نفحات القرآن - ج ٩

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٥٢

وبات رسول الله في الغار آمناً

موقى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتُّ اراعيهم ولم يتهمونني

وقد وطنت نفسي على القتل والأسر (١)

وجاءت هذه الأبيات التي تعبّرُ عن التضحية والإيثار وفخر علي عليه‌السلام بهذا الأمر ، في كتب اخرى أيضاً.

٧ ـ يقول «الطبري» المؤرخ المعروف بشأن هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واحاطة المشركين بداره صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثم جعلوا يطلّعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقولون : «والله إنّ هذا لمحمد نائم عليه بُردُه فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا : والله لقد صدقنا الذي حدثنا فكان ممّا نزل في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثِبتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ ....) (٢). (الانفال / ٣٠)

٨ ـ يروي «ابن الأثير» في «اسد الغابة» في فضائل علي عليه‌السلام : «لما أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الهجرة ، خلَّف عليَّ بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خرج من الغار وقد أحاط به المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال : إِتَّشِحْ ببردي الحضرمي ـ وبعدها نقل قصة ليلة المبيت وما أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل .. ثمّ قال : فأنزل الله عزوجل على رسوله وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي : (وَمِنَ النَّاس مَن يَشرِىِ نَفْسَهُ ابتغَاءَ مَرضَاتِ اللهِ). (٣).

٩ ـ يروي «أحمد بن حنبل» أحد أئمّة أهل السنّة الأربعة في مسنده وهو من المصادر الإسلامية المشهورة ، عن ابن عباس في تفسير الآية : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثِبتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ ....) قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأَثبتوه بالوثائق ـ يريدون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أَخرجوه ، فأَطلَع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك فبات علي عليه‌السلام على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لحق بالغار» (٤).

__________________

(١) مستدرك الصحيحين : ج ٣ ، ص ٤.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

(٣) اسد الغابة ، ج ٤ ، ص ٢٥.

(٤) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣٤٨.

٢٠١

ولم يشر الإمام أحمد إلى آية : (وَمِنَ النَّاس مَن يَشرِىِ نَفْسَهُ ...) ، إلّاأنّه يتحدث عن آية : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) التي وردت في واقعة ليلة المبيت أيضاً.

ولا تنحصر الروايات بما قيل : بل هناك روايات كثيرة اخرى رويت في المصادر المعروفة بهذا الصدد ، وللمزيد من الاطلاع بإمكانكم مراجعة كتب : احقاق الحق (١) ، وشواهد التنزيل (٢) ، وفضائل الخمسة (٣) ، والغدير (٤) ، وتفسير البرهان (٥).

* * *

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ٩٦ وما بعدها.

(٢) فضائل الخمسة ، ج ٢ ، ص ٣٤٥ وما بعدها.

(٣) الغدير ، ج ٢ ، ص ٤٩ ومابعدها.

(٤) الغدير ، ج ٢ ، ص ٤٩ ومابعدها.

(٥) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٢٠٢

٤ ـ آية الحكمة

(يُؤْتِى الِحكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتىَ خَيْراً كَثِيراً). (البقرة / ٢٦٩)

يروي الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عن «الربيع بن الخيثم» أنّهم ذكروا عنده علياً ، فقال : لم أرهم يجدون عليه في حكمه والله تعالى يقول : (يُؤْتِى الِحكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوِتىَ خَيْراً كَثِيراً) (١).

وفي نفس الكتاب نُقلت عدّة روايات اخرى بهذا المعنى أو ما يدانيه.

بالاضافة إلى أنّه يروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مَنْ أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه ، وإلى نوح في حكمته ، وإلى يوسف في اجتماعه ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب» (٢).

وفي موضع آخر يروي عن «أبي الحمراء» : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقدم علي عليه‌السلام نحونا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ سرّه أن ينظر إلى آدم في علمه ، ونوح في فهمه ، وإبراهيم في حُلمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب» (٣).

ويروي عن «ابن عباس» أيضاً ، كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسئل عن علي عليه‌السلام فقال : «قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطي علي تسعة أجزاء وأُعطي الناس جزءً واحداً» (٤).

إنّ هذه العبارات تكشف بجلاء أن ليس هنالك من أحد من الامّة الإسلامية بعد

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ١٣٧ ، ح ١٤٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٠٦ ، ح ١٤٧.

(٣) المصدر السابق ، ص ٧٩ ، ح ١١٦.

(٤) المصدر السابق ، ص ١٠٥ ، ح ١٤٦.

٢٠٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يضاهي علياً عليه‌السلام في العلم والمعرفة والحكمة ، وحيث إنّ أهم أركان الإمامة ، العلم والحكمة فإنّه كان أجدر الناس للإمامة والخلافة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

جاء أيضاً في «صحيح الترمذي» أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (١).

ومن المسلّم به أنّ من أراد دخول البيت ، عليه أن يدخل من الباب كما أمر بذلك القرآن الكريم : (وَأْتُوا البُيوتَ مِنْ أَبوابها). (البقرة / ١٨٩)

وعليه فمن أراد الدخول إلى خزائن علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه المبادرة إلى علي عليه‌السلام وطلب مفتاح هذا الكنز منه.

* * *

__________________

(١) صحيح الترمذي ، ج ٥ ، ص ٦٣٧ (المناقب ، باب مناقب علي بن أبي طالب ، ح ٣٧٢٣).

٢٠٤

٥ ـ آيات سورة هل اتى (الإنسان)

تعتبر سورة «هل اتى» سنداً آخر من الأَسانيد المهمّة لفضيلة علي عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ التمعن في مضمون هذه السورة وعباراتها ، وكذا شأن النزول الذي ذُكر لها يزيل الغموض عن الكثير من القضايا.

صحيح أنّ آيات هذه السورة تعرض بحثاً عاماً ، إلّاأنّ سبعة عشر آية منها التي تبدء من الآية ٥ : (إِنَّ الابرَارَ يَشرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كَافُورًا) وتستمر حتّى الآية ٢٢ ، تتحدث عن نفر على أنّهم «ابرار» ، بَيدَ أنّ شأن النزول والروايات العديدة التي وردت في المصادر الإسلامية المعروفة ، تكشف أنّ أتم وأكمل مصداق للأبرار في هذه الآية هم : علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام.

والجدير بالاهتمام أنّ في هذه الآيات السبعة عشر ذكرت أنواع نعم الجنّة ، وأفضلها واسماها ـ سواءً المعنوية أو المادية ـ إذ أنّها تتحدث عن بساتين الجنّة ، وعيون ماء الجنّة الطاهر ، والملابس ، والزينة ، والطعام ، والارائك والأسِرَّة ، والوِلدان ، وبالتالي النعم العظيمة والملك العظيم ، والنعمة الوحيدة التي لم تجرِ الإشارة إليها في ما بين هذه النعم هي الأزواج وحور الجنّة حيث يقول بعض العارفين بأسرار القرآن : إنّ هذا الأمر بمثابة الاحترام لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

وقليلاً ما تجتمع نعم الجنّة هذه وفي أقصى درجاتها في سورة من سور القرآن الكريم ، وهذا يبرهن على أنّ المراد من «الأبرار» هنا ليسوا اناساً عاديين ، بل أبرار ومطهرون وفي غاية العظمة والقرب من الله.

وهذا الأمر جدير بالذكر أيضاً حيث ذكرت علامات لهؤلاء «الأبرار» إذا أنّها تكشف عن

٢٠٥

منزلتهم ، يقول تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخَافُونَ يَومًا كَانَ شَرُّهُ مُستَطِيراً* ويُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَاسِيراً* انَّما نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللهِ لَانُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً* انَّا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). (الإنسان / ٧ ـ ١٠)

أمّا شأن نزول هذه الآية : فيروي الزمخشري في تفسيره المعروف «الكشاف» عن ابن عباس : «إنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة إن بَرِئا ممّا بهما : أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي عليه‌السلام ثلاثة أصوع شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : «السلام عليكم (١) أهل بيت محمّد» مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء ، وأصبحوا صياماً فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم سائل يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ؛ فلما أصبحوا أخذ علي عليه‌السلام بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما أبصرهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال : ما أشد ما يسوءني ما آرى بكم ، وقام فانطلق معهم فراى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة» (٢). ويروي القرطبي هذا المعنى باختلاف قليل في تفسيره في ذيل آيات البحث ، وينقل أيضاً شعراً عن السائلين وعن سيدة الإسلام في هذا المجال (٣).

ونقل «الفخر الرازي» أيضاً في تفسيره نفس هذه القصة عن الواحدي في كتاب «الوسيط» ، والزمخشري في الكشاف ، ولكنه يضيف في ذيلها : إنّ عبارة «إنّ الأبرار يشربون ...» جاءت بصيغة الجمع ، وأنّها تشمل الأبرار جميعاً ، ولا يمكن حصرها بشخص

__________________

(١) جاء نذر الحسن والحسين عليهما‌السلام في رواية الجعفي طبقاً لنقل تفسير القرطبي (تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٢٢).

(٢) تفسير الكشاف ، ج ٤ ، ص ٦٧٠ (ذيل آيات هذه السورة).

(٣) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٢٢.

٢٠٦

واحد (علي بن أبي طالب عليه‌السلام) ، وبالطبع لا يمكن انكار أنّ علياً عليه‌السلام داخل في عموم هذه الآيات ، لكنها لاتختص به.

إلّا أن يقال : إنّ هذه السورة نزلت أثناء أداء علي عليه‌السلام العبادة خاصة ، ولكن ثبت في اصول الفقه أنّ المعيار عموم اللفظ ، لا خصوصية السبب (١).

على أنّ الفخر الرازي كأنّه نسي هذ الأمر وهو أنّ شأن النزول يقول : إنّ هذه الآيات نزلت بحق علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام لا في علي بن أبي طالب خاصةً لتقع مشكلة صيغة الجمع.

أضف إلى ذلك : أنّ المراد من شأن النزول ليس إلغاء «عمومية مفهوم الآية» ، بل المراد هو أنّ هذه الآيات نزلت للمرة الاولى بعد قيام هذه الاسرة بتلك العبادة والطاعة والايثار ، وهذه فضيلة عظيمة ومنحة كبيرة أن تنزل هذه الآيات بعد أداء ذلك العمل.

وبتعبير آخر : إنّ علياً عليه‌السلام وأهل بيته المصداق السامي لهذه الآيات ، بل يعدّون النموذج الكامل لها ، لأنّ علة نزولها هو عملهم الطاهر ، ومن أراد انكار هذه الفضيلة العظمى إنّما يخادع نفسه.

وينقل «الآلوسي» أيضاً هذه القصة بكاملها في «روح المعاني» عن ابن عباس ، ومن ثمّ يضيف : وهذا الخبر مشهور بين القوم.

ثمّ يسعى وعلى ديدنه إلى التقليل منها أو إضعافها ، ومن أجل هذا الغرض يضيف بعد بيانه الامور بشأن اسناد هذه الرواية : فاحتمال أصل النزول في الأمير «كرم الله وجهه» وفاطمة (رض) قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال ... إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى يقول امرؤ فيهما سوى أنّ علياً مولى المؤمنين ووصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأمّا الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣ ، ص ٢٤٤.

٢٠٧

الرفض بشيء بل ما سواه عندي هو الغي (١).

إلّا أننا نقول : لو تغافلنا عن منقبة بهذه الشهرة فإنّ سائر الفضائل يكون مصيرها هكذا ، وسيأتي اليوم الذي ستوضح أفضلية علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام. فلماذا نتجاهل هذه الرواية المعروفة التي نقلها كبار المحدثين والمفسرين والتي لا معارض لها ، ونسد على انفسنا طرق معرفة هؤلاء العظماء؟!

يروي «السيوطي» العالم السني المعروف في تفسير «الدر المنثور» عن ابن مردويه عن ابن عباس : إنّ الآية (ويطعمون الطعام على حبّه ....) نزلت بحق علي وفاطمة عليهما‌السلام.

وأورد «الشبلنجي» أيضاً في «نور الابصار» قصة شأن النزول بكاملها (٢) ، وكذلك فريق آخر من كبار المفسّرين والمحدّثين.

* * *

هل أتى في الشعر :

إنّ نزول هذه السورة بحق أهل البيت عليهم‌السلام جلي إلى الحد الذي أشار الكثير من الشعراء المعروفين إلى هذا المعنى في شعرهم ، منها هذه الأبيات التي نقلت عن إمام الشافعية «محمّد بن ادريس الشافعي» في العديد من الكتب :

إلى مَ ، إلى مَ ، وحتى متى

اعاتبُ في حبِّ هذا الفتى؟

وهلْ زُوجتْ فاطمٌ غيرهُ؟

وفي غيره هل أتى ، هل اتى؟ (٣)

ينقل «ابن البطريق» وهو من علماء القرن السادس الهجري في كتاب «عمدة عيون صحاح الأخبار» عن تفسير ابن اسحاق الثعلبي ، أنّه قال :

أنا مولى لفتى

انزل فيه هل أتى (١)

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ١٥٨.

(٢) نور الابصار ، ص ٦٢.

(٣) احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٥٨ ؛ وعلي في الكتاب والسنة ، ج ١ ، ص ٤٤٧.

٢٠٨

ويقول «محمّد بن طلحة الشافعي» أيضاً (من علماء القرن السابع) في كتاب «مطالب السؤال» بحق آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

هم العروة الوثقى لمعتصم بها

مناقبهم جاءت بوحي وانزال

مناقبُ في الشورى وسورة هل اتى

وفي سورة الاحزاب يعرِفُها التالي (٢)

المراد من مناقب تلك العترة في الآية : (قُلْ لَّااسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ اجْراً الَّا المَوَدَّةَ فِى القُربَى). (الشورى / ٢٣)

والمراد من الآية (انَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ اهْلَ البَيتِ). (الأحزاب / ٣٣) وقصة سورة هل اتى معلومة أيضاً.

كما نقلت أشعار كثيرة اخرى بهذا الصدد عن «طلائع» ابن رزيك (أبو الغارات) (٣).

* * *

المشككون وسورة هل أتى!

إنَّ كل مطلع على كتب الحديث والتفسير والتاريخ للاخوة أهل السنّة يعرف جيداً حيثما يكون الحديث عن منقبة لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ينبري بعض المتعصبين من هنا وهناك ويثيرون الشبهات ، ويسعون بشتى الذرائع اثارة المؤاخذات على سند ودلالة ومضمون ذلك الحديث ، ويقللون من أهميّته ، وإن كانت المؤاخذات ضعيفة وواهية ، وكأنّهم قطعوا عهداً على أنفسهم على أنّ لا يتقبلوا أياً من هذه الفضائل ، وإن تقبلوها فإنّها لا تتفق وحكمهم المسبق.

إنّ مطالعة كتب مثل تفسير «روح المعاني» ، و «الفخر الرازي» ، و «المنار» ، ونحو ذلك شاهد على هذا الكلام بأنّ حكمهم العقائدي المسبق يقف حائلاً في جميع الأحوال أمام الاذعان لهذه الروايات ، إلى الحد الذي يصاب الإنسان بالدهشة أحياناً بسبب المؤاخذات

__________________

(١) عمدة عيون صحاح الاخبار ؛ ص ٣٤٩.

(٢) مطالب السؤال ، ص ٨ (طبقا لنقل الغدير ، ج ٣ ، ص ١٠٩).

(٣) يراجع كتاب علي في الكتاب والسنة ، ج ١ ، ص ٤٤٧.

٢٠٩

الواهية التي أثاروها على هذه الروايات.

بينما يتقبلون مناقب الآخرين برحابة صدر ، وإن بدت عليها آثار الضعف ، ومع هذا فقد افلتَ الكثير من الحالات من سيف انتقاداتهم وهي تكفي لإدراك الحقيقة.

على أيّة حال من الواجب هنا الإشارة إلى جانب مهم من تلك المؤاخذات :

١ ـ إنّ هذه الفضيلة تصح في حالة نزول هذه السورة في المدينة وبعد ولادة الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام (والمشهور أنّ ولادة الإمام الحسن عليه‌السلام في السنّة الثالثة للهجرة ، وولادة الإمام الحسين عليه‌السلام في السنّة الرابعة للهجرة) ، بينما يعتقد الكثيرون بأنَّ هذه السورة مكية ، وعليه فإنّها لا تتفق وشأن النزول الآنف الذكر.

ولكن بناءً على قول المفسر السني المعروف القرطبي ، فإنّ المشهور أنّ العلماء يعتقدون بأنّ هذه السورة مدنية (وقال الجمهور مدنية) (١).

وانضمت طائفة كثيرة إلى هذا الرأي أيضاً ، منهم :

الحاكم الحسكاني إذ عدّ هذه السورة من السور المدنية حيث نزلت بعد سورة «الرحمن» وقبل سورة «الطلاق» ، والجدير بالاهتمام أنّ العالم المذكور نقل ثمانية روايات بهذا الصدد جرى التصريح فيها جميعاً بأنّ سورة «هل اتى» مدنية ، وبعض هذه الروايات عن «ابن عباس» ، وبعضها عن «عكرمة» ، و «الحسن» ، وبعضها عن آخرين.

وقد قال في كلامه : إنّ بعض أعداء أهل البيت اعترضوا على سبب نزول هذه السورة ، فقالوا : لقد اتفق علماء التفسير على أنّ هذه السورة مكية في حين أن قصتها وقعت في المدينة.

ثمّ يضيف : كيف يسوغ له دعوى الإجماع مع قول الأكثر أنّها مدنية (٢).

ونقل في كتاب «تاريخ القرآن» لأبي عبد الله الزنجاني عن كتاب «نظم الدرر وتناسخ الآيات والسور» ، عن جماعة من مشاهير أهل السنّة : إنّ سورة هل أتى مدنية (٣).

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٩٠٩.

(٢) شواهد التنزيل ، ج ٢ ، ص ٣١٠ ـ ٣١٥.

(٣) تاريخ القرآن ، ص ٥٥.

٢١٠

ويروي «السيوطي» المفسر السنّي المعروف أيضاً في «الدر المنثور» المعنى نفسه عن ابن عباس بطرق مختلفة.

وفي «الاتقان للسيوطي» نقل أيضاً عن «البيقهي» في «دلائل النبوة» عن عكرمة : إنّ سورة هل أتى مدنية (١).

بالإضافة إلى أنّ كافة الذين يرون أنّ شأن نزول هذه السورة في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ـ وهم جماعة كثيرة جرت الإشارة إليهم آنفا ـ وكلّهم يشهدون على كون السورة مدنية.

فضلاً عن جميع ذلك ، على فرض أنّ قسماً من هذه السورة مكي ، والقسم المتعلق بنذر علي وأهل بيته مدني ، فلا مانع من أن يكون قسم من السورة مكيّاً والآخر مدنيّاً.

من هنا ، فإنّ مؤلف تفسير «روح البيان» (البرسوئي الحنفي) بعد ذكره عن طائفة من كبار العلماء أنّ سورة «هل اتى» مدنية ، إشارة إلى كلام الذين يرون أنّ بعض آياتها مكي والآخر مدني ، فيقول : على هذا الأساس يمكنك القول : (إنّ هذه السورة مكية وإن شئت قلت إنّها مدنية على أنّ الآيات المدنية في هذه السورة أكثر من الآيات المكية ، فالظاهر أنّها تسمى مدنية لا مكية ونحن لا نشك في صحة القصة) (٢).

من بين الامور التي اتخذها هذا المفسر وغيره من الواعين دليلاً على كون هذه السورة مدنية هو مجيء كلمة «أسير» فيها ، ونحن نعلم أنّ لا وجود للأسير في مكة ، وأنّ قضية الأسر والأسير كانت بعد نزول حكم الجهاد في المدينة.

يقول صاحب «روح البيان» في هذا المجال : «دل على ذلك أنّ الأسير إنّما كان في المدينة بعد آية القتال والأمر بالجهاد» (٣).

والمدهش أنّ المتزمتين الذين ليسوا على استعداد للتخلّي عن حكمهم المسبق بصدد الولاية والخلافة خلقوا التبريرات لـ «الأسير» هنا ، حيث بالإمكان أن تكشف عن الحقائق ، فقد قالوا : إنّ المراد من الاسير اسير زوجة! أو أسير الديون ، ونحو ذلك ... (٤).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٢١.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٦٩.

(٣) المصدر السابق.

(٤) نقلت هذه الأقوال في البحر المحيط ، ج ٨ ، ص ٣٩٥ عن بعض المفسرين ، إلّاأنّ صاحب هذا الكتاب ـ

٢١١

وينبغي التساؤل : لماذا نذهب وراء المجازيات ، مع إمكانية تفسير الاسير بالمعنى الحقيقي؟

٢ ـ كيف يتسنى حصر اللفظ العام للآية بأشخاص محددين؟

ولكن كما أسلفنا مراراً أنّ عمومية مفهوم الآيات لا يتعارض مع سبب النزول الخاص ، وهذا يشاهد أيضاً في الكثير من آيات القرآن الكريم الاخرى ، حيث يكون مفهوم الآية عاماً وشاملاً ، إلّاأنّ سبب نزولها وهو مصداقها الكامل والسامي يكون مورداً خاصاً ، والمثير للدهشة أنّ أحداً لم يتخذ عمومية مفهوم الآية في سائر الآيات الواردة في القرآن وسبب نزولها دليلاً على معارضة سبب النزول ، إلّاأنّ القضية هنا مختلفة!!

٣ ـ المؤاخذة الاخرى التي يثيرها المشككون هي : كيف يتمكن الإنسان من البقاء طاوياً ثلاثة أيّام ويفطر بماء فقط؟

بيدَ أنّ هذه المؤاخذة عجيبة ، لأننا كثيراً ما رأينا ـ وعلى امتداد حياتنا ـ أشخاصاً يمسكون عن الطعام من أجل العلاج ، فبعضهم قد يمسك ثلاثة أيّام وهذا يسير ، وتارة يمسكون لمدّة عشرة أيّام أو عشرين يوماً بل وحتى أربعين يوماً ، أي أنّهم وعلى مدى اربعين يوماً لا يشربون سوى الماء فقط ، ولا يتناولون طعاماً أبداً (حتى عصير الفواكه والشاي) ، وهذا الأمر ـ حسب اعتقاد الأطباء الذين يعالجون المرضى عن طريق الصيام أدى إلى علاج الكثير من أمراضهم ، حتى أنّ طبيباً مشهوراً غير مسلم يدعى «الكسي سوفورين» ألف كتاباً حول آثار الصيام لمدّة أربعين يوماً مع بيان دقيق لطرقه (١).

واعتبر بعض الكتاب الصوم لأكثر من عشرين يوماً علاجاً لبعض الأمراض.

إنّ الاضراب عن الطعام ومنه «الاضراب عن الماء» متداول في عصرنا الراهن وأحياناً يتجاوز الأربعين يوماً.

ولكن لماذا يتعجب هؤلاء المشككون من الصوم لمدّة ثلاثة أيّام والامساك عن الطعام والافطار بالماء لوحده؟ أليس هدفهم هو تعطيل هذه الفضيلة العظمى بأي وسيلة متاحة؟

__________________

ـ (أبو حيان الاندلسي) يرى أنّه يعني الاسير من الكفار.

(١) ترجم هذا الكتاب إلى العربية واسمه «التطبيب بالصوم».

٢١٢

٦ و ٧ ـ آيات مقدّمة سورة

«البراءة» وآية «سقاية الحاجّ»

في سورة التوبة ، وفي موضعين منها نزلت آيات تتضمن مناقب عظيمة لأمير المؤمنين عليه‌السلام بلحاظ سبب نزولها والروايات التي نقلها أغلب المفسرين والمؤرخين والمحدّثين.

الاولى : آيات مقدّمة سورة البراءة

الآيات التي في مطلع هذه السورة التي نزلت بشأن اعلان الحرب على المشركين الذين ينقضون العهد ، وقد اتفق كافة المفسرين والمؤرخين تقريباً على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثناء نزول هذه الآيات في السنّة التاسعة للهجرة التي تعلن فيها عن نقص العهد مع المشركين ، اختار «أبا بكر» لابلاغ هذا الأمر إلى عامة الناس في مكة خلال الحج ، ولكن لم يمض من الوقت شيء حتى استرجع الآيات منه وأعطاها لعلي عليه‌السلام وأمره بابلاغها إلى أهل مكة في مراسم الحج ، وهكذا فعل.

وبالرغم من وجود جدل بين المحدثين والمفسرين والمؤرخين في تفرعاتها ، نشير هنا إلى جانب من هذه الروايات :

١ ـ يقول أحمد بن حنبل الإمام السنّي المعروف في مسنده الذي هو أحد كتب الحديث المعروفة لدى السنةّ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالبراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر ، لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلّانفس مسلمة ، من كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدّة فأجله إلى مدّته ، والله بريء من المشركين ورسوله ، قال : فسار بها ثلاثاً ، ثم قال

٢١٣

لعلي عليه‌السلام : إلحقه فَرُدَّ عليَّ أبا بكر وبلغها أنت ، قال : ففعل ، قال : فلما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر بكى وقال : يارسول الله حدث فيّ شيء؟ قال : «ما حدث فيك إلّاخير ولكن امرت أن لا يبلغه إلّاأنا أو رجل منّي» (١).

وينقل الترمذي في سننه المعروفة وهي من المصادر الرئيسة للحديث لدى أهل السنّة ، هذه الرواية بتعبير آخر في بحث تفسير القرآن عن أنس بن مالك ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالبراءة مع أبي بكر ، ثمّ دعاه وقال : «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلّارجلٌ من أهلي فدعا علياً فأعطاه إيّاها» (٢).

ثمّ نقل الترمذي رواية اخرى عن ابن عباس حول هذا الموضوع ، ولكن أكثر تفصيلاً وبياناً (٣) ، واللطيف أنّه يقول بعد نهاية الحديثين ، سواء عنه أم نقلاً عن الآخرين : هذا حديث حسن غريب ، إلّاأنّه لم يعبر بهذا بشأن غيرهِ من الروايات سواء قبله أو بعده ، وهذا بحدّ ذاته من الامور الغريبة ، وكأن كل حديث يروي منقبة استثنائية بحق علي عليه‌السلام يعتبر غريباً بنظرهم.

٢ ـ ينقل السيوطي في الدر المنثور عن «عبد الله بن أحمد بن حنبل» و «ابن مردويه» عن علي عليه‌السلام لما نزلت الآيات العشر الاولى من سورة التوبة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أبا بكر ليأخذ هذه الآيات ويقرأها على أهل مكة ؛ ثمّ دعاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله نزل فيّ شيء؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلّاأنت أو رجل منك (٤).

٣ ـ وفي نفس الكتاب يروي عن «أحمد» و «الترمذي» و «ابن مردويه» أيضاً عن «انس» بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بآيات البراءة مع أبي بكر ، ثمّ دعاه وقال : «لا ينبغي لاحد أن يبلغ هذا إلّارجل

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣.

(٢) سنن الترمذي ، ج ٤ ، ص ٣٣٩ ، ح ٥٠٨٥.

(٣) المصدر السابق ، ح ٣٠٩١.

(٤) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٠٩.

٢١٤

من أهلي ، فدعا علياً فأعطاها إيّاه» (١).

٤ ـ ويروي أيضاً في هذا الكتاب عن «سعد بن أبي وقاص» : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بآيات البراءة مع أبي بكر إلى مكة حتى إذا كان ببعض الطريق أرسل علياً عليه‌السلام فأخذها منه ثمّ سار بها ، فوجد أبو بكر في نفسه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يؤدّي عني إلّاأنا أو رجل منّي (٢).

٥ ـ ويروي في الكتاب نفسه عن «أبي سعيد الخدري» الصحابي المعروف : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر يؤدّي عنه براءة ، فلما أرسله بعث إلى علي عليه‌السلام فقال : يا علي أنّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو أنت فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر فأخذ منه براءة ، فأتى أبو بكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد انزل فيه شيء ، فلما أتاه قال : «مالي يا رسول الله؟ (وساق الحديث) إلى أن ذكر قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي» (٣).

٦ ـ وفي هذا الكتاب أيضاً يروي عن «أبي رافع» الصحابي المعروف : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر بآيات البراءة إلى الحج فنزل عليه جبرئيل وقال : «إنّه لن يؤدّيها عنك إلّاأنت أو رجل منك» (٤).

٧ ـ ٨ ـ روى الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» ما يقارب من اثنتي عشرة رواية بشأن هذا الموضوع عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، وسعد ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وغيرهم حيث يطول المقام بذكرهم جميعاً ، وبمقدور الراغبين الرجوع إلى الكتاب المذكور الذي هو في متناول الجميع من أجل المزيد من التحقيق (٥).

وروى جماعة كثيرة اخرى أيضاً هذه الرواية بطرق مختلفة ، وأنّ رواة هذا الحديث كثيرون إلى الحد الذي يقول المرحوم العلّامة الأميني : «هذا الحديث أخرجه كثير من أئمّة

__________________

(١) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٠٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٣٠ (بشيء من الاختصار).

(٤) المصدر السابق.

(٥) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٤٣ (الحديث رقم ٣٠٩ و ٣١٠ و ٣١١ و ٣١٢ و ٣١٤ و ٣١٥ و ٣١٦ و ٣١٧ و ٣١٨ و ٣٢٣ و ٣٢٤ و ٣٢٥).

٢١٥

الحديث وحفاظه بعدة طرق صحيحة يتأتى التواتر بأقل منها عند جمع من القوم ثم عدد ٧٣ نفراً منهم (١) ثم يضيف : إنّ رواة هذا الحديث ينتهي أسانيدهم إلى جمع من الصحابة الأولين منهم علي عليه‌السلام ، أبو بكر ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، أنس بن مالك ، أبو سعيد الخدري ، سعد بن أبي وقاص ، أبو هريرة ، عبد الله بن عمر ، حبش بن جنادة ، عمران بن حصين ، أبو ذر الغفاري» (٢).

ونختم هذا البحث بشعر لـ «شمس الدين المالكي» وهو من شعراء القرن الثامن الهجري المعروفين ، يقول :

وأرسلهُ عنهُ الرسول مبلّغاً

وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفردِ

وقال هل التبليغ عني ينبغي

لمن ليس من بيتي من القوم فاقتدي

* * *

النتيجة :

إنَّ هذه الرواية بهذه السعة في المصادر تعتبر أحد الأدلة الواضحة على أفضلية علي عليه‌السلام على غيره بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتماده صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، وغاية قربه من الله تعالى ، فهو يقول بصريح القول : «أمرني جبرئيل الامين عن الله بأن يبلغ علي هذه الآيات» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن يؤدّي هذا الأمر إلّاأنا أو رجل منّي ، وأنّ علياً وحده المؤهل لأداء هذا العمل».

وبالنظر إلى أنّ : إلغاء العهود مع المشركين كان أحد أكثر المراحل حساسية في تاريخ الإسلام ويقتضي اطلاعاً وتدبيراً وشجاعة استثنائية وكان من الممكن أن يواجه ردود فعل قوية من قبل المعارضين أثناء مراسم الحج ، فإنّ اختيار علي عليه‌السلام لهذه المهمّة كان أفضل دليل على أنّه أعلم الامّة وأشجعها وأكثرها تدبيراً ، ومن المسلّم به أنّ الذي يُختار لهذا الأمر أكثر أهلية وأجدر لخلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والجدير بالاهتمام أنّ أبا بكر نفسه أدرك هذا الأمر أيضاً ، وعند حضوره عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) للاطلاع على اسماء هؤلاء ال ٧٣ شخص راجعوا كتاب الغدير ، ج ٦ ، ص ٣٤١ ـ ٣٨٨.

(٢) الغدير ، ج ٦ ، ص ٣٤١ ـ ٣٤٨.

٢١٦

استفسر باضطراب : هل نزل شيء بحقي؟ فأجابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا العمل يؤدّيه شخص منّي!».

وهنا نلاحظ أنَّ المشككين ـ بما امتلكوه من حكم مسبق ـ بذلوا كل مابوسعهم من أجل التقليل من أهميّة هذه المنقبة ، وتجاوزوا هذه المسألة بتحليلاتهم الواهية.

فمثلاً يقول «الآلوسي» في «روح المعاني» : هذا الحديث يدل باختصار على افضلية علي عليه‌السلام وقربه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا ما لا ينكره مؤمن ، لكنه لا يدل أبداً على أنّ علياً أليق بامر الخلافة من أبي بكر ، ثمّ يضيف قائلاً : وقد ذكر بعض أهل السنّة نكتة في نصب أبي بكر أميراً للناس في حجهم ونصب الأمير «كرم الله وجهه» مبلغاً نقض العهد في ذلك المحفل ، وهي أنّ أبا بكر كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال ، وعلي عليه‌السلام هو أسد الله ومظهر جلاله ففوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا عينين فوّارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ، ومن الاخرى صفة الجلال في ذلك الجمع العظيم الذي كان أنموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر.

يقول الآلوسي بعد ذكره لهذا الكلام : «ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وكما قال «الآلوسي» في كلامه الأخير فإنّ هذا التحليل «الشاعري» لا يتفق وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو يقول بصراحة : لقد أمرني جبرئيل عن الله أنّ هذا الأمر لايؤدّيه إلّاأنا أو رجل منّي ، أي رجل نظير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويمتلك مواصفات خاصة وأقرب الناس إليه ، ونحن نعلم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جامعاً لصفات الجمال والجلال.

لماذا يصر هؤلاء الاخوة على إغفال منقبة بهذه العظمة أو يحرفونها عن منحاها الحقيقي بتبريرات شاعرية ، مخافة أن يستند إليها الشيعة ويثبتوا حقانية مذهبهم؟!

وننهي كلامنا هذا بالحديث الذي روي عن أبي ذر الغفاري في كتاب «مطالب السؤال» ، فهو يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «علي منّي وأنا من علي ولا يؤدّي إلّاأنا أو علي» (٢).

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٠ ، ص ٤٧.

(٢) مطالب السؤال ، ص ١٨ (على ضوء نقل الغدير ، ج ٦ ، ص ٣٤٨).

٢١٧

الثانية : آية سقاية الحاج

نقرأ في قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحَاجِّ وَعِمارَةَ الَمَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبيلِ اللهِ لَايَستَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَايَهدِى القَومَ الظَّالِميِنَ). (التوبة / ١٩)

لقد أورد الحاكم الحسكاني الحنفي في «شواهد التنزيل» ما يربو على عشر روايات من طرق مختلفة في ذيل هذه الآية ، تثبت أنّها نزلت بحق علي عليه‌السلام.

ففي احدى هذه الروايات ينقل عن أنس بن مالك : إنّ «العباس بن عبد المطلب» و «شيبة» قعدا يفتخران ، فقال له العباس : أنا أشرف منك ، أنا عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصي أبيه وساقي الحجيج ، فقال شيبة : أنا أشرف منك ، أنا أمين الله على بيته وخازنه ، أفلا أئتمنك كما ائتمنني؟ فاطّلعَ عليهما علي عليه‌السلام فأخبراه بما قالا ، فقال علي عليه‌السلام : أنا أشرف منكما ، أنا أول من آمن وهاجر ، فانطلقوا ثلاثتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروه فما أجابهم بشيء ، فانصرفوا فنزل عليه الوحي بعد أيّام فأرسل إليهم فقرأ : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ ...) إلى آخر العشر (١).

وورد هذا المضمون أيضاً بشيء من الاختلاف في بقيّة الروايات.

وجاء في بعضها : لما سمع العباس بنزول الآية قال ثلاثاً : «إنا قد رضينا».

وبالإضافة إلى «الحاكم الحسكاني» فقد نقل هذه الروايات أيضاً جمع غفير ـ بعضهم بشكل مفصل وبعضهم على نحو الاختصار ـ في كتبهم ، منهم :

«الطبري» في تفسيره عن «أنس بن مالك» (٢).

«الواحدي» في «أسباب النزول» (٣).

«القرطبي» في تفسيره (٤).

__________________

(١) شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ٢٤٩.

(٢) تفسير جامع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٩.

(٣) أسباب النزول ، ص ١٨٢.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٩١.

٢١٨

«الفخر الرازي» في «التفسير الكبير» (١).

«الخازن» في تفسير «الخازن» (٢).

«أبو البركات النسفي» في تفسيره (٣).

«ابن الصباغ المالكي» في «الفصول المهمّة» (٤).

وفي تفسير «الدر المنثور» وهو تفسير يستند إلى أحاديث أهل السنّة نقل روايات كثيرة بشأن نزول هذه الآية بحق علي عليه‌السلام ، والقصة الآنفة (٥).

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو : أليس التفاخر أمر منبوذ في الإسلام؟ فلم يُقْدِم أمير المؤمنين عليه‌السلام على هذا الأمر؟

تتضح الاجابة عن هذا السؤال من خلال الالتفات إلى قضية واحدة وهي : إنّ الناس ربّما يقعون بالخطأ في تشخيص القيم ، فيتركون القيمة الحقيقية ويتبعون الامور المتأخرة من ناحية القيمة ، ففي مثل هذه الحالات لا مانع من الافتخار والتباهي من أجل توضيح الحقيقة ، بل تعتبر واجباً في بعض الحالات ، فمثلاً ربّما يفتخر شخص بنفسه في احدى المجالس قائلاً : إِنني امتلك الثروة الفلانية ، وآخر يقول : إنّ القصر الفلاني يعود لي ، ويقول ثالث : كفاني فخراً إنني أمير بلدي!.

وينبري شخص قد جلس هناك فيقول من أجل ابراز القيم الحقيقية :

بالرغم من افتقاري للمال والثروة والمقام والجاه إلّاأنني افتخر بكوني حافظاً للقرآن.

فهذا الفعل لايعد قبيحاً بل هو درس بليغ.

* * *

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٤ ، ص ٤٢٢.

(٢) تفسير الخازن ، ج ٢ ، ص ٢٢١.

(٣) تفسير أبو البركات ، ج ٢ ، ص ٢٢١.

(٤) الفصول المهمّة ، ص ١٢٣.

(٥) تفسير در المنثور ، ج ٣ ، ص ٢١٨ و ٢١٩.

٢١٩
٢٢٠