نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

التي اُدوّنها يوماً بيوم ، اُسجّل فيها ملاحظاتي ومشاهداتي ومسموعاتي ...

نعم ، وقفت على ما لم يقف عليه إلاّ النادر من الناس.

ولم يكن ما طرحته من إشكاليّات شخصنةً لموضوع أو موضوعات معيّنة ، أو وليد لحظته ، أو رشحاً من رواشح الغضب والانزعاج الموضعي ، إنّما هي رؤية تكوّنت لدى الفضاء الجمعي العامّ وكنت أنا أحد السبل في تسريتها وإيصالها إلى طرف الإشكاليّة عبر المكتوبة تارةً والمشافهة تارةً اُخرى ، ولم أتبنّاها أبداً ، وصرّحت بأ نّها انتقادات وملاحظات وإشكالات مطروحة اُريد إيصالها لطرف الإشكاليّة كي نعمل على مناقشتها وإيجاد المخارج والحلول اللازمة لها ، وكنت قد ذكرت أنّ الساحة يتجاذبها تياران : أحدهما يبارك ويدعم ، والآخر يخالف ويستشكل ، ونحن ما بينهما لابدّ من سلوك طريق عقلاني للوصول إلى النتائج المطلوبة ..

هذه الحركة هي مشروع وحصيلة سنين طوال يُطرَح فيها الرأي الآخر الذي لا يعني بالضرورة موافقتي له ، وأكّدت مراراً عميق قناعتي وحبّي لطرف الإشكاليّة.

لم ولن أندم على هذا المشروع النقدي البنّاء لأ نّي أقدم على أمر لابدّ من شخص يقوم به نهاية المطاف ، ولا شكّ أنّ آثار تلك الحركة ستظهر آجلاً أم عاجلاً ولاسيّما وأ نّي لم اُبيّت منها في أعماقي سوى نوايا الخير والله العالم ، وممّا يعزّز ذلك أنّي باق على تلك القناعة وذاك الحبّ ، ولا أهدف سوى الوقوف على قاعدة مشتركة من الحوار البنّاء للوصول

٣٨١

إلى النتائج المناسبة ، وبمنتهى الشفّافيّة اُصرّح بأ نّي لا أعتذر عمّا أقدمت عليه ولست نادماً على ذلك ، مع علمي بأنّ تلك الحركة كلّفتني ولا زالت تكلّفني الكثير ; إذ لكلّ شيء ثمن ، وثمن الكلمة الحرّة نفيس جدّاً.

٣٨٢

ماذا نفهم؟

أنا مسلم شيعي ، أتراني أفشل في أوّل اختبار عَقَدَي يتناول عنواناً من عنوان هويّتي وانتمائي؟ نعم ، الاختبار هنا ليس مجرّد أحاسيس ومشاعر وعواطف ، إنّها مواجهة حضاريّة بين النور والظلام ، بين الحقّ والباطل ، وقُلْ حداثويّاً : حوار حضاري ، هم سمّوه : صراعاً حضاريّاً.

ماذا عندي ، ماذا أمتلك من الأدلّة المعرفيّة والبراهين العلميّة التي أتفوّق بها على غريمي ، أيّاً كان الغريم : الإلحادي ، الموحّد غير المسلم ، المسلم غير الشيعي ، الشيعي المنحرف ...

أليست قضيّة الذبّ عن حريم الولاية والدين قضيّةً مقدّسةً وواجباً من الواجبات ، ولاسيّما من تصدّى وتحمّل عب المسؤوليّة في بيان أحكام الشريعة وعقائدها ، أترانا جميعاً بمستوى المسؤوليّة مع لحاظ الظرف وحاجته؟

ماذا نفهم في أصل الولاية ، العصمة ، الغَيْبة ، المعاجز ...؟ كيف نوفّق بين النصّ والعقلانيّة ، بين العقلانيّة وبين ثوابتنا واُصولنا؟ ما الذي جعلنا

٣٨٣

متخلّفين علميّاً وثقافيّاً؟ لماذا تتّسع الهوّة أكثر فأكثر بيننا وبين غريمنا ، يوماً بعد آخر ، فهو يجدّ الخطى بسرعة وثبات ونحن نزحف بقلق واهتزاز ، ثم الحصيلة : أنّه هو الذي يعمل بقيم الحبّ والسلام والعدل ، ونحن متّهمون بترويج الكراهيّة والعنف والظلم. أهذا الذي نصّ عليه كتابنا الكريم وسنّة نبيّه العظيم وأولياؤنا الطاهرين ، أم هذا الذي افترى به علينا الغريم؟

لِمَ ينهش بعضنا البعض ، بالحسد تارةً والتضليل اُخرى والافتراء ثالثةً؟

تعلو بيننا الصنميّة والحربائيّة والببغائيّة والنفاق والتزلّف والبراغماتيّة بأرقى حالاتها ومراتبها ...

تجاوزنا المبادئ وصرنا إلى حضيض الحذف والنفي والتضليل ، إمّا أنا أو أنت ، فلا حلّ وسط أبداً رغم أنّه تبارك وتعالى قد جعلنا أُمّةً وسطاً لنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيداً.

انعدمت الثقة بيننا وصار الأصل هو الشكّ والريبة بعد ما كان الأصل الصحّة والبراءة.

نعمل بالقياس وترفضه تنظيراتنا.

نغترف من صلاحيّات المعصوم عليه السلام قدر ما نستطيع دون أيّ دليل قطعي وبرهان تامّ ، اعتماداً على مؤيّدات وقرائن ونصوص ضعيفة.

نسمّي غيرنا «عوامّ الناس» ونحن العوام.

٣٨٤

نستصغرُ غيرنا ونحن ـ نتيجة واقع الحال ـ أحقّ أن نُستصغَر.

كلّ ذلك دون أن نتأمّل ظاهرنا ، وهل يغذّينا ظاهرنا هذا ويرفدنا بالعلوم والمعارف وألوان الثقاقات؟!

مأساتنا أنّنا نختبئ بظاهرنا علّه يُخفي عيوبنا وموارد الضعف فينا ، متناسين متغافلين متجاهلين أنّ العمق والجوهر هما خير ملجأ وملاذ ينقذنا من حالنا ويدفع بنا إلى حيث ينبغي أن نكون في أرقى مراحل العلم والعمل والإيمان والاخلاق.

لقد تحوّلنا إلى صنف من أصناف المجتمع كسائر الأصناف ، ذلك بدل أن نذوب في المجتمع ويذوب المجتمع فينا ، نقوده إلى برّ الأمان وسواحل الاطمئنان ، لا أن يزداد بغضه وكرهه لنا يوماً بعد الآخر ويعلو الشاهق بيننا وبينه ساعةً بعد اُخرى ; فلقد بدأ المجتمع منذ زمن ليس بالقصير يفقد ثقته بنا إثر ظواهرنا ومظاهرنا واستعراضاتنا ومسرحيّاتنا الفاشلة ..

أما آنَ لنا أن نعيد حساباتنا ونتعامل بكلّ وفاء وإخلاص مع مبادئنا ومجتمعنا ، أم أنّ تيّار القشريّات والمنافع باق على حاله ينخر بنا شيئاً فشيئا؟

٣٨٥

الطاعة والعصيان

لا اُريدها بأيّ ثمن.

عزيزٌ عليّ أن أفوج مع التيّار فيقذفني أنّى شاء وأراد.

الانقياد والطاعة أو التمرّد والعصيان لا يعنيان بالضرورة تماهياً طرديّاً مع محمولاتهما ، فلعلّ الانقياد والطاعة شرٌّ بمقدار ما يكون التمرّد والعصيان خيرٌ ، ولعلّ في التفصيل قولاً ثالثاً. وهكذا تتكامل الأنساق وتأخذ المناهج إطاراً ومحتوىً ناضجاً.

مَنْ يقودني وإلامَ يقودني؟ من أعصي ولِمَ أعصيه؟ حرّيّة الانتخاب كيف تُعَقْلَن وبأيّ أدوات تُهذَّب وتنقَّح؟

هذا هو السؤال الهامّ ، إنّه سؤال الحياة الكبير الذي باختلاف الإحابات عنه حلّق الفكر واختلفت الرؤى وتضاربت الملاكات وتلوّنت الانتماءات وتنوّعت الحضارات وتناغمت فعال الإنسان وتباينت طبق القناعة والميل وربما الفطرة ودين الآباء والأجداد ، وكما يقول ميرتشيا إلياده : إنّ البينوية والخلفيّة التاريخيّة الركنان الأساسيّان في دراسة تاريخ

٣٨٦

كلّ انتماء ودين ، فالفينوميولوجيا والحقيقة التاريخيّة هما العجينة التي بها نفهم جذور الانتماء وأسبابه ومضامينه.

إنّها الكبرى العظيمة التي تصرخ في وجه الذين ينكرون علميّة تاريخ الفكر والهويّة الدينيّة ، الدين المطلق ، سواء وحّد أم أشرك. وصغراها التي تتصاغر ثم تتصاغر فتمنح لنا أشكالاً ومحتويات متباينة ، كأن تتباين المشاعر والأحاسيس والخفايا والظواهر بتباين البنية والحقيقة والمؤشّرات النوعيّة ، لذا أنت تطيع وأنا أعصي أو العكس ، وهكذا. ولكن ما الثمن؟ إن كانت الذلّة هي الوجه الآخر للعزّة فلا ضير ، أمّا أن كانت ذلّة يراد بها ذلّة أو عزّة يراد بها ذلّة ، فلا.

٣٨٧

مفهوم التكريم

يطرح البُعد السوسيو ـ انثروبولوجي مناقشات مثيرة وواسعة ـ ملاحظةً ومراجعةً ومقارنةً وتسجيلاً ـ في مختلف الظواهر والحالات والانفعالات والخصائص ، الثابت منها والمتغيّر ، مع الأخذ بعين الاعتبار الانتماء الزمكاني الحضاري.

ويؤدّي العامل السيكولوجي دوراً هامّاً في بناء الإنسان ورفد البُعد المشار إليه بمؤن معرفيّة علميّة لا غنى له عنها في تكامل تكوينه بل نموّه واضطراده.

والاُمم التي نالت حظّاً وافراً من الرقيّ والازدهار لا شكّ أنّها قد نهلت من خزائن هذا البُعد كثيراً رغم أنّ الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة ـ اهتماماً علميّاً نموذجيّاً تطبيقيّاً ـ جاء بفترة متأخّرة وطويلة نسبيّاً قياساً إلى الانهماك العظيم في العلوم الطبيعيّة التجريبيّة ، الذي صنع النهضة المادّيّة المعاصرة.

وبناؤنا السوسيو ـ انثروبولوجي ، كفكر يؤمن بالقيم والمبادئ الحقّة واللاهوت والغيب والحياة بعد الموت ، ويمنح العوامل السيكولوجيّة مكانةً أساسيّة في التأثير بصنع الإنسان المؤمن الجادّ الملتزم ، وبصنع

٣٨٨

الرموز والطاقات والكوادر ، التي تشيد مجتمعاً ذا مكانة حضاريّة وكيان معرفي مرموق .. بناؤنا هذا قد منح مفهوم التكريم بُعداً خاصّاً ، ولاسيّما أنّ النصّ والعقل والإجماع سائرة بهذا الاتّجاه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (فَأَمَّا الاْنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ... بفعل علوّ المرتبة والتفوّق.

لكنّنا بسبب عوامل التراجع القيَمي والديني والحضاري وتسلّط الضوابط الخاطئة الخاضعة للمنافع الخاصّة والاندفاعات الرغبويّة الضيّقة ، قد زلزلنا الموضوع من أصله وذاته ، ممّا ولّد انتكاسات كبيرة تركت لمساتها على المسار السوسيو ـ انثروبولوجي في مجتمعنا واُمّتنا ، فصار الشعور بالإحباط واليأس والألم من أخطر دواعي التراجع العلمي والفتور المعرفي ، ولاسيّما أنّ مناهجنا وأنساقنا وأدواتنا التي تنهض لتشخيص الخلل والنقص والحاجة هي بذاتها تفتقر المراجعة والتقويم والتحليل ، ذلك بسبب هروبنا إلى السطح والقشور المؤمّنة لشهواتنا ومرامينا.

إنّنا نأكل عظماءنا وفضلاءنا وطاقاتنا الذي هو أكلٌ للقيم والمفاهيم الصحيحة ، إنّنا لا نكرّم سوى رغباتنا وأهواءنا وميولنا ومناطق نفوذنا وعوامل هيمنتنا ، كي نبقى وتبقى لنا الأشياء فنفعل ما نشاء ، فلا كرامة للقيم والمبادىء والعلم والمعارف وذويها ، ويا بئس الفضاء الذي تحلّق به الشهوة وتهوي به المفاهيم النبيلة إلى القاع والحضيض.

٣٨٩

فيلم جديد

بالأمس ، نعم بالأمس القريب لا النوعي ، الأمس الواقعي الحقيقي ، أصابني الرفيق بجرح في الصميم ، آلمني وآذاني ومزّق أحشائي وعصر قلبي وشتّت ذهني وأفكاري. بكيت ، أجل بكيت بدموع مرّة حارقة وقصدت الزهراء عليها السلام أبثّ لها حزني ، فخاطبتها انطلاقاً من إيماني بها واعتقادي الراسخ بأ نّها تسمع وتشاهد : اُنظري ماذا فعل بي ابنك ، اُنظري دموعي وشجني ووجدي واسمعي آهاتي ، أيرضيك هذا؟ أيرضيك أن تكون ضريبة الحبّ والوفاء تجريحاً وإيلاماً وإيذاءً؟! فأنتِ كما عهدتكِ تضعين النقاط على الحروف ، أطلب منكِ أن يعلم ابنك : أنّه أحزنني وجرّعني كأس الغصّة التي حفرتْ جرحاً عميقاً في قلبي وعقلي وجوارحي وأعماقي وحناياي. فلا تخيّبي ظنّي سيّدتي فإنّه لا يخيب من تمسّك بكم .. فالغريب حتى الغريب إذا شكوته ابنه فإنّه يطيّب الخاطر ويخفّف المعاناة ، فكيف بكم وأنتم باب الله الذي يؤتى ويرتجى. لذا أطلب بإصرار أن يظهر منكِ شيئاً سيّدتي يطيّب خاطري ويخفّف معاناتي ، لئلاّ

٣٩٠

يشمت بنا الأعداء ; إذ بقدر ما نؤمن بالغيب نؤمن أنّكم عدل القرآن ، أحياءٌ شاهدون ناظرون.

إنّ نعت الرفيق لعمل واقعي قمتُ به لأجله بإخلاص كسابق عهدي معه بشهادة الآخرين وبالقرائن الحيّة المقاليّة والمقاميّة ـ بـ «الفيلم الجديد» ، إضافةً إلى ما حمّلني من الآلام والأذى ما لا تفي به المفردات والألفاظ ; عكس مفهوماً من تزلزل الثقة وربما انعدامها كلّيّاً ، الأمر الذي تترتّب عليه عواقب ونتائج غير محمودة.

ولا شكّ أنّني أمتلك من الأجوبة الحلّيّة والنقضيّة ما لا يسعه المقام حقيقةً ; إذ كيف يخفى عليّ وأنا الذي عشت أعواماً طوال قريباً جدّاً ولي من الجوارح والجوانح ترى وتسمع وتفكّر وتوازن وتقارن وتراجع وتبعثر وتحفر وتستقرئ وتخترق وتغوص في مساحات وأعماق يصعب على الآخرين ولوجها والفوج فيها ; ولاسيّما أدلّتي وشواهدي معي لا تفارقني ...

لكنّي آثرت الحبّ والتقدير والسكوت عن فعل رفيق له من الفضل عليّ ما لا ينسى .. كما أنّني لا اُبرّئ نفسي ، فإنّ لي من الخطايا والذنوب ما لا يستهان بها. إنّه اتّهمني بغير حقّ فالموضوع واضح. والله يعلم أنّي اُحبّ هذا الرفيق وأكنّ له غاية التقدير والإجلال ، وسعيي أن أكون مخلصاً واقعيّاً معه ، لا محض المستسلم ولا ذي الرغبتين والصورتين ولا الصنمي ولا النفعي ولا ... إلاّ أنّه قد أساء الفهم وأخطأ التقدير وظلّ معتقداً أنّ

٣٩١

القرب المكاني لا الروحي والفكري هو المناط والميزان ، ممّا قاده إلى سلسلة من أدوات الضغط آخرها مفهومه «الفيلم الجديد» الذي كشف عن معاني وتصوّرات وتصديقات لابدّ من التعامل معها بتدبير وعقلانيّة ومتانة ; إذ يبقى هذا الرفيق محلّ الحبّ والاحترام.

كان بودّي ـ ولو أنّي اُرجّح السكوت ـ أن أهمس في حنايا الرفيق : الإنسان فيه الماضي والحاضر والمستقبل. ماذا كنت وكيف الآن وغد؟ ماذا سيقال فيك ، وفي ما تُخَلِّفْ من آثار قيميّة ومبادئيّة وأخلاقيّة؟ مظاهر الحياة ومراتبها لا تبقى لأحد ، سواء عاجلاً أم آجلاً ...

أن أقول للرفيق : ادّعاؤك معرفة الناس فراسةً ، فيه مبالغة وتفخيم ; إذ كم أشدتَ بهذا وذاك لكنّه بالدليل على خلاف ما ترى أنت وتعتقد ، لقد ثُنيت لك الوسادة فتهافتت عليك أنواع أدوات الإطراء والمديح ، فهلاّ فعلوا ذلك يوم كنت تعاني وتألم وتديرها يميناً وشمالاً فلا تصل إلى شيء ويزداد الأمر سوءاً بعد سوء .. إلى أن أخذ بك المولى القدير إلى برّ الأمان وشاطئ النجاة ، فما عندك لا شكّ أنّه منه وإلاّ فالأمس لناظره لقريب ..

رويداً رويدا ، تأمّلاً وتدبّرا ، فكم كانوا ثم زالوا والحياة لا تتوقّف إلاّ بأمر ربّها.

٣٩٢

زعلة العصفور على بيدر الدخن

كلّما يطرق سمعي هذا المثل المرّ تشمخ في ذهني وأحاسيسي آية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) فكيف بالذي لا ينفق من أمواله وإنّما هو واسطة في الإنفاق ليس إلاّ؟! هذا المثل تفوح منه رائحة المنّة النتنة ، التي تقوّض الإنفاق بمختلف معانيه وتتركه خاوياً بلا مفهوم وتسلبه لوازمه الحسّيّة والحدسيّة ، بل تقلب الطاولة عليه وتصنع منه شيئاً بلا نكهة ولا طعم ولا رائحة إن لم يكن مرّاً علقما.

إنّه تضييع جهود وتفريطٌ بمساعي أنتجت ثماراً من العطاء الثرّ ، تضييعٌ وتفريطٌ له أسبابه ودواعيه :

منها : قصر النظر وضيق الاُفق.

منها : الاعتقاد بكون الناس لا يفقهون شيئاً.

منها : ضعف الشخصيّة ومكوّناتها الذاتيّة ، فيلحق بها العجب والغرور والمباهاة ونظائرها.

٣٩٣

منها : غموض المنهج والنسق ، وغياب التخطيط الواعي المستند إلى الاُسس والمعايير العلميّة ، الأمر الذي يجعل الوجود الشخصي ومنافعه راجحاً على الوجود النوعي ومصالحه.

منها : الحطّ من الكرامة الإنسانيّة مع سبق النيّة أو بدونها.

منها : هشاشة القيم والمبادئ وتزلزل الموازين الأخلاقيّة.

إنّه بلا شكّ تراجعٌ بكلّ معانيه ، ولقد سرت هذه الآفة في أروقتنا سريان النار في الهشيم ، وباتت مؤشّراً خطراً يهدّدنا وينسف ما شيّدناه بالجهد والصبر والمعاناة.

نعم ، الرغبة في بسط النفوذ وتوسيع آفاقه بمختلف الأدوات والآليّات دون الالتفات إلى الضوابط والملاكات العلميّة قد مهّد الأرضيّة الخصبة لنموّ مثل هذه الأفكار والسلوكيّات الهدّامة ، ولاسيّما أنّ هذه الرغبة تمنح صاحبها إحساساً غريباً ونشوةً خاصّة تجعله يرى كلّ شيء له وملكاً متعلّقاً به ، لذا فحينما يصرّح بالمثل المذكور أعلاه إنّما يصرّح به عن قناعة واعتقاد مترشّحين عن طبيعة التكوين الذاتي والنظرة الأخلاقيّة للناس والقيم والمبادئ.

إنّ المنّة التي يسأمها العقل والأخلاق بالإجماع ، وأساليب الإسكات بلا إقناع ، والتشبّث بمرجوح الحقّ على حساب الحقّ الراجح ، وتغليب الرغبات النفسيّة وإيجاد المبرّرات لها ، وإجهاض الرأي الآخر ، وغياب التخطيط المستقبلي ، وافتقار الطاقات والنخب ، وضبابيّة الهيكل النظمي

٣٩٤

والإداري ، والتأثيرات الاُسريّة ، وتقفيز ذوي المصالح ، ورفض النقد البنّاء ، والفرديّة ، وفقدان الجرأة الموضوعيّة ، واضمحلال الاستقلاليّة ، وتنامي التبعيّة والذيليّة ، وازدواجيّة المواقف ... آفاتٌ من شأن كلّ واحد منها تعطيل فرص النموّ والازدهار في شتّى الآفاق والمجالات ، بل يلغي مشاريع بإمكانها رفد المعرفة والثقافة بجديد البصائر والأفكار ..

ولا شكّ أنّ هذه الموارد مناشئ قويّة لتفشّي الإحباط وخيبة الأمل ، ومدعاة تثبيط لذوي كفاءات واختصاصات وخبرات بإمكانها قلب العديد من المعادلات والقيم السائدة نحو الأفضل الأرقى.

كما لا ريب أنّ الكلّ ـ بلا استثناء ـ تحت المجهر ، بل مكبّرات الصوت والصورة تعمل وتتربّص ليل نهار لتنال مآربها ، فحذاري التمادي في ما يؤدّي إلى كثير من الغفلة والضياع والميل عن القيم والمبادئ الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة.

٣٩٥

من جاء بالحسنة

لأجل البقاء والاستمرار والمنافسة وبسط النفوذ ، كعناصر فاعلة مؤثّرة في سَوق الإنسانيّة إلى الحقيقة والفلاح ، تحاول اللغة والتأريخ والفكر استجماع القوى والمؤن والأدوات والأنساق لتكون ضالّة الإنسان وجسر الوصول ومنصّة بلوغ المرام.

ومفروض التحقيق أن يكون التمسّح الفكري والتاريخي واللغوي شاملاً مستوعباً عناصر النفي والإثبات ، السلب والإيجاب ، المحتملات والمفترضات ، الموهمات والمغلقات ، كي يكون استخدام أدوات البحث المعروفة كالمراجعة والاستنطاق والاستقراء والاستنباط والقياس المنطقي والمقارنة والحفر والبعثرة والتحليل والاستنتاج ، استخداماً خاضعاً للمعايير العلميّة السليمة ، وكي تكون الإجابة عن سؤال الحياة الكبير كافيةً تحقّق الغرض وتؤمّن سبل الوصول والبلوغ.

ولا يخفى أنّ الأقطاب الثلاثة لا تغفل بأيّ حال من الأحوال وارد الجوارح ، متعاملةً معه ـ على المفترض ـ تعاملاً توازنيّاً منهجيّاً لنيل أفضل النتائج.

٣٩٦

إنّ حكم القضاء حاضر فاعل بالدليل والمؤيّد والقرينة ، فصياغة المشروع شيء وتنفيذه شيء وملاحقة المخالف شيء ، لدينا إذن ثلاثة أقطاب بثلاثة محاور ، لكنّها لابدّ أن تنسجم جميعاً نهاية المطاف كي يحصل المطلوب ، وإلاّ فما قيمة الفكر بلا تاريخ ولغة وهكذا الإثنين بدل الأوّل وإحداهما بدل البقيّة ، كما لا قيمة للتشريع بلا إجراء وتنفيذ ولا لهما بدون حكم وقضاء ، وهكذا كلّ واحد منها نسبةً إلى البقيّة.

كيف لنا العيش في حياة لا تضع نصب عينيها (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) (١) فكراً وتأريخاً ولغةً بأرفع حالات الضبط والاستيعاب والتكيّف على مستوى الخطاب والقراءة ، تشريعاً وتنفيذاً ومراقبةً ، ممّا يعني طرح مثل (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) (٢) على طاولة البحث والنقاش ; لإقرار التوازن المنطقي العقلاني بعد الفهم الصحيح للآية ، ولاسيّما أنّ الآية الاُولى واضحة المعنى ابتداءً.

قال الطبري في التفسير ج١٠ ص٣٦ تحقيق الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي ، طبعة دار عالم الكتب ١٤٢٤هـ ـ ٢٠٠٣م ، في معرض بيانه لآية (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ...) :

يقول تعالى ذكره : من وافى ربّه يوم القيامة في موقف الحساب ، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً ، بالتوبة والإيمان ، والإقلاع عمّا

__________________

١. سورة الكهف : ٤٩.

٢. سورة الأنعام : ١٦٠.

٣٩٧

هوعليه مقيمٌ من ضلاله ، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال : من جاء بها فله عشرُ أمثالها.

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان ج٨ ص٣٩٠ طبعة إسماعيليان ، الثانية ، ١٣٩٠هـ ـ ١٩٧١م :

... لكنّها ـ أعني الآية ـ باتّصالها بما تقدّمها وانتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر ، كأ نّه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتّفاق والاجتماع على الحقّ والتفرّق فيه : فهاتان خصلتان حسنة وسيّئة يجزى فيهما ما يماثلهما ولا ظلم ، فإنّ الجزاء يماثل العمل ، فمن جاءبالحسنة فله مثلها ويضاعف له ، ومن جاء بالسيّئة وهي الاختلاف المنهجي عنه فلا يُجزى إلاّ سيّئة مثلها ولا يطمعنّ في الجزاء الحسن ، وعاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (١) أنّ المراد به بيان مماثلة جزاء السيّئة لها في كونها سيّئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة ونفي المضاعفة.

لسنا بصدد نقل المزيد من الموارد التفسيريّة والبيانيّة وإنّما نحوم حول حقيقة تبدّد الأوهام وتجرّد النصّ من التحميلات البراغماتيّة التي تهبط به بدل أن تقرأه بما يتناسب مع علوّ شأنه ورفعة محتواه الإلهي المقدّس.

وما هاتان الآيتان إلاّ انموذج الكلّيّة وفرد الطبيعة التي نروم التمحور حولها ..

__________________

١. سورة الشورى : ٤٠.

٣٩٨

وهي : أن يُتعامَل مع النصّ تعاملاً حَرْفياً ظاهريّاً ـ على افتراض الجهلين ـ بلا جهد معرفي علمي يستوعب القراءات المعمّقة التي تعني الأخذ به إلى حيث يأخذ موقعه الطبيعي كصادر سماوي يلفظ العبث واللغو ويفتح باباً واسعاً وفضاءً رحباً للتطوّر الدلالي والعقلانيّة اللتين هما ـ ثبوتاً وإثباتاً ـ معلمين من معالم التكيّف والتواصل الدائم مع الحدث زمكانيّاً ... هذا التعامل لا يمكن له أن يوقف ديناميكيّة النصّ وحركته الموّاجة وجاهزيّته الدائمة للإجابة عن سؤال الحياة الكبير.

لذا باتت التفسيرات التي تشلّ النصّ وتسلبه الحيويّة والنشاط معروفة النوايا والمقاصد ، وما عادت تنطوي على فضاءات الفكر والثقافة ، فالحسابات الرياضيّة البحتة فيما يتعلّق بآية (مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ ...) التي استُحسِنت من النصّ ما هي إلاّ محاولات لتبرير وتوجيه الرغبة الذاتيّة المتحرّكة بالأهواء والميول الدنيويّة المتنافية مع رغبة الشريعة وحقيقة النصّ ; إذ الحسنة في الآية ـ كما تبيّن وكما هو شأن النصّ ـ يراد بها : التوبة والإيمان ، اللذان لا يجتمعان مع السيّئة والمعصية والانحراف ، لا أن تُعقَد معادلات مادّيّة بنسبة واحد إلى عشرة ، تفتح باب التسيّب والترهّل والانحطاط على مصراعيه ، وتؤسّس لقراءات تجافي الجوهر والاُصول ويستشري عبرها النمط القشري النفعي الضاغط باتّجاه تلبية المرامي الذاتيّة على حساب المصالح النوعيّة.

٣٩٩

وهل يجدي الإسكات نفعاً؟

الكثيرون يعدّون «الإسكات» نوعاً من الإرغام والاستبداد والإذلال ومصادرة حرّية الرأي والاعتقاد ، لوناً من ألوان الظلم والاستبعاد ، فإنّ اضطرار الآخر على القبول لم ولن يكون ناشئاً من الرضى والتسليم التام ، فلربما أخضعته الحاجة والضعف والمداراة والخوف. إنّه الخلل بعينه أن تبقى المشكلة قائمة كأ نّها النار تحت الرماد.

بخلاف «الإقناع» الذي يعني الإرضاء بالحجّة والدليل والبرهان ، ورغم أنّ رضى الناس غايةٌ لا تُدرَك إلاّ أنّ الفضاء الذي يتنفّس نسيم القناعة من الصعب جدّاً إرغامه على قبول هذه الفكرة وذاك المعتقد.

ممّا نستشهد به في هذا الإطار مقولة «نحن أهل الدليل حيثما مال نميل» والحقّ والإنصاف أنّ آثار علمائنا وفقهائنا ومختصّينا تعجّ بالمناهج المعرفية الساعية إلى منح «الدليل» و «الاستدلال» غاية الفرصة والمكانة ، حتى أخذ «العقل» منزلته أيضاً في مضمار «الإقناع» ، بل أدّى التطوّر المذهل في علم الاُصول عبر مراحله المختلفة التي بلغت «التكامل» عهد الشيخ الأعظم الأنصاري ـ ونحن لازلنا عيال مدرسته ـ إلى خلق مناخ

٤٠٠