الظلمة طعمة لسيفه؟

لو كنت ملوثاً نجساً كيف بوسعي أن أكون في انتظار ثورةٍ ستأتي شرارتها على حضائر النجسين والملوثين؟

٣٤٠