نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

مقدّمةٌ على كتاب معجم رجال الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم وغاصبي حقّهم من الآن إلى قيام يوم الدين.

لا ريب أنّ بلوغ أيّة حقيقة وكشف أيّ واقع يمرّ عبر طرق وقنوات قائمة على أساس من القواعد والاُصول والقوانين.

وهذه المعادلة الكلّية لها من المصاديق الخارجية ما لا يمكن عدّها أو حصرها ; لتفاوت الأهداف والغايات بتفاوت التوجّهات والرغبات.

فتتباين على ضوء ذلك المناهج والأساليب المعتمدة لأجل نيل المرام وبلوغ المقصد.

وانطلاقاً من واقع الخلقة وأساس التكوين ، فإنّ حقيقة المعرفة

__________________

١. مقدّمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث على كتاب «معجم رجال الشيعة» للعلاّمة المحقّق الراحل السيّد عبدالعزيز الطباطبائي طاب ثراه.

٨١

الإلهية فوق كلّ المعارف ، فلا تضاهيها أيّة حقيقة مطلقاً ، وأ نّها الضرورة التي دونها سائر الضرورات ، فهي أقدس المقاصد وأشرف الأهداف ، والتمرّس في عناصر دركها هو أجلّ الممارسات التي تفتح المنفذ الوهّاج نحو الهداية والفلاح.

وعليه ، فإنّ إنسانية الإنسان ـ علوّاً أو هبوطاً ـ تنمو أو تضمحل بمقدار سيره تجاه فهم تلك الحقيقة واستيعاب محاورها بالشكل الذي يؤمّن له دوام الاستمرار في طىّ مراحل التربية والكمال البشري أو نأيه عنها وتخبّطه في معاقل الفساد والضياع.

ولا شكّ أنّ صمّام الأمان من الضلال والرادع الأساس عن الانحراف والمنقذ من الانحطاط ، هو التمسّك بما دعى خاتم الرسل والأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) إلى التمسّك به ، والانفصام عنه انفصامٌ عن الدين والإيمان ، وانضمامٌ إلى الكفر والنفاق ، ولا نقول بالفصل أبداً بين الكتاب والعترة ; فهما أساس المعرفة الإلهية ، والكلّ المركّب لا يقوم إلاّ بقيام جميع أجزائه.

فدون التمسّك بالإمامة والاعتقاد بالخلافة الإلهية التي منحها المولى تبارك وتعالى لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، لا يمكن بأيّ وجه من الوجوه كسب المطلوب وتحصيل رضا الربّ.

لذا فإنّ كلّ العلوم وكافّة العقول وجميع الجهود وكلّ الطاقات ومختلف الإمكانيات يجب توظيفها وتسخيرها لأجل نشر وبيان المنزلة العظيمة والمضامين العميقة والاُطر الواسعة التي يحتويها أصل الإمامة.

٨٢

وبقول بعض الأجلّة :

إنّ درك وفهم عمق الإمامة لا يتمّ إلاّ بفهم : (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (١).

وإبراهيم (عليه السلام) كان قد اجتاز مراحل أربع حتى نال المقام الشامخ والمنزلة الإلهية الرفيعة ، والتي هي :

١ ـ مرحلة العبودية.

٢ ـ مرحلة النبوّة.

٣ ـ مرحلة الرسالة.

٤ ـ مرحلة الخلّة : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (٢).

والإمامة لابد وأن تتوفّر فيها جهتان :

الاُولى : ما يلي الحقّ. أي أنّ الإمام لا يسأل إلاّ من الله سبحانه وتعالى.

الثانية : ما يلي الخلق. أي أنّ الإمام إذا سُئل لا يقول : لا.

وتجتمع في الإمام (عليه السلام) ـ كما قيل ـ أربعون خصوصية ، كلّ واحدة منها تحتاج إلى بحث وتفصيل عميقين لا تستغرقه قلائل صفحاتنا هذه ، ولكن نشير إلى واحدة منها ، فنقول :

__________________

١. سورة البقرة : ١٢٤.

٢. سورة النساء : ١٢٥.

٨٣

إنّه قد ورد في النصّ الصحيح : «ألبسه الله تاج الوقار ، وغشّاه من نور الجبّار» (١).

والملاحظ أنّ الحديث صريح في أنّ المتوِّج هو الله تبارك وتعالى دون واسطة أبداً ، فلا النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) ولا الملائكة (عليهم السلام) لهم الحقّ أو الدخل في الانتخاب والترشيح.

وأمّا درك المراد من : «وغشّاه بنور الجبّار» فإنّه ـ كما قال بعض مشايخنا ـ يتوقّف على مقدّمة ، تتلخّص في فهم آيات من سورة النور : وهي قوله تعالى : (فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ) (٢). وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالاْرْضِ) (٣).

والنبيّ (صلى الله عليه وآله) في مقام وصف الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه) قال : «عليه جلابيب النور» (٤).

أمّا أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقد روي عنه أنّه قال في معنى قوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) : «القائم المهدي (عليه السلام) ، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شيء عليم» (٥).

__________________

١. غيبة النعماني : ٢٢٤ / ٧.

٢. النور : ٣٦ ـ ٣٧.

٣. النور : ٣٥.

٤. كفاية الأثر : ٥٩.

٥. تفسير البرهان ٣ : ١٣٦ / ١٦.

٨٤

والإمام الرضا (عليه السلام) قد نُقل عنه قوله في الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) : «عليه جيوب نور تتوقّد بشعاع ضياء القدس» (١).

وبالتأمّل والتفكّر ترى عجز البيان وقصور الأفهام وتخاذل المشاعر والأحاسيس عن درك عظم هذه الرفعة وتلك المنزلة العظيمة.

هذه شذرات وقبسات ولمحات استقيناها من ذلك النور المقدّس والعنفوان الإلهي المتجلّي بأتمّ البهاء والجمال.

ولسنا بصدد الإنشاء أو التأسيس ـ والعياذ بالله ـ بل هي حالة من الإخبار التي يتلذّذ بها ذوو الألباب الواعية والفطرة النقيّة والمشاعر العميقة ، وإلاّ فإنّه منذ النشأة الاُولى والفرد الإنساني الطموح كان قد طوى مراحل العلم والمعرفة وانكشفت له الستائر والحجب ، حتى عانى جرّاء ذلك أشدّ المصائب وأقسى المحن والويلات ، واستطاع أن ينال المقام المحمود والمكانة العالية في تسلّق سلّم الحقيقة الباهرة والطَلِبَةَ الخالدة.

وبفضل الجهود العملاقة ـ المنعكسة على صفحات الحياة الإنسانية بأمتن منهاج وأدقّ اُسلوب وأفضل محتوى ـ التي جادت بها أذهان علمائنا ، وأساطين الفكر والبحث والمعرفة من رجالنا ، والمنصفين من القوم وغيرهم ، اتّضح الكثير من معالم المعرفة الإلهية بواقعها الصحيح والمطلوب.

وعلماء الشيعة الإمامية تمكّنوا من طرق كلّ ألوان العلوم

__________________

١. عيون أخبار الرضا ٢ : ٦ / ١٤.

٨٥

والمعارف ، سعياً منهم ـ ومن واقع الوجوب الكفائي ـ إلى بيان أصل الإمامة والخلافة الإلهية لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ونشر قيمه ومبادئه ، على نحو من الاستدلال الفكري الشامل ، الممتلئ بالمنقولات الشرعية الصحيحة متناً وسنداً ; ناقضين الشبهات بأرفع عناصر الدفع والردّ ، مبرمين محاور المدّعى بأعمق البراهين وأوضح القرائن.

وقد استدعت التكاملية في الأداء إلى تباين المهام وتنوّع التخصّصات ، وهذا ما جعل النتائج على غاية من التفوّق المشحون رصانةً ومكانة.

ولكنّ الأغراض والأهداف لا يمكن لها أن تتوقّف على هذا المقدار من الفهم والإدراك ; لكون مراتب المعرفة ذات محتوىً غزير وعمق واسع لا ينحصر على حجم محدّد من المكان أو الزمان ، فديمومة المثابرة وتنشيط حركة العلم والبحث والتحقيق ، أمران لابدّ منهما على طول الطريق ومرّ الوقت.

إنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ـ وبفضل العناية الإلهية ـ استطاعت أن تخرّج علماء وأفاضل ومفكّرين وباحثين في شتّى مجالات المعرفة والثقافة ، والتي منها : علم الفقه والاُصول ، علم الكلام والمنطق ، علم التفسير والبيان ، علم الرجال ، علم البحث والتحقيق والتنقيب ... وغيرها من العلوم والمعارف.

وفقيدنا الراحل العلاّمة المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز

٨٦

الطباطبائي (قدس سره) هو واحد من اُولئك الذين حملوا لواء الفكر والفضيلة ، وأسدوا خدمات جليلة وكبيرة للدين والطائفة ، بحيث كانت ولا زالت محلّ ثناء وإطراء أهل العلم والخبرة.

بل هو أحد الذين فتحوا آفاقاً جديدة نحو كشف الآثار القيّمة والنفيسة التي تفصح عن أصاله مذهب التشيّع وسموّ مبادئه ، وذلك بروح ممزوجة بالكرم والسخاء والوفاء والإخلاص والتواضع والزهد ، فكان عبارة عن عطاء متواصل ومنبع جود لا ينقطع أغنى حقول الثقافة بأتقن النتاجات وأجمل العروض ، ولا عجب في ذلك فإنّ ما كان لله ينمو.

والذي عايش السيّد الطباطبائي لابدّ وأن شاهد تلك الهمّة وذلك الشعور والإحساس بالواجب الشرعي في إحياء ونشر علوم آل محمد (صلى الله عليه وآله) ، فكان يبذل الجهد ويسعى دون أن يستند إلى غير الله سبحانه وتعالى ، فإن كان قد قدّم في حياته هذه الحصيلة الباهرة والباقة والعطرة من الآثار فإنّما قدّمها بالاتّكال على المولى تبارك وتعالى ومن ثم طاقاته ومواهبه الشخصية.

وقد أجاد وبرع (رحمه الله) في شتّى محاور العلم والفضيلة ، سواء على صعيد التأليف ، أو التحقيق ، أو الفهرسة ، أو المتابعة والبحث ، إلاّ أنّه امتاز وتفرّد في الكشف عن الآثار التي تبرز المكانة اللائقة والشأن الشامخ لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ; وكذلك فهرسة تلك المصنّفات وترتيبها وتنظيمها ، وتسلّطه في علم الرجال ومهارته في تفصيل محاوره وأركانه ، وبيان نظرياته ومبانيه.

٨٧

كشف وتقييم المخطوطات

لقد شاع وانتشر هذا اللون من العلوم ونما بنموّ حركة التأليف والتحقيق وما رافق ذلك من تزايد الوعي لدى مختلف طبقات الاُمّة والمجتمع .. ولقد كان ذلك على أثر مجموعة من القواعد والاُصول التي تبلورت وتوسّعت باتّباع جملة من المناهج والأساليب المتطوّرة ، ممّا جعله الدعامة والمهمّة الأساسية في إنجاز المشاريع والأعمال الثقافية.

إنّ هذا المضمار المترامي الأطراف لابدّ وأن تتوفّر في متخصّصية عدّة من العناصر التي تؤهّلهم لكسب أرقى النتائج وأفضل القواعد ، فمثلاً : إنّ اسم الكتاب واسم كاتبه من أهمّ الجوانب التي يجب تثبيتها بالدليل القاطع والبرهان المتين ، كما أنّ معرفة كاتب النسخة من الاُمور التي تساهم مساهمة فاعلة ومؤثّرة في رفع قيمة المخطوطة وإظهار مدى نفاستها ، فقد تكون بخطّ المؤلّف نفسه ، أو قد قرئت عليه ، أو قوبلت وكتبت بحضوره أو في زمانه ، أو في فترة قريبة منه ، أو أنّ كاتبها وإن كان متأخّراً لكنّه من العلماء والأفاضل أو المعروفين .. كلّ هذا يعكس مدى جودة وصحّه نسبة المخطوطة إلى صاحبها ، وخلافه يظهر رداءتها وزيفها ونفي انتسابها إلى كذا شخص ، أو أنّها ليست الكتاب الفلاني ، ولا أقلّ من التشكيك.

وحسم هذه الاُمور ـ التي تعرّضنا إلى قسم منها على سبيل المثال لا الحصر ـ لابدّ وأن يتمّ على يد عالم وخبير في هذا المجال.

٨٨

كما أنّ العثور على نفائس المخطوطات والآثار عموماً ، التي تظهر معالم مدرسة آل البيت (عليهم السلام) خصوصاً ، يحتاج إلى معرفة سبل وقنوات لا يجيدها إلاّ أهل الخبرة والاختصاص ، ولا سيّما أنّ الكثير منها قد اختفى إمّا لجهل مالكيها ، أو لحقدهم الأعمى ورغبتهم عن درك الحقيقة وفهم الواقع.

ولقد كان العلاّمة الراحل (قدس سره) من ألمع رجال هذا اللون من العلوم ، بل هو من فرائده ونوادره والنجم الذي تلألأ في سمائه بكلّ قوّة وجدارة ; لمؤهّلات ومواصفات نشأت ونمت معه منذ عهد يفاعته ; والذي يدلّنا إلى ذلك كيفية آثاره وشهادة أهل الخبرة بطول باعه وعظيم كفاءته ، ولقد أعانه على ذلك أيضاً : ذهنه الوقّاد ، وحضور فكره العجيب ، وفراسته المعروفة ; مضافاً إلى ملازمته الدائمة والدؤوبة لاُستاذيه الشهرين : العلاّمة الأميني صاحب كتاب الغدير ، وأقابزرگ الطهراني صاحب كتاب الذريعة ، واللذين أسديا له خالص النصائح ، مع متابعتهما لأعماله ونشاطاته ، فتعلّم منهما الكثير واستفاد الغزير بفضل علومهما حتى أصبح ممّن يشار إليه بالبنان.

وهذه الخصائص كلّها جعلت منه (رحمه الله) العقل المفكّر والدليل المطمئن والمبرمج الكبير ، الذي غذّى المجامع العلمية والتحقيقية بعصارة أفكاره وخلاصة خبرته ، وعطّر سوح الثقافة بأريج لمساته الممسّكة بطابع الولاء.

وحريٌّ بنا أن نشير إلى نفحة من نفحات إرشاداته ونصائحه ، فنقول :

٨٩

إنّه في معرض إجابته عن سؤال حول الخطوات التي يجب اتّباعها في العثور على النسخ والمخطوطات والآثار النفيسة ومن ثم إنقاذها ، أجاب (رحمه الله) قائلاً :

لابدّ من اتّباع الخطوات التالية التي اعتقد أنّها تساعد على التوصّل إلى نتائج مثمرة في هذا المجال ، وأهمّ تلك الخطوات :

١ ـ التوصّل إلى معرفتها بمختلف الطرق المشروعة ، وكذلك البحث عن معلومات حقيقية ومصادر تفيد هذا الغرض.

٢ ـ يقتضي نشر الأخبار الواردة ، أو التي ترد عنها ، ومتابعة تفاصيلها.

٣ ـ يفترض بمراكز البحوث والتحقيق ـ التي تتمتّع بالإمكانات ـ أن تباشر إلى استقصاء أخبار مراكز البحوث العالمية ; كي تحقّق أهدافها.

٤ ـ حثّ الجماعات والباحثين على التجوال واستقصاء الجديد ، كما يتطلّب من هؤلاء اقتناء ما يصل بأيديهم والمباشرة بتحقيقها.

٥ ـ توفير الإمكانات للمحقّقين والبحّاثة لإنجاز هذه المهمّات العلمية والدينية بصورة صحيحة.

ثم أردف (رحمه الله) قائلاً : وكان عندنا في مجلّة تراثنا حقل كنّا نطلق عليه : ما ينبغي نشره من التراث ، حيث أختار لهم الأهمّ فالأهمّ والمقدّم من المخطوطات الذي ينبغي نشره والدلالة على أماكن وجود مخطوطاته وأرقامها وتاريخها ، والوسائل الكفيلة بالوصول إليها ، حيث جرّب بعض

٩٠

الباحثين حظّهم في هذه المخطوطات ، وأدّى إلى قيام جماعة اُخرى في التحقيق في هذه المحطوطات ، وتمّ نشره بالفعل ... (١).

الفهرسة

إنّ الحركة الشاملة والنهضة السريعة التي يشهدها عالم المعرفة والثقافة استدعت استخدام أفضل الطرق والأساليب التي تساهم في بلوغ المرام بأقصر مدّة وعلى غاية من الكيفية والمتانة.

وتعدّ عملية الفهرسة من المحاور المهمّة والأساسية التي تختزل زمن البحث والتحقيق إلى أدنى حدوده ، وتفتح الآفاق الرحبة لتبنّي الكثير من المشاريع والأعمال العلمية التي يعزّ ويصعب نيلها بدون ذلك.

بل وقد أصبحت الفهرسة من الأركان والملازمات التي يستفاد منها في أيّ مكان وزمان ، حيث شقّت طريقها إلى كلّ مجال ، وبات يستعان بها في أيّة لحظة.

والأهمّ من ذلك : أنّ الفهارس استطاعت أن تعرّفنا بآثار ومصنّفات وعلماء وشخصيات ومتون وأماكن وموادّ علميّة وغيرها ، كانت خافية علينا ، أو كنّا نجهلها تماماً.

ولا شكّ أنّ المشاريع الفهرستية قد نمت وتطوّرت بتطوّر برامجها وأساليبها ، مضافاً ما للتقنية الحديثة من لمسات بارزة ومؤثّرة في دفع

__________________

١. من إحدى اللقاءات التي اُجريت معه (رحمه الله) والمنشورة في كتاب : المحقّق الطباطبائي في ذكراه السنوية الاُولى ج١ ، قسم الحوارات.

٩١

وازدهار مناهجها وسهولة الوصول إليها.

وسيّدنا الفقيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هو واحدٌ من اُولئك الذين تمرّسوا وأبدعوا في فنّ الفهرسة ، فمن تلك البدايات في مكتبة جدّه المرحوم ، ثم مكتبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف ـ والتي شيّدها العلاّمة الأميني (قدس سره) ـ إلى هذه الآثار والأعمال والمؤلّفات الفهرستية ، نجد عمق بحثه ودقّة متابعته وتحقيقه ، فكم من كتاب أو رسالة غاصت في أتربة الإهمال والضياع والنسيان ، تراها قد أبصرت النور بفضل جهوده ومساعيه.

وله (رحمه الله) أكثر من عشرة مؤلّفات فهرستية هي حصيلة متابعاته وأبحاثه وسفراته ، ذُكِرت أسماؤها في أكثر من مقام.

التخصّص في علم الرجال

لقد تميّز (قدس سره) بقدرته وتسلّطه بعلم الرجال ، العلم الذي له الدخل المباشر في صياغة الحكم الشرعي ، بل في تنظيم حياة المجتمع وترسيخ القيم والعقائد ، لذا فهو ركن من الأركان وقناة من القنوات التي نصل عبرها إلى درك الفروع والاُصول بالمحتوى الصحيح والمضمون الحقيقي ، وهل دراسة المتون الحديثية إلاّ دراسة المتن ودراسة السند ، التي ينعكس على ضوئها مدى صحّة وسقم الخبر.

إنّ أهمّيّة علم الرجال نشأت نتيجة الظروف والعوامل التي أحاطت بالسنّة الشريفة ، ابتداءً من مرحلة منع تدوين الحديث في زمن الخليفة

٩٢

الثاني ، ومروراً بحقد الدولتين الاُمويّة والعبّاسية ، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ هذه الهجمات العنيفة وحملات التزييف والتحريف والتشويه التي وجدت في ذراع الوهّابية وغيرها خير معين وذابّ عنها. كلّ هذه المحاور وغيرها قد اجتمعت لتجعل من علم الرجال على غاية من الأهمّيّة والخطورة.

والعلاّمة المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (رحمه الله) هو ذلك الرجالي المسلّط على هذا العلم من حيث مبانيه وأدواته تسلّطاً عميقاً ودقيقاً ، ممّا يلحظ ذلك على مؤلّفاته وتحقيقاته بشكل جلي وبارز ، الأمر الذي جعلها بالمكانة التي أهّلتها لأن تستقطب آراء العلماء والفضلاء وأهل الخبرة والبحث والتحقيق بالقبول والدعم والإطراء.

وله في هذا المضمار مراجعات كثيرة ، وكتب وتراجم عديدة لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، والتي قد استخرج المبعثر منها في بطون الكتب من مختلف المصادر السنّية والشيعية والفهارس والمخطوطات.

وكان (رحمه الله) في نيّته وعزمه إنجاز مشروعين على صعيد التراجم والرجال ، ولكنّ دعوة الحقّ حالت دون ذلك.

والجدير بالذكر أنّ تصحيح كتاب معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي (قدس سره) كان بعهدته وتحت إشرافه.

ولا يخفى على القارئ اللبيب والمطّلع الأريب وأهل البحث والتحقيق مدى إحاطته بالمباني الاُصولية والفقهية ، والتي أضفت على

٩٣

آثاره درجةً عاليةً من المتانة والإتقان.

كلّ هذه المؤهّلات وجميع العلوم وكافّة التخصّصات والمؤلّفات التي ناهزت الأربعين مؤلّفاً والتحقيقات التي جاوزت العشرة والسيرة العطرة والأخلاق الرفيعة ، كلّها لا ترقى إلى ذلك الذوبان التامّ والولاء العظيم والانقياد الكامل والإيمان العميق بولاية أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، فإنّ الشعور العقائدي والحسّ المبدئي هما أغلى ما عرفناه عنه (قدس سره) ، فلا يكاد تصنيفٌ أو تحقيقٌ أو بحثٌ أو مطالعةٌ ـ تحريراً أو مشافهةً ـ إلاّ وقد عطّره بذلك الحسّ والشعور المنبثقين عن شدّة التمسّك وروعة الوفاء والإخلاص لأصل الإمامة والخلافة الإلهية التي منحها الباري عزّوجلّ لآل النبيّ الأطهار (عليهم السلام).

إنّ العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله) ما كان له أن ينال هذه المكانة والمنزلة وذلك الشأن والشموخ لولا الولاء الحقيقي والدرك الصحيح والفهم الصائب ، الممزوجة كلّها بأشرف مراحل الممارسة والتطبيق.

فغاية ما أردنا الإفصاح عنه هو الجمع بين تلك النفحة العقائدية التي صدّرنا بها الكلام وبين شخصية الراحل الفقيد ، والنتاج هو المصداق الفاعل والدؤوب لمن سار نحو درك الحقيقة إيماناً وتجسيداً.

معجم أعلام الشيعة

هذا الكتاب هو إضاءةٌ من إضاءاته التي أتحف بها حقول الفكر والفضيلة ، ولمسة من لمساته الخالدة على صفحات العلم أبداً.

٩٤

وهو كما قال رضوان الله تعالى عليه بنفسه : تراجم أعلام لم يذكرهم شيخنا صاحب الذريعة (رحمه الله) في طبقات أعلام الشيعة. وذلك أنّي في خلال مراجعاتي لكتب التراجم والمعاجم وما أعثر عليه من تراجم أعلامنا ، اُقارنه بطبقات أعلام الشيعة ، فإن كان ذكر فيه سجّلت المصدر بالهامش ، فتكون من مجموع ذلك تعليقات كثيرة في كلّ قرن من الطبقات ، وإن لم أجده فيها كتبته في ورقة. ورتّبت أوراق التراجم على الحروف بدل الطبقات ، فأصبح معجم أعلام الشيعة (١). انتهى.

ومؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ التي عايشته أباً كبيراً وصديقاً حميماً ودليلاً مطمئنّاً ومشاوراً أميناً ومنفّذاً مخلصاً ـ من واقع الوفاء وعرفان الجميل ، إذ تقدّم لجمهور العلم والبحث والتحقيق جهدها المتواضع هذا ، لا يسعها إلاّ أن تعرب عن بالغ حزنها وعظيم أساها لهذا الفقدان الكبير ، الذي عرفته الطائفة علماً من أعلامها وشاخصاً مضيئاً من شواخصها المنيرة.

تغمّده الله بواسع رحمته ، وأسكنه بحبوحة جنانه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

__________________

١. اُنظر ترجمته (رحمه الله) المدوّنة بخطه والمطبوعة في مقدّمة كتابه : مكتبة العلاّمة الحليّ : ١٨ ـ ١٩.

٩٥

مقدّمةٌ على كتاب أهل البيت في المكتبة العربيّة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين بارئ الخلائق أجمعين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمّد المصطفى وآله الأطيبين الأطهرين.

إنّ أصل الولاية هو من أهمّ وأخطر الاُصول التي لابدّ من دركها واستيعابها ، والعنصر الفاحص والموجّه لسائر عناصر الامتثال والانقياد الديني ، والدعامة التي ترتكز عليها الحقيقة المبدأية ، والمناط والمفترق الذي تتباين عنده الآراء ويتّضح به جوهر الأفكار والنظريات.

ولأجل سبر الغور في عمق هذا الأصل ومعرفة كوامنه ، خطى الإنسان منذ القدم مراحل الصراع المرير ، وسعى بالجهد الدؤوب إلى طرق أبواب الحقيقة ، وكابد في ذلك الأمرّين.

وبتكامل أطوار الرسالة الإلهية واستقرارها بالمحتوى الأتمّ سواء

__________________

١. مقدّمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث على كتاب «أهل البيت في المكتبة العربيّة» للعلاّمة المحقّق السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (رحمه الله).

٩٦

بالنسخ أو الإحكام من خلال منقذ البشرية وخاتم الرسل والأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله) ، تجلّت علائم الولاية وبرزت شامخة كالطود الأشمّ ; حيث إنّه (صلى الله عليه وآله) أرسى قواعد الرسالة المقدّسة وحصرها في محورين لا ثالث لهما :

الأوّل : كتاب الله ، أي القرآن الكريم.

الثاني : العترة الطاهرة ، أي الأئمّة المعصومين (عليهم السلام).

ولدواعي كثيرة ـ أهمّها البغض والحسد وطمع الدنيا ـ نال المحور الثاني أشدّ الطعنات وأقسى الهجمات ، فقد نشأت منذ الفترات الاُولى التي تلت رحلة النبي (صلى الله عليه وآله) جبهات وتيّارات غاية همّها حرف الاُمّة وإبعادها عن قادتها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، ورميها في شراك الضلال والضياع.

ولا شك أنّ خوض المواجهة مع هذا المحور يعني بالضرورة إنكار المحور الأوّل ; لابتناء الحقيقة الدينية وتركّبها من كليهما ، فإمّا الأخذ بهما معاً وإلاّ فلا إيمان ولا اعتقاد.

وهذا الأمر لم يمنع الكثير من أهل الفكر والعلم والمعرفة ـ من غير الشيعة ـ من التصدّي لإبراز جوانب من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) التي تعكس رقيّ منزلتهم وعظمة شأنهم وغاية فضيلتهم ، وهذا ممّا يساهم في تفتّح العقول والأذهان في درك معنى الولاية والمنصب الذي منحه الله إيّاهم (عليهم السلام) ، ولا عجب في ذلك ، فهم الملاذ الذي تأوي إليه النفوس في زمن التيه والانحطاط ، ومُغني الأرواح في عصر البؤس العقائدي والتشتّت المبدئي.

٩٧

والذين كتبوا وصنّفوا في أهل البيت (عليهم السلام) باللغة العربية ـ من غير الشيعة ـ لا يمكن حصرهم أو استقراء آثارهم في هذا المجال ، لكنّ الفقيد المحقّق آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (قدس سره) بذل جهوداً كبيرة وخطا خطوات رائعة في جمع وفهرسة ما يمكن جمعه واستقراؤه من كتب وكراريس وأشعار ضبطتها أقلام غير شيعية ، في كتاب سمّاه : أهل البيت (عليهم السلام) في المكتبة العربية.

وهذا المشروع الكبير والابتكار الرفيع استطاع أن يفتح نافذة واسعة على مؤلّفات تعكس قبساً من حياة ومنزلة آل البيت (عليهم السلام) التي طالما أخفاها موالوهم تقيّةً وأعداؤهم حسداً.

وكتاب أهل البيت هذا سبق وأن نُشر إلى قسم من حرف الميم على شكل حلقات في مجلّة تراثنا ، وذلك في الأعداد : ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ١٠ ، ١١ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٦.

وقد أتمّه السيّد المحقّق (قدس سره) وأفعمه بإضافات واستدراكات قد جرى تثبيتها هنا.

ولمناسبة الذكرى السنوية الاُولى لرحيل هذا العلم الفذّ ، وللأهمّيّة البالغة التي يتّسم بها هذا الأثر القيّم ، قمنا بطبعه بشكل مستقلّ وبحلّة جديدة.

تغمّده الله بواسع رحمته ، وأقرّه عالي جنانه.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله المنتجبين.

٩٨

كلمة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) الواردة في كتاب

«المحقّق الطباطبائي في ذكراه السنويّة الاُولى»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله العترة المعصومين.

ليس بالإمكان ادّعاء الإحاطة بمعالم ومفردات شخصية نالت المكانة الرفيعة والمنزلة المتينة والشأن الشامخ في سوح العلم والفضيلة والتقوى ، وما كان بحدّ البساطة تحليل هذه السيرة العطرة بمجرّد قبضة قلم أو تركيز ذهن ولملمة فكر.

فإن كان المقصود استعراض ملامح هذا العَلَم واستيعاب المحاور التي ميّزته عن أقرانه ، فإنّ الأمر يستدعي تعميق البحث وتشطيره إلى أبواب وفصول وتفريعات ، ولا نرى ـ مع ذلك كلّه ـ أن نفي المقام حقّه ; ولعلّ الوجه في ذلك :

أنّ المحقّق الفقيد آية الله السيّد عبدالعزيز الطباطبائي (قدس سره) قد صنع

٩٩

بالسعي الحثيث والكفاح المرير والعزم الشديد محتوىً نفيساً من ألوان العلم والثقافة ، وأطّره بأُطر الوفاء والإخلاص ، فكان المعين الذي لا ينضب ، والحصن المنيع الذي لا ينهدّ ، والمجاهد الذي كابد في سبيل نشر علوم آل محمّد صنوف الأذى ومختلف الصعاب ، فكيف يمكن لنا بلوغ المرام ونيل المقصود؟!

ولمّا عسر علينا منح البحث نوعاً من الشمولية ، ارتأينا عطفه والميل به نحو واحدة من علائم هذا الراحل الكبير ، فنقول :

إنّ أهمّ ما امتاز به ـ رضوان الله تعالى عليه ـ هو الكرم والسخاء العلمي ، فقد لا يتفطّن الكثير ما لهذه الصفة من فاعلية مؤثّرة ودور ملموس ونتائج مضيئة تثري الحياة الإنسانية وترفد الساحة الفكريّة بألمع عوامل الرقىّ وتساهم مساهمة عميقة في تخصيب مراتع العلم والثقافة وتشييد صروح المجد والازدهار.

وإن كانت الاُمم المختلفة قد مرّت عبر مراحل التأريخ المتفاوتة بحالات من النهوض والتطوّر ـ التي أكسبتها حضارةً وتقدّماً ورفعةً

ومنزلة ـ فإنّما مرجعها إلى تلك القواعد والبرامج التي رسمها رجالاتها من أهل العلم والمعرفة ، والذين منحوا اُممهم عصارة أفكارهم وجنّدوا عقولهم وأذهانهم لخدمة أهليهم وشعوبهم ، فتجسّد ذلك على صعيد التطبيق والممارسة حركةً نشطة وجهوداً عملاقة سارت بهم إلى الرفعة والشموخ بكلّ فخر واعتزاز ، حتى غدوا المثل الذي يحتذى به والنموذج الحيّ لمن يروم العزّ والعلا.

١٠٠