نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

تساؤلاتي المصيريّة والتي مهما حاولت التخلّص منها بالقراءة والبحث والتأمّل فلم أفلح ، لعلّها راشحة التعب والجهد اللذين أخذا من أعماقي وذهني الكثير ، لعلّها أيضاً «العقلانيّة» التي أعادت أو جعلت الاُمور في نصابها الصحيح ، ربما قد أشرقت على ربوع روحي أنوار القناعة بالحقيقة التي تخفى على غالب الناس ، ربما منحني الربّ عناياته الخاصّة وأفاض على جدب أفكاري من غدير عفوه ورحمته وهدايته.

نعم ، كانت لحظات لذيذة ذقت طعم حلاوتها عبر تلك الصلاة والدعاء والتوسّل التي شعرت أنّها كانت خالصة لوجهه الكريم. وجدت أنّي نلت البشارة ، بشارة انفتاح آفاق المعرفة الحقّة على قلبي وروحي وعقلي وكلّ مساحات عمري. نلت غايتي ومرادي وتخلّصت من همومي وآلامي ومعاناتي. لقد وجدت الطريق السويّ الذي يدلّني على وسائط فلاحي وهدايتي.

أنا أفخر الآن فخراً علميّاً حقيقيّاً بعقيدتي وأذبّ عنها ذبّاً علميّاً حقيقيّاً وأسعى إلى ترسيخها ونشرها ترسيخاً ونشراً علميّاً حقيقيّاً.

فله الحمد على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.

٢٢١

بين البقاء والرحيل قولٌ بالتفصيل

أقول أحياناً : أنأى جانباً كي «لا أرى ولا أسمع» فأ تّخذ من المطالعة والكتابة ركناً وأساساً ، أو أيّ أمر مناسب يبعدني عن فضاء باتت تتوارد عليه «المرفوضات» الزاحفة بجدٍّ لتقصي أو تحاصر «المقبولات» التي نحن هنا لأجلها وبفضلها نشأنا وكبرنا ، هنا منذ تلك الأيّام حين جمعتنا أجواء الرغبة والشوق والصبر والحبّ والعلم والولاء لقيم ومبادئ قرّرنا الذود عنها بالفكر والقلم ، رغم كلّ مرارة الألم والمعاناة آنذاك ، ولعلّني لست رومانسياً لمّا أعتقد الآن أنّ ظرف المحنة كان طعمه لذيذاً ; إذ خلق فينا العزم والإرادة لإنجاز شيء ما ، ولقد فعلنا ما كان يعسر على الآخرين فعله ، وأنتجنا ما كان يحلم به الكثيرون ، تجاوزنا العديد من رغباتنا حتى نحصل على ثمرة جهد قضينا به وله حلو السنين ومرّها ، شيّدنا ـ مساهمين ـ صرحاً من العزّ والفخر ونتاجاً صار مهوى العقول والأفئدة ، بنينا الحجر الأساس لاُناس وجدوا كلّ شيء مهيّأً على طبق من ذهب فصاروا ربّ البيت ونحن غرباءه ، وصارت المصادرات تجري على قدم وساق.

٢٢٢

لا أحد منّا نادمٌ ولا آسفٌ على ما بذله طيلة ما مضى من الأعوام والعقود ; لأ نّنا ما جئنا لنبلغ البروج العاجية ونحصد المال والشهرة ، جئنا في تلك السنين العجاف لرغبة ولاء وحبٍّ لخزين من العلوم والمعارف بنت عليه أتربة الدهر بنيانها وشادت فوقه العنكبوت بيوتها ، خزين يستغيث ويصرخ وينادي بالإنعاش ، فاستجبنا لنداء الإغاثة وشمّرنا عن ساعد العزم والإرادة والعشق والولاء ، وإذا بنا ـ جذلين مسرورين ـ نرفد معاقل الثقافة بروائع المصادر والمراجع التي أزحنا عنها ما استطعنا من غبار ، فجاءت بحلّة مصحّحة منقّحة جميلة فاتنة.

نعتوا مشروعنا بخصائص الإبداع والابتكار ومنحونا نياشين الفوز والنجاح ، وصرنا أصلاً تنشعب من نسقه ونهجه الفروع والأجزاء. كلّ ذلك كان يجري أيّام العسر والمحنة.

ما كان الواحد منّا يصدّق أنّ أيّام العزّ والرفاه إن حلّت ستحاصرنا وتطوّق حركتنا وتصاب الرغبة والعزم والحب فينا بالاُفول والضمور.

نعم ، لقد صرنا واحداً من ضحايا العزّ والرفاه ، ولا ندري فلعلّنا كنّا الذراع التي اُريد بها مطيّة البلوغ ونيل الغايات الكبار.

أيضاً لا ندم ولا أسف ; إذ المبادئ والعلم والمعرفة والثقافة تبقى وتزول الغايات المعهودة وما سواها من الغايات.

أقول : أنأى جانباً ... قرارٌ صعب أن ينسلخ الإنسان عن واقع عاش فيه أخذاً وعطاءً وولِهَ به العمر كلّه. أنأى لأختلي بمتنفّسي ، بقلمي وكتابتي

٢٢٣

وتدويني ، نتاج ذاتي وحصاد عمري وأيّامي.

أقول : أبقى ، فهذا نداء العقل والقلب .. ولكنّي أمتلك كغيري جوارحَ وجوانحَ ترفض وتقبل ، تأمر وتنهى ، أفكاراً ورؤىً تراجع وتحفر وتبعثر وتقارن وتحلّل وتستنطق وتستنتج.

فلا النأي كلّ النأي يطيب لي ولا البقاء كلّ البقاء يريحني ، لذا اخترت قولاً ثالثاً مفصِّلاً حيث لا إجماع مركّب هنا ، عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمرا.

٢٢٤

قريب الأشياء وبعيده

لِمَ تبدو الأشياء ـ ببُعدها ـ رائعة جميلة يهزّني الحنين إليها هزَّ الذائب فيها ، إلاّ أنّي كلّما دنوت منها خفّ بريق سناها في عيني وخاطري ، وشعرت بغربة مقرونة بافتقاد أشياء لا أكاد أعلمها .. ثم هكذا أعود أحمل شوقاً وإجلالاً لها لمّا تأخذني الأيّام والمسافات بعيداً عنها.

حاولت إيجاد تأويل أو تفسير لهذه الظاهرة التي لا تغادر عقلي وحناياي فما استطعت.

وقد يشمل ذلك حتى الأشياء التي أرفضها وأمقتها وأتوجّس منها لبُعدها المكاني والزماني ، فلما تدنو منّي أو أدنو منها وأخوض غمارها لا أجدها من القباحة والسوء والخطر ما يجعلني أعرض عنها وأهابها.

لا أعلم إلى أين يقودني هذا الحسّ الذي غرس في عقلي وأعماقي بذور الحيرة والاضطراب والألم :

هل أنا أبحث عن شيء لا أعرفه ، هل هذا معنى من معاني فحص الإنسان عن الحقيقة التي يجهلها فيتعلّق بأشياء اُخر ظناً منه بلوغ المرام

٢٢٥

بها ، فكلّما نالها وجد أنّ الذي يفحص عنه شيء آخر ، وهكذا تستمرّ دوّامة الضياع والجهل حين يريد ولا يعلم أيّ حقيقة يريد :

حقيقة الكمال الإنساني الذي يعني حيازة شروط المعرفة الصحيحة التي تعيده إلى قطب السعادة ومحورها الحقيقي ، إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فلا ينسج حالئذ في ذاكرته ولا يغرس في كوامنه إلاّ شيئاً واحداً ، هو الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه حينما قبل الأمانة ، فلا يبقى بعدئذ لأصنام الذاكرة مكان في العقل والقلب ، فيعود إلى فضاء من النقاء والصفاء الإنساني الذي يعني الكمال والهداية والفلاح.

أم قد فرض التحوّل المعرفي والنسقي ـ بتنامي المضمون والأدوات والأداء ـ حقائقه على عقلي وأحاسيسي ، فعدت اُعالج التساؤلات والمبهمات والتعبديّات والحماسيّات بروح العقلانيّة التي تلفظ الغموض والضبابيّة والحلول العاطفيّة والإسكاتيّة والانتماءات الوراثيّة ، وتستقطب الأدوات الإقناعيّة الخاضعة للمناهج العلميّة ، حين تراجع وتحلّل وتستقرئ وتستنطق وتحفر وتبعثر وتقارن وتفعل كلّ ما بوسعها من أجل نتائج مفعمة بالقناعة والقبول العقلاني ، وبذلك فهي غير مكترثة بمخاطر الولوج في المساحات الحرجة والآفاق الممنوعة والدهاليز الخاصّة مادامت تروم الأمان وراحة البال والاستقرار عبر الخروج من دوّامة الإبهامات والتقليديّات والتبعيّات العمياء ، بالانطلاق في فضاء المعرفيّات والبرهانيّات ، التي لا أرى أيّ تناف بينهما وبين الاُصول والثوابت مادامت تقوم على قاعدة (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) فمادمنا نحن أتباع

٢٢٦

ثقافة تؤمن بالحوار والعقلانيّة والانفتاح ، تلك الخصائص التي تهيّئ أجواء الإجابة عن سؤال الحياة الكبير .. فإنّنا لا نفتقد الخزين الفكري ولا نخشى تصدّع القواعد وتزلزل الاُسس ، بقدر ما نخاف ضعف الأدوات التي لازلنا نفتقر النوعي منها ، الأدوات التي تعني ـ أحياناً ـ الخروج عن المألوف والتقليدي نحو فكّ عرى المغلق الموصد والمقدّس المركون الذي علا عليه غبار التعبّد وبنى قواطعه وحواجزه.

أقول : طالما يكون الخوف قرين التشبّث بالقشور كما الشجاعة قرينة التمسّك بالعمق والجذور ، ونحن فريقان تكادحا منذ غابر الأيّام لينال كلٌّ نصيبَه المسانخ لأفكاره ومراميه ، ولا شكّ أنّ شجرة الدين لم تقم كالحياة الدنيا التي مثّلها النصّ السماوي (كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) ، إنّما هي (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ) .. والنفس المطمئنّة لا محالة تهوي إلى العمق والجذور لتحلّق في فضاء اليقين بكلّ عزّ وشموخ.

وبذلك فينبغي عليّ ـ أنا المسلم ـ أن أفهم الأشياء كما ينبغي عليّ فهمها ، وهذا يعني بطبيعة الحال انتفاضاً على كثير من المعاني والأفهام السائدة وإعادة انتشار للقطعات المعرفيّة والفكريّة أنّى احتاجت ذلك.

إنّنا يجب أن نخرج عن نسق الببغائيّة والظواهر الصوتيّة والركائز الزبديّة ... فلقد تغيّرت الأذهان وما عادت تجنح إلى هذه الوسائل ; بفعل استطراد الوعي وأدواته والانفتاح العلمي المثير ، لذا بات علينا أن نكون

٢٢٧

على أرقى مستويات الاستعداد والجاهزيّة الميدانيّة لنخوض غمار الحسم والإثبات بكلّ جدارة ورسوخ ، فما عاد التكهّف والاختباء بملاذات وملاجئ الأمس يجدي نفعاً. وسوى الذاكرة الأبديّة فكلّ الأصنام والذاكرات مجرّد هشيم وخواء .. إنّها ذاكرة الوفاء بالعهد ، الذاكرة التي لا تشفع معها إلاّ الحقائق الواضحة ، والإنسان يبقى بطبيعته في سؤال كي ينال المراد ، ونوال اليوم ليس كنوال الأمس كما نرى ; إثر المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة .. لكنّه يجتمع على قاعدة مشتركة مفادها : محض القناعة والتسليم والرضى عن طيب نفس ولبّ وحسّ.

٢٢٨

القرب والبعد

لا أدري لِمَ تبدو لي الأشياء في بُعدها أجمل في العين وأوقع في النفس وأبهى في الذهن وأعزّ على القلب وأدنى ، بل تفسح بين حناياي لوجودها كياناً أرفع وأسنى ، وبين خواطري ورؤاي وهجاً أدوم وأبقى؟! كلّما نأيتُ عنها تفاعلتُ معها تفاعلاً تترجمه الحواسّ والأفكار علماً ويقيناً وحبّاً وانسجاما ...

أتوق إليها فتملأ الكآبة عالمي إن طال زماني بفراقها ، اُيمّم شطرها لكنّي أكرّ خائباً ألفظ نفثات التعب والمسافات ، لا أعلم فلعلّه سوء التوزيع في الحنين والعشق والانتماء ، ولعلّه قمّة الهويّة وفخامة الاعتقاد الذي لا تقرّره الأزمنة والأمكنة بقدر ما ترسّخه المبادئ وجودة المحتوى.

لعلّني أنجذب نحو المؤثّر الأشدّ ، الأدقّ الأرسخ ثباتاً.

وربما هي حجج أهرب بها عن الجواب السليم ، فلا أجد تعليلاً لها ، بل لا أفهم التحليل الصحيح فيها ; ثم إنّ ميلي إلى الترف والخلود إلى الراحة قد يكوّنان السبب المقصود منها.

٢٢٩

والأخطر من كلّ ذلك أنّي أفقد التفاعل أحياناً حتى على البعد ثم تجدني أعيشه بكلّ شوق ولهفة ، فهل هو انعدام التوازن يا تُرى ، أم التأرجح وعدم الثبات ، فلا اُبرّئ حينها التعب والملل وضعف الإيمان وضآلة الوعي المعرفي المطلوب؟

٢٣٠

ماذا تعلّمت؟

إنّ الإحساس بالضعف وضآلة الخزين المعرفي جعلني أشدّ الرحال ميمّماً شطر العقليّات والفكريّات والعلوم التي تؤسّس لثقافة منبعثة من مناهج وأنساق ومعايير صحيحة ، فقطعت بها شوطاً لا بأس به معتمداً على الأدوات المتوفّرة والإمكانيّات الذاتيّة ، فوجدت الضعف أشدّ والخزين مفقوداً أساساً ، وعلمت أنّي كنت ولا زلت أعيش تيهاً معرفيّاً مؤلماً ، وإذا أحسنتُ الظنّ فما هي إلاّ مجرّد رؤوس أسطر وعناوين أفكار ومضامين مشتّتة لا تخضع لنظم علمي ولا نسق معرفي معياري سليم ، كما علمتُ أنّ الثقافة لا تأتي ولن تتوفّر بلا جهد وسعي حثيث ، وأنّ الاحتفاظ بحفنة مفاهيم ومصطلحات وعناوين لا ينتج إلاّ ثقافة مراهقة وجهلاً مركّباً وترفاً فكريّاً خاويّاً ; ووجدت أنّ خوض غمار الرؤى والأفكار والعلوم يمنح حسّاً لا مثيل له ، حسّاً يجعلك تدرك الحجم والمساحة التي أنت عليها ، هذا الإدراك الذي يخلق فرصة حقيقيّة نحو التسلّح بالثقافة الحقيقيّة ، وعلى أدنى تقدير يوقف الإنسان عند الجهل البسيط إيقافاً واعياً كي ينطلق صوب معالجة الخلل والنقص والخطأ الموجود.

٢٣١

اكتشفتُ أنّ التعشعش والاختباء بظلّ القشور المعرفيّة خشيةً من الجوهر مَثَلُه مَثَلُ ذلك الذي يفوج مكادحاً الطين وغِرْيَنِ السواحل والضفاف خوفاً من ولوج الأعماق القاتلة ، فكما الثاني الذي لا يجيد السباحة وفنونها فيخاف الدنوّ من الأعماق كي لا يغرق ويموت ، كذا الأوّل أيضاً إذ يخشى الجوهر وسبر الغور فيه سبراً جدّيّاً كي لا يتلاشى في عمقه أو لا يطير ـ وهو كسير الجناح أو فاقده ـ في فضائه الذي لا تلجه أو لا تحلّق فيه المظاهر الزائفة والاستعراضات الخاوية.

واكتشفت أنّ الولوج في ما أهابه والخوض في ما أجهله واقتحام ما أخافه قد وفّر لي اُفقاً أرحب وفضاءً أشمل حتى اُعالج ذلك الخلل والنقص والخطأ ; وحتى لا أكتفي بحبّ العلم والفكر والثقافة ، بل يجب بذل المزيد وتحمّل الصعاب والمشقّة والمعاناة علّني أتعلّم شيئاً أستفيد منه واُفيد.

وأيقنت أنّ الدرس والمطالعة والمباحثة رغم عظم فائدتها لكنّها لا تفي بالمطلوب إن لم تقترن بالتفكّر والتأمّل والتدبّر ، وأ نّها لا تمنح الكرامة والعزّة إذا لم تكن مصحوبةً بترويض النفس والذات وكبح جماح الرغبة والشهوة والهوى الذي يقود إلى الحطّ من الشأن والشرف الإنساني ; حيث فخر الثقافة والمعرفة بقوّة الإرادة والعزيمة ومناعة الطبع وعدم الركون للذلّ والهوان.

وتعلّمت أنّ العلم والمعرفة والثقافة السليمة تناهض الاستبداد

٢٣٢

والظلم والجور والصفات الرذيلة ، وتفتح آفاقاً نحو العدالة والحرّيّة والأمن والسلام والازدهار.

من هنا والألم يعصر القلب والفؤاد ، ويقلق بشأنه الذهن والأفكار ، لا يسعني ـ بصفتي إنسانٌ لا غير ـ سوى أن أفصح عن تبتّل وابتهال بكشف الغمّة عن هذه الاُمّة التي تعاني حالياً أزمةً خطيرة إثر الأحداث المؤسفة الأخيرة ، ولا شأن لي بالسياسة وتفاصيلها رغم البدايات الدراسيّة التي كنت فيها هاوياً متابعاً للأحداث والوقائع والتحليلات الخبريّة ، إنّما الذي يهمّني النتائج والعواقب والانعكاسات السلبيّة لهذه الأزمة على واقع الانتماء الديني والثقافي وما تحدثه من هوّة عميقة وفجوة رهيبة وشرخ عظيم لا يمكن جسره بيسر وسهولة ، وإذا ما بلغت الاُمور كسر العظم فلا ينفع حينها أيّ شيء وتبتلي الاُمّة ببلاء لا تحمد رواشحه.

ومن الطبيعي أن يلتئم عقلاء القوم وأقطابهم فوراً ليجدوا حلاًّ لهذا المأزق المخيف ، عبر الطرق والوسائل السلميّة بلا ترويع وترهيب وتهديد ، والتشبّث بالحلول الوسطى التي ترضي الجميع ، الأمر الذي يفوّت الفرصة على البغاة والدخلاء وذوي الأغراض الدنيئة. ولا شكّ أنّ الخشونة والشدّة والاستبداد تفسد للودّ قضيّة. ولا زالت الفرصة سانحة كي تعود الاُمور إلى مجاريها وإلاّ فالضرر يلحق الجميع بلا استثناء ، والحكمة والتدبير تستدعي الوقوف على مسافة واحدة من الكلّ ، الكلّ الذي يعتقد بخير الناس وصلاح الاُمّة ، والعمل بأرقى مستوى الجذب

٢٣٣

وأقلّ الدفع ، بسعة الصدر ، والتسامي فوق الخلافات ، والتمسّك بالأدوات والآليات المنطقيّة لحلّ المعضلات.

نحن محزونون وقلقون على مستقبل الأوضاع ، ويؤلمنا فرح المناوئ وشماتة العدو ، والصديق والمحبّ ينتظر بنا الصلح والصفاء والوئام.

٢٣٤

أتعبني الجمال

أتعبني الجمال وأرهقني فهمه ، فتّشت الصور والألوان وكلّ الكلمات ، بعيوني حدّقت ، بقلبي هامست ، بعقلي تفحّصت ، بجبال الله وسهوله ، بنهاره ولياليه ، بكتابه المنزل على خاتمه المرسل ... تأمّلت ، تدبّرت ، راجعت ، استقرأت ، قارنت ، بعثرت ، بكيت ولازلت أبكي ، يا حسرتي إن اختزلت كلّ شيء بدمعة ، أو اختزلني الحكم والقضاء بمجرّد دمعة. تهتُ وضعت لوهلة وتبعثرت أوراقي حين علمتُ أسِفاً أنّ القشور بلغت أمانيها فصارت لبّاً والعرض حقّق طموحه فغدا جوهراً والفرع نال الفوز فأصبح أصلاً.

يقولون كثيرة الاستعمال تنقل اللفظ من المجاز إلى الحقيقة.

أقول : كثرة التعوّد على المفاهيم المقلوبة والمبادئ المزيّفة والقيم التافهة ينقلها من المجاز إلى الحقيقة ، فصوّروا الفكر والدين والمعرفة ظواهر وأغلقة وشعارات ، وصرنا لا نكترث مثلاً بسورة الفاتحة ومعانيها بقدر ما نكترث بضاد «الضالّين» وكيفيّة نطقها آن الصلاة والذكر ، نصرف

٢٣٥

العمر بتحديد الكرّ وحجمه ومائه ... ولا نصرف القليل منه لفهم النصّ واستنطاقه.

أمّا «صدر المجلس» و «الصنميّة» و «الببغائيّة» و «الحربائيّة» و «السلطويّة» و «التزلفيّة» ... فهي من أبرز مفاخر المفاهيم المقلوبة والمبادئ المزيّفة والقيم التافهة!!

أين الجمال يا ترى ، ما هو الجمال يا ترى؟! اختلطت الألفاظ والمعاني وضاعت بين زحمة التأويل وطغيان اللازم والملزوم ... أيّ جمال تريد وأيّ مقصود تروم ، لقد غاروا عليه ولم يبقوا منه إلاّ القشر والإطار ، اغتالوا منه العمق والأصل والجوهر.

فيا بلسم الجراح ومراد العشّاق ، يا مزيل العناء عن جباه المحرومين ، يا أمل المظلومين ، يا مذلّ التفاهات والقشور والشعارات الخاويات ، يا معزّ الجوهر والاُصول الساميات ... إليك أبثّ الشكوى وأنت الذي قلت : «إنّا غير ناسين لذكركم ولا مهملين لمراعاتكم ولولا ذلك لمسّتكم اللأوى واصطلمتكم الأعداء».

شخصك القدسي المبارك أعلم بأعدائنا منّا ، ونحن لا نعلم منهم سوى المعاني التي تحتملها عقولنا المحدودة ، هذه العقول إن عقلت حقّاً فهي بفضل أنواركم أنتم ، وسائط الفيض الإلهي الكريم ، بكم أدركت وفهمت وعانت وأ نّت وتلذّذت حلاوة المعرفة حين غاصت في الأعماق وغرست في الحنايا اُسّ القيم والمبادئ المقدّسة.

٢٣٦

إنّنا نشهد ، وما أثبت الشهادة بين ظهرانيكم ، نشهد بأ نّنا ـ ولو بأضعف الإيمان ـ براءٌ من كلّ الذين بدّلوا مبادئ الدين والقيم وجعلوها مجرّد أخبية خالية وقشوراً بالية. نشهد أنّنا نروم الحقيقة التي ثابرتم وجاهدتم وصبرتم وقُتلتم من أجلها.

لا سبيل لنا سوى أن نقصد الجمال الواقعي الذي لا يعني سوى ذات الباري جلّ وعلا ، فهو الجمال المطلق بصفاته وذاته ، وكلّ ما يصدر من ذات الجمال جميل ، قيماً كانت أم مبادئ أم ما سواها. وجماله المطلق سبحانه جمال الجوهر والعرض والآثار واللوازم التي لا تخفى على أهل الإيمان والمعنى.

٢٣٧

مفهوم الجمال

بينّا لازلتُ اُخفّف من وطأة الخمسين بأحلام العشرين ، أحلام الحياة والأمان والآمال الورديّة المترنّمة بحديث العشق والمرأة والفضائل والمعارف وسبل الفلاح الأبدي ، وإذا بنبأ وفاة الشيخ الاُستاذ يصكّ مسامعي ، الشيخ الذي اُحبّه وأكنّ له الاحترام والتقدير ، لشخصيّته وسجاياه الحسنة ، فضيلته ، اُستاذيّته لي رغم قصر مدّتها ، ولا أنسى المعاناة والآلام التي كابدها بين المرض العضال وشظف العيش وغيرهما ، التي ما حالت بينه وبين مواصلة النشاط العلمي التحقيقي.

نعم ، لقد استراح من همّ الدنيا وغمّها وأقبل على ربّ غفور رحيم ، أبتهل أن يقرّه سبحانه وتعالى شوامخ جنانه ويمنّ على أهله ومحبّيه بالصبر والأجر.

قد يساهم مثل هذا الأمر في إعادتي كلّ مرّة إلى المربّع الأوّل ، المربّع الذي أنا فيه وعليه بلا خيال وآمال عفويّة وأفكار فتيانيّة ، بعمق يحكي وجهاً آخر لآمالي وأفكاري تلك ، وجهاً خال من الخيال والرومانسيات والحاجات الفتيانيّة ، يحكي قضيّة الانتفاض على رتابة

٢٣٨

الحركة والسكون ونوع التفكير واُسلوب التعامل مع القصص المملّة التي تُسرد علينا كلّ يوم ، الانتفاض بنسق ومنهج يعيد الغضاضة في التفكير والطراوة في مواصلة الحياة الآملة ، يكسر الجمود والتقليد ويذيب صخور القسوة والعنف ويفجّر ينابيع المحبّة والرحمة والتلاحم والتلاقح.

الجمال مفهوم نوعي مقدّس بما هو هو مع لحاظ النفس الإنسانيّة بما هي هي بفطرتها السليمة التي فُطرت عليه.

فلو أنّ امرأة جميلة بمفاتنها وأحاسيسها وقيمها تستحقّ العشق والانتظار والاهتمام وعقد الأمل ، كونها من سوابغ نعم الباري تبارك وتعالى التي إذا أحبّ عبداً من عباده منحها إيّاه.

فكيف بنا إذا عشقنا من بشّرت به السماء وتلقّته أهل الأرض بالقبول والترحاب على اختلاف الرؤى والأنساق؟!

إنّ مصاديق الحياة الطيّبة ـ كتلك المرأة ونظائرها ـ تفتح لنا آفاقاً رحبة نحو فهم جمال القيم السامية والمبادئ المقدّسة وتضفي عليها مسحة الحبّ والشعور النبيل ، مثلما أضفت عليها مسحة التأمّل والتفكير .. إنّها تمنحنا الأمل بأنفسنا وعقائدنا وتدعم سلامة انتمائنا وتعالي مفاهيمنا ، ممّا يجعلنا نعتزّ أكثر بجمال هويّتنا فنذبّ عنها ونستفرغ الوسع لحفظها ونشرها خدمةً للإنسانيّة والمثل السماويّة.

٢٣٩

النبتة المغرورة

هل تعني النحافة ضعفاً ، جمالاً ، ماذا ...

حيث تطلّ مكتبتي المتواضعة على حديقتنا الصغيرة المهملة ، جذبت نظري نبتة مغرورة تتراقص سيقانها الاُفقيّة والعموديّة تراقص بنت الرابعة عشر ، وقد ازدادت جمالاً بوردة بيضاء تسنّمتها بزهو وشموخ ورفعة وسموق.

ماذا يعني النموّ الاُفقي المتشابك والعمودي المتناسق ، هل هو نوعٌ من حرّيّة الانتخاب؟ ثم ماذا يعني الدوام أيّاماً وأيّام ، رغم الجفاف ونخامة الأعواد؟

كيف استطاعت نبتة طبيعيّة صغيرة خضراء أن تصنع فضاءً من الحيويّة سرى إلى قلبي وحناياي حيث لا أشعر ، لا أدري علّه تناغمٌ من تناغمات الأحياء ، الأرواح ، المخلوقات ، علّها دعوة رمزيّة كنائيّة نحو الحبّ والانسجام والأمن والسلام ... ساقها الخالق لمخلوقاته بمخلوقاته.

الأخضر لون الحياة والأبيض لون الحبّ والسلام ، كلاهما من جنس الجمال ، جمال ذات الجمال ، مبدأ الفيض والأنوار ، القدّوس المتعال.

٢٤٠