نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

١٥ ـ آية الانذار

(وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرِبينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ). (الشعراء / ٢١٤ ـ ٢١٥)

إِنَّ هذه الآيات لها قصة معروفة حيث ذكرها جميع مؤرخي الإسلام تقريبا.

وفي تفسير هذه الآية ، تشاهد رواية معروفة لدى الخاص والعام كما يقول «الطبرسي» في «مجمع البيان» ، وكذا قول «الحاكم الحسكاني» في «شواهد التنزيل» ، يقول «البراء بن عازب» : لمّا نزلت آية (وَانْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرِبينَ) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطلب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً ، الرجل منهم يأكل المسنة ، ويشرب العس ، فأمر علياً عليه‌السلام برجل شاة فأدمها ثمّ قال : ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع ، منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا ، فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذٍ ولم يتكلّم ، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله عزوجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ثم قال : من يؤاخيني (منكم) ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في اهلي ويقضي ديني. فسكت القوم. فأعادها ثلاثاً ، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي عليه‌السلام : أنا ، فقال في المرة الثالثة : أنت ، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أُمِّرَ عليك (١) ، نقل هذا الحديث في هوامش شواهد التنزيل عن «عبد الله بن عباس» وكذلك عن «أبي رافع».

وينقل عن «خصائص النسائي» أنّ «ربيعة بن ناجذ» يقول : إنّ رجلاً قال لعلي عليه‌السلام :

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ٤٢٠ (مع الاختصار) ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٧ و ٨ ، ص ٢٠٦.

٢٤١

ياأمير المؤمنين بم ورثت ابنَ عمك دون أعمامك؟ قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبدالمطلب فصنع لهم مداً من الطعام فأكلوا حتى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمس ، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنّه لم يُمس ، أو لم يُشرب ، فقال : «يا بني عبد المطلب إنّي بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة وقد رأيتم من هذه الآية ما قد رأيتم ، أيّكم يبايعني على أنّ يكون أخي وصاحبي ووارثي؟» فلم يقم إليه أحد فقمت إليه وكنت أصغر القوم فقال : اجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي ، ثم قال علي عليه‌السلام : بذلك ورثت ابن عمي دون عمي (١).

وقد نقل «الطبري» المؤرخ الشهير هذا الحديث أيضاً بالتفصيل ، ويقول تعقيباً عليه : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أومأ إلى علي عليه‌السلام وقال : «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا». فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (٢).

ثمّ نقل الطبري هذا المعنى بطرق اخرى.

من الامور الظريفة أنّ الطبري المؤرخ والمفسر السنّي الكبير ، الذي نقل قصة يوم الانذار في «تاريخه» بهذا النحو ، عندما يأتي إلى «التفسير» (التفتوا إلى أنّ للطبري تفسيراً مفصلاً في ٣٠ جزء ، عدا التاريخ) ويصل إلى هذه الآية ويروي الحادثة المذكورة ، يقول : إنّ النبيّ عليه‌السلام قال : «أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون اخي وكذا وكذا ... ، قال علي عليه‌السلام : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك ... فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا أخي وكذا وكذا» (٣).

فكما تلاحظون فإنّ هذا المفسّر المعروف يعبّر «بكذا وكذا» بدلاً عن وصيي وخليفتي فيكم ، وكرر هذا الأمر مرّتين لئلا يقع تعبير «الوصي والخليفة» بأيدي اتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ويقدمونه وثيقة على خلافة علي عليه‌السلام ، ويصاب حكم الطبري وأمثاله المسبق المليء بالتعصب!.

فهل هذا هو معنى المحافظة على الأمانة في تدوين ونقل أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ألم

__________________

(١) تعليقات شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ٤٢٣.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٦٣.

(٣) تفسير جامع البيان ، ج ١٩ ، ص ٧٥ ، ذيل الآية ٢١٤ من سورة الشعراء.

٢٤٢

يكن يفكر بأن تعبيره التاريخي سيوضع يوماً أمام تعبيره التفسيري ويقام القياس بينهما ، وتجري محاكمتهما؟ ويجدر الانتباه إلى أنّ الطبري ليس فريداً في القيام بهذا الفعل ، فهنالك الكثير ممن مارسوا ويمارسون هذه الأفعال.

فقد نقل الآلوسي هذه الرواية أيضاً في روح البيان بشكل ناقص ومعيب ، ثمّ يضيف : «ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه من أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع» (١).

إنّ الأحكام المسبقة لهذا المفسر المعروف عجيبة حقاً ، فهو يقول : بما إنّ هذه الرواية تصب في صالح الشيعة فأمّا يجب أن توجه ، أو تضعف ، أو تعتبر مزورة ، أي أنّ أساس الحكم لايستند إلى الحقائق التاريخية والقرآن والسنّة ، بل إلى الأحكام المسبقة وكل ما يخالفها يجب غض الطرف عنه وتبريره وتضعيفه.

ومن البديهي أنّه لو اجتمع جميع الأنبياء والكتب السماوية لعجزوا عن النفوذ إلى عقلية من يمتلك مثل هذا النمط من التفكير ، وتغييره.

لقد ذكر «أحمد بن حنيل» أحد أئمّة مذاهب السنّة في كتابه المعروف بـ «مسند أحمد» قصة يوم الانذار إلى أن يقول : قال علي عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما نزلت هذه الآية (وانذر عشيرتك الاقربين ...) قال : جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل بيته فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي ... فقلت : أنا (٢).

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي : أمّا خبر الوزارة (إشارة إلى الحديث الذي يثبت وزارة علي عليه‌السلام) فقد نقله الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لما انزلت هذه الآية (وانذر عشيرتك الاقربين ...) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاني ... ثمّ نقل القصة إلى أن ذكر قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله «وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٩ ، ص ١٣٥ ذيل آية البحث.

(٢) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ١١١ (مع شيء من الاختصار).

٢٤٣

هذا الأمر على أنّ يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فقال علي عليه‌السلام : أنا يارسول الله أكون وزيرك عليه ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم» (١).

انتبهوا إلى أنّه قد جاء في هذه الرواية وبعض الروايات المتقدمة التعبير بخليفتي فيكم ، ويتضح من ذلك أنّ التعبير بالاهل في الروايات الاخرى يفيد هذا المعنى أيضاً (تأملوا جيداً).

ذكر «ابن الاثير» (٢) هذه الحادثة أيضاً بالتفصيل في كتابه «الكامل» ـ بل وأكثر تفصيلاً من أغلب المحدثين والمؤرخين إلى أن يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنّ يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً» ، فقال علي عليه‌السلام : «أنا يارسول الله أكون وزيرك عليه ... فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» (٣).

واللطيف أنّه قد عبر بـ «خليفتي فيكم» في هذا الحديث أيضاً ، وفي الحقيقة أنّها احدى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أنّه قال هذه العبارة بحزم لعلي عليه‌السلام في ذلك الحين ، ولم يكن له من العمر سوى ثلاثة عشرة سنة ، فمن يستطيع التنبؤ بأنّ هذا الصبي ذا الثلاث عشر عاماً سيصبح من أعظم رجال البشرية في المستقبل ، ويستحق خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكل يسمعون له ويطيعونه؟

واللطيف أيضاً : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال هذا في الأيّام الاولى لدعوته ، يوم الانذار ، وكذلك في الأشهر الأخيرة من حياته المباركة ، أليس هذا الكلام أفضل دليل على إمامة علي عليه‌السلام؟

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١٣ ، ص ٢١٠.

(٢) «ابن الاثير» من أشهر المؤرخين حيث عاش في القرن السابع ، وتاريخه يقع في ١٣ جزء.

(٣) الكامل ، ج ٢ ، ص ٦٣.

٢٤٤

١٦ ـ آية مرج البحرين

(مَرَجَ البَحرَينِ يَلتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرزَخٌ لَّايَبْغيَانِ* فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ* يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرجَانُ). (الرحمن / ١٩ ـ ٢٢)

لقد وردت أقوالٌ كثيرة في تفسير هذه الآية ، وقد ذكرنا أبحاثاً كثيرة بهذا المضمار في التفسير الأمثل ، فتارة قيل : المراد من البحرين بحران ذواتا ماء عذب ومالح ، حيث يتجاوران في الكثير من المناطق دون أن يختلطا مع بعضهما ، ويلاحظ هذا المشهد جيداً في جميع المناطق التي تصب فيها الأنهار بالبحار.

والتفسير الآخر اللطيف لهذين البحرين ، تيار «غولف استريم» والأنهار البحرية العملاقة التي تتحرك في الكثير من محيطات العالم وتأخذ المياه الدافئة من المناطق الاستوائية نحو المناطق القطبية ، وربّما يختلف لونها عن لون المياة المحيطة بها ، والمدهش أنّ عرضها يبلغ أحياناً مائة وخمسين كيلو متراً وعمقها عدّة مئات من الأمتار ، وقد تصل سرعتها إلى ١٦٠ كم في اليوم! وتختلف درجة حرارتها عن المياه المجاورة ب ١٠ ـ ١٥ درجة!.

إنّ هذا التيار من المياه الدافئة يخلق رياحاً دافئة ويمنح قسماً من حرارته إلى المناطق المجاورة ، ويعمل على تلطيف الجو في المناطق الشمالية للكرة الأرضية التي يمر بها ، ويجعلها ملائمة ، ولولا هذه التيارات البحرية لتعسرت الحياة في تلك البلدان ، وربّما لا يمكن تجرعها.

وطبعاً فإنّ «غولف استريم» اسم لأحد التيارات والأنهار البحرية ، ويشاهد شبيه ذلك في مياه القارات الخمس ، وأنّ السبب الرئيس لهذه الحركة هو الاختلاف بين درجة حرارة مياه المناطق الاستوائية ومياه المناطق القطبية. (١)

__________________

(١) للمزيد من التفصيل في هذا الصدد وبشأن هذه الآيات راجعوا الى التفسير الأمثل ذيل الآيات مورد البحث.

٢٤٥

وحيث إنّ آيات القرآن ذوات ظاهر وباطن ، فقد تفسر تفسيراً مادياً ومعنوياً ، ففي الروايات الإسلامية فسر هذان البحران بعلي وفاطمة عليهما‌السلام ، وفسر اللؤلؤ والمرجان معنوياً بالحسن والحسين عليهما‌السلام.

فقد روي في «شواهد التنزيل» عن «سلمان الفارسي» في تفسير آية «مرج البحرين يلتقيان» أنّ «المراد هو علي وفاطمة عليهما‌السلام» ثمّ يضيف : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، يعني الحسن والحسين» (١) ، ونقل هذا المعنى بطريق آخر عن «ابن عباس» و «الضحاك» (٢).

وجاء في رواية اخرى عن «سعيد بن جبير» عن «ابن عباس» أنّ المراد من «مرج البحرين يلتقيان» علي وفاطمة عليهما‌السلام ، والمراد من «بينهما برزخ لا يبغيان» حب دائم لا ينقطع ولا ينفد ، والمراد من «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» الحسن والحسين عليهما‌السلام (٣).

وورد في رواية اخرى تعبير أكثر وضوحاً عن «ابن عباس» بشأن «بينهما برزخ لايبغيان» وهو أنّ المراد «ود لا يتباغضان» (٤).

وفي الحقيقة أنّ البرزخ يعني «الحائل بين شيئين» فالمحبة هنا تحول دون البغي والتجاوز.

وبعد أن يذكر «السيوطي» أيضاً في تفسيره الروائي «الدر المنثور» الروايات المتعلقة بالتفسير الظاهري لهذه الآية ، نقل مضمون الأحاديث المتقدمة عن «ابن عباس» وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقول : روى «ابن مردويه» عن «ابن عباس» في تفسير آية «مرج البحرين يلتقيان» ، أنّ المراد علي وفاطمة عليهما‌السلام.

ثمّ يضيف : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، يعني الحسن والحسين عليهما‌السلام» (٥).

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٢٠٩ (ح ٩١٩.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٠٨.

(٣) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٢١٠.

(٤) المصدر السابق ، ص ٢٣٠.

(٥) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ١٤٣.

٢٤٦

وروى هذا المعنى عن «انس بن مالك» أيضاً (١).

واللطيف أنّ المفسر المعروف «الآلوسي» بعد أن ينقل الرواية الآنفة في تفسير «روح المعاني» عن «ابن عباس» و «انس بن مالك» ، وكذا عن طريق الطبرسي عن «سلمان الفارسي» و «سعيد بن جبير» و «سفيان الثوري» يضيف قائلاً : «والذي اراه أنّ هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات ، وكل من علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علماً وفضلاً وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب جاوزت حد الحسبان» (٢).

إنّ اعترافه الصادق بمنزلة هؤلاء العظماء امر حسن في ذاته ، على شرط أن لا يكون غرضه سلب قيمة هذه الروايات!

ولعل الآلوسي تناسى أنّ هذا الحديث روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بطرق عديدة ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له كامل الصلاحية في تأويل الآيات ، وأنّ مقارنته بتأويلات الصوفيين الموضوعة والمنحرفة التي تفتقد للسند مقارنة مجحفة لا تتناسب وشأن العالِم.

على أيّة حال ، فهذه الآية من الآيات التي تدلل على الفضل العظيم والمقام الرفيع لعلي وزوجته وولديهما الحسن والحسين عليهم‌السلام ، لأنّها شبهت علياً وفاطمة عليها‌السلام ببحرين عظيمين ، البحر الذي يكشف عن عظمة الباري جلّ وعلا ، والذي يعتبر مصدراً للبركات ، ومنطلقاً للعلوم والمعارف الزاخرة ، ومظهراً بارزاً لفضائل الأخلاق كالجود والسخاء والطهارة والعصمة ، وتشبه ولديهما باللؤلؤ النفيس الذي لانظير له ، الذي ينمو في أعماق البحر ، ثمّ يبرز إلى الخارج ، تكامل فيه الحسن والجمال ، ظاهرياً وباطنياً ، والعلم والتقوى والفضيلة والطهارة والعصمة.

فأي شخص تشاهد فيه كل هذه المناقب؟ ومن أكثر جدارة بخلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير علي وأولاده عليهم‌السلام ، وكم مروا من هذه المناقب مرور الكرام!

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٣٧ ، ص ٩٣ (ذيل آيات البحث).

٢٤٧
٢٤٨

١٧ ـ آية النجوى

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذَا نَاجَيْتُمُ الَّرسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَاكُم صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُم وَاطْهَرُ فَانْ لَّمْ تَجِدُوا فَانَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحيمٌ*ءَاشْفَقْتُمْ انْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَاذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَاقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). (المجادلة / ١٢ ـ ١٣)

من القرائن المتوفرة في هاتين الآيتين ، وكذلك من شأن النزول الذي أورده الكثير من المفسرين من بينهم المرحوم «الطبرسي» في «مجمع البيان» ، و «الفخر الرازي» في «التفسير الكبير» ، و «القرطبي» في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» ، و «الآلوسي» في «روح المعاني» ، وغيرهم يستفاد أن نفراً من المسلمين وكما يقول بعض المفسرين أنّهم جماعة من الأغنياء والأثرياء كانوا يناجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبسط الامور من أجل الحصول على مكانة لهم لدى الناس ، غافلين عن حقيقة أنّ وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اثمن من أن يضيّعها شخص من أجل قضايا بسيطة أو لا أهميّة لها ، اضف إلى ذلك أنّ هذا الأمر كان يؤدّي إلى انزعاج المستضعفين ، وتمييز الأغنياء ، وأحياناً كان يبعث على التشاؤم.

فنزلت أول آية من الآيتين أعلاه تأمر المسلمين أنّ : (اذَا نَاجَيتُمُ الرَّسُولَ فَقَدَّمُوا بَينَ يَدَى نَجوَاكُم صَدَقَةً) ، فخلق هذا الايعاز اختباراً لطيفاً ، وكان محكاً للذين يزعمون قربهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أبى الجميع اعطاء الصدقة والنجوى سوى شخص واحد وهو أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، هنا تبيّن ما كان يجب أن يوضّح ويفهمه المسلمون ويعتبروا به ، وأخذوا منه الدرس البليغ.

٢٤٩

وبعد مدّة وجيزة نزلت الآية الثانية ، ونقضت هذا الحكم واصبح معلوماً استحكام حب المال في قلوب البعض من الرغبة في نجوى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان هذه النجوى غالباً ما كانت بشأن الامور غير الضرورية ، وكان القصد منها الحصول على الوجاهة الاجتماعية.

وقد وردت هنا روايات عديدة مفادها أنّ علياً هو الرجل الوحيد الذي عمل بهذه الآية. روي في شواهد التنزيل عن مجاهد ، عن علي عليه‌السلام أنّه قال : «انَّ في القرآن لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا بعدي وهي آية النجوى ، قال : كان لي دينارٌ فبعته بعشرة دراهم فكلما اردت أن أناجي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تصدقت بدرهم منه ثم نُسختْ» (١).

ونقل في رواية اخرى عن أبي أيوب الأنصاري قال : نزلت هذه الآية في علي : (يَا ايُّهَا الَّذِينَ ... صدقة) ، أنّ علياً ناجى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر نجوات ، يتصدق في كل نجوة بدينار (٢).

وجاء في نفس الكتاب أيضاً في روايةٍ اخرى عن مجاهد انَّ في القرآن آية لم يعمل بها أحد غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام حتى نُسختْ ، وهي : (يَا ايَّهَا الَّذِين آمَنُوا اذَا نَاجَيتُمُ الرَّسُولَ ...) ، فهو قد ناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصدق بدينار (٣).

ونُقلت في هذا الكتاب روايات اخرى عديدة بهذا الصدد تُناهز عشر روايات!.

وذكر السيوطي في تفسيره الروائي «الدر المنثور» هذه الرواية أيضاً بطرق عديدة (أكثر من سبع طرق) ، لا سيّما أنّه ينقل عن «الحاكم النيشابوري» باقراره أنّ هذا الحديث صحيحٌ ، عن علي عليه‌السلام : «إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا أحد بعدي» ، ثم ذكر بقية الحديث كما ذكرنا أعلاه عن شواهد التنزيل (٤).

وفي الكتاب نفسه ينقل عن الكثير من الرواة عن علي عليه‌السلام : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استشار علياً بشأن تحديد مقدار هذه الصدقة قائلا : ما ترى ديناراً ، قلت : لا يطيقونه ، قال : فنصف دينار قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم ، قلت : قلت : شعيرة قال : إنّك لزهيد ، قال : فنزلت

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٢٣١ ، ح ٩٥١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٤٠ ، ح ٩٤٦.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

٢٥٠

ءَأَشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ، قال : فبي خفف الله عن هذه الامّة» (١).

وهنالك رواية لطيفة بهذا الصدد ينقلها «البرسوني» في تفسير «روح البيان» عن «عبد الله بن عمر» حيث كان يقول : كان لعلي عليه‌السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كان أحبّ إليَّ من حمر النعم ، تزويجه فاطمة عليها‌السلام ، واعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى» (٢).

وأورد الزمخشري ذلك أيضاً في «الكشاف» (٣).

وكذلك القرطبي في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» (٤).

والطبرسي في «مجمع البيان» (٥).

وفي الحقيقة أنَّ «عبد الله بن عمر» أشار إلى ثلاث قضايا مهمّة وهي : إنَّ فاطمة عليها‌السلام وكما يعبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله «سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين» ، لم يكن لها كفوٌ سوى علي عليه‌السلام إذ كان رجل التاريخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقضية اعطائه الراية يوم خيبر ، واحرازه للقب «كرار غير فرار» ، بعد أن تقدم الآخرون وقفلوا خائبين ، والظفر الذي تحقق من خلال ذلك يعدُّ منقبة اخرى لا نظير لها ، وكذلك وجود آية في القرآن ما عمل بها إلّاعلي عليه‌السلام.

والمدهش أنّ البعض يصرّون على التقليل من أهميّة هذه المنقبة ، بل انكار كونها منقبة بشكل تام! وكالمعتاد فإنّهم يتوسلون بمختلف المبررات والعلل الواهية ، والتي لا أساس لها.

فتارةً يدَّعون أنَّ كبار الصحابة لما لم يقوموا بهذا العمل فلأنّهم لم يروا حاجة إليها! واخرى يقولون : لم يكن لديهم متسع من الوقت لأنّ الآية سرعان ما نُسختْ! وحيناً يقولون : إنَّ الآخرين كانوا يظنون أنّ اعطاء الصدقة والنجوى يؤدي إلى انزعاج الفقراء وذعر

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٠٦.

(٣) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٤٩٤ (ذيل آيات البحث).

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٢.

(٥) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ٢٥٢.

٢٥١

الأغنياء ، والفقراء عاجزون عن القيام بمثل ذلك ، والأغنياء القادرون على ذلك يخشون التعرض للتأنيب إذا تركوه ، وعلى هذا الأساس فانَّ عدم عمل الآخرين بهذه الآية لا يسلب الفضل عنهم (١).

ولكن ، يبدو أنَّ هؤلاء المفسرين الكبار! قد نسوا الآية الثانية خلال اختلاقهم لهذه المبررات ، إذ وجّه القرآن الكريم اللَّومَ لمن تناجوا آنفاً وتركوا ذلك بعد نزول حكم الصدقة ، فيقول تعالى : (ءَاشْفَقْتُم انْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجوَاكُم صَدَقَاتٍ).

ثم يعدُّ القرآن هذا الفعل وكأنّه معصية ، ويعتبرهم إجمالاً مشمولين بالتوبة «وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُم» ، ومن أجل تلافي هذا العمل القبيح أمرهم بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله.

فلو كان الوقت ضيقاً لما كان هناك ما يدعو للتأنيب واللوم ، ولا حاجة للتوبة ، وإذا كان هدفهم استقطاب قلوب الفقراء وازالة الاضطراب عن قلوب الأغنياء فهو عمل يستحق التشجيع والتكريم ، فلماذا يوجه الباري تعالى اللوم لهم ويتحدث عن التوبة؟ إذن من خلال التأمل في هذه الآية يتبيّن جيداً أنّ عملهم كان قبيحاً.

فالواقع أنّ القضايا الواقعة لا تتفق والحكم المسبق لهؤلاء الاخوة ، فإنّ كل شيء وحتى آيات القرآن الكريم يلفّها النسيان ، والحال أنّها شاخصة أمامهم.

وهنا يقول البعض من أجل التقليل من أهمية هذه الفضيلة : لقد كان الفاصل الزمني بين نزول آية النجوى ونسخها ساعة واحدة فقط ، لهذا لم يفلح كبار الصحابة بالعمل بها ، فهؤلاء من الناسين أيضاً ، حيث لم ينتبهوا إلى لحن آية النسخ ، الآية التي توجهت إلى بعض الصحابة باللوم لتركهم الصدقة خشية الاملاق ، وتغاضوا عن النجوى ، والآن فإنّ الله تعالى يقبل توبتهم.

فاذا كان الفاصل الزمني بينهما ساعة واحدة فقط لن يبق مجال لهذه الجدالات ، وعليه فمن المناسب أن تكون هناك رواية تقول : إنّ الفاصل الزمني بينهما كان عشرة أيّام (٢).

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢٧٢ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٨.

(٢) في تفسير روح المعاني ، نقل هذا القول عن مقاتل الذي كان معاصراً للمنصور الدوانيقي ، ومن تلامذة التابعين.

٢٥٢

سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى ههنا هو : كيف يعد هذا العمل فضيلة؟ وهل الأمر كما يقول بعض المتعصبين من المفسرين : أن لا العمل بها يعد فضيلة ولا تركها منقصة؟

أم أنّ الأمر كما جاء في الروايات الإسلامية من أنّ علياً عليه‌السلام كان يعتبرها منقبة عظيمة بالنسبة له ، وأنّ عبد الله بن عمر كان يعدُّ الزواج من فاطمة عليها‌السلام سيدة النساء وفتح خيبر منقبة؟

لقد تبيّن الجواب عن هذا السؤال خلال البحوث المتقدمة ، ونضيف : إنَّ أفضل طريق للحصول على جواب هذا السؤال هو الرجوع إلى القرآن الكريم والتمعن في الآية الناسخة (الثانية) ، فهذه الآية تثبت أنّ الله تعالى كان يريد بهذا الحكم اختبار المسلمين ، هل أنّهم على استعداد لدفع شيء ما من أجل النجوى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حيث كانوا يزعمون أنّها تجري من أجل مصالح المسلمين ، وأن يتصدقوا في سبيل الله؟

وهنا يخرج شخص واحد ظافراً من هذا الاختبار ، وهو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أليس هذا هوالفخر بعينه؟

وبعبارة اخرى : فإنّ جميع الناس شملهم التأنيب والتوبيخ والتوبة الواردة في هذه الآية ، والوحيد الذي لم يشمله هذا التوبيخ هو علي عليه‌السلام ، فلماذا ياترى يُنكر بعض العلماء حقائقَ بهذا الجلاء والوضوح؟ اجيبوا أنتم؟!

* * *

٢٥٣
٢٥٤

١٨ ـ آية السابقون

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* اولَئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ). (الواقعة / ١٠ ـ ١٤)

روي في تفسير «شواهد التنزيل» لـ «الحاكم الحسكاني» عن «ابن عباس» : «السُّباق ثلاثة : سَبقَ يوشع بن نون إلى موسى ، وسَبقَ صاحب ياسين إلى عيسى ، وسَبقَ علي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وروي في الكتاب نفسه عن «ابن عباس» قوله : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير هذه الآية ، فقال : «حدثني جبرئيل بتفسيرها ، قال ذاك علي وشيعتُه إلى الجنّة» (٢).

هذان التفسيران لا يتعارضان مع بعضهما ، لأنّ علياً عليه‌السلام كان سبَّاقاً إلى الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك فهو سبّاقٌ إلى الجنّة ، وفي الحقيقة أنّ بينهما ارتباط والتحام لا ينفك أبداً.

وفي الكتاب نفسه نُقلت عدّة أحاديث اخرى في هذا الصدد.

وفي تفسير «الدر المنثور» أيضاً نُقلت روايتان عن «ابن عباس» في هذا المجال ، في احداهما ينقل «ابن أبي حاتم» ، و «ابن مردويه» عن «ابن عباس» في تفسير هذه الآية ، قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

وفي الكتاب نفسه ينقل حديثاً آخر بنفس المضمون (٤).

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٢١٣ ، ح ٩٢٤.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢١٥ و ٢١٦ ، ح ٩٢٧.

(٣) تفسير در المنثور ، ج ٦ ، ص ١٥٤.

(٤) المصدر السابق.

٢٥٥

ومن الذين نقلوا هذه الرواية هو «ابن المغازلي» (على ضوء نقل ابن البطريق) في كتاب «العمدة» ، و «سبط ابن الجوزي» في «التذكرة» ، و «ابن كثير» في «تفسيره» ، و «ابن حجر» في «الصواعق» ، و «العلّامة الشوكاني» في «فتح القدير» ، و «الشيخ سليمان القندوزي» في «ينابيع المودة» (١).

والمسألة الجديرة بالاهتمام أيضاً هي أنّ «القاضي روز بهان» الذي يتّصف بتعصب خاص في القضايا المتعلقة بالإمامة والخلافة ، وكتابه المسمى «ابطال نهج الحق» شاهد على هذا المعنى ، يقول في معرض اجابته للعلّامة الحلّي بشأن هذه الآية (حيث ينقل العلّامة الحلّي في كتابه ، عن طريق أهل السنّة عن ابن عباس سابقُ هذه الامّة علي بن أبي طالب) في كتابه «ابطال نهج الحق» : هذا الحديث جاء في روايات أهل السنّة ولكن بهذه العبارة : سبّاق الامّة ثلاثة : مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار ، وعلي بن أبي طالب» ثم يضيف : ولا شك أنّ علياً عليه‌السلام سابق في الإسلام ، وصاحب السابقة والفضائل التي لا تحصى ، ولكن لا تدل الآية على نص بإمامته (٢).

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم قول أي أحد بأنّ هذه الأحاديث لوحدها تعني النصّ على إمامة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، بل الغرض أنّنا عندما نستجمع هذه الآيات والروايات مع بعضها نرى أنّ علياً عليه‌السلام ابرز شخص في الأمّة الإسلامية كان لائقاً لهذا المقام ، ولا يلحقه أحد في هذا المجال.

فهل من المناسب أن نقدّم غيره عليه مع كل هذه المناقب التي لا تقبل الانكار ، ونتبع غيره مع وجوده؟!

* * *

__________________

(١) احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١١٤ ـ ١٢٠.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٢١.

٢٥٦

نستأنف هذا البحث بذكر أمرين :

١ ـ مَن المقصود من : «قليلٌ من الآخرين»؟

في سياق الآيات المتقدمة ، وبعد ذكر القرآن الكريم لمنزلة السابقين الرفيعة على أنّهم المقربون لدى الله تعالى وأنّ منزلتهم في جنات النعيم ، يضيف : (ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ).

ينقل الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عدّة روايات عن «محمد بن فرات» ، و «محمد بن سهل» ، و «علي بن عباس» عن «جعفر بن محمد عليه‌السلام» انّه قال في تفسير آية : (وقليل من الآخرين) هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

ومن البديهي أن ليس مفهوم الآية أنّ جنّة هذه الامة مختصة به ، بل إنّ مقام السبق في الإيمان يستدعي مقامات سامية في الجنّة والقرب من الله تعالى حيث يختص بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام (بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

من هنا ففي الآيات اللاحقة من هذه السورة التي توضّح منازل ومزايا طائفة اخرى من أهل الجنّة (أصحاب اليمين) ، يقول تعالى في آخر المطاف : (ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ* وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ). (الواقعة / ٣٩ ـ ٤٠)

واضح أنّ أصحاب اليمين وإن كانوا من أهل الجنّة إلّاأنّهم يُدانون «المقربين من السابقين».

* * *

٢ ـ مَنْ هو أول مسلم؟

هذا بحث مهم «مَنْ هو أول مَن آمن»؟ والبحث حوله لا تخفى أهميّته؟

فقد اتفقت الامّة الإسلامية جميعها على أنّ خديجة الكبرى عليها‌السلام كانت أوّل مَنْ آمن من النساء ، أمّا من الرجال فبالرغم من اصرار البعض على تعقيد المسألة وتعريضها للبحث

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ، الأحاديث ٩٣٢ ـ ٩٣٥.

٢٥٧

والجدال ، فمن خلال تفحص الأحاديث والتواريخ لا يبقى شك لكل مراقب محايد ، بأنّ عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان أول مؤمن ، فهو كان أول مصدّق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأول مَن بايعه ، وأول مَن صلّى معه.

إنّ القرائن والأدلة على هذه القضية متوفرة في جميع المصادر الإسلامية حيث نشير فيما يأتي إلى جانب منها :

لقد روى ـ ما لا يقل عن ثمانية عشر من الصحابة وبطرق مختلفة ـ هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ علياً عليه‌السلام كان أول مَن آمن من الرجال وصلّى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١ ـ يقول أبو سعيد الخدري وهو من كبار الصحابة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرب على كتف علي عليه‌السلام وقال : «يا علي لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة أنت أول المؤمنين إيماناً بالله ...» (١).

٢ ـ تقول عائشة : نقلت فاطمة عليها‌السلام هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لها : «زَوَّجتُكِ أعلمَ المؤمنين علماً واقدمَهمْ سلماً وافضلهم حلماً» (٢).

٣ ـ يقول ابن عباس : سمعت «عمر بن الخطاب» يقول :

كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه خصالاً لئن تكون لي واحدة فهي في آل الخطاب أحب اليَّ مما طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانتهيت إلى باب أم سلمة ، وعلي قائم على الباب فقلنا : أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يخرج إليكم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصرنا إليه فاتكأ على علي بن أبي طالب ثم ضرب بيده منكبه ، ثم قال : «إنّك مخاصم تخاصم ، أنت أول المؤمنين إيماناً ، وأعلمهم بأيّام الله ، وأوفاهم بعهده ، وأقسمهم بالسوية ، وأرأفهم بالرعية وأعظمهم رزية» (٣).

إنّ هذا الحديث يكشف عن قضايا كثيرة لا يستوعبها هذا البحث.

__________________

(١) أورد هذا الحديث «أبو نعيم الاصفهاني» في «حُلية الاولياء» ، ج ١ ، ص ٦٦.

(٢) ينقل هذا الحديث «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» في ترجمة الإمام علي عليه‌السلام ج ١ ، ص ٢٤٤.

(٣) كنز العمال ، ج ١٣ ، ص ١١٧.

٢٥٨

٤ ـ يروي «معاذ بن جبل» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعلي عليه‌السلام : «تخصمُ الناس بسبع لا يحاجك فيه أحد من قريش أنت أولهم إيماناً بالله» (١).

٥ ـ تروي «أسماء بنت عميس» زوجة جعفر بن أبي طالب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة : «زوجتُك أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً» (٢).

٦ ـ يقول «سلمان الفارسي» : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أولكم وروداً على الحوض ، أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب» (٣).

٧ ـ يقول «أبو سخيلة» حججت مع سلمان فنزلنا بأبي ذر فكنا عنده ما شاء الله ، فلما حان منا خفوف قلت : يا أبا ذر اني ارى أموراً قد حدثت واني خائف أن يكون في الناس اختلاف فإن كان ذلك فما تأمرني؟ قال : «إلزم كتاب الله عزوجل وعلي بن أبي طالب فأشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : علي أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصديق الأكبر وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل» (٤).

٨ ـ يقول «عبد الرحمن بن عوف» في حديث في ذيل آية «السابقون الاولون» ، كانوا عشرة انفار من قريش : «كان أولهم إسلاماً علي بن أبي طالب» (٥).

٩ ـ ينقل جمال الدين أبو الحجاج في كتاب «تهذيب الكمال» عن «أبو رافع» من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أول مَنْ أسلم من الرجال علي» (٦).

١٠ ـ يروي أنس بن مالك خادم رسول الله أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أول هذه الامّة وروداً على

__________________

(١) أورد هذا الحديث شهاب الدين الحسيني الشافعي في كتاب «توضيح الدلائل» ، ص ١٧١ (حسب نقل احقاق الحق ، ج ٢٠ ، ص ٤٥٥.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، ج ١ ، ص ٢٤٥.

(٣) أورد هذه الرواية محمد بن أبي بكر في كتاب «الجوهرة» ، ص ٨ ، ونقلها صاحب كتاب كنز العمال أيضاً دون ذكر سندها ، ج ١١ ص ٦١٦.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ، ج ١٧ ، ص ٣٠٦ ، حسب نقل احقاق الحق ، ج ٢٠ ، ص ٤٧٢ ، وأورد هذا الحديث كنزُ العمال من عبارة (إنّ هذا أول من آمن بي إلى الأخير) في ج ١١ ، ص ٦١٦ ، ح ٣٢٩٩٠.

(٥) مختصر تاريخ دمشق ، ج ١٧ ، ص ٣٠٧ ، تأليف الإمام محمد بن مكرم المعروف بابن منظور).

(٦) تهذيب الكمال ، ج ٣ ، ص ٨٥ ، (طبقاً لنقل احقاق الحق ، ج ٢٠ ، ص ٣٦٧).

٢٥٩

الحوض أولها إسلاماً ، علي بن أبي طالب» (١).

١١ ـ يقول ابن عباس يمتاز علي عليه‌السلام بأربع خصائص لسْنَ في احد غيره : هو اول عربي وعجمي صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

ويقول في موضع آخر : «أول مَنْ أسلم بعد خديجة ، علي بن أبي طالب» (٣).

١٢ ـ ينقل المحدّث المعروف النسائي في كتاب «السنن» عن زيد بن أرقم أنّه قال : «اول مَن أسلم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب» (٤).

١٣ ـ ينقل أبو أحمد الجرجاني الشافعي في كتاب «الكامل في الرجال» عن مالك بن الحوريث» أنّه قال : «كان علي أول مَن اسلم من الرجال وخديجة أول مَن أسلم من النساء» (٥).

١٤ ـ تقول ليلى الغفارية ، وهي امرأة كانت تداوي جرحى الحرب في عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : خرجت مع علي عليه‌السلام بالبصرة فلما رأيت عائشة واقفة دخلني شيء من الشك فأتيتها ، فقلت : هل سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضيلة في علي؟ قالت : نعم ، دخل علي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على فِراش لي وعليه جرد قطيفة فجلس بينهما فقلت له : أما وجدت مكاناً هو أوسع لك من هذا؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عائشة دعي لي أخي فإنّه أول الناس بي إسلاماً وآخر الناس بي عهداً عند الموت وأولى الناس بي يوم القيامة» (٦).

١٥ ـ ينقل أحمد بن حنبل ـ أحد الأئمّة الأربعة لأهل السنّة في مسنده ـ حديثاً عن الصحابي المعروف «معقل بن يسار» : إنّي كنت ذات يوم جالساً عند الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هل لك في فاطمة عليها‌السلام تعودها؟ فقلت : نعم ، فقام متوكئاً عليَّ ، فقال : أمّا أنّه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك ، قال : فكأنّه لم يكن على شيء حتى دخلنا على فاطمة عليها‌السلام ،

__________________

(١) أورد هذا الحديث ابن عديم الحلبي وهو من علماء القرن السابع الهجري ، في كتابه تاريخ حلب ص ٢٩٥.

(٢) المختار في مناقب الابرار ، ص ١٦ ، طبقاً لنقل احقاق الحق ، ج ٢٠ ص ٤٥٧).

(٣) ورد هذا الحديث في كتاب آل محمد ، ص ١٧٤ ، عن حسام الدين الحنفي.

(٤) احقاق الحق ، ج ٢٠ ، ص ٤٧٥.

(٥) الكامل في الرجال ، ج ٦ ، ص ٢٣٧٨.

(٦) نقل هذا الحديث محمد بن مكرم الأنصاري في كتاب مختصر تاريخ دمشق ، ج ١٧ ، ص ٣٠٨.

٢٦٠