نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

١
٢

٣

الاهداء :

إلى الذين أحبّوا القرآن

إلى الذين يريدون أن ينهلوا المزيد من معين

الحياة الصافي

إلى الذين يتوقون إلى معرفة القرآن وفهمه

أكثر فأكثر.

بمساعدة العلماء الأفاضل وحجج الإسلام السادة :

محمّد رضا الآشتياني

محمّد جعفر الإمامي

عبدالرسول الحسني

محمّد الأسدي

حسين الطوسي

سيّد شمس الدين الروحاني

محمّد محمّدي الاشتهاردي

٤

فلسفة بعثة الأنبياء عليهم‌السلام

في التصور القرآني

٥
٦

القرآن الكريم والهدف من إرسال الرسل عليهم‌السلام

تمهيد :

إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب ، وبعبارة اخرى ، بعثة أنبياء الله عليهم‌السلام ونزول الكتب السماوية ، لها علاقة مباشرة بالنظرة الكونية للقرآن الكريم.

حينما يقول القرآن الكريم : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ). (الذاريات / ٥٦)

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ). (الانشقاق / ٦)

إنّنا نستطيع أن نفهم أنّ الإنسان في طريقه الطويل المملوء بالمخاطر والمحفوف بالمخاوف ، والذي يهدف من خلاله الوصول إلى الكمال المطلق ، يعني السير للوصول إلى الذات الإلهيّة المقدّسة ، فإنّه لا يستطيع أن يجتاز هذا الطريق دون الحاجة إلى القادة والموجهين الربانيين.

إنّ من مستلزمات تجاوز هذه المرحلة مرافقة الخضر ، وما عدا ذلك تكون النتيجة الولوج في الظلمات والابتلاء بالتيه والحيرة والظلالة.

ومن هنا يعتبر الأنبياء عليهم‌السلام قادة الامم والكتب السماوية بمثابة «القوانين» ، التي تأخذ بيد الإنسان لتوصله إلى غايته وتخرجه من الظلمات إلى النور.

وبعبارة اخرى ، لا يمكن تصوّر الحياة الاجتماعية للإنسان مجرّدة عن هداية عالم الغيب والذات المقدّسة ، لا في التقنين والتنفيذ ، ولا في مجال ضمان العدالة الاجتماعية ، فالأنبياء عليهم‌السلام في الواقع يمثّلون همزة الوصل بين عالمي الإنسانية والغيب.

بعد هذه الإشارة العابرة نعود إلى القرآن الكريم ولنتأمل خاشعين في الآيات الواردة في هذا المجال :

٧

١ ـ (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ) (١). (الجمعة / ٢)

٢ ـ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (البقرة / ١٢٩)

٣ ـ (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). (البقرة / ١٥١)

٤ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). (الحديد / ٢٥)

٥ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (الأعراف / ١٥٧)

٦ ـ (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). (٢) (إبراهيم / ١)

٧ ـ (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٣) (الأنعام / ٤٨)

٨ ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). (٤) (النساء / ١٦٥)

٩ ـ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ

__________________

(١) قريب من هذا المعنى جاء في سورة آل عمران ، ١٦٤.

(٢) قريب من هذا المعنى جاء أيضاً في الحديد ، ٥٧ ؛ والطلاق ، ١١ ؛ وإبراهيم ، ٥.

(٣) قريب من هذا المعنى بخصوص جميع الأنبياء عليهم‌السلام جاء في البقرة ، ٢١٣ والأنعام ، ٤٨ والكهف ، ٥٦ وآيات اخرى.

(٤) قريب من هذا المعنى جاء في طه ، ١٣٤ ؛ والقصص ، ٤٧.

٨

بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ). (البقرة / ٢١٣)

١٠ ـ (هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ). (ابراهيم / ٥٢)

١١ ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). (الانفال / ٢٤)

جمع الآيات وتفسيرها

أهداف وفلسفة بعثة الأنبياء :

١ و ٢ ـ التربية والتعليم

ورد في هذه الآيات عشر غايات لبعثة الأنبياء عليهم‌السلام :

ففي الآيتين الاولى والثانية إشارة إلى هدفين رئيسيين من أهداف البعثة وفلسفة إرسال الرسل عليهم‌السلام ، ألا وهما «التربية والتعليم».

يقول تعالى في الآية الاولى : (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) ، ونظراً إلى كون التلاوة لآيات الحقّ تعالى بمثابة المقدّمة بالنسبة للتزكية وتعليم الكتاب والحكمة ومحو آثار الضلالة والشرك ، يضيف تعالى قائلاً : (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ).

صحيح أنّ الغاية الرئيسية من تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة هو تزكية وتطهير الروح والبدن والفرد والمجتمع ، وأن تعلم الكتاب والحكمة له دور الطريقية ، وبمثابة مقدّمة بالنسبة إلى التزكية ، لكنّها مع ذلك تقدّمت عليهما نظراً لأهميّتها.

* * *

في حين أنّنا نجد الآية الثانية من آيات بحثنا التي تتعرّض لدعاء إبراهيم عليه‌السلام في حقّ الامّة الإسلامية ، تقوم بتقديم «تعليم الكتاب والحكمة» على «التزكية» ، وتضع كلاً في مكانه الطبيعي له ، حيث تقول : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ

٩

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

أجل ، هذا هو طلب إبراهيم عليه‌السلام من الله تعالى للُامّة الإسلامية واتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أبان الهدف من بعثة هذا النبي العظيم (وسائر الأنبياء) بكلّ وضوح.

إنّ التأمّل في هاتين الآيتين يكشف عن نكات جديرة بالاعتبار :

أوّلاً : العبارة الواردة في الآية الاولى دليل على معرفة الله تعالى من جهة ، وعلى النبوّة الخاصّة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرى ، حيث تؤكّد الآية أنّ الله تعالى هو الذي بعث نبيّاً بهذه الخصوصيات وهذا لا يتمّ إلّاعن طريق القدرة الإلهيّة فقط : (هُوَ الَّذِى بَعَثَ ...). وكذلك تقول : إنّ النبي هو ذلك الشخص الذي ظهر من بين جماعة اميّين ، لكنّه على الرغم من ذلك فقد أصبح معلّماً للمئات والآلاف ، وأفاض على أتباعه العلم والحكمة حتّى ظهر من بينهم بعد فترة قصيرة أكابر العلماء الذين قاموا بتأسيس حضارة عظيمة مشرقة.

ثانياً : دار الحديث في كلتا الآيتين عن أربعة مواضيع وهي «تلاوة آيات الله تعالى» و «تعليم الكتاب» و «تعليم الحكمة» وأخيراً «التزكية والتطهير والتربية».

إنّ الحالة الطبيعية لهذه المواضيع الأربعة ، هي كما اشير إليها ، بأنّه يجب ابتداءً أن يتعرف ويستأنس سمع الإنسان بكلمات الحقّ تعالى ليدرك بعد ذلك مضمون الكتاب من أعماق هذه الكلمات ، ثمّ يتعرّف بعد ذلك على الحكمة أي الأسرار الكامنة فيها ، وأخيراً يُطهر وينقي الروح والجسم.

هذا الترتيب الطبيعي يُلاحظ في الآية المرتبطة بدعاء إبراهيم عليه‌السلام : لكن «التزكية» قد تقدّمت على «تعليم الكتاب والحكمة» كما جاء في قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ). (الجمعة / ٢) (آل عمران / ١٦٤)

وذلك لكي تتبيّن هذه الحقيقة التي ترى أنّ الهدف الرئيس من كلّ هذه المقدّمات في تلك الآيات هو الطهارة والتقوى وتربية الإنسان ونمو المثل والقيم الأخلاقية والإنسانية.

ثالثاً : نظراً لتقدّم «التزكية» على «التعليم» في آيتين من القرآن الكريم وتأخّرها عنه في

١٠

آية واحدة ، يرد هذا السؤال وهو : أي منهما يكون الأصل حقيقة والآخر فرع؟

الجواب عن هذا السؤال ليس بتلك الصعوبة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك لأنّ «العلم» له حيثية الطريقية المقدّمية ، والهدف الرئيسي هو تربية الإنسان وتزكية النفس وتكامل الروح ، وبعبارة اخرى : إنّ تلاوة آيات القرآن الكريم وتعليم العلم والحكمة كلّها تهدف إلى هذا الهدف الأسمى ، وبناءً على ذلك تعدّ كلّ هذه مقدّمة بالنسبة للتزكية التي تعتبر ذي المقدّمة ، وما السبب وراء ذكر «التزكية» قبلـ «تعليم الكتاب والحكمة» في آيتين اخريين إلّالبيان دورها الخطير هذا.

فضلاً عن ذلك ، فإنّ كلّ واحد من هذين الأمرين يترك أثره على صاحبه ، أي إنّ الإنسان لا يسعى وراء العلم ما لم تتحقّق مرحلة تزكية النفس ، وما لم يتحقّق العلم فسوف لن تحصل المراحل العالية من التزكية ، وبناءً على هذا ف «التعليم» و «التزكية» لهما أثران متقابلان ، كما يحتمل أن يكون الغرض من تنوّع الآيات حول هذا الموضوع هو إلفات النظر إلى هذا الأمر.

وينبغي ألّا يخفى أنّ البعض من العلوم كالعلوم المرتبطة بالمعرفة بصورة عامّة ومعرفة الله تعالى ونظائرها لها حيثية ذاتية وعينية ، أو بعبارة اخرى فهي مطلوبة بالذات ، في حين أنّ العلوم الاخرى ليس لها حيثية مقدمية ، ولهذا يمكن أن يكون تنوّع الآيات الآنفة الذكر إشارة إلى هذه الملاحظة أيضاً.

رابعاً : حول الاختلاف المحتمل بين «الكتاب» و «الحكمة» يعتقد البعض بأنّ الكتاب إشارة إلى القرآن الكريم ، والحكمة إلى الأحاديث والسنّة النبويّة الشريفة ، أو أنّ «الكتاب» إشارة إلى مجموعة الأحكام والأوامر الإلهيّة و «الحكمة» إشارة إلى أسرار تلك الأحكام وفلسفتها ، لأنّ الإحاطة بتلك الأسرار تزيد من عزم الإنسان على تنفيذها ، كما أنّ هناك احتمالاً آخر وجيهاً أيضاً وهو إنّ ذكرهما معاً «الكتاب والحكمة» إشارة إلى مصدري المعرفة الرئيسيين أي «الوحي» و «العقل».

خامساً : لفظة «الامّيين» على حدّ قول الكثير من المفسّرين ، إشارة إلى اولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ويجهلون العلم والمعرفة على الإطلاق ، أي كأنّما ظلّوا كما ولدتهم امّهاتهم بالضبط لم يتغيّروا قيد أنملة أبداً.

١١

وظهور النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم كهؤلاء هو دليل على عظمته وصدق دعوته.

لكن البعض من المفسّرين اعتبر لفظة «الامّيين» إشارة إلى أهل مكّة التي كانت تسمّى بـ «امّ القرى» ، وربّما قيل : إنّ المراد من «الامّيين» هم العرب وذلك لجهلهم بالقراءة والكتابة أيضاً.

لكن المعنى الأوّل أكثر تناسباً من تلك المعاني.

سادساً : إنّ التعبير بـ «ضلال مبين» هو أفضل تعبير يعكس حالة عرب الجاهلية ، فهم كانوا في ضلال ، وأي ضلال ، إنّه ضلال مبين ظاهر بجميع أبعاده ، ألم يكن وأد البنات وعبادة الأوثان والتعصّبات القبلية المقيتة والحروب الدائمة والإفتخار بالإغارة على الآخرين وأمثالها ضلالاً مبيناً؟

* * *

والآية الثالثة تشير أيضاً إلى مسألة التربية والتعليم التي حصلت عند المسلمين على يدي نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مع هذا الفارق وهو التأكيد بصورة خاصّة على العلوم والمعارف التي يستحيل كسبها بدون بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث تقول : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

وتفسير هذه الآية كسابقاتها ، مع فارق وجود جملة في ذيلها تشير إلى أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قد علّم الناس علوماً يستحيل الحصول عليها من دون الوحي ، وهنا ينبغي ألّا يفوتنا التفاوت الواضح بين جملة (لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) النافية لإمكانية التعلّم و (لَمْ تَعْلَمُوا) النافية للعلم.

قال في «روح المعاني» بعد الإلتفات إلى الجملة الأخيرة التي تشير إلى العلوم التي لا يمكن اكتسابها إلّاعن طريق الوحي : على هذا فالجملة المشار إليها هي من قبيل ذكر الخاص بعد العام (١).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢ ، ص ١٧.

١٢

لكن المرحوم الشيخ الطوسي في «التبيان» والشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» سبقاه في التوجّه إلى هذه الملاحظة وأشارا إليها بعبارة مختصرة واضحة.

إنّ كتابنا السماوي القرآن الكريم يحتوي في الحقيقة على قسمين من العلوم ، فالقسم الأوّل هو من المعارف التي يمكن أن تكتسب عن طريق الاستدلال العقلي ، وإن كان القرآن قد عرض هذا القسم بشكل أكمل وأكثر اطمئناناً من الاستدلال العقلي.

والقسم الآخر يستحيل اكتسابه بغير الوحي كما تقدّم ، وهو الذي تمّ الاستناد إليه في الجملة الأخيرة (كالكثير من الحقائق المرتبطة بعالم ما بعد الموت والقيامة) ، أو التواريخ المعتبرة للأقوام والأنبياء عليهم‌السلام السابقين والتي ضاعت على مرّ الزمن ، وكذلك العلوم والمعارف التي حجبت عن أنظار المفكّرين في ذلك الزمان على أقلّ تقدير.

* * *

٣ ـ إقامة القسط والعدل

تمّت الإشارة في الآية الرابعة بشكل عامّ إلى أحد الأغراض الرئيسية من بعثة الأنبياء عليهم‌السلام ألا وهو إقامة العدالة الاجتماعية ، وأنّ نزول الكتاب والميزان بمثابة المقدّمة لذلك ، يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

لقد اشير في هذه الآية إلى ثلاثة امور باعتبارها مقدّمة لإقامة العدل ، وهي «البيّنات» التي تعني الأدلّة كما لا يخفى ، والمشتملة على المعاجز والأدلّة العقليّة على أحقّية دعوة الأنبياء عليهم‌السلام وأخبار السابقين منهم ، و «الكتاب» الذي يشير إلى الكتب السماوية التي تحتوي على بيان المعارف والعقائد والأحكام والأخلاق ، و «الميزان» الذي يعني القوانين المميّزة للخير من الشرّ والفضائل من الرذائل والحقّ من الباطل.

تمتّع أنبياء الله عليهم‌السلام بهذه القوى الثلاث التي تمكّنهم من دفع البشريّة نحو إقرار العدالة ، والملفت للنظر هنا هو عدم نسبة إقامة العدالة إلى الأنبياء ، بل التصريح بأنّ المجتمعات

١٣

البشرية تنشأ على نوع من التربية يدفعها بالنتيجة إلى إقامة العدالة بنفسها! والمهمّ أيضاً هو ظهور هذه المسألة في المجتمع بصورة إراديّة لا قهرية.

والتعبير بـ «الميزان» عن القوانين الإلهيّة إنّما هو لدورها المهمّ في المسائل الحقوقية المشابهة لدور الميزان في بيان وزن كلّ شيء كما هو عليه ، وإنهاء حالة الخلاف والنزاع القائمة ، ونظراً لكون القوانين البشرية الوضعية صادرة من علم الإنسان الناقص فلا يمكن الإعتماد عليها ولا يمكنها أبداً تحقيق العدالة ، بل ينحصر تحقّق هذا الأمر في القوانين الإلهيّة النابعة من علم الله تعالى اللانهائي الذي لا يخالطه الخطأ والإشتباه ، ذلك العلم الذي تنسجم معه النفس المؤمنة وتركن إليه.

ويوجد أيضاً فريق لا يبالي بأيّ من هذه الامور ، بل نراه يضع كلّ شيء تحت قدميه حفاظاً على مصالحه الشخصية ، فلابدّ من مقاومة هؤلاء بقوّة السلاح ، وما جملة «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد» المتمّمة لهذه الآية إلّاإشارة إلى هذا الفريق الذي لا يعرف سوى لغة السيف.

ومع أنّ البعض قد ذهب إلى أنّ التعبير بـ «أنزلنا» يعني مجيء الحديد (الصخور الحديديّة) إلى كرتنا الأرضية من الكواكب الاخرى ، لكن تعبير أنزلنا يأتي أحياناً في غير الحديد أيضاً فمثلاً في أنواع الحيوانات كما ورد قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ...). (الزمر / ٦)

وجاءت أيضاً للألبسة التي تغطّي بدن الإنسان حيث قال تعالى : (يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِى سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (الاعراف / ٢٦)

تبيّن هذه الآية أنّ المراد منه هو الخلقة والإبداع الإلهي في نفس الأرض ، ونزول هذه الموهبة الإلهيّة من مقام الربوبية الشامخ إلى مقام الإنسان الداني ، يعبر عنها بأنزلنا وبعثنا.

كما يُشاهد هذا التعبير أيضاً في المحاورات اليومية ، فحينما تصدر أوامر أو تبعث هديّة من رئيس دولة مثلاً إلى مادونه يقال : إنّ هذه الأوامر أو الهديّة قد جاءت من المراتب العليا!

* * *

١٤

٤ ـ حريّة الإنسان

واشير في الآية الخامسة إلى بُعد آخر من أبعاد فلسفة بعثة الأنبياء عليهم‌السلام ، ألا وهو نجاة الإنسان من مخالب الأسر والاستبداد ، يقول تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

إنّ القرآن الكريم يقيم عدّة أدلّة على أحقيّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكره لهذه الأوصاف :

الأوّل : كونه اميّاً ، فهل يمكن عرض كتاب كهذا أو علوم كهذه من قبل شخص لم يحضر حلقات الدرس.

والثاني : هو شهادة الأنبياء عليهم‌السلام السابقين على حقانية نبوته.

والثالث : إنسجام تعليماته مع أوامر العقل والوجدان (إذ يستحيل إيجاد مذهب ورسالة لها مثل هذا الإنسجام مع حكم العقل والوجدان ، والدعوة إلى الإحسان والنهي عن السيّئات والتوجّه نحو الفضائل وترك الرذائل في محيط مليء بالخرافات والجهل والجاهلية والفظاظة).

والدليل الرابع : بيان حريّة الإنسان والسعي لإنقاذه من مخالب الأسر فطالما كبّل الحكّام الماديّون الإنسان بالأغلال والقيود لتقوية مكانتهم ، وأجازوا أنواع العذاب في حقّه ، بل قد سلبوا حرّيته باسم الحرية ، ولم تكن هناك مدرسة تنادي بخلاص الإنسان من ظلم الطواغيت وتحريره سوى مدرسة الأنبياء عليهم‌السلام.

والجدير بالذكر هو أنّ كلمة «إصر» على وزن «مِصْر» التي تعني عقد الشيء وحبسه وقهره على حدّ قول الراغب في مفرداته وقد فسّرها البعض بالحبس المؤكّد أيضاً ، ثمّ استعملت في لوازم هذا المعنى (١) (مثل العهد والميثاق وثقل الذنوب والحبل الذي تربط به الخيام وأمثال ذلك) وجاءت هنا كناية عن أنواع القيود التي تُثقل كاهل الإنسان.

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ ومقاييس اللغة ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

١٥

و «الأغلال» جمع «غل» وهي مشتقّة في الأصل من مادّة «غَلَلْ» المأخوذة من النفوذ التدريجي للأشياء كنفوذ الماء الجاري وسط الأشجار ، ونظراً لكون «الغل» هي تلك الحلقة التي تحيط بالرقبة أو بها مع اليد والرجل مجتمعة فقد سمّيت «غلاً» وأحياناً يطلق عليها «الجامعة» لنفس ذلك الغرض أيضاً.

وأكثر ما استعمل القرآن الكريم هذه المفردة للتعبير عن «طوق العنق» ولذا قالوا : هي الأغلال التي في أعناق الكفّار.

على أيّة حال ، فقد وردت هنا كناية عن أغلال الأسر ، والغريب إنّ الكثير من المفسّرين قد اعتبر «الإصر» و «الأغلال» إشارة إلى التكاليف الشاقّة التي فرضها الله تعالى على اليهود ، وإنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رفعها بشريعته السهلة السمحاء في حين أنّه لا يوجد أي دليل على هذا التقييد والتخصيص ، إذ إنّ للآية مفهوم أوسع حيث شملت كافة أنواع الاثقال المعنوية وقيود الأسر :

قيود عبادة الأوثان والخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة.

قيود الجهل والضياع.

قيود أنواع التفرقة والحياة الطبقية.

قيود القوانين الخاطئة.

وقيود الأسر والاستبداد في مخالب الطواغيت.

لقد أعاد نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأنبياء عليهم‌السلام الحرية الحقيقية إلى الإنسان وذلك برفعهم لهذه الأثقال وفكّهم لتلك القيود والأغلال عنه ، فقد منحوه حريّة التفكير والتعبير عن الرأي والتأمّل والتحرّر من عبودية أهواء النفس ، التحرّر من قبضة الحكّام الظالمين والتحرّر من شباك الشياطين والطواغيت والتحرّر من سيطرة الخرافات والأوهام وعبادة غير الله تعالى.

ومن المسلّم أنّ عدم ارتياح الطواغيت لتحرّر الآخرين هو لرغبتهم في تسخيرهم لتحقيق أغراضهم الشخصية ، ولا زالت ـ في عصرنا الحاضر الذي ينطلق فيه شعار حريّة

١٦

الإنسان في أقصى نقاط المعمورة ـ تفرض على الإنسان تلك القيود والأغلال والأثقال المضنية التي تعود إلى العصر الجاهلي وبعناوين ومصطلحات جديدة ، فالقوى العظمى تسعى دائماً وبصورة علنية للسيطرة على الشعوب واسترقاقها وتسخيرها مستخدمة كافّة الوسائل العسكرية أو الإعلامية أو بنشر ألوان ونهب ثرواتها الفساد الأخلاقي ، وقد بلغ ظهور هذا الأمر اليوم حدّاً يستحيل إنكاره بل لا يكاد يخلو منه التاريخ المعاصر في كافّة أرجاء المعمورة ، وهي تسعى للقضاء على شعارات الحرية الجميلة.

أجل ، فإنّ أحد الأهداف الرئيسية من بعثة الأنبياء عليهم‌السلام هو إنقاذ الإنسان وتخليصه من أسر وقيود العبودية المقيتة.

* * *

٥ ـ النجاة من الظلمات

وذكر في الآية السادسة الهدف وراء البعثة ونزول القرآن المجيد وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، يقول تعالى : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

و «الظلمات» نظراً لورودها بصيغة الجمع فانّها تمثل مفهوماً واسعاً وشاملاً لكلّ أنواع الظلمات : ظلمة الشرك والظلم والجهل وهوى النفس ، وأنواع الحجب التي تسدل على قلب الإنسان وكذلك الظلمات التي تخيّم على المجتمعات.

فالهدف من نزول الكتب السماوية هو إنقاذ الإنسان من كلّ هذه الظلمات والأخذ بيده نحو نور التوحيد والتقوى والعدل والإنصاف والاخوّة و...

والملفت للنظر هنا مجيء «الظلمات» بصيغة الجمع و «النور» بصيغة المفرد ، وذلك لأنّ طريق التوحيد والحقّ واحد لا يوجد طريق سواه ، وهو ذلك الطريق المستقيم الذي يربط بين المبدأ والمعاد فهو يختلف عن طرق الضلال المتشعّبة ، فنور الإيمان والتقوى هو أساس الوحدة والإتّحاد ، أمّا ظلمات الشرك واتّباع الهوى والطغيان فهي السبب الأساس في الاختلاف والحيرة والضياع.

١٧

وحَصْرُ بعض المفسّرين «الظلمات» بـ «الشرك» ، و «النور» بـ «التوحيد» فقط لا يستند إلى دليل ، إذ ليس ما ذهبوا إليه إلّاأحد المصاديق الواسعة للآية.

وبناءً على هذا فأحد أهداف البعثة هو نجاة الإنسان من الظلمات الفكرية والعقائدية والأخلاقية والعملية ، وهدايته نحو النور والحياة الواقعية.

ويمكن أيضاً إيراد هذا الهدف في أهداف التربية والتعليم وإقامة العدل والحرّية ، أو العكس ، ولكن نظراً لورود كلّ هدف على حدة في القرآن الكريم ، فقد راعينا عرضها بصورة مستقلّة أيضاً.

والنور والهداية لا يختصّان بالقرآن الكريم فحسب بل قد ورد تعبير «النور» في حقّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً في الآية (وَدَاعِياً إلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً). (الأحزاب / ٤٦)

والتعبير بـ «الناس» بحسب ما ذهب إليه تفسير الميزان ، هو لبيان أنّ الهدف من بعثة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هو لهداية عامّة الناس (في كلّ زمان ومكان ما دامت السماوات والأرضون) والتعبير بـ «بإذن ربّهم» هو لبيان أنّ هداية الأنبياء عليهم‌السلام هي في الواقع جزء من «ربوبية الباري جلّت قدرته» وفي مساره الذي يرتضيه هو ، انسجام الربوبية في عالم التشريع مع ربوبيته في عالم التكوين.

* * *

٦ ـ البشرى والإنذار

مع أنّ الترغيب بأنواع الهِبات والمكافئات الماديّة والمعنوية الإلهيّة والترهيب والانذار من العقاب الشديد النفسي والبدني هما الطريق إلى التربية والتعليم ، والعامل المساعد للاخراج من الظلمات إلى النور ، لكن نظراً لتركيز القرآن الكريم عليهما كثيراً يمكن اعتبارهما أحد أهداف بعثة الأنبياء عليهم‌السلام.

وفي الآية السابعة من آيات البحث تمّت الإشارة إلى هذا الأمر إذ قال تعالى : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

١٨

هذه الآية ونظائرها التي تعتبر «بشارة» و «إنذاراً» هي بمثابة برنامج رئيسي للأنبياء عليهم‌السلام ، وتعدّ أيضاً ردّاً على اولئك الذين يعتبرون الأنبياء عليهم‌السلام آلهة ويرجون منهم إظهار كلّ أنواع القدرة الإلهيّة ، وعلى اولئك الذين انكروا دعوتهم وخالفوهم في مسيرتهم إذ يؤكّد الله تعالى أنّ وظيفة الأنبياء عليهم‌السلام هي البشرى والإنذار فقط ، أمّا باقي الامور فهي موكولة إليه تعالى وأنّ الهداية مرتبطة بالناس أنفسهم كما في الآية : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) ففي الواقع يمكن حصر كلّ الدوافع الإنسانية في هاتين الجملتين المعروفتين : «جلب المنفعة» و «دفع الضرر» ، (الأعمّ من المادية والمعنوية) ، وقد ركّزت «البشارة» و «الإنذار» عليهما ، كما أنّهما بمثابة الأساس الذي تعتمد عليه كلّ تربية إلهيّة وبشرية مادية ومعنوية.

البشارة لا تكفي لوحدها وكذلك الإنذار ، بل لابدّ من حاكميتهما معاً على حياة الإنسان وفي كلّ مراحل التربية منذ نعومة أظفاره حتّى الرمق الأخير ، والذي يلتزم بإحداهما دون الاخرى سيفشل في برامجه ، إذ كما أنّ التشويق يعدّ عاملاً محرّكاً ، فكذلك التهديد يعدّ رادعاً قويّاً بالنسبة للمعاندين.

* * *

٧ ـ إتمام الحجّة

من الطبيعي إنّ فريقاً من الأنانيين والمتغطرسين المعاندين الذين يرون دعوة الأنبياء عليهم‌السلام مخالفة لأغراضهم الشخصيّة يمتنعون عن قبولها ويقفون منها موقفاً سلبياً ، ولو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث نبياً فمن الممكن أن يدعي هؤلاء ادّعاءات وحجج واهية ، من بينها ، أنّ الله سبحانه وتعالى لو بعث نبياً لاستقبلناه بصدور رحبة ولآمنا برسالته وبما يقول ، إلى غير ذلك من الادعاءات الكاذبة.

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد أهداف بعثة الأنبياء هو إلقاء الحجة على هذه المجموعة على كافة المعاندين ، وأنّ إلقاء الحجّة هذا ، يمثل أولاً : العدل الإلهي بالشكل الواضح والدقيق.

١٩

وثانياً : يقطع على أهل الكذب الطريق ويحول دون تقديمهم الحجج والادّعاءات الجوفاء ، أو بتعبير علمي أدقّ فإنّ مسألة استحقاق الجزاء بالنسبة لهذه المجموعة تخرج من إطار «الاستعداد والقوة» إلى حَيّز «الفعلية».

ولذا قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، كما ورد نظير هذا المعنى في آيتين أخريين يتّحد مضمونهما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى). (طه / ١٣٤)

وورد قريب من هذا المعنى في قوله تعالى : (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (القصص / ٤٧)

* * *

٨ ـ رفع الاختلاف

المجتمعات البشرية كانت ولا تزال تعاني الأمرّين من الاختلاف وتحترق بناره ، وتضيّع المزيد من القدرات والإمكانات الهائلة بسببه ، تلك الإمكانات التي لو وضعت في مكانها المناسب لغدت الدنيا جنّة الفردوس.

ومن جهة اخرى فإنّه من المُسلّم أنّ الناس لا يستطيعون تسوية الاختلافات التي تقع بينهم ، وذلك بسبب قصور ومحدودية علمهم بكل جوانب الحياة ، بالإضافة إلى الأنانية والتكبر الذي يمنعهم من الاذعان والركون إلى بعضهم البعض.

أمّا الأنبياء عليهم‌السلام الذين ينبع علمهم من بحر علم الله تعالى اللامتناهي والذي لا يُقارَن بمستوى علم البشر ، فإنّهم يتمكّنون من أداء دور فعّال في حلّ تلك الاختلافات وإزالتها.

صحيح أنّ عالم المادّيات هو عالم الحجب ، إذ لا يمكن رفع الاختلافات كليّاً بين الناس بأيّ طريقة ، ولكنّه من المؤكّد إمكان إزالتها نسبيّاً في ظلّ تعاليم الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

٢٠