نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

١ ـ حديث الثقلين

لقد سمي هذا الحديث بهذا الاسم لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه : «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ...» (١). ونقل هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل واسع للغاية في كتب الشيعة والسّنة المشهورة (وفي مصادر الدرجة الاولى) بحيث لم يبق معه شك في صدور هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وبشكل عام ، يمكن الاستفادة من هذه الأحاديث ، بأنّه من الأحاديث التي لم يدل بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمرة واحدة فيكون حديثا واحداً ، ورواته كثيرين ، بل إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكره في موارد مختلفة ، وقد روي بروايات متعددة.

ونذكر هنا رواة هذا الحديث والكتب الإسلامية التي ورد فيها :

١ ـ ففي صحيح مسلم الذي هو من أشهر المصادر لدى أهل السنّة وأهم الصحاح الستة ، ينقل عن «زيد بن أرقم» أنّه قال : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً ، بين مكة والمدينة (٢) ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثم قال : أمّا بعد ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتي رسول ربّي فاجيب وأني تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي اذكركُم الله في أهل بيتي ، اذكركُم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي» (٣).

__________________

(١) تقرأ كلمة «ثقلَين» على نحوين فتارة تقرأ على وزن «حَرَمَين» ، ومفردها (ثَقَل) على وزن «حَرم» وتعني الشيء الثمين والنفيس ، كما تأتي بمعنى امتاع المسافر ، وتارةً تُقرأ (ثِقْلَيْن) على وزن (سِبْطَيْنِ) حيث تعني الشيء الثقيل ، ويعتقد صاحب كتاب «التحقيق» أنّ الاولى تعني القيمة المعنوية (والثانية أكثر شمولية) كما ينبغي الانتباه إلى أنَ (ثَقل) على وزن (حرم) صفة مشبهة ، و (ثِقْل) على وزن (سبط) اسم مصدر.

(٢) جاء في هامش صحيح مسلم أنّ غدير خم يبعد عن الجحفة ثلاثة اميال.

(٣) صحيح مسلم ، ج ٤ ص ١٨٧٣.

٤١

إنّ جعل أهل البيت عليهم‌السلام في موازاة القرآن باعتبارهما شيئين ثمينين ، والتأكيد على التذكير بالمسؤولية الإلهيّة تجاههما يبرهن على علاقة هذا الأمر بمصير المسلمين وهدايتهم والمحافظة على اصول الإسلام ، وإلّا لما اجتمعا.

٢ ـ وجاءت في نفس الكتاب رواية اخرى لنفس الراوي مع شيء من الاختلاف (١).

واللطيف أنّه عندما يُسأل زيد بن أرقم تعقيباً على هذه الآية هل المقصود من أهل بيته زوجاته؟ فيجيب : لا ، المقصود من أهل البيت أهله من النسب الذين تحرم عليهم الصدقة.

٣ ـ ونقرأ في كتاب سنن الترمذي الذي يعرف بـ «صحيح الترمذي» أيضاً في بحث مناقب أهل البيت عليهم‌السلام عن جابر بن عبد الله أنّه يقول : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عرفة وقد صعد ناقته وخطب ، فسمعته يقول : «ياأيّها الناس إني قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (٢).

ثم يضيف الترمذي : وقد روى كل من أبي ذر ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن الأرقم ، وحذيفة هذا المعنى أيضاً.

٤ ـ بعد قليل وفي نفس الكتاب يروي عن أبي سعيد وزيد بن الأرقم أنّهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي : أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (٣).

٥ ـ وفي سنن الدارمي وهو من الكتب المعروفة أيضاً ، روي حديث يشابه حديث زيد بن الأرقم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويختتم الكلام بالتصريح باسم الثقلين و «كتاب الله وأهل البيت» (٤).

ولا ينبغي نسيان أنّ (الدارمي) وبناء على ما قاله بعض العارفين هو استاذ مسلم وأبي داود ، وكتاب سنن الدارمي أحد الكتب الستة المعتبرة المعروفة لدى أهل السُّنة (وان ذكر

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٨٧٤.

(٢) صحيح الترمذي ، ج ٥ ، ص ٦٦٢ ، باب مناقب أهل بيت النبي ، ح ٣٧٨٦.

(٣) صحيح الترمذي ، ص ٦٦٣ ، ح ٣٧٨٨.

(٤) سنن الدارمي ، ج ٢ ، ص ٤٣٢.

٤٢

البعض سنن ابن ماجه بدلاً عنه).

٦ ـ ونقرأ في مسند أحمد وهو من الأئمّة الأربعة لأهل السنّة رواية عن زيد بن ثابت حيث يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله حبل ممدودٌ ما بين السماء والأرض ، أو ما بين السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (١).

انتبهوا إلى أنّه في بعض هذه الروايات ورد «الثقلين» «كما في رواية صحيح مسلم». وفي بعضها «خليفتي» «كما في الرواية الأخيرة التي نقلت عن سنن أحمد» ، وفي البعض الآخر لم يرد ايّ منهما ، بل مفهومها ومضمونها ، وفي الحقيقة فانّها جميعاً تعود إلى أمر واحد.

٧ ـ يروي أحمد بن شعيب «النسائي» ـ الذي يعتبر من أعاظم أهل السنّة أيضاً ، وكتاب سننه من الصحاح الستة المشهورة أيضاً ـ في كتاب «الخصائص» عن زيد بن الأرقم قوله : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحين عودته من حجة الوداع ووصوله إلى غدير خم أمر بإقامة ظلة هناك واغتسل تحتها ثم قال : «كأنّي دعيت فاجبتُ ، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : إنّ الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي عليه‌السلام ، فقال : منْ كنتُ مولاه فهذا وليه ، اللهم وال مَنْ والاه وعاد من عاداه».

وفي نهاية الرواية ورد أنّ الراوي الثاني «أبو طفيل» قال : قلتُ لزيد بن الأرقم : أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟.

قال : كلُّ من كان تحت الظلة رأى هذا المنظر بعينيه ، وسمع هذا الكلام بأذنيه (٢).

هذه الرواية تبرهن جيداً على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أدلى بهذا الكلام في الملأالعام ، وبحضور حشد غفير في غدير خم ، والجميع قد سمعوا ذلك.

__________________

(١) مسند الإمام أحمد ، ج ٥ ، ص ١٨٢.

(٢) خصائص النسائي ، ص ٢٠ ، وفقاً لما نقل عن فضائل الخمسة ، ج ٢ ص ٥٤.

٤٣

٨ ـ ويروي الحاكم النيسابوري ـ وهو من علماء القرن الرابع الهجري في كتاب مستدرك الصحيحين وهو من المصادر المعروفة لدى أهل السنة ويضم الروايات التي لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم ، بينما هو في مرتبتهما من ناحية القيمة والوزن ـ هذا الحديث عن ابن واصلة أنّه يقول : سمعت من زيد بن الأرقم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصل إلى أشجار بين مكة والمدينة وكانت هناك خمس ظلل ، فنزل وقام الناس بتنظيف ما تحت الأشجار ، وبعد صلاتي الظهر والعصر ، خطبنا رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ، وبالغ في الوعظ ثم قال : «أيّها الناس إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلوا أن اتبعتموهما : وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي» (١).

ثم يضيف الحاكم : وهذا الحديث صحيح على شرط الشيخين (٢).

٩ ـ يقول ابن حجر الهيثمي مفتي الحجاز وهو من ألد أعداء الشيعة ، في كتاب «الصواعق المحرقة» : في رواية صحيحة «كأنّي قد دُعيت فاجبت ، إنّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عزوجل وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم يضيف : وقد وردت هذه الزيادة في رواية اخرى أيضاً : «سألتُ ربّي ذلك لهما ، فلا تتقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولاتعلموهم فإنّهم اعلم منكم».

ثم يضيف : إنّ لهذه الرواية طرقاً ورواة كثيرين يربون على نيف وعشرين راوياً ، ولا حاجة لشرحه وتفصيله (٣).

إنّ هذا الاقرار الصريح بسعة هذا الحديث «إلى حد التواتر» ومن شخص طالما شنَّ أعنف الهجمات على الشيعة فيما يخص مسألة الإمامة لهو أمرٌ جديرٌ بالاهتمام.

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ، ج ٣ ، ص ١٠٩ (طبقاً لنفس المصدر).

(٢) المراد من شرط ذينك الشخصين هو أنّهما ينقلان الأحاديث التي تنتهي سلسلة سندها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ رواتها يحظون بثقتهما وليسوا متهمين ، وحيث إنّهما لم ينقلا كل الأحاديث التي تتمتع بهذا الشرط ، فقد قام الحاكم النيسابوري بجمع الأحاديث التي تتمتع بالشروط ولم تأت في الكتابين ، وذلك في كتابه «المستدرك» ، من هنا يمكن أن يكون المستدرك موازياً لصحيحي البخاري ومسلم.

(٣) الصواعق ، ص ٢٢٦.

٤٤

١٠ ـ يروي ابن الأثير «محمد بن محمد بن عبد الكريم» صاحب الكتب المشهورة والتي من بينها كتاب «اسد الغابة في معرفة الصحابة» في أحوال «عبد الله بن حنطب» أنّه قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجحفة فقال : ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يارسول الله! قال إنّي سائلكم عن اثنين عن القرآن وعن عترتي» (١).

١١ ـ وذكر «جلال الدين عبد الرحمن السيوطي» وهو من العلماء المعروفين أيضاً وصاحب المؤلفات الكثيرة (٢) ، في كتاب «احياء الميت» ما أورده ابن الأثير في اسد الغابة (٣).

١٢ ـ وقد أورد البيهقي «أبو بكر أحمد بن الحسين» الذي يقول الزمخشري بحقه : «إنّ للشافعي دَيْناً على عاتق جميع أتباعه ، إلّاأنّ البيهقي ولما كتبه فهو ذو حق على الشافعي نفسه وعلى أتباعه أيضاً» (٤).

وأورد هذا الحديث في كتاب «السنن الكبرى» وهو من أهم كتبه (نظيراً لما ورد في صحيح مسلم لا سيما وأنّ كلمة أهل البيت قد تكررت فيه ثلاثاً) (٥).

١٣ ـ كما أنّ الحافظ الطبراني وهو من المحدثين المعروفين لدى أهل السنة «وقد عاش في القرن الثالث والرابع للهجرة» وكما يقول البعض : إنّه عاصر أكثر من ألف استاذ في الحديث ، يروي في كتابه الموسوم «المعجم الكبير» بسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا الناس إلى اتباع الثقلين ، فقام رجل وسأله : يارسول الله ، وما الثقلان؟ قال : «الأكبر كتاب الله ، سببٌ طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لا تزلّوا ولا تضلوا ، والأصغر عترتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وقد سألتُ ربّي لهما ذلك ، فلا تتقدموهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم» (٦).

__________________

(١) اسد الغابة في معرفة الصحابة ، ج ٣ ، ص ٤٧.

(٢) قيل إنّه كتب أكثر من خمسمائة كتاب (الكنى والالقاب ، ج ١ ص ٢٠٧).

(٣) احياء الميت الذي طبع على هامش الاتحاف ، ص ١١٦.

(٤) الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ١١٤.

(٥) سنن البيهقي ، ج ١٠ ، ص ١١٤.

(٦) المعجم الكبير ، ص ١٣٧ ، وفقاً لما نقله احقاق الحق ، ج ٩ ، ص ٣٢٢.

٤٥

١٤ ـ ونقل ابن تيمية «أحمد بن عبد الحليم الحنبلي» «المتوفى سنه ٧٢٨ ه‍» مؤسس «المذهب الوهابي» في كتاب منهاج السنة ، هذا الحديث كما ورد في صحيح مسلم (١).

كما نقله جماعةٌ آخرون من علماء السنة المشهورين والمعروفين في كتبهم ، منهم :

١٥ ـ ابن المغازلي علي بن محمد ، «الفقية الشافعي وهو من علماء القرن الخامس الهجري» إذ نقل هذا الحديث بمزيد من التفصيل عن زيد بن الأرقم (٢).

١٦ ـ الخوارزمي وهو من مشاهير علماء القرن السادس وكان من الفقهاء والمحدثين والخطباء والشعراء ، نقل هذا الحديث أيضاً في كتابه الموسوم بـ «المناقب» (٣).

١٧ ـ وذكره الذهبي «محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقي الشافعي» ـ وهو من علماء القرنين السابع والثامن ، وهو معروف بالتحيّز لمذهبة ، وقد قال تاج الدين السبكي في كتاب «طبقات الشافعية» بحقه : إنّه محدّث عصره ، وختام الحفاظ ، ورافع راية مذهب السنة والجماعة ، وامام أهل زماننا ـ هذا الحديث أيضاً في كتاب «تلخيص المستدرك» (٤).

١٨ ـ وذكر المؤرخ الشهير علي بن برهان الحلبي الشافعي وهو من علماء القرن الحادي عشر ، في كتابه «إنسانُ العيون» المشهور بالسيرة الحلبية ، حديث الثقلين ضمن بيانه لحديث الغدير وبعبارات صريحه كالذي ذكرناه آنفاً ، وبعد ذكر هذا الحديث يقول بصراحة : «هذا حديث صحيح حيث نُقل باسناد صحيحة وحسنة» (٥).

وذكر ابن حيان المالكي في كتاب «المقتبس في أحوال الاندلس» شبيه ما ورد في صحيح مسلم ، إلّاأنّه ذكر المكان الذي تلا فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الخطبة والواقع بين مكة والمدينة بأنّه «الحصائن» والتي تعني «القلاع» (٦).

٢٠ ـ وأورد «علاء الدين علي بن محمد البغدادي» المشهور بـ «الخازن» وهو من علماء

__________________

(١) منهاج السنّة ، ج ٤ ، ص ١٠٤.

(٢) احقاق الحق ، ج ٤ ، ص ٤٣٨ ، (نقلاً عن كتابه الخطي).

(٣) المناقب ، ص ٩٣.

(٤) جاء هذا الكتاب على هامش كتاب المستدرك للحاكم ، ج ٣ ، ص ١٠٩.

(٥) السيرة الحلبية ، ج ٣ ، ص ٢٧٤.

(٦) المقتبس ، ص ١٦٧.

٤٦

القرن الثامن الهجري في تفسيره ما جاء في صحيحي مسلم والترمذي (١).

٢١ ـ وأورد «ابن أبي الحديدالمعتزلي عز الدين عبد الحميد» وهو من علماء القرن السابع الهجري ، هذه الرواية أيضاً في شرح نهج البلاغة ، فيقول : «قد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عترته من هي لمّا قال : إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ، فقال عترتي أهل بيتي».

ثم يضيف : وقد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بيته أيضاً في مكان آخر ، عندما نشر عليهم الكساء ، وعندما نزلت الآية : (انَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِجسَ ...) ، قال : «إلهي هؤلاء أهل بيتي فأَذهب عنهم الرجس» (٢).

٢٢ ـ ونقل «زيني دحلان» الشافعي (سيد أحمد) مفتي مكة وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري وله مؤلفات كثيرة ، هذا الحديث في كتاب «السيرة النبوية» الذي طبع على هامش السيرة الحلبية كما نقلة صحيح مسلم تماماً ، وكما رواه مسند أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري (٣).

* * *

ترتيب مختصر :

كانت هذه مجموعة من مشاهير العلماء منذ قرون الإسلام الاولى وحتى القرون الأخيرة ، حيث نقلوا حديث الثقلين في كتبهم بكل صراحة ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه طائفةٌ قليلة من مجموع رواة هذا الحديث ، وطبقاً لما جاء في خلاصة عبقات الأنوار فقد ذكر المرحوم مير حامد حسين الهندي مائة وستة وعشرين كتاباً معروفاً ، وقد أورد في كتابه هذا نص العبارة مع رقم الجزء والصفحة في الكتاب (٤).

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الحديث لم يُروَ عن جابر بن عبد الله الأنصاري أو أبي سعيد

__________________

(١) تفسير الخازن ، ج ١ ، ص ٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبى الحديد ، ج ٢ ، ص ٤٣٧ ، طبع القاهرة.

(٣) السيرة النبوية ، ج ٢ ، ص ٣٠٠ ؛ على هامش ج ٣ من السيرة الحلبية ، ص ٣٣ وجاء أيضاً في ص ٣٣.

(٤) نقلاً عن خلاصة عبقات الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٠٥ ـ ٢٤٢.

٤٧

الخدري أو زيد بن الأرقم فحسب ، بل رواه ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه مباشرة ، وفيما يلي أسماؤهم :

١ ـ زيد بن الأرقم ، ٢ ـ أبو سعيد الخدري ، ٣ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري ، ٤ ـ حذيفة بن أسيد ، ٥ ـ خزيمة بن ثابت ، ٦ ـ زيد بن ثابت ، ٧ ـ سهل بن سعد ، ٨ ـ ضمرة الاسلمي ، ٩ ـ عامر بن ليلى ، ١٠ ـ عبر الرحمن بن عوف ، ١١ ـ عبد الله بن عباس ، ١٢ ـ عبدالله بن عمر ، ١٣ ـ عدي بن حاتم ، ١٤ ـ عقبة بن عامر ، ١٥ ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ١٦ ـ أبو ذر الغفاري ، ١٧ ـ أبو رافع ، ١٨ ـ أبو شريح الخزاعي ، ١٩ ـ أبو قدامة الأنصاري ، ٢٠ ـ أبو هريرة ، ٢١ ـ أبو هيثم بن التيهان ، ٢٢ ـ ام سلمه ، ٢٣ ـ أم هاني.

* * *

تكرار حديث الثقلين على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

من الامور التي يجدر ذكرها هنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدل بهذا الحديث لمرّة واحدة فقط كما هو الحال بالنسبة لحديث الغدير الذي صرح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة واحدة وسمعه ونقله كثيرون ، بل إنّه ردَّدَ حديث الثقلين في مواطن عديدة ومناسبات مختلفة.

والمواطن التي ذُكر فيها الحديث ونُقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب أهل السنّة عبارة عن :

١ ـ في غدير خم أثناء عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجة الوداع ، حيث قام وأورد حديث الثقلين ضمن كلماته المفصلة.

وهذا ما ذكرناه آنفاً عن صحيح مسلم وخصائص النسائي مع ذكر الاسناد والمصادر.

٢ ـ خلال أيّام الحج وفي يوم عرفة وعندما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب من على ناقته حيث أدلى بهذا الحديث.

وهذا ما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأدرج سابقاً تحت الرقم ٢.

٤٨

٣ ـ تحدّث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الحديث في «الجحفة» وهي أحد مواقيت الحج بين مكة والمدينة ، كما ذكر ذلك ابن الأثير في «اسد الغابة» في أحوال «عبد الله بن حنطب» ، وذُكر سابقاً في العدد ٨ من سلسلة الأحاديث.

٤ ـ أثناء مرضه الذي انتهى بوفاته ، وعندما كان يدلي بآخر وصاياه ، أوصى صلى‌الله‌عليه‌وآله بالثقلين وقال : «أيّها الناس يوشك أن اقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرةً إليكم إلّاأنّي مخلف فيكم كتاب ربي عزوجل وعترتي أهل بيتي ، ثم أخذ بيد علي عليه‌السلام فرفعها ، فقال : هذا عليٌ مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فاسئلوهما ما خلَّفت فيهما» (١).

وهناك دقائق وظرائف لا تخفى على أهل الحقيقة.

٥ ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في «مسجد الخيف» اثناء «حجة الوداع» : «ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين ، قالوا : يارسول الله وما الثقلان؟ قال : كتاب الله الثقل الأكبر ، طرف بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به لن تضلوا ولن تزلوا ، وعترتي أهل بيتي ، فانّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض كاصبعيّ هاتين» (٢).

٦ ـ أثناء عودته صلى‌الله‌عليه‌وآله من الطائف «بعد فتح مكة» حيث وقف النبي وذكر هذا الحديث وهذه النقاط المهمّة (٣).

إنّ هذا التكرار والتأكيد وفي أماكن مختلفة ، في المدينة وفي أيّام الحج ، في يوم عرفة ، وفي مسجد الخيف «أيّام منى» وفي وسط الطريق بين مكة والمدينة ، وموارد اخرى دليلٌ واضح وبرهانٌ قويٌ وناطق على أنّ التمسك بهذين الأمرين المهمين يعتبر قضية مصيرية ومهمة بحيث كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد توعية المسلمين على أهميّتهما لئلا يضلوا ، والعجب العجاب إذا ما تخلينا عنهما بعد كل هذا التكرار والتأكيد ، وألقينا بأنفسنا في الضلالة ، أو قللنا من شأنهم من خلال التبريرات الخاطئة.

__________________

(١) الصواعق المحرقة ، ص ٧٥.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم وفقاً لنقل بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ١٢٩ ، ح ٦١.

(٣) صواعق ابن حجر ، الفصل الأول ، الباب ١١ آخر ص ٨٩.

٤٩

فكيف يمكن المرور مرور الكرام بحديث نقله نيفٌ وعشرون من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورد في المصادر الشهيرة ومن قبل الطبقة الاولى ، ونقل في ما يقارب من مائتي كتاب إسلامي معروف ، لا شك ولا ريب في سنده ، ولا غموض في برهانه؟ من المسلم به أنّ مَن يمر بهذا الحديث مرور الكرام تقع على عاتقه مسؤولية عظيمة.

فالذي يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتباره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخاتم النبيين والأمين على الوحي ، ويرى تأكيده على التمسك بهذين الأمرين المهمين رأي العين ، ويعتبر أنّ الهدى في اتباعهما ، عليه أن يعلم أنَّ هناك سرّاً مهماً يكمن في هذين الأمرين.

* * *

المسائل المهمّة المستوحاة من حديث الثقلين :

إنّ هذا الحديث الشريف يرسم خطوطاً مهمّة أمام المسلمين ، وسنشير إلى جانب منها بشكل مختصر :

١ ـ إنّ القرآن وأهل البيت عليهم‌السلام متلازمان دائماً ولا يمكن فصلهما ، والذين يبحثون عن حقائق القرآن يتحتم عليهم التمسك بأهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ كما أنّ اتّباع القرآن واجبٌ على المسلمين بلا قيد أو شرط فإنّ اتّباع أهل البيت عليهم‌السلام واجبٌ أيضاً بلا قيد أوشرطٍ.

٣ ـ إنّ أهل البيت معصومون عليهم‌السلام ، فعدم افتراقهم عن القرآن من ناحية ، ووجوب اتباعهم بلا قيد أو شرطٍ من ناحية اخرى ، دليل واضحٌ على عصمتهم من الزلل والخطأ والذنب ، فلو كانوا يذنبون أو يخطئون لانفصلوا عن القرآن ، وأنّ اتباعهم لم يؤمِّن المسلمين من الضلالة والانحراف ، وأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما إن تمسكتهم بهما لن تضلوا» ، دليل جليٌّ على عصمتهم.

٤ ـ والأهم من كل ذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رسم هذا الخط للمسلمين على مر الزمان إلى يوم القيامة ، فيقول : «إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» فهذا يوضح بجلاء أنّ هناك

٥٠

شخصاً من أهل البيت عليهم‌السلام بعنوان أمام معصوم على مرّ التاريخ ، وكما أنّ القرآن نبراس هداية فإنّهم كذلك ، إذن لابدّ أن نسعى ونبحث عنهم في كلِّ عصر وزمان.

٥ ـ يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ الانفصال عن أهل البيت عليهم‌السلام أو التقدم عليهم يمثل أساس الضلال ، ولا ينبغي تقدم شيء على ما يختارونه.

٦ ـ إنّهم أفضل وأعلم من الناس كافّة.

نعم ، فلا غموض في استجلاء هذه الامور من الحديث المذكور أبداً.

واللطيف أنّ «السمهودي» والشافعي (١) وهما من علماء القرن التاسع والعاشر الهجري المعروفين ، وصاحب كتاب «وفاء الوفاء» يقول في احدى مؤلفاته باسم «جواهر العقدين» الذي كتبه حول حديث الثقلين : إنّ ذلك يفهم وجود مَنْ يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمانٍ وُجدوا فيه إلى قيام الساعة ، حتى يتوجه الحثُ المذكور إلى التمسك به كما أنّ الكتاب العزيز كذلك (٢).

* * *

سؤال أخير :

يبقى سؤال واحد فقط وهو : إنّه عبر في بعض الروايات وإن كانت قليلة جداً بـ «وسنتي» بدلاً عن «وعترتي أهل بيتي» ، حيث عثرنا عليهما في مكانين في سنن البيهقي ، ففي مورد يروي ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه خطبنا في حجة الوداع وقال : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ، ثم قال : كتاب الله وسنة نبيّه» (٣).

وفي سند آخر نقل هذا المعنى عن أبي هريرة أيضاً (٤).

ولكن من الواضح أنّ هذه الرواية لا يُستند عليها في مقابل جميع تلك الروايات التي

__________________

(١) «سمهود» ، قرية كبيرة إلى جانب النيل في مصر.

(٢) خلاصة عبقات الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٨٥.

(٣) سنن البيهقي ، ج ١٠ ، ص ١١٤.

(٤) المصدر السابق.

٥١

تصرح باسم أهل البيت والعترة ، وحتى أنّ كلمة أهل البيت تكررت في بعضها ثلاث مرات ، وتم التأكيد عليهم ، وفي بعضها جاء اسم عليّ عليه‌السلام بالنص ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ بيده وعرَّف به ، ويبدو أنّ سلاطين الزمان قاموا بهذا التغيير للإفلات من مؤاخذات الناس ، إلّاأنّهم لم يستطيعوا التحريف.

فضلاً عن أنّ هاتين الروايتين على فرض صحة حديث «وسنتي» لاتتعارضان ، ففي مكان يوصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب والسنّة ، وفي مكان آخر بالكتاب والعترة ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكما أسلفنا قد أدلى بهذا الحديث مرات عديدة وفقاً للروايات التي وردت في المصادر المشهورة لأهل السنّة ، فتارة في حجة الوداع ، واخرى أثناء عودته من الطائف ، ومرّة في المدينة وعلى المنبر ، واخرى على فراش المرض والوفاة (١) ، فما الضير في أن يقول مرات ومرات : «وعترتي» ومرة واحدة : كتاب الله وسنتي؟

وهل هنالك شخص ينكر أنّ سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي احدى آثاره العظيمة ، التي يجب العمل بها؟ وهل يمكن لمسلم أن يغض الطرف عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي أكد عليها القرآن ، وقال : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنهُ فَانتَهوُا). (الحشر / ٧)

إنّ هذا المعنى لا يتعارض والتأكيد على اتباع العترة والتمسك بها الوارد في الموارد الاخرى.

وبتعبير آخر : إنّ اختيار إحدى الروايتين يكون في موضع يتعارضان فيه ، والحال أنّهما لا يتعارضان على الاطلاق ، إنّ التمسك بهدى أهل البيت عليهم‌السلام هو أحد المصاديق البارزة للعمل بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن اطاع أهل البيت عليهم‌السلام فقد عمل بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي أدار ظهره لهم وقدم اختياره على اختيار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد تمرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى أي حالٍ لا يمكن التنصل من المسؤولية التي حمَّلتها إيّانا أحاديث الثقلين الأحاديث المتواترة بلا شك ، ولا يمكن التغاضي عنها من ناحية السند والبرهان.

ونختم الكلام بشعر أورده الإمام الشافعي بهذا الصدد :

__________________

(١) لقد تمّت الإشارة إلى هذه الموارد سابقاً ، ويجدر القول إنّ المرحوم السيد شرف الدين قد أشار إلى الموارد في الرسالة الثامنة في كتابه المراجعات.

٥٢

ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في ابحرِ العين والجهلِ

ركبتُ على اسم الله في سفن النجاة

وهم آل بيت المصطفى خاتم الرسلِ

وأمسكتُ حبل الله وهو ولاؤُهم

كما قد أمرنا بالتمسك بالحبلِ

وما أسعد الإنسان إذ يراهم الملاذ في كلّ شيء ويعرف الحق من خلالهم (١).

وقد استند في الكثير من الروايات الآنفة إلى قضية حوض الكوثر ، وسبب ذلك بحسب الظاهر أنّ حوض الكوثر يقع في باب الجنّة ، وأنّ أول قدم للدخول تكون هناك ، وأنّ الصالحين يزورون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت عليهم‌السلام هناك.

* * *

__________________

(١) كتاب ذخيرة المال. ج ٢. ص ٢٧٧ (طبقاً لنقل خلاصة العبقات).

٥٣
٥٤

٢ ـ حديث سفينة نوح

من الأحاديث المشهورة بحق أهل البيت عليهم‌السلام والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام هو «حديث السفينة» الذي ورد في الكتب المعروفة لدى الشيعة وأهل السنّة بشكل واسع ، ونحن هنا نبحث في نص واسناد ومصادر هذا الحديث الشريف بشكل سريع :

لقد نقل هذا الحديث ما لا يقل عن ثمانية من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم (أبو ذر ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وأنس ، وعبد الله بن الزبير ، وعامر بن وائلة ، وسلمة بن الاكوع ، وعلي عليه‌السلام) (١).

لقد وردت الروايات الآنفة في الكتب المشهورة لدى أهل السنّة حيث نشير إلى جانب منها فيما يأتي ، ـ وللمزيد من التوضيح نحث على مراجعة الكتب التالية : احقاق الحق ، الجزء التاسع ، وخلاصة عبقات الأنوار ، الجزء الرابع وسائر الكتب ـ.

إن أبا ذر رحمه‌الله كان ماسكاً بباب الكعبة ويقول : «مَن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فليعلم أني أبو ذر الغفاري ، سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ، وجاء في رواية : «ومَنْ تخلّف عنها غرق» (٢). وعليه فهم سفينة النجاة في بحر الحياة المتلاطم.

٢ ـ يروي «ابن عباس» وكذا «سلمة بن الاكوع» ـ وفقاً لما ينقله أبو الحسن علي بن

__________________

(١) وفقاً لما نقل في اسد الغابة أنّ عبد الله بن الزبير ولد في بداية الهجرة ، وفي سن السابعة أو الثامنة جاء به أبوه الزبير إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبايعه ، فسمع منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بقي من عمره ورواها (اسد الغابة ، ج ٣ ، ص ١٦٢).

(٢) روى هذا الحديث الحافظ الطبراني في المعجم الكبير والمعجم الصغير ، ص ٧٨ طبعة دلهي ؛ وابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ٢١٢ طبعة مصر ؛ والحاكم النيشابوري في المستدرك ، ج ٣ ، ص ١٥٠ ؛ والذهبي في ميزان الاعتدال ، ج ١ ، ص ٢٢٤ ؛ والسيوطي في تاريخ الخلفاء ، ص ٥٧٣ ؛ وجماعة اخرى كثيرة.

٥٥

محمد الشافعي ، المشهور بابن المغازلي ، في كتاب المناقب ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح مَنْ ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك».

وهذه العبارة نقلت عن ابن عباس ، إلّاأنّ عبارة «ابن الاكوع» أكثر اختصاراً وهي:

«مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا».

يقول الشيخ «محمد أمين الانطاكي» ، مؤلف كتاب «لماذا اخترت مذهب الشيعة» في بحث حديث السفينة : اتفقت آراء علماء الإسلام على صحة واستفاضة نقل هذا الحديث حتى بلغ حدّ التواتر ، وهناك عدد كبير من الحفاظ وأئمّة الحديث وأهل السير والتواريخ نقلوا هذا الحديث حتى بلغ عددهم أكثر من مائة وحتى غير المسلمين نقلوا هذا الحديث ووضعوه بين الأحاديث الإسلامية» (١).

وروي هذا الحديث في كتاب «عبقات الأنوار» عن اثنين وتسعين كتاباً مكتوبة من قبل اثنين وتسعين من مشاهير علماء أهل السنة بشكل مفصل مع جميع المشخصات :

وفي الملحقات التي ذكرها صاحب كتاب «خلاصة عبقات الأنوار» نقل هذا الحديث عن ثمانية من الصحابة ، وثمانية من التابعين ، وثلاثة من علماء القرن الثاني ، وثمانية من علماء القرن الثالث ، وأربعة عشر من علماء القرن الرابع ، وهكذا قرناً بعد قرن حتى وصل إلى القرن الحالي ، وذكرهم جميعاً بالإسم والمواصفات (٢).

* * *

مفاد حديث السفينة :

من أجل إدراك المعنى الدقيق لهذا الحديث لابدّ من إلقاء نظرة على أحوال سفينة نوح.

يقول القرآن الكريم : (فَفَتَحْنَا ابْوابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرنَا الارضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). (القمر / ١١ ـ ١٣)

__________________

(١) لماذا اخترت مذهب الشيعة ، ص ١٦٦.

(٢) خلاصة عبقات الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٢٦ ـ ١٩٥.

٥٦

لقد دمر هذا الفيضان الشامل وغطى الماء كل شيءً ولم يبق مأوى يلتجيء الإنسان إليه سوى سفينة نوح التي ضمن الله تعالى لمن ركبها النجاة من الغرق ، بحيث عندما قال ابن نوح بغرور : (سَآوِى الَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ المَاءِ) فليس هناك فيضان يصل إلى قمم الجبال ، جُوبه برد أبيه الحازم والرادع حيث قال له : (لَاعَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّا مَنْ رَّحِمَ)! إشارة إلى المؤمنين الذين ركبوا في السفينة ، وظهر صدق كلام نوح مباشرة إذ : (وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقينَ). (هود / ٤٣)

إنّ تشبيه أهل البيت بمثل هذه السفينة وفي تلك الظروف ، زاخرٌ بالمعاني التي تعلَّمنا منها الكثير من الحقائق ، ومن بينها :

١ ـ إنّ العواصف ستعصف بالامة الإسلامية بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجرف الكثير معها ويغرق في أمواجها الكثير أيضاً.

٢ ـ هنالك طريق واحد فقط للخلاص من مخالب الأخطار التي تهدد الدين والإيمان وارواح الناس ، ألا وهي سفينة أهل البيت عليهم‌السلام التي يُعتبر التخلف عنها أو تركها سبباً للهلاك.

٣ ـ إنّ الانفصال عن واسطة النقل في الصحراء قد لا يؤدّي إلى الموت دائماً ، إلّاأنّه يُعرِّض الإنسان إلى العناء ، بَيدَ أنّ التخلف عن سفينة النجاة في بحرٍ متلاطم لا ينتج عنه سوى الموت والهلاك.

٤ ـ لقد كان شرط الركوب في سفينة نوح عليه‌السلام الإيمان والعمل الصالح ، من هنا فقد عرض نوح على ابنه الإيمان ، والانفصال عن الكافرين ، والركوب معه ومع أصحابه في السفينة : (يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلَا تَكُنْ مَّعَ الكَافِرينَ). (هود / ٤٢)

بناء على ذلك فشرط نجاة هذه الامه من العواصف والانحرافات هو الإيمان واليقين بمقام سفينة النجاة هذه.

٥ ـ ليست محبتهم فقط التي تؤدّي إلى النجاة ، حيث طرح بعض علماء الإسلام ذلك بادّعائهم أنّ جميع المسلمين يحبون أهل البيت عليهم‌السلام ويعظمونهم ، من هنا فهم جميعاً من الناجين. بل إنّ الكلام الذي جاء في الرواية هو عن اتباعهم (مقابل التخلف عنهم) ، فإنَّ ابن

٥٧

نوح كان يحبُّ أباه إلّاأنّه لم يكن يتبعه ، ولم تؤدّ محبتُه إلى نجاته ابداً (تأملوا جيداً).

٦ ـ كما استفيد من «حديث الثقلين» خلال البحوث الآنفة أنّ التمسك بولاء أهل البيت عليهم‌السلام مستمرٌ حتى نهاية العالم ، وأنّ القرآن وأهل البيت عليهم‌السلام لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحوض في الجنة ، يستفاد أيضاً من «حديث السفينة» ، أنّ هذا الخط مستمرٌ حتى نهاية الكون ، لأنَّ الدنيا دائماً مركز الابتلاءات والعواصف ، أي أنّ الشياطين ودعاة الضلالة والتائهين في وادي الحيرة موجودون في كل زمان ، ولاتهدأ هذه العواصف أبداً ، وهي قائمة إلى يوم القيامة حيث يحكم الله تعالى بين عباده ، فتزال الاختلافات (١) على هذا الأساس ، فإنّ وجودالسفينة سفينة النجاة هذه ضرورىٌ إلى الأبد والتخلف عنها يؤدّي إلى الهلاك.

٧ ـ إنّ التمسك المطلق بأهل البيت عليهم‌السلام (في قبال التخلف عنهم) يمكن أن يكون شاهداً جلياً على وجود الإمام المعصوم في كل زمان من أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث يؤدّي اتّباعه إلى النجاة والتخلف عنه إلى الهلاك.

٨ ـ إنّ هذا الحديث تفسيرٌ للحديث المعروف «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية والباقون في النار» (٢).

ويبرهن على أنّ الفرقة الناجية هم الذين يتمسكون بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ويهتدون بهداهم في اصول وفروع الدين.

من مجموع ما قيل يمكن الاستفادة أيضاً من هذا الحديث المعروف : إنّ مسألة أهل البيت عليهم‌السلام يجب أن تكون مسألة بسيطة وعلى الهامش ، بحيث يأخذ المسلمون ما يريدونه في امور الدين والدنيا من الغير ويكتفون بمحبة أهل البيت عليهم‌السلام.

* * *

__________________

(١) يصرح القرآن في آيات عديدة أنّ يوم القيامة يوم يزال فيه الاختلاف وأن الله يفصل بين الامم.

(٢) لقد روى هذا الحديث طائفة كثيرة من علماء الشيعة والسنّة ، وجاء في بعض طرق الحديث أن النبي عليه‌السلام قال في جوابه لعلي عليه‌السلام الذي سأله ، من هي الفرقة الناجية؟ ، المتمسك بما تمسكت به أنت وشيعتك وأصحابك (احقاق الحق ، ج ٧ ص ١٨٥).

٥٨

٣ ـ حديث النجوم

الحديث الآخر الذي ورد بشكل واسع بحق أهل البيت عليهم‌السلام في المصادر الإسلامية ، ويؤكّد على أنّهم عليهم‌السلام هداة وأئمّة الناس في كل زمان هو حديث النجوم. حيث رواه جماعة كثيرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (ما لا يقل عن سبعة أشخاص ، ومنهم علي عليه‌السلام ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، وانس بن مالك ، والمنكدر (١) ، وسلمة بن الاكوع ، وابن عباس) ، وجرت الإشارة إليه في عشرات الكتب من قبل حفاظ أهل السنّة ومحدثيهم ، حيث ندرج جانباً منها فيما يأتي ، ونشير إلى بقية المصادر بشكل إجمالي (للمزيد من اطلاع القراء) :

١ ـ ينقل «الحاكم النيسابوري» في المستدرك عن «ابن عباس» أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لُامتي من الاختلاف ، فاذا خالفتها قبيلةٌ من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس».

وبعد ذكره لهذا الحديث قال الحاكم : هذا حديث صحيح السند (٢).

يقول العلّامة «الحمزاوي» في «مشارق الأنوار» : جاء في الرواية التي صححها (٣) الحاكم النيسابوري : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لُامتي من الاختلاف».

ومن الذين أوردوا هذا الحديث في كتابه ، «ابن حجر» في «الصواعق» و «العلّامة علي المتقي» في «منتخب كنز العمال» و «البدخشي» في «مفتاح النجاح» و «الشيخ محمد صبان

__________________

(١) المنكدر بن عبد الله ، أبو محمد بن المنكدر ـ طبقاً لقول ابن الأثير في اسد الغابة ـ هو من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) الحاكم النيشابوري في المستدرك ، ج ٣ ، ص ١٤٩ طبقاً لنقل احقاق الحق ، ج ٩ ، ص ٢٩٤.

(٣) عبارة الحمزاوي هكذا ، صححها الحاكم على شرط الشيخين (إشارة إلى المعايير التي على أساسها يعتبرالبخاري ومسلم الأحاديث صحيحة ، فهذا الحديث صحيح) ، مشارق الأنوار ، ص ٩٠.

٥٩

المالكي» في «اسعاف الراغبين» و «العلّامة النبهاني» في «الشرف المؤبد» و «جواهر البحار» (١).

كل هذا متعلق بالحديث الذي رواه ابن عباس عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أشرنا أيضاً إلى أنَّ هناك رواة كثيرين أيضاً نقلوا هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردت رواياتهم في كتب السنة والشيعة المعروفة (وبالطبع هناك تفاوت قليل في عبارات هذه الروايات لا أثر لها في ما يمثل الهدف الحقيقي).

فمثلاً نقرأ في رواية «سلمة بن الاكوع» : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لُامتي» (٢).

وقد روى هذا المعنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشيء من الاختلاف كلٌّ من جابر بن عبد الله الأنصاري والمنكدر ، وانس ، وأبو سعيد الخدري.

ونقرأ في الحديث الآخر الذي رواه علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الصدد : «النجوم أمان لأهل السماء فاذا ذهبت ذهب أهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».

وقد نقل هذا الحديث «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» عن «مناقب أحمد بن حنبل» (٣).

ونقله جماعةٌ آخرون في كتبهم ، مثل «الحمويني» في «فرائد السمطين» و «ابن حجر» في «الصواعق» و «محمد بن صبان» و «إسعاف الراغبين» و «الخوارزمي» في «مقتل الحسين» و «النبهاني» في «الشرف المؤبد».

* * *

__________________

(١) للمزيد من الاطلاع يراجع احقاق الحق ، ج ٩ ، ص ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

(٢) لقد أورد هذا الحديث كلّ من السيوطي في الجامع الصغير ، ص ٥٨٧ ؛ ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى ؛ وابن حجر في الصواعق ، وجماعة آخرون في كتبهم.

(٣) ذخائر العقبى ، ص ٧.

٦٠