نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

الولاية التكوينية للأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام

تمهيد :

نحن نعلم أنّ الولاية على نحوين :

١ ـ الولاية التشريعية.

٢ ـ الولاية التكوينية.

المراد من الولاية التشريعية هو الحكم والاشراف القانوني والإلهي الذي يكون تارة بشكل محدود كولاية الأب والجد على الصغير ، وتارة بشكل واسع وشامل كولاية الحاكم الإسلامي على كافة القضايا المتعلقة بـ «الحكومة» و «إدارة شؤون الامّة الإسلامية» ، حيث سيأتي بحث ذلك بشكل مفصل في «الجزء العاشر من نفحات القرآن» إن شاء الله تعالى.

أمّا المراد من الولاية التكوينية ، فهي : قدرة الإنسان على التصرف في عالم الخلق والتكوين بأمر الله وإذنه ، والإتيان بأفعال خارقة للعادة والنواميس الطبيعية لعالم الأسباب ، فمثلاً يبريء المريض الذي لا علاج له بإذن الله ، وذلك من خلال الهيمنة والنفوذ الذي وهبه الله تعالى له ، أو يحيي الموتى ، وأعمال اخرى من هذا القبيل ، وكل أشكال التصرف المعنوي غير الاعتيادي في أرواح وأجسام البشر ، وهذا النوع يشمل الطبيعة أيضاً.

وربّما تكون لـ «الولاية التكوينية» أربع حالات بعضها «مقبولة» وبعضها «غير مقبولة».

١ ـ «الولاية في أمر الخلقة وخلق العالم» : بمعنى أنّ الله تبارك وتعالى يمنح عبداً من عباده أو ملكاً من ملائكته قدرة خلق العوالم أو محوها من الوجود ، ومن المسلَّم به أنّ هذا الأمر ليس مستحيلاً ، لأنّ الله على كل شيء قدير وقادرٌ على منح أي نحو من القدرة لأي إنسان ، بَيدَ أنّ آيات القرآن تؤكّد في كل المواضع على أنّ خلق عالم الوجود والسموات

١٢١

والأرضين والجن والانس والملائكة والنباتات والحيوانات والجبال والبحار قد حصل بقدرة الله جلّ وعلا ، لا عن طريق عباده الخاصين أو ملائكته ، لذا فقد نسب الخلق إليه في جميع الأحوال ، ولم ينسب هذا الأمر إلى غيره «بنحو واسع» في أي موضع أبداً ، وعليه فإنّ خالق السموات والأرضين والنبات والحيوان والإنسان هو الله وحده.

٢ ـ «الولاية التكوينية في ايصال الفيض» : بمعنى أنّ كل إمداد ورحمة وبركة وقدرة من قبل الله تعالى تصل إلى عباده أو سائر الكائنات في عالم الوجود بواسطة أولياء الله وخاصة عباده ، كمياه الشرب بالنسبة للبيوت في مدينة ما التي تمر من خلال الانبوب الرئيس وهذا الانبوب الكبير يستلم المياه من مصدرها ويوصلها إلى جميع النقاط ، ويعبر عنه بـ «الواسطة في الفيض».

وهذا المعنى ليس محالاً أيضاً من الناحية العقلية ، ويشاهد نموذجه في العالم الصغير ، وبناء الإنسان ، وتوزيع المواد الغذائية على الخلايا كافّة عن طريق شريان القلب ، فما المانع من ذلك في العالم الكبير أيضاً؟

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ إثباته بحاجة إلى دليل مقنع ، وإذا ما ثبت فهو بإذن الله تعالى.

٣ ـ «ولاية تكوينية في حدود معينة» : كإحياء الموتى وشفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم ونحو ذلك.

وقد وردت نماذج من هذا النوع من الولاية بشأن بعض الأنبياء في القرآن الكريم بصراحة حيث سيشار إليها لاحقاً ، والروايات الإسلامية شاهد على ذلك أيضاً ، من هنا فإنّ هذا الفرع من الولاية التكوينية ليس ممكناً من ناحية العقل فحسب ، بل هنالك أدلة نقلية عليه أيضاً.

٤ ـ «الولاية التي تعني الدعاء من أجل تحقيق المطالب» : ويأتي ذلك بقدرة الله تعالى ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المعصوم يدعو فيتحقق ما طلبه من الله تعالى.

وهذا المعنى ليس فيه أي محذور عقلي ولا نقلي ، وأنّ الآيات والروايات مليئة بنماذج منه ، بل ربّما لا يمكن اطلاق اسم الولاية التكوينية عليه لأنّ استجابة دعائه تأتي من قبل الله تعالى.

١٢٢

ويشاهد في الكثير من الآيات إشارات إلى الـ «الاسم الأعظم» الذي كان لدى الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام أو بعض أولياء الله (من غير الأنبياء والأئمّة) ، ومن خلاله كانوا يستطيعون التصرف بعالم التكوين.

وبغض النظر عن المراد من «الاسم الأعظم» ـ الذي بحثناه بشكل مفصّل في بحث صفات الله ـ فإنّ مثل هذه الروايات ربما تكون ناظرة إلى القسم الثالث من الولاية التكوينية وتنطبق عليه بشكل تام.

* * *

بهذه الإشارة نعود إلى بعض آيات القرآن في هذا المجال «الولاية التكوينية» :

١ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتَّوراةَ وَالإِنجِيلَ* وَرَسُولاً الَى بَنِىِ اسْرائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُم انِّى اخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيْرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَابرِىءُ الاكْمَهَ وَالابْرَصَ وَاحْىِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَانْبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرونَ فِى بُيُوتِكُم انَّ فِى ذَلِكَ لَايَةً لَّكُمْ انْ كُنْتُم مُّؤمِنِينَ). (آل عمران / ٤٨ ـ ٤٩)

٢ ـ (فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيثُ اصَابَ). (ص / ٣٦)

٣ ـ (قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ انَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرتَدَّ اليكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذا مِنْ فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُأَمْ اكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ). (النمل / ٤٠)

في الآية الاولى يدور الحديث أولاً عن الألطاف الإلهيّة بحق عيسى عليه‌السلام حيث (وَيُعَلِّمُهُ الِكَتابَ وَالحِكَمةَ وَالتَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ).

ثم بعثه كرسول إلى بني اسرائيل ، «وَرَسُولاً الَى بَنى اسرائِيلَ» ، ومن ثم يشرح كلام المسيح عليه‌السلام في إثبات حقانيته وبيان معاجزه التي تم بيانها في خمس مراحل :

يقول في الاولى : : (أَنِّى قَدْ جِئتكُمُ بِآيَةٍ مِّن رَبِّكُمْ أَنِّى اخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطّيِنِ كَهَيْئَةِ الطَّيرِ فَانْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِاذنِ اللهِ).

١٢٣

وفي الثانية والثالثة : (وَأَبرِىءُ الاكمَهَ وَالابرَصَ).

والرابعة : (وَأُحْىِ المَوتَى بِإذنِ اللهِ).

والخامسة : (وَانبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرونَ فِى بُيُوتِكُم انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ انْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنيِنَ).

إنّ التمعُّن في مضمون هذه الآيات والتفاوت في التعابير المستعملة فيها ، يوضح هذه المسألة وهي : أنّ المسيح عليه‌السلام ينسب خلق الطير من الطين إلى الله تعالى ، بينما في الأقسام الثلاثة الاخرى ينسب (شفاء الأعمى ، والأبرص ، وإحياء الموتى) إلى نفسه ، ولكن باذن الله وأمره ، وهذا هو المقصود من الولاية التكوينية ، حيث إنّ الله تعالى قد يمنح مثل هذه القدرة للانسان بحيث يؤثر في عالم الخلق والطبيعة بأمره ، ويخرق الأسباب الطبيعية ، فيحيي الميت ويشفي المرضى الذين يستحيل علاجهم.

هذا النموذجٌ من الولاية التكوينية التي وهبها الله تبارك وتعالى لعبده المسيح عليه‌السلام ، ولامانع أو حائل ابداً دون اعطاء مثل ذلك لسائر الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وإذا قال قائلٌ : إنّ مقصود هذه الآية هو أنّ المسيح عليه‌السلام كان يدعو فيبرىء الله المريضَ ، أو يحيى الميت ، فقد نطق بما يخالف ظاهر الآية ، لأنّ الآية تقول بوضوح : «بِإِذنِ الله» أي إنني أفعل ولكن تحقيق الفعل بإذن الله ، وليس هنالك من دليل لترك هذا والبحث عن معنى يخالف الظاهر.

بل ليس هنالك مانع أيضاً في مرحلة خلق الطير من أنْ يلقي الله تعالى هذا الأثر في فم عيسى عليه‌السلام فيكون القيام بمثل هذا العمل بإذن الله ، بَيدَ أنّ بعض المفسرين لم يقتنعوا بهذا المعنى وقالوا : إنّ خلق الطير مستندٌ إلى الله مباشرة ، ولعلّ هذا القول يأتي لئلا يدعي الجهلاء الوهية المسيح ، لأنّ أمر الخلقة متعلقٌ به وحده :

وورد شبيه هذا المعنى أيضاً في سورة المائدة ، غاية الأمر أنّ الخطاب صادر من قبل الله تعالى للمسيح عليه‌السلام لا على لسان المسيح عليه‌السلام ، فيقول تعالى :

(وَاذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بِاذْنى وَتُبرِىءُ الاكْمَهَ

١٢٤

وَالْأَبرَصَ بِإِذْنِى وَاذْ تُخْرِجُ المَوتَى بِإِذْنىِ). (المائدة / ١١٠)

والملفت للنظر هو أنّ اختلاف التعبير الذي كان في سورة آل عمران ظاهرٌ بدقّة هنا أيضاً ، أي لم تُنسب مسألة الخلق وخلق الطير إلى المسيح عليه‌السلام ، ولكن نُسبَ إليه احياء الموتى وشفاء المرضى والعمي الذين يستحيل علاجهم ، وإنْ جاء التعبير بإذن الله في كل ذلك.

وملخص الكلام أنّ هذه الآيات تثبت بأنَّ الولاية التكوينية لعيسى عليه‌السلام هي في نطاق خاص ، وليس هنالك دليلٌ على اختصاصها المطلق بالمسيح عليه‌السلام ، ويمكن أن تصدق بحق سائر الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بمقتضى أنّ : «حكمُ الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحدٌ».

* * *

وفي الآية الثانية يتحدث تعالى عن تسخير الرياح لسليمان عليه‌السلام ويقول : «فَسَخَّرنَا لَهُ الرِّيحَ تَجرِى بِأَمرِهِ رُخَاءً حَيثُ اصَابَ».

ويستفاد من هذه الآية والآيات التي تليها أنّه وكما أنّ الشياطين كانت تُنفِّذ أمر سليمان وتنجزُ له أعمالاً مهمّةً في البر والبحر ، فإنّ الريح كانت تُنفِّذ أمره أيضاً ، وكانت تتحرك حيث يأمرها ، وهذا الأمر ليس سوى مصداق للولاية التكوينية في هذا الجانب من الموجودات.

وورد نظير هذا المعنى أيضاً في سورة الأنبياء ، والحديث هنا عن أمر سليمان عليه‌السلام على العواصف ، إذ يقول تعالى : (وَلِسُلَيَمانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِى بِأَمرِهِ الَى الارضِ الَّتِى بَارَكنَا فِيهَا). (الانبياء / ٨١)

وهذا الاحتمال واردٌ أيضاً فيما جاء في قصة موسى عليه‌السلام في البقرة ، الآية ٦٠ : (من ضرب الحجر وانبثاق عين الماء فيه بإذن الله) ، (وكذا ضربُ البحر بالعصا ، حيث يقول تعالى : (فَاوْحَيْنَا الَى مُوسَى انِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّودِ العَظِيمِ). (الشعراء / ٦٣)

١٢٥

وكل ذلك كان من قبيل الولاية التكوينية أيضاً.

والخلاصة هو أنّه في جميع الحالات التي يمنح فيها الله تعالى لأحد عباده الخاصين القدرة والقوة للنفوذ في عالم الخلق والطبيعة ، يحصل لذلك العبد نوعُ من الولاية التكوينية.

* * *

والحديث في الآية الثالثة عن التصرف التكويني لشخص من المقربين لسليمان ومن خاصته ، بَيدَ أنّ اسمه لم يأت في القرآن سوى بوصف (الذي عنده علمٌ من الكتاب) ، فعندما خاطب سليمان عليه‌السلام أصحابه وخاصته : (قَالَ يَاايُّهَا المَلَأُ ايُّكُم يَأتِيِنى بِعَرشِهَا قَبلَ أَنْ يَأْتُونىِ مُسلمِينَ* قَالَ عِفرِيْتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيْكَ بِهِ قَبْلَ انْ تَقومَ مِن مَّقامكَ) ، ثم يضيف : (قالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ انَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ انْ يَرتَدَّ الَيكَ طَرفُكَ).

وبطبيعة الحال أنّ هذا لم يكن ادّعاءً فحسب ، بل إنّه نفّذ وعده ، إذ نقرأ في سياق الآية : (فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى).

وهنا بحوث كثيرة :

من ذلك الذي كان عنده علمٌ من الكتاب؟ فالمعروف والمشهور أنّه كان وزير سليمان عليه‌السلام ، (آصف بن برخيا) الذي يقال إنّه كان ابن اخته ، وطبقاً لما ورد في الرواية في تفسير العياشي في جواب الإمام محمد بن علي الجواد عليه‌السلام ليحيى بن الأكثم فإنّ «آصف» كان وصي وخليفة سليمان عليه‌السلام ، وكان نبيّاً ، وكان سليمان عليه‌السلام يريد بهذا العمل تعريف العامة بمكانته ومنزلته ، وإلّا فإنّه كان يمتلك القدرة على هذا العمل من باب أولى (١).

وقد احتمل البعض أيضاً أنّ هذا الشخص كان سليمان نفسه (٢) ، إلّاأنه لا ينسجم وظاهر الآية.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩١ ، ح ٧٧ كما نقل هذا المعنى بصريح القول في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس وآخرين بأنّ القائل كان آصف بن برخيا حيث كان الاسم الآخر له «اتمليخا» ، (تفسير در المنثور ، ج ٥ ، ص ١٠٩).

(٢) نقل هذا الاحتمال في تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٣٦٣ واشكَل عليه.

١٢٦

واحتمل البعض أنّه كان رجلاً من بني اسرائيل ، حيث يتعارض هذا مع التفسير الذي يقول إنّه كان آصف بن برخيا ، لأنّه وحسب الظاهر كان من بني اسرائيل ، على أيّة حالٍ فالذي يحظى باهتمامنا هنا ليس شخصاًبعينه ، بل الغرض هو أنّ أحد اولياء الله كانت له القدرة في التصرف في عالم التكوين وعالم الأسباب من خلال امتلاكة لـ «علمٍ من الكتاب» أو معرفة الاسم الأعظم ، أو أي شيء آخر ، وأن ينقل عرش وملكة سبأ من اقصى جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أقصى شمالها خلال طرفة عين ، ولا يخفى أنّ هذا الأمر ممكنُ لسائر أولياء الله لاسيّما والأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر عليه‌السلام :

«إنّ اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وإنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم» (١).

ونقل هذا المعنى أيضاً في روايات اخرى عن الإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام وبعض أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

ويستفاد بوضوح ممّا مرّ من الآيات أنّ الولاية التكوينية أمرّ ممكنُ وجدير بالقبول في نظر القرآن الكريم.

* * *

الولاية التكوينية في الأحاديث الإسلامية :

كثيراً ما نصادف في الروايات الإسلامية إشارات عن المعجزات التي حصلت في إطار الولاية التكوينية ، وتوضيح ذلك أنّ المعجزات لها أقسام وأنواع فبعضها يحصل بدعاء

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ص ٢٣٠ استناداً إلى نقل تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٢٠٣ ، ح ١.

١٢٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المعصوم فقط ، وبعضٌ يحصل بطلب الناس منهم وبإذن الله ، وبعضها يحصل عن طريقهم وبفعلهم ، أي أنّ بعض المعجزات يحصل من خلال تصرفهم ومقامهم الروحي والمعنوي وبإذن الله ، بحيث لا يمثل سوى الولاية التكوينية التي نتحدث عنها الآن.

وهذه الحالات كثيرةٌ للغاية ، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها :

١ ـ ورد نموذج ظريف منها في نهج البلاغة ـ الخطبة القاصعة ـ حيث يقولُ عليه‌السلام ولقد كنتُ معه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يامحمد إنّك ادّعيت عظيماً لم يدعه أباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إنْ أنت أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنّك نبيٌ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحرٌ كذاب.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «وما تسألون» قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإنّ فعل الله لكم ذلك ، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ»؟ قالوا : نعم ، قال : «فاني ساريكم ما تطلبون وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرحُ في القليب ومنْ يحزّبُ الأحزاب» ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ياأيّتها الشجرة إنْ كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر ، وتعلمين أنّي رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ بإذن الله».

فوالذي بعثه بالحق (لا نقلعت) بعروقها وجاءت ولها دويٌ شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرفرفة ، وألقت بعضها الأعلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وببعض أغصانها على منكبيه ، وكنت عن يمينه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا ـ علواً واستكباراً : فَمُرها فليأتك نصفها ، ويبقى نصفها ، فأمرها بذلك فاقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشدّه دويّاً فكادت تلتفّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

فقالوا ـ كفراً وعتواً ـ : فمرّ هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله فرجعَ ، فقلت أنا : «لا إله إلّاالله ، إنّي أول مؤمن بك يارسول الله ، وأول منْ أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك».

١٢٨

فقال القوم كلهم : بل ساحرٌ كذاب عجيب السحر ، خفيفٌ فيه ، وهل يصدقك في أمرك إلّا مثل هذا «يعنونني»؟

«وإنّي لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيما الصديقين ، وكلامهم كلام الأبرار ، عمارُ الليل ومنار النهار ، متمسكون بحبل القرآن ، يحيون سنن الله وسنن رسوله ، لا يستكبرون ولا يعلون ، ولا يغلون ولا يفسدون ، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل» (١).

تأملوا تعابير هذه الخطبة قليلاً ، فإنّها تثبت أنّ هذا الأمر الخارق للعادة حدث بنفوذ وتصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التكوين ، وعليه فما ورد في ذيل هذه العبارة : «إنّ الشجرة فعلت مافعلت بأمر الله تعالى» ، هو أمر الله وإذنه والقدرة التي قد وهبها لنبيه لمثل هذا التصرف ، كما ورد التعبير بـ «إذن الله» في بداية هذه الكلمة.

بناءً على ذلك ، فالتعابير مثل : مُرْ ليحدث كذا أو كذا ، وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّتها الشجرة افعلي كذا وكذا ، كلها أدلة على ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونفوذه التكويني.

* * *

٢ ـ يروي المرحوم العلّامة المجلسي في كتاب بحار الأنوار عن سلمان الفارسي : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة تعلق الناس بزمام الناقة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ياقوم دعوا الناقة فهي مأمورة ، فعلى باب من بركت فأنا عنده (وهذا أفضل طريق للخلاص من كل اختلاف وتفرقة).

فأطلقوا زمامها وهي تهف في السير حتى دخلت المدينة ، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري ، ولم يكن في المدينة أفقر منه ، فانقطعت قلوب الناس حسرةً على مفارقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنادى أبو أيوب : «ياامّاه افتحي الباب ، فقد قدم سيد البشر ، وأكرم ربيعة ومضر ، محمد المصطفى والرسول المجتبى».

فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء ، فقالت : «واحسرتاه ليت كانت لي عين أبصر بها

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ (القاصعة).

١٢٩

وجه سيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة» ، وضع صلى‌الله‌عليه‌وآله كفه على وجه ام أبي أيوب فانفتحت عيناها «ربّما يراد في وضع اليد الإشارة باليد ، أو وضع اليد فوق قطعة قماش» (١).

* * *

٣ ـ كما وردت هذه الرواية أيضاً في الكتب المشهورة لدى الشيعة والسنة وهي لما لم يأت النصر على يد بعض امراء الجيش في معركة خيبر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سأعطي الراية غداً إلى رجل يحبُّ الله ورسولهُ ويحبّهُ الله ورسولهُ ، يفتح الله على يديه ، ثم ارسل على عليّ وكان أرمداً ، فحضر فبصق في عينيه فبرأتا ، ثم سلَّمه الراية وفتح خيبر» (٢).

تفيد هذه الرواية المشهورة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ابرء عيني علي عليه‌السلام من خلال ولايته التكوينية ـ بإذن الله ـ.

* * *

٤ ـ وجاء في تاريخ أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً «مُد الفرات في عهد علي عليه‌السلام فأقبل إليه الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين نحن نخاف الغرق لأنّ في الفرات قد جاء من الماء مالم ير مثله وقد امتلأت جنبتاه فالله الله ، فركب أمير المؤمنين عليه‌السلام والناس معه وحوله يميناً وشمالاً ٠٠٠٠ حتى انتهى إلى الفرات وهو يزخر بأمواجه ، فوقف والناس ينظرون فتكلّم بالعبرانية كلاماً فنقص الفرات ذراعاً ، فقال : حسبكم؟ قالوا : زدنا» (٣).

فهل هذا الفعل سوى تصرفٌ تكويني بإذن الله؟

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ١٢١.

(٢) لقد أورد ابن الأثير هذه الرواية في الكامل بالتفصيل (ج ٢ ، ص ٢١٩) ؛ وكذا ابن هشام في السيرة النبوية ج ٣ ، ص ٣٤٩ ؛ والعلّامة المجلسي في بحار الأنوار ج ٢١ ، ص ٢٩٨ ، ح ٣٠.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٤١ ، ص ٢٣٧ (مع الاختصار).

١٣٠

٥ ـ ونقرأ في تاريخه عليه‌السلام أيضاً أنّه وأثناء مروره قرب الكوفه جاءه قوم من اليهود ، وقالوا : «أنت علي بن أبي طالب الإمام؟ فقال : أناذا ، قالوا : لنا صخرة مذكورة في كتبنا عليها اسم ستة من الأنبياء ، وهو ذا نطلب الصخرة فلا نجدها فإنّ كنت إماماً أوجدنا الصخرة .... فسار القوم خلف أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أنّ استبطن فيهم البر فاذا بجبل من رمل عظيم فقال عليه‌السلام : أيّتها الريح انسفي الرمل عن الصخرة بحق اسم الله الأعظم فما كان إلّاساعة حتى نسفت الرمل وظهرت الصخرة» (١)

وهذا نموذج آخر من النفوذ والتأثير على عالم التكوين.

وقد وردت نماذج اخرى في الكثير من كتب التاريخ والتفسير ، والحديث ، ومختلف المصادر الإسلامية للشيعة والسنّة ، حيث يحتاج ذكرها كلها إلى تدوين كتاب مستقل.

إنّ هذه الآيات والروايات تؤكّد أنّ أولياء الله سواء من الأنبياء أو الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يتمتعون بقدرة بأمر الله وإذنه ، بحيث كانوا يستطيعون التصرف في عالم التكوين من خلال ما وهبهم الله تعالى من إذن في حالاتٍ معينةٍ ، وهذا ما نُعبر عنه بالولاية التكوينية.

وبطبيعة الحال ، فإنَّ الولاية التكوينية لها تفرعات اخرى أيضاً ، منها التأثير في القلوب المستعدة لقبول الحق عن طريق الألطاف المعنوية والروحية ، وتربية وهداية النفوس المؤهلة من خلال التأثير الروحي فيها ، حيث تتوفر أمثلة كثيرة لذلك في التاريخ الإسلامي.

وغالباً ماكان يحصل لكثير من الأشخاص تحولٌ وتغيرٌ مفاجيءٌ ، بنحوٍ لا ينسجم مع الموازين والمعايير الطبيعية ، وذلك بمجرّد وجودهم في محضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام المعصوم عليه‌السلام ، وبالتالي يستقيم سلوكهم في الحياة على أثره.

إنّ هذا التحول والتغير المفاجىء والخارق للعادة يحصل أيضاً نتيجة لـ «الولاية التكوينية» والتاثير في النفوس المؤهلة.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤١ ص ٢٣٧ (مع الاختصار).

١٣١
١٣٢

الولاية والإمامة الخاصة

١ ـ الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر

٢ ـ آيات الفضائل

١٣٣
١٣٤

الولاية والإمامة الخاصة

تمهيد :

بعد الفراغ من البحوث العامة في «الإمامة العامة» جاء دور الكلام في بحث الإمامة الخاصة ، حيث سيكون البحث في معرفة الإمام المعصوم والوصي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مُستعينين بمختلف المصادر الإسلامية ، والنصوص الواردة في القرآن ، والروايات الموثوقة في هذا البحث.

كما نستعين بأسلوب جمع القرائن الذي هو أحد أهم الأساليب لمعرفة الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ونسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وقلمنا وبياننا إلى ما هو حقٌ ، ويبعدنا عن كلّ خلاف وانحراف.

في البداية نيمّم وجوهنا صوب آيات القرآن الكريم لنرى ما ورد من آيات بصدد الإمامة الخاصة.

حيث يمكن تقسيم هذه الآيات إلى قسمين :

١ ـ الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر وتبحث فيها بجلاء.

٢ ـ الآيات التي تبحث هذه المسألة بشكل غير مباشر.

وبالرغم من كثرة الآيات في كلا القسمين ، فإنّنا سننتخب مجموعة من الآيات وذلك لمزيد من التوضيح ، ومن ثم نشرع بالبحث.

ففي القسم الأول نناقش الآيات التالية :

١ ـ آية التبليغ وواقعة الغدير.

٢ ـ آية الولاية.

١٣٥

٣ ـ آية اولي الأمر.

٤ ـ آية الصادقين.

٥ ـ آية القربى.

وفي القسم الثاني نتجه نحو آيات الفضائل ، وهذه الآيات لا تطرح مسألة الخلافة والولاية بشكل مباشر ، إلّاأنّها تثبت الفضائل بحق أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث تصفه بأنّه أفضل امّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأسمى شخصية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع إلحاق مقدمة عقلية واضحة (ترجيح المرجوح على الراجح قبيح) حيث نستنتج عدم وجود شخص أليق وأجدر منه لقيادة الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهذه الآيات كثيرة للغاية حيث تجري الإشارة إلى ٣٢ آية ، من بينها :

١ ـ آية المباهلة. ٢ ـ آية خير البرية. ٣ ـ آية ليلة المبيت. ٤ ـ آية الحكمة. ٥ ـ آيات سورة هل اتى. ٦ ـ آيات مقدمة سورة براءة ، ٧ ـ آية سقاية الحاجّ. ٨ ـ آية صالح المؤمنين.

٩ ـ آية الوزارة. ١٠ و ١١ ـ آيات سورة الاحزاب. ١٢ ـ آية البينة والشاهد. ١٣ ـ آية «الصديقون» ، ١٤ ـ آية النور. ١٥ ـ آية الانذار. ١٦ ـ آية مرج البحرين. ١٧ ـ آية النجوى.

١٨ ـ آية «السابقون». ١٩ ـ آية أذن واعية. ٢٠ ـ آية المحبّة. ٢١ ـ آية «المنافقين» ، ٢٢ ـ آية الايذاء. ٢٣ ـ آية الانفاق. ٢٤ ـ آية المحبّة. ٢٥ ـ آية المسؤولين. ٢٣ ـ آية اشقاها.

* * *

١٣٦

القسم الأول :

الآيات التي تهتم بمسألة الإمامة بشكل مباشر

١ ـ آية التبليغ

(يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاأُنزِلَ الَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ انَّ اللهَ لَايَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ). (المائدة / ٦٧)

شأن النزول :

جاء في الكثير من كتب علماء السنّة (وكافة كتب الشيعة المعروفة) سواءً التفسير أو الحديث أو التاريخ ، أنّ الآية أعلاه نزلت بحق علي عليه‌السلام.

وروى هذه الروايات جمعٌ كثير من الصحابة ، منهم «أبو سعيد الخدري ، وزيد بن أرقم ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وابن عباس ، والبراء بن عازب ، وحذيفة ، وأبو هريرة ، وابن مسعود ، وعامر بن أبي ليلى» ، وجاء في رواياتهم أنّ هذه الآية نزلت بشأن علي عليه‌السلام وواقعة يوم الغدير.

واللطيف أنّ بعض هذه الروايات نُقلت بطرق متعددة منها :

رواية أبي سعيد الخدري عن أحد عشر طريقاً.

رواية ابن عباس عن أحد عشر طريقاً أيضاً.

ورواية البراء بن عازب نُقلت عن ثلاثة طرق.

ومن بين الذين أوردوا هذه الروايات (بشكل واسع أو بالاجمال) في كتبهم ، العلماء

١٣٧

المعروفون المدرجة أسماؤهم فيما يلي :

«أبو الحسن الواحدي النيشابوري في أسباب النزول ص ١٥٠.

«ابن عساكر الشافعي نقلاً عن «الدر المنثور» ، ج ٢ ، ص ٢٩٨.

«الفخر الرازي في التفسير الكبير ج ٣ ، ص ٦٣٦.

«أبو اسحاق الحمويني في «فرائد السمطين» (مخطوط).

«ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» ص ٢٧.

«جلال الدين السيوطي في «الدر المنثور» ج ٢ ، ص ٢٩٨.

«القاضي الشوكاني في «فتح القدير» ج ٣ ، ص ٥٧.

«شهاب الدين الالوسي الشافعي في «روح المعاني» ج ٦ ، ص ١٧٢.

«الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في «ينابيع المودّة» ص ١٢٠.

«بدر الدين الحنفي في عمدة القاري في «شرح صحيح البخاري» ج ٨ ، ص ٥٨٤.

«الشيخ محمد عبدة المصري في تفسير المنار ج ٦ ، ص ٤٦٣.

«الحافظ ابن مردويه (المتوفي عام ٤١٨ ه‍. ق) (على ضوء نقل السيوطي في الدر المنثور) وكثيرٌ غيرهم.

وبالطبع لاينبغي نسيان أنّ بعض هؤلاء العلماء في الوقت الذي ينقلون به الرواية وشأن النزول فإنّهم يمرون بها مرور الكرام للأسباب التي سنشير إليها لاحقاً ، أو يبادرون إلى نقدها ، حيث سنتطرق إلى بحث أقوالهم بشكل دقيق في البحوث القادمة إن شاء الله.

حادثة الغدير :

اتضح من البحث السابق وبشكل إجمالي أنّ هذه الآية وعلى ضوء الشواهد التي لا تحصى قد نزلت بحق علي عليه‌السلام ، وأنّ الروايات التي نقلت في الكتب المعروفة لأهل السنّة ـ فضلاً عن كتب الشيعة ـ أكثر من أن يستطيع أحدٌ إنكارها.

وبالإضافة إلى الروايات أعلاه ، فلدينا روايات اخرى تفيد بصريح القول : إنّ هذه الآية وردت أثناء واقعة الغدير وخطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التعريف بعلي عليه‌السلام على أنّه الوصي والولي ،

١٣٨

وعددها يربو على الروايات السابقة ، حتى أنّ المحقق الكبير العلّامة «الأميني» ينقل في كتاب الغدير ، حديث الغدير عن ١١٠ من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاسناد والوثائق الحية ، وكذلك عن ٨٤ من التابعين و ٣٦٠ من مشاهير علماء المسلمين ومؤلفيهم.

إنّ كلّ من يلقي نظرةً على مجموعة هذه الأسانيد والوثائق يدرك بأنّ حديث الغدير من أكثر الروايات الإسلامية جزماً ، ومصداقاً واضحاً للحديث المتواتر ، ومن يشك في تواتره ، فعليه أن لا يؤمن بايّ حديث متواتر.

وحيث إنّ الولوج في هذا البحث بنحوٍ واسعٍ يخرجنا عن اسلوب كتابة تفسير موضوعي ، فنكتفي بهذا القدر بشأن اسناد الرواية وشأن نزول هذه الآية ، ونتطرق إلى مضمون الرواية ، ونرشد من يريد المزيد من المطالعة حول إسناد الرواية إلى الكتب التالية :

١ ـ كتاب الغدير ، ج ١.

٢ ـ احقاق الحق ، تأليف العلّامة الكبير القاضي «نور الله التستري» مع شرح مفصلٍ لآية الله النجفي ، ج ٢ و ٣ و ١٤ ٢٠.

٣ ـ المراجعات للمرحوم السيّد «شرف الدين العاملي».

٤ ـ عبقات الأنوار للعالم الكبير «ميرحامد الحسيني الهندي» (من الأفضل مراجعة خلاصة العبقات ، ج ٧ و ٨ و ٩).

٥ ـ دلائل الصدق ، تأليف العالم الكبير المرحوم «المظفر» ، ج ٢.

مضمون روايات الغدير :

وهنا نأتي بقصة الغدير بشكل مختصر كما يستفاد من مجموع الروايات أعلاه ، (وطبعاً فإنّ هذه الواقعة قد وردت في بعض الروايات بشكل مفصّل ومطوّل ، وفي بعضها بشكل مختصرٍ وقصير ، وفي بعضها اشير إلى جانبٍ من هذه القصة وفي البعض إلى جانب آخر ، ومنها جميعاً يستفاد ما يلي) :

في السنّة الأخيرة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اقيمت مراسم حجة الوداع بكل جلال بمشاركة

١٣٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت الأفئدة تمتلئ بالمعنويات ولم تزل اشعاعات هذه اللذة المعنوية وهذه العبادة العظيمة تنعكس في النفوس.

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كان عددهم كثيراً للغاية لا تسعهم أنفسهم نتيجة لإدراكهم هذا الفيض والسعادة العظيمة (١).

ولم يكن أهل المدينة وحدهم الذين يرافقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا السفر ، بل كان المسلمون من مختلف بقاع الجزيرة العربية برفقته صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل هذا الفخر التاريخي العظيم.

وكانت شمس الحجاز تضفي على الجبال والأودية حرارة لا تطاق ، إلّاأنّ حلاوة هذا السفر المعنوي النادر كانت تيسِّر كل شيء ، وقد اقترب الظهر ، وأخذت منطقة الجحفة ، وصحراء «غدير خم» الجافة الرمضاء تبدو للعيان.

ومن هذا المكان الذي يتشعب إلى أربعة طرق يفرق أهل الحجاز ، فطريق يتجه إلى الشمال نحو المدينة ، وطريق إلى الشرق نحو العراق ، وطريق إلى الغرب نحو مصر ، وطريق إلى الجنوب نحو اليمن ، وهنا يجب أن تُطرح آخر المستجدات في هذا السفر ، ويتفرق المسلمون بعد استلامهم لآخر حكم وهو في واقع الأمر كان خط النهاية في الواجبات الناجحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كان ذلك في يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة ، وقد مضت عشرة أيّام على عيد الأضحى ، وفجأة صدر الأمر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الذين معه بالتوقف ، ونادى المسلمون بأعلى أصواتهم أصحابَهم الذين تقدموا الركب بالتوقف والعودة ، وامهلوا المتأخرين حتى يصلوا ، وزالت الشمس وصدح صوت مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأذان : الله أكبر ، داعياً الناس إلى صلاة الظهر ، وسرعان ما استعد الناس للصلاة ، إلّاأنّ حرارة الجو كانت إلى الحد الذي اجبر البعض على أنّ يغطي أرجله بقسم من ازاره ويستر رأسه بالقسم الآخر ، وإلّا فإنّ حصى الصحراء وأشعة الشمس ستحرق أرجلهم ورؤوسهم.

__________________

(١) ذكر البعض أنّ عدد الذين كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ٩٠ ألفاً ، والبعض ١١٢ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٠ ألفاً ، وبعضٌ ١٢٤ ألفاً.

١٤٠