نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

ونظراً إلى أنّ الأئمّة ليسوا سوى استمرار لخط النبوة ، فإنّ أغلب هذه الفلسفات بالإمكان تحقيقها بواسطة الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أيضاً.

وفي القرآن الكريم تتلخص هذه الامور بل وحتى أكثر منها في ثلاثة مواضيع وهي :

«التعليم» و «التربية» و «القيام بالقسط» التي اشير إليها في آيات عديدة ، فيقول تعالى بشأن الفلسفة من بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مِّنْهُم يَتْلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَانْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ). (الجمعة / ٢)

فقد تمّت الإشارة هنا إلى مسألة «التعليم» و «التربية» التي هي أهم أهداف الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وفي مكان آخر يقول تعالى : (لَقَدْ ارْسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وَانْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ). (الحديد / ٢٥)

وقد اشير هنا إلى العدالة الاجتماعية والقيام بالقسط الذي يوفر الأرضية المناسبة «للتعليم» و «التربية» الصحيحة.

نعم ، فالزعماء العاديون في العالم يفكرون :

أولاً : بصيانة مكانتهم ومصالحهم الشخصية أو الحزبية ، لهذا فهم دائماً يضحون بمصالح المجتمعات البشرية من أجل مصالحهم الخاصة ، أمّا القادة الطاهرون والمعصومون واتباعهم فهم وحدهم الذين يستطيعون المحافظة على حقوق الإنسان والمصالح العامة للمجتمع الانساني كما ينبغي.

ثانياً : هَب أنّ الزعماء غير الربانيين يريدون تطبيق العدالة وقيادة المجتمعات البشرية نحو الكمال المطلوب ، فإنّ تشخيص هذه الامور في الكثير من الحالات غير ممكن بالنسبة لهم ، فهم يستطيعون في هذه الحالة أن يشخصوا الامور ولكنّ تشخيصهم ناقص وغير دقيق.

وهذا الأمر ـ التشخيص الدقيق ـ ممكن فقط بالنسبة للقادة الربانيين الذين يعتمدون على البحر اللامتناهي من العلم الإلهي.

وقد أثبتت تجربة السبعين سنة من الحكم الشيوعي على نصف سكان الكرة الأرضية

٢١

هذه الحقيقة بوضوح ، فلقد كرسوا أوسع وأعظم جهاز اعلاميّ لترسيخ دعائم الماركسية ، وقدموا الملايين من الكتب والكراسات والمقالات والخطب على هذا الصعيد ، وزعموا بأنّ الشيوعية هي الطريق الوحيد لحل مشاكل المجتمع البشري وتأمين العدالة الاجتماعية ، وتكامل النوع الإنساني ، وأفضل وسيلة للتفسير الصحيح للتاريخ والعلوم الاجتماعية ، وقمعوا المعارضين لهم بشتى الأساليب ، لكننا رأينا أنّها لم تجلب سوى التعاسة والتخلف والديكتاتورية ، وفي خاتمة المطاف اضطر مفكروهم إلى الاعتراف بأنّ ما كانوا يتصورونه الطريق الحقيقي للسعادة لم يكن إلّاانحطاطاً وتخلفاً للمجتمع الإنساني! وربّما لم يشهد التاريخ نظيراً لهذه القضية ، إذ تدافع طائفة كبيرة من المفكرين والعلماء واساتذة الجامعات عن عقيدة ما ، وفي النهاية يتضح أنَّ ماكانوا يؤمنون به فارغٌ من أي محتوى.

فما الضمان لعدم حدوث مثل هذه الحالة في المستقبل ، وعدم تلوث عقائد المجتمع الإنساني بهذه الأفكار المضلّة؟

ومن هنا تبرز ضرورة الاستفادة من أفكار الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام المصانين من الزلل والخطأ من قبل الله تعالى.

وخلاصة الكلام هي أنّ الإله الذي خلق النوع الإنساني وأمره بالسير في طريق الكمال والسعادة ، وأرسل الأنبياء المعصومين الذين يتلقون الأوامر الإلهيّة بواسطة الوحي ، من أجل «تبيين الطريق» و «الايصال إلى المطلوب» ، فلابدّ أن يجعل أئمّة معصومين لخلافة الأنبياء بعد رحيلهم وذلك من أجل استمرار هذا الطريق ، وليعينوا المجتمع البشري في الهداية إلى الطريق والايصال إلى المطلوب ، ومن المسلم به أنَّ هذا الهدف سيبقى ناقصاً بدونهم للأسباب التالية :

أولاً : من المتيقن أنّ العقول البشرية لا تستطيع تشخيص جميع عوامل وأسباب التقدم والرّقي وحدها ، وقد لا تشخص عُشر ذلك.

ثانياً : ربّما يتعرض دين الأنبياء بعد ارتحالهم لانواع التحريف ، فلابدّ من الحرّاس المعصومين والربانيين ليحافظوا عليه ويحولوا بين تحريف المبطلين وبين بلوغ مآربهم ،

٢٢

وآراء الجهلة وتفسيرات أصحاب الأهواء والمآرب.

وهذا ما يشير إليه الحديث المعروف الوارد في اصول الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول : «إنَّ فينا أهل البيت في كل خَلف عُدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» (١).

وكذلك ما أشار إليه الإمام علي عليه‌السلام في احدى كلماته القيمة ، إذ يقول : «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً ، وإمّا حافياً مغموراً لئلا تبطُل حجج الله وبيناته» (٢).

ثالثاً : من المتعذر اقامة الحكومة الإلهيّة التي توصل الإنسان إلى الغاية التي خلق من أجلها ، إلّاعن طريق المعصومين ، لأنّ الحكومات البشرية ـ ووفقاً لشهادة التاريخ ـ كانت غالباً ما تسير في خط المصالح الشخصيه ، أو الفئوية ، وأنّ جميع مساعيها كانت في هذا الاتجاه ، وكما جرّبنا مراراً وتكراراً أنّ شعارات «الديمقراطية» و «حكم الشعب للشعب» و «حقوق الإنسان» ، وما شابه ذلك ماهي إلّاقناعٌ للوصول إلى أهدافهم الشيطانية عن طريق أسهل ، فقد فرضوا أغراضهم على الشعوب بشكل خفي ومن خلال استغلال هذا المنطق وهذه الأدوات.

إنّ هذه الاصول الثلاثة أي «تبيين الطريق» الذي يعجز العقل عن تشخيصه ، و «المحافظه على ميراث الأنبياء» و «إقامة حكومة العدل» ، تمثل بالواقع الاسس الحقيقية لفلسفة وجود الإمام المعصوم.

* * *

ونختم هذا الحديث بكلام للإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حيث يعتبر من أكثر الكلمات شمولية فيما يتعلق بفلسفة الإمامة ، وحديث من نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٢ ، باب صفة العلم ، ح ٢.

(٢) نهج البلاغة ، كلمات القصار ، الكلمة ١٤٧.

٢٣

الحديث الأول الذي تحدث به عليه‌السلام يوم الجمعة في المسجد الجامع في مدينة (مرو) بحضور حشد من الناس ، يتناول مسائل كثيرة ، نشير هنا إلى جانب منه ، قال عليه‌السلام :

«إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء ، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ... الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى ، ... الإمام الماء العذبُ على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى ، ... الإمام السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ... الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ... نظام الدين ، وعز المسلمين ، وغيضُ المنافقين ، وبوار الكافرين» (١).

وفي عبارة قصيرة يصور أمير المؤمنين عليه‌السلام روح الإمامة ، فيقول :

«ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فاذا انقطع النظام تفّرق الخرز والذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً» (٢).

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٠٠ ، باب نادر جامع في فضل الإمام.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٦.

٢٤

١ ـ الولاية والأمامة العامة في القرآن الكريم

تمهيد :

هنالك بحثان مستقلان في موضوع الولاية وهما :

١ ـ «الولاية العامة» أي لابدّ من وجود إمام بين الناس منصَّب من قبل الله ، دائماً وفي كل عصر ، سواءً كان يتمتع بمقام النبوة والرسالة ، أو بمقام الولاية فقط.

٢ ـ «الولاية والإمامة الخاصة» أي من الذي يتصدى لهذا المنصب والمقام الإلهي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

وبتعبير آخر : كما أنّ النبوة تتفرع إلى «نبوة خاصة» و «نبوة عامة» ، فكذلك الإمامة.

وقد ورد في القرآن الكريم مايشير إلى الولاية العامة ندرجه فيما يلي :

١ ـ (انَّمَا انْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ). (الرعد / ٧)

٢ ـ (يَا ايُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ). (التوبة / ١١٩)

٣ ـ (اطِيعُوا اللهَ وَاطِيعُوا الرَّسُولَ وَاولِى الأَمرِ مِنْكُم). (النساء / ٥٩)

* * *

آية الانذار والهداية :

ففي الآية الاولى يخاطب الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (انَّمَا انْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَومٍ هَادٍ).

ينقل الفخر الرازي ثلاثة أقوال في تفسير هذه الآية :

الأول : إنّ «المنذر» و «الهادي» شيء واحد ، وعليه يكون مفهوم الآية كما يلي :

(انَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَهادٍ لِكُلِّ قَومٍ).

٢٥

الثاني : المنذر هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والهادي هو الله تعالى.

الثالث : المنذر هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والهادي هو علي عليه‌السلام ، إذ يقول ابن عباس : إنّ النبي قد وضع يده على صدره وقال : «أنا المنذر ثم أومأ إلى منكب علي عليه‌السلام وقال : أنت الهادي ياعلي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي» (١).

وقد نقلت مجموعة اخرى من المفسرين هذه التفاسير الثلاثة ، فيما أصرَّ بعض مفسري أهل السُنّة على أنّ تفسير الآية أحد التفسيرين الاولين ، لأنّ التفسير الثالث لا يتناسب ونمط تفكيرهم المليء بالتعصب.

بينما لا يتناسب التفسير الأول مع ظاهر الآية ، فلو كان مقرراً أن يكون الوصفان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقال : إنّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم ، وبتعبير آخر لاينبغي تقديم «لكل قوم» وهو جار ومجرور على «هادٍ» ، وإذا ما تقدم فيجب أن يتقدم على الوصفين فيقال : إنّما أنت لكل قوم منذرٌ وهاد ، وخلاصة القول : إنّه لا يبدو هنالك مبرر لتقديم لكل قوم على وصف وتأخيره عن الآخر ، أو لابدّ من تقديمه عليها أو تأخيره عنها (تأملوا جيداً).

والتفسير الثاني غير مألوف ولا مناسب ، لأنّ كون الله هادياً فلا شك فيه حتى يحتاج إلى بيان ، أضف إلى أنّ ظاهر العبارة هو أنّ لكل عصر وزمان هادٍ خاص. والحال أنّ الله واحدٌ أحد ، فهذه الوحدانية لا تنسجم والتعددية التي تستفاد من عبارة لكل قوم هادٍ.

بناءً على ذلك فالتفسير الوحيد الذي يحظى بالقبول هو : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذرٌ ولكل قوم في كل عصر ودهرٍ «هادٍ».

فهل هذا الهادي إشارة إلى علماء كل قوم وكل زمان؟

الاجابة عن هذا السؤال سلبية أيضاً ، فهنالك علماء عديدون في كل عصر ودهر وليس هادٍ واحد ، فكما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واحداً فهادي المسلمين واحدٌ في كل عصر وزمان.

وبتعبير آخر ، أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤسس الدين عن طريق الانذار ، والإمام يواصل طريقه من خلال الهداية.

إنَّ هذه النكات تستفاد من الآية نفسها ، ولو بحثنا عن الروايات المنقولة عن طريق أهل

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٩ ، ص ١٤.

٢٦

السنة والشيعة بهذا الصدد لاتضحت المسألة أكثر.

ففي تفسير الدر المنثور وهو من تفاسير أهل السنة المعروفة «تأليف جلال الدين السيوطي» المتوفى عام ٩١٠ ه‍ ق ، والقائم على أساس تفسير الآيات والروايات ، ينقل روايات عديدة في تفسير هذه الآية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١ ـ يروي عن ابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر وابن النجار : لما نزلت (انَّمَا انتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ) وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يده على صدره فقال : «أنا المنذر ، وأومأ بيده إلى منكب علي عليه‌السلام فقال : أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي» (١).

٢ ـ يقول أبو بريدة الاسلمي : سمعت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن هذه الآية (٢) وقد وضع يده على صدره وقال : «إنّما أنت منذرٌ ، ووضع يده على صدر علي عليه‌السلام وقال : لكل قوم هاد».

٣ ـ وفي الكتاب نفسه ينقل عن «عبد الله بن أحمد» و «ابن أبي حاتم» و «الطبراني» و «الحاكم» و «ابن مردويه» و «ابن عساكر» عن علي عليه‌السلام في تفسير الآية : «إنّما أنت منذر ولِكُلّ قوم هَاد» قال : «رسول الله المنذر ، وأنا الهادي» (٣).

٤ ـ ونقرأ في رواية اخرى عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا المنذر وعلي الهادي ، وبك يا علي يهتدي المهتدون».

وقد أورد هذا الحديث طائفة من مشاهير حفاظ أهل السنة منهم : «الحاكم» في «المستدرك» و «الذهبي» في «التلخيص» و «الفخر الرازي» و «ابن كثير» في «تفسيريهما» ، و «ابن الصباغ المالكي» في «الفصول المهمّة» و «الكلبنجي الشافعي» في «كفاية الطالب» و «العلّامة الطبري» في «تفسيره» و «ابن حيان الاندلسي» في «البحر المحيط» و «النيشابوري» في «تفسيره» ، و «الحمويني» في «فرائد السمطين» وطائفة اخرى في كتبهم التفسيرية (٤).

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ٤ ، ص ٤٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) للاطلاع على هذا الحديث ووثائقه راجعوا كتاب احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٨٨ ـ ٩٩.

٢٧

٥ ـ يقول «مير غياث الدين» مؤلف كتاب «حبيب السير» : «قد ثبت بطرق متعددة أنّه لما نزل قوله تعالى : (انّما انْتَ مُنذرٌ وَلكل قَوْمٍ هادٍ) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «أنا المنذر وأنت الهادي ، بك ياعلي يهتدي المهتدون من بعدي» (١).

٦ ـ وقد نقل الحمويني هذا الحديث أيضاً عن أبي هريرة عن علي عليه‌السلام (٢).

٧ ـ ونقل هذا الحديث في «مستدرك الحاكم» عن «أبي بريدة الاسلمي» بشكل واسع فقال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال : «إنّما أنت منذر» ويعني نفسه ، ثم ردها إلى صدر علي ثم قال : «ولكل قوم هاد» ، ثم قال له : «أنت منار الأنام وغاية الهدى ، وأمير القرّاء ، أشهد على ذلك أنّك كذلك» (٣).

وليس من المستبعد أنْ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بيَّن هذا الكلام في حالات متعددة وبأشكال مختلفة ، والتعابير المختلفة للأحاديث المذكورة تشهد على هذا الأمر.

كما وردت في مصادر اتباع أهل البيت عليهم‌السلام روايات متعددة في هذا المجال ، ولا مجال لذكرها جميعاً ، بل نكتفي بالإشارة إلى بعضها ، فقد ورد في تفسير نور الثقلين (٤) مايربو على خمسة عشر حديثاً منها ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام أنّهما قالا : «كل إمام هاد كل قوم في زمانه» ، وفي تعبير آخر : «كل إمام هادٍ للقرن الذي هو فيه» (٥).

والعجيب أنّ بعض المفسرين قد تناسوا جميع هذه الأحاديث ، وذكروا معاني اخرى للآية المذكورة ، مستندين إلى أقوال بعض الصحابة التي لم تروَ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها التفسير الذي نُقل عن مجاهد حيث يقول : المراد من «المنذر» محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد من «لكل قومٍ هادٍ» «إنّ لكل قوم نبيّاً يدعوهم إلى الله»! وهذا تفسير بعيد كما يبدو.

__________________

(١) حبيب السير ، ج ٢ ، ص ١٢.

(٢) احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٩٢.

(٣) تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٣٢٧ ذيل الآية مورد البحث.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٤٨٢ ـ ٤٨٥.

(٥) المصدر السابق ، ج ١٩ و ٢٠ ، ص ٤٨٣.

٢٨

وروي تفسير آخر عن سعيد بن جبير حيث يقول : المنذر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والهادي هو الله! بينما ظاهر الآية هو أنّ هادي كلّ قومٍ يختلف عن هادي الآخرين ، علماً أنّ الله الواحد هادٍ لجميع الأقوام ، ولا يتناسب مع مثل هذه التفاسير.

فهل من المناسب ترك الروايات المتواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب وراء هذه التفاسير الخاطئة حرصاً على أن لا يمتلك الشيعة مستمسكاً؟

* * *

آية الصادقين :

وفي الآية الثانية خاطب تعالى المؤمنين داعياً إيّاهم إلى التقوى ، وبعدها أمرهم بأنْ يكونوا مع الصادقين «دائماً» «لئلا ينحرفوا» : (يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقيِنَ).

فمن هم الصادقون هنا؟ ثمّة تفاسير مختلفة أيضاً :

لقد احتمل البعض أنّ المراد من «الصادقين» هو شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الآية منحصرة بزمانه ، ولا يخفى أنَّ خطاب هذه الآية كسائر خطابات القرآن عامة ، وتشمل كل المؤمنين في كلّ عصرٍ ومصرٍ.

وقال آخرون : إنّ «مَعَ» تعني «مِنْ» ، أي كونوا من الصادقين! في الوقت الذي لا توجد ضرورة لمثل هذه التأويلات والتبريرات ، بل ليس من المعتاد أبداً في الأدب العربي وكلام الادباء استخدام «مع» بمعنى «من».

فطبقاً لظاهر الآية فإنَّ جميع المسلمين مكلفون أنْ يكونوا في خط الصادقين ومعهم في كل زمن وعصر.

من هنا يُعرف بأنّ ثمّة صادق أو صادقين في كل عصر يتحتم على الناس أن يكونوا معهم في طريق التقوى والزهد.

ومن أجل فهم معنى الصادقين ، من الأفضل أن نعود إلى القرآن نفسه لنرى ماذا يذكر من

٢٩

صفات للصادقين ، ففي مكان يقول : (انَّمَا المُؤمنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا باموالِهِم وَانْفُسِهِم فِىِ سَبِيلِ اللهِ اوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). (الحجرات / ١٥)

ففي هذه الآية وصف تعالى الصدق بأنّه فرع أو شعبة من «الإيمان» و «العمل النزيه» عن كل أشكال الشك والريب والتردد.

وفي الآية ٧٧ من سورة البقرة بعد أن ذكر تعالى أنّ حقيقة الإيمان تكمن في الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتب السماوية ، والأنبياء ، وكذا الانفاق في سبيل الله ، وفي سبيل تحرير المستضعفين والمحرومين من ربقة الظالمين ، وكذلك إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والصبر والاستقامة إزاء المشاكل وأثناء الجهاد ، يضيف : (اوْلئكَ الَّذينَ صَدَقُوا).

بناءً على ذلك فقد ذكر أنّ السمة المميزة للصادقين هي : الإيمان التام بجميع المقدسات ، واطاعة أوامر الله على جميع الأصعدة ، لاسيما الصلاة وإيتاء الزكاة والانفاق والاستقامة في الجهاد ، وفي مواجهة المشاكل ، وقد جاء نظير هذا المعنى في الآية ٨ من سورة الحشر أيضاً.

من مجموع هذه الآيات وكذلك من اطلاق الآية مورد البحث التي تأمر باتباع الصادقين بدون قيد أو شرط ، نستنتج أنّ المسلمين مكلفون باتباع الذين يتمتعون بأعلى مراحل الإيمان والتقوى ، وأسمى المستويات من ناحية العلم والعمل والاستقامة والجهاد ، فالآية لا تقول : كونوا من الصادقين ، بل تقول : كونوا معهم ، بينما نراها تقول : كونوا من الزاهدين وهذا يبرهن على أنّ المراد مرتبة أسمى من المراتب التي يصلها الناس ، وأجلى مصداق لهذا المعنى هم المعصومون ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ الأمر باتباع الصادقين بشكلٍ مطلق ، وعدم الانفصال عنهم بدون قيد أو شرط ، دليل آخر على عصمتهم ، لأنَّ الاتباع بلا قيد أو شرط لا معنى له إلّافيما يتعلق بالمعصومين.

ونظراً لوضوح محتوى الآية لم يستطع الفخر الرازي انكار دلالتها على وجود المعصوم في كل زمان ومكان ، إلّاأنّه ولعدم إيمانه بعقائد أتباع أهل البيت عليهم‌السلام يتحدث عن عصمة

٣٠

جميع الأمة ، أو بتعبير آخر «إجماع الامّة» ، بينما نرى أنّ القضايا التي تحظى بإجماع الأُمّة محدودة للغاية ، والحال أنّ اتّباع الصادقين تكليف عام وفي كل الأحوال والشؤون.

وكذلك لم يفهم أي ناطق بالعربية أثناء نزول هذه الآية أنَّ كلمة «الصادقين» تعني مجموع الامّة ، فكيف يمكن حملها على هذا المعنى؟ أليس من الأفضل الاقرار بوجود صادق في كل عصر وزمان ليس في سيرته السهو والخطأ ويجب علينا اتباعه؟

سؤال : وهنا يثار سؤال وهو : إنّ «الصادقين» ذكرت بصيغة الجمع ، وعليه فلابدّ من وجود عدّة معصومين في كل زمان ، فكيف يتلائم هذا وعقائد أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام؟

إنّ الجواب على هذا السؤال من خلال الاستناد إلى نقطة ، وهي : إنّ هذا الجمع ربّما يكون إشارة إلى مجموع الأزمنة ، لأنّ «الصادقين» وعلى مدى مجموع الأزمنة يمثلون مجموعة ، تماماً كما يقال : يتحتم على الناس اتباع الأنبياء في كل زمان ، فليس مفهوم هذا الكلام هو وجود أنبياء متعددين في كل زمان ، بل المقصود هو : أنَّ على كلّ قوم اتباع نبي زمانهم ، أو يقال : على الناس أن يعرفوا تكاليفهم تجاه العلماء والمراجع ، أي : على كلّ شخص اتباع عالم ومرجع زمانه.

والشاهد على هذا الأمر هو عدم وجود شخص مفترض الطاعة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره ، في الوقت الذي تشمل الآية المذكورة زمانه أيضاً بكل تأكيد.

من هنا يتضح أنّ المراد ليس الجمع في زمان واحد ، بل في عدّة أزمنة ، وهذا الكلام هو بمثابة تحليل لهذه الآية.

* * *

وأمّا من ناحية الروايات ، فإنّ الكثير من مفسري ومُحدّثي أهل السّنّة نقلوا عن ابن عباس قوله : إنّ هذه الآية نزلت بحق علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومنهم «العلّامة الثعلبي» في تفسيره ، فقد روى : إنّ ابن عباس قال في تفسير هذه الآية :

٣١

«مع الصادقين يعني مع علي بن أبي طالب وأصحابه» (١).

كما ينقل «العلّامة الكنجي» في «كفاية الطالب» ، و «العلّامة سبط بن الجوزي» في «التذكرة» عن طائفة من العلماء مايلي : «قال علماء السير : معناه كونوا مع علي عليه‌السلام وأهل بيته ، قال ابن عباس : عليٌ عليه‌السلام سيد الصادقين» (٢).

وجرى التأكيد على هذا المعنى أيضاً في الروايات العديدة التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم‌السلام ، منها الرواية التي نقرأها عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال في تفسير آية «وكونوا مع الصادقين» ، يعني «محمد وآل محمد» (٣).

ونقرأ في رواية اخرى ، أنّ «بريد بن معاوية» روى عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «إيّانا عنى» (٤).

وفي تفسير البرهان ينقل عن كتاب نهج البيان : «روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئلَ عن الصادقين فقال : «هم علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم الطاهرون إلى يوم القيامة» (٥).

ومن البديهي أنّ جميع هذه الروايات إنّما هي في الواقع بيان للمصداق ، ولا تتعارض مع المفهوم العام للآية ، لأنّها تشمل شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمرتبة الاولى ، ومن ثم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في كلّ عصر ودهرٍ.

من هنا فإنّ الآية الآنفة الذكر تثبت «الولاية العامة» وكذلك «الولاية الخاصة».

* * *

آية اولي الأمر :

والحديث في الآية الثالثة عن وجوب اطاعة الله ورسوله واولي الأمر ، يقول تعالى :

__________________

(١) احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٢٩٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٨٠ ، ح ٣٩٢.

(٤) المصدر السابق ، ح ٣٩٣.

(٥) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٧٠.

٣٢

(أَطِيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَسُولَ وَاولىِ الأَمْرِ مِنكُم). (النساء / ٥٩)

فوجوب اطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله واضحٌ ومعلوم ، أمّا من هم المقصودون في «اولي الأمر» الذين اعتبرت اطاعتهم بموازاة اطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهنالك جدلٌ بين المفسرين.

يتفق علماء الشيعة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من «اولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام الذين هم قادة المجتمع معنوياً ومادياً في كافة شؤون الحياة ، ولا تشمل غيرهم ، لأنّ الطاعة ـ بلا قيد أو شرطٍ ـ الواردة في الآية الكريمة والتي اعتبرت موازية لطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن تصورها إلّابحقّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وأمّا الآخرون الذين تجب طاعتهم فإنّها محدودة بحدود ومقيدة بقيود ، ولا وجود للطاعة المطلقة بشأنهم أبداً ، وهذا الأمر واضحٌ.

هذا في الوقت الذي يختلف فيه مفسرو وعلماء أهل السّنة كثيراً في معنى اولي الأمر. فمنهم من فسّرها بمعنى «الصحابة» ، ومنهم بـ «قادة الجيش» ، وبعضهم فسّرها بـ «الخلفاء الأربعة».

وهم لم يقدموا أي دليل واضح لهذه التفاسير الثلاثة.

واعتبرت طائفة اخرى «اولي الأمر» بمعنى العلماء ، مستندين إلى الآية : (وَاذَا جَاءَهُم امرٌ مِّنَ الامنِ اوِ الخَوفِ اذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ الَى الرَّسُولِ وَالَى اولِى الامْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُم). (النساء / ٨٣)

ولكن نظراً إلى أنّ الآية التي هي محل بحثنا تبحث الطاعة بلا قيد أو شرط ، والآية ٨٣ من سورة النساء تتعلق بالسؤال والتحقيق فإنّها توضح أمرين مختلفين ، ولايمكن اعتبار كلا الأمرين بمعنى واحد ، فالتحقيق من العالم أمر ، والطاعة بلا قيد أو شرط أمر آخر ، فلا يتصور الثاني إلّابصدد المعصومين ، أمّا الأول فله مفهوم أوسع.

وقد أعطى بعض مفسّري أهل السّنة احتمالاً خامساً وهو : أنّ المراد من اولي الأمر هم ممثلو طبقات الناس ، والحكام ، والزعماء ، والعلماء ، وذوو المناصب في جميع شؤون الحياة.

٣٣

وبتعبير آخر : المقصود هم أهل الحل والعقد الذين حيثما اتفقوا على شيء تجب طاعتهم بلا قيد أو شرط «على شرط أن يكونوا منّا ، حيث ذُكرت (منكم) كشرط في الآية الكريمة ، ولا يخالفون سنة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يتعرضون للإجبار في مباحثاتهم ، وأن يتمتعوا باتفاق الآراء ، وتلك المسألة من المسائل».

فهذه المجموعة واجبة الطاعة في المسائل التي لم يصلنا فيها نصٌ ، ويمكن القول : إنّهم معصومون ، لذا ورد الأمر باطاعتهم بلا قيد أو شرط (١).

من هنا فالموما إليه يعتبر اولي الأمر مجموعة من العلماء وأهل الحل والعقد الذين تتوفر فيهم الشروط الخمسة التالية :

١ ـ الإسلام ، ٢ ـ عدم مخالفة السّنة ، ٣ ـ غير مجبور في ابداء الرأي ، ٤ ـ ابداء الرأي فيما لا نصَّ فيه ، ٥ ـ التمتع باتفاق الآراء ، ويعدُّ مثل هذه الجماعة معصومة.

فهل ياترى أنّ المقصود من «اولي الأمر» في الآية الكريمة هو هذا؟ وهل أنّ أهل العرف وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يستفيدون هذا المعنى عند سماعهم للآية؟ أم أنَّ هذا المعنى قد فُرض على الآية بتكلّف وعناء لئلا ينصرف معنى الآية إلى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام الذين يعتقد بهم الشيعة؟

ويظهر أنّ كلام تفسير «المنار» مشتق من كلام «الفخر الرازي» حيث يقول :

«واعلم أنّ قوله «اولي الأمر منكم» يدل عندنا على أنّ إجماع الأمّة حجة والدليل على ذلك أنّ الله تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم ، وفي هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ ، والخطأ لكونه منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال ، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة اولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كل من أمر الله تعالى بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ وليَّ الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً.

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٨١.

٣٤

ثم يضيف : ذلك المعصوم إمّا مجموع الامة أو بعض الامّة ، لا جائز أن يكون بعض الامّة ، لأننا بيّنّا أن الله تعالى أوجب طاعة اولي الأمر في هذه الآية قطعاً ، وايجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن الوصول إليهم ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الامّة ولا طائفة من طوائفهم ، وذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الامّة حجّة» (١).

إنّ ما وضع الفخر الرازي وصاحب المنار وأمثالهم في الزاوية الحرجة وجعلهم يفسرون هذه الآية بهذا التفسير الذي من المسلَّم أنّ أيّاً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يفهمه حين نزول الآية ، هو التعيين المسبق الذي يحول دون البحث عن مفهوم الآية في أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام المعصومين ، فمن ناحية أنّ دلالة الآية على عصمة اولي الأمر جليّةٌ.

ولم يكن في نيّتهم التسليم لشخص كإمام معصوم من ناحية اخرى ، لذا فهم يبحثون عن تفسير لم يفهمه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء نزول الآية.

والأعجب من جميع التفاسير هو التفسير الذي ينتخبه بعض مفسري أهل السنّة ، ويقولون : إنّ المراد من اولي الأمر : الحكام والأمراء والملوك ويجب اتباع أي حاكم يتسلط على المسلمين ، عادلاً كان أم ظالماً ، سالكاً جادة الصواب أم منحرفاً ، يأمر بإطاعة الله أم بمعصيته ، كما يقول في تفسير المنار في إشارة غامضة : «وبعضهم اطلق في الحكام فأوجبوا طاعة كلّ حاكم» (٢).

والأعجب من ذلك أيضاً ، الروايات المشكوكة والموضوعة التي نُسبت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لإثبات تفسير هذه الآية ، كالذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه لجابر الجعفي حين قال : يانبي الله أرأيت إن قامت علينا امراءُ يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إسمعوا وأطيعوا» (٣).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ١٤٤.

(٢) تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٨١.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ٤٧٤ ، كتاب الامارة ، باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق.

٣٥

وفي حديث آخر في الكتاب نفسه ، روي عن أبي ذر أنّه قال : «إنّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف» (١).

وقد فسّر البعض مجدع الأطراف بمعنى من ولد في بيت غير طاهر وملوث. ومن المسلَّم به أنّ الساحة المقدّسة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أطهرُ من أن يأمر خلافاً لمنطق العقل والشرع في الوقت الذي يروى عنه أنّه قال : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وأجلى دليل على ابتداع مثل هذه الأحاديث هو أنّ أباذر الذي روي عنه الحديث لم يفعل هكذا بشهادة تاريخه ، حتى أنّه قد ضحى بنفسه بسبب اعتراضه على انحراف امراء وحكام عصره!.

وعلى أيّة حال ، من الواضح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسمى من هذه الأقاويل ، فليس من إنسان عاقل ينطق بهذا الكلام ويقول : إنّ الحاكم واجب الطاعة في كل مايقول ويعمل ، لا سيما وأنّ هذا الحديث : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٢) مشهورٌ بين علماء المسلمين سواء الشيعة أو السّنة.

ولا طاعة لبشرٍ في معصية الله (٣).

من هنا نستنتج أنّ أصح تفسير للآية هو اطاعة الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

ويبقى لدينا سؤالان لابدّ من الاجابة عنهما ، وهما :

١ ـ إذا كان معنى «أولي الأمر» هو الإمام المعصوم ، فهل يتناسب مع كلمة «اولي» التي تفيد الجمع؟ فباعتقاد الشيعة أنّ الإمام المعصوم واحد لا أكثر في كلّ عصر.

وقد اتضح الجواب عن هذا السؤال في البحوث السابقة ، فصحيحٌ أنّ الإمام المعصوم واحدٌ في كل زمن ، ولكن بالنظر لعمومية الآية بالنسبة لكافة الأزمنة ، فإنّ الأئمّة المعصومين بمجموعهم يشكلون مجموعةً ، ونظير هذا المعنى كثير في كلمات العرب ، فمثلاً نقول : السلام عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم. فلا يمكن الاعتراض على هذا السلام ، فكل إنسان لا يمتلك أكثر من روح وجسم ، فلماذا ذكرت الأرواح والأجساد هنا بصيغة الجمع؟ الجواب : إنّ هذا الجمع ناظرٌ للمجموع.

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٤٦٧ ، كتاب الامارة ، باب طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق.

(٢) نهج البلاغة ، كلمات القصار ، الكلمة ١٦٥.

(٣) تفسير در المنثور ، ج ٢ ، ص ١٧٧.

٣٦

من هنا فبالرغم من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له وصيٌ في كل زمان لكنهم يتعددون في مجموع الأزمنة ، فيتحتم استخدام صيغة الجمع لهم.

٢ ـ والسؤال الآخر هو : إنّ الإمام المعصوم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يؤمر بطاعته؟

وجواب هذا السؤال هو ما ورد سابقا وهو : لو كانت الآية ناظرة إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط لورد مثل هذا الإشكال ، أمّا وأنّها تعتبر حكماً عاماً لجميع المسلمين حتى يوم القيامة فلا يرد ذلك الإشكال ، ففي عهد رسول الله كان هو الإمام صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي سائر العصور كان الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام ، فليس مفهوم الكلام «يجب على المسلمين اطاعة النبي وأوصيائه» هو وجوب وجود أوصيائه في عهده.

ونختتم هذا الكلام بإشارة سريعة إلى الروايات الواردة في كتب الشيعة والسّنة في ذيل هذه الآية والتي تفسرها بعلي عليه‌السلام وسائر الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام :

ينقل الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في كتاب ينابيع المودة ، عن تفسير «مجاهد» أنّ آية : (اطِيعُوا الله وَاطِيعُوا الرَسُولِ وَأولِى الأَمرِ مِنْكُم) نزلت في علي عليه‌السلام أثناء ما خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة خلال «معركة تبوك» ، ويروي عن علي عليه‌السلام بأنّه استدل بهذه الآية أثناء محاججته للمهاجرين والأنصار ، ولم يؤاخذه المهاجرون والأنصار (١).

ونقل في شواهد التنزيل عن الحاكم الحسكاني في ذيل الآية : (اطِيعُوا اللهَ وَاطِيعُوا الرَسُولَ وَأُولِى الأَمرِ مِنْكُم) ، سألتُ (أي علي) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يانبي الله منْ هم؟ قال : «أنت أولهم» (٢).

كما رويت روايات كثيرة عن أئّمة أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً في تفسير هذه الآية بالأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وبلغت العشرات ، وجاء فيها جميعاً أنّ «اولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون (٣).

__________________

(١) ينابيع المودة ، ص ١١٤ و ١١٥ و ١١٦.

(٢) شواهدالتنزيل ، ج ١ ، ص ١٤٨.

(٣) من أجل المزيد من الاطلاع راجعو تفسير البرهان ، ج ١ ص ٣٨١ إلى ٣٨٧ ؛ وتفسير كنز الدقائق ج ٣ ص ٤٣٧ ـ ٤٥٢.

٣٧
٣٨

٢ ـ الولاية والإمامة العامة

في السنة النبوية الشريفة

تمهيد :

يعتبر هذا القسم من أهم أقسام السنّة النبوية الشريفة وقد وردت بهذا الصدد روايات كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أشهر وأهم المصادر الإسلامية وحيث من المناسب الالتفات إليها بكامل الدقة والحياد ، من أجل إزالة الاتهامات التي الصقت بهذه المسألة سنوات طويلة ، وذلك من خلال نور العلم والاخلاص والبحث ، والكشف عن الصورة الحقيقية لها بعيداً عن التعصبات ، وليتضح واجبنا الإلهي ازاء هذه القضية الإسلامية المهمّة.

ونكتفي هنا بتناول جانب من الروايات المشهورة التي تتناول مسألة الإمامة والولاية بشكل عام ، مع شرح مختصر لمحتواها ومفهومها ، ونرجو من القراء الكرام أنْ يكرروا ملاحظة هذه الروايات والوثائق والمصادر ، وأن يطلعوا بدقة على مضمونها ، ونوكل إليهم الاستنتاج والاستنباط النهائي.

إننا نعتقد أنّ اتخاذ موقف اللامبالاة ازاء هذه الأحاديث الناطقة والمرور عليها مرور الكرام ، أو غض الطرف عن الحقائق ، لا يقلل من مسؤليتنا ، بل يضاعفها.

* * *

٣٩
٤٠