نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

يريد ، وأنا متذبذب بينهما تتجاذبني الأحاسيس حيناً والفِكَر حيناً آخر.

ما ذنبي أن خُلقت إنساناً يشقى كي يمسك الوسط من العصا ، يخوض الكفاح المرير كي لا يعصى ، يجمع بين العقل والشعور ليخطف كأس الخلاص الأوفى.

اللهمّ أعنّي على نفسي ، فإنّها إذ تشتاق إلى قربك ولقائك طوراً أراها تأمرني بالسوء طوراً لأنأى عنك وعن عظيم برّك وجميل عطائك.

٣٤١

إشارتان

لابدّ من الإشارة إلى أمرين :

الأوّل : الكثيرون يفسّرون الحبّ تفسيراً عاطفيّاً مقروناً بالسذاجة وقلّة النضج. فللحبّ محاوره العاطفيّة والشعوريّة والرومانسية والعلقة الشديدة التي تُعدّ بحدّ ذاتها ذوداً عن حريمه وكيانه ومحتواه ، لكنّها ليس كلّ الذود عنه ، بل إنّها الوجه الحلو للحبّ ، إنّها المظهر المعروف والجميل للحبّ حيث تتجلّى الترافة والنعومة والحنان.

أمّا الوجه الآخر للحبّ الذي ينتهي إلى ذات القيم والسبل التي تكوّن مفهوم الذود عنه ، فهو الوجه الحازم القاطع الصلب الذي يتجلّى بالنصح والتذكير والإرشاد والتوعية والإيقاظ وما سانخها.

إنّ السكوت عن نسق الحبيب إذا ما مال أو اضطرب أو تراجع أو انقلب بداعي الحبّ ، ليس حبّاً أبداً ، إنّه عداءٌ غير مقصود ، عداءٌ بجهل وقلّة نضج وسذاجة وضعف ; حيث خُلق الإنسان والخطأ والغفلة والنسيان والشهوة تمازج روحه وعقله وقلبه ، ولا يرتقي سلّم المجد والكمال إلاّ

٣٤٢

بالمعرفة والعلم والإيمان ، وإن كان الحبيب الذي هو إلى قلب وعقل محبوبه أقرب لا يعينه في الوصول إلى المرام بالنصح والتذكير والإرشاد والتوعية فكيف بغير الحبيب؟! بل هل يُعدّ حبيباً حقّاً؟!

الثاني : لازلنا نصرّ على مقترح مفاده : الجلوس بين فترة واُخرى جلسة شفّافة صريحة نتداول بها شتّى الغوامض والمبهمات والتساؤلات التي لا نعرف لها جواباً دقيقاً ، فكثيراً ما نتعرّض لتساؤلات لا نهرب منها إلاّ بالأجوبة الكلّيّة التي تُسكت المخاطب ولا أظنّها تمنحه القناعة والرضى.

٣٤٣

ترويض الأحاسيس

كلّ فائض إن لم يجد السبيل إلى احتوائه واستيعابه فإنّه ينقلب آفةً خطيرةً تهدّد وتنذر بعواقب غير محمودة .. بل كلّ نتاج أيضاً ، أيّ نتاج كان حتى إن كان بلا فائض فيه ، إن لم يجد السبيل إلى معاقله فإنّه لن يتقهقر ويتآكل بذاته فحسب بل تصاب المنظومة والشبكة والكيان الذي أنتجه بأضرار فادحة وخسائر كبيرة.

ولا يشذّ الإنسان بأحاسيسه وعواطفه حينما ينتابه الحزن والألم وتعصف به المصائب بألوانها فتكبر المعاناة وتتجاوز حدودها فتولّد فائضاً من الغمّ والهموم لابدّ من تسريبها ، وإلاّ فإنّ اختناق الأعماق والحنايا بالكمّ الهائل من الخطوب قد يحدث انفجاراً لا تُعرَف حدود تأثيراته المدمّرة .. ولا يشذّ الإنسان عن القاعدة المشار إليها أعلاه.

لذا يسعى الإنسان قدر الإمكان إلى خلق الفرص المناسبة لتفريغ شحنات الألم والحزن التي جاوزت الحدّ وفاضت على ظرفها ، بل حتى التي لم تخترق الحدّ وبقيت في دائرة الظرف فإنّها لابدّ وأن تجد المخرج كي تطلق عنانها خارج المحيط والحيّز الذي يؤطّرها ; فإنّها إن تسرّبت

٣٤٤

بحصولها على المتنفّس المناسب فالفرصة مؤاتية كي تستعيد الأحاسيس توازنها ، ممّا يفتح آفاقاً جديدة للحركة والفاعليّة والإبداع ، بخلاف الكبت والاختناق والاحتباس التي تنذر بانفجار وعاصفة من الأفعال غير المتوازنة بما يشبه إلى حدٍّ كبير مياه السيول التي تقتلع كلّ شيء يعترض تقدّمها ، أو المواد الشديدة الانفجار التي لا تميّز بين هذا وذاك لمّا تنفجر ، وهكذا البراكين والزلازل التي تحرق وتدمّر مساحات شاسعة بأدنى زمن ممكن.

إنّ الغضب وليد المعاناة بمختلف عناصرها وأجزائها وموادها ، وكيف نعالج الغضب دون النظر والخوض في أسبابه ودواعيه ، وإنّنا إذ نعلم أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج ، فإنّ غالب الاُمور تسقط في دائرة العلاج عندنا ; ذلك لضعف مناهجنا وركاكة أنساقنا ومحدوديّة آلياتنا ، ولا ريب أنّ المناهج والأنساق والآليّات التي فشلت في خلق فضاءات الوقاية فإنّها عاجزة عن العلاج كذلك ، فلا مناص من المراجعة والاستقراء والحفر والتحليل والمقارنة والاستنطاق ... للخروج من مأزق «مطلقيّة الأفهام» إلى أجواء الاعتراف «بنسبيّة الأفهام» وهذا ما يمكّننا من خلق أو استعادة الفاعليّة والإبداع من جديد ، بمعنى : أنّنا نغيّر ما بأنفسنا وما يحيط بنا تلبيةً للحاجة الملحّة ، نغيّر انطلاقاً من قانون (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا) آنذاك نخرج من عباءة التقليد والتبعيّة العمياء ، نخرج من التوقّف على الأفهام النسبيّة التي أكل الدهر عليها وشرب ، نخرج إلى حيث نغترف من نمير الاُصول ، فتنمو أفهامٌ ومعاني جديدة تتجاوز عقبة المكان

٣٤٥

والزمان ، وتشاد فضاءات من الوقاية توفّر لنا عناء العلاج المؤلم وباهض الأثمان.

إنّ البناء إذا قدّر له أن يشاد بهكذا تغيير فإنّ الإنسان أولى وأسبق بالتغيير من غيره ، فإن تغيّر تغيّرت سائر الأشياء ; إذ (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) وفي الحقيقة إنّ التغيير الذي يحصل للإنسان هو عودةٌ للاُصول والثوابت (فِطْرَةَ اللهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، فهذه العودة تمكّنه من التعامل السليم مع الثابت والمتغيّر بفعل سلامة العقل وسلامة الأدوات المعرفيّة والمناهج والأنساق التي يستخدمها في ميادين المواجهة والصراع هذه. إنّه بواقع الأمر يزيل عن عقله وقلبه كلّ ما بُني عليهما من أدران وأجرام ، فيعيد صقلهما وتعود أصالتهما ويتلألأ جوهرهما ، ذلك الجوهر وتلك الأصالة المخلوقان لغاية واحدة مقدّسة ، فإذا ما ارتفع الإنسان بذاته عن حضيض الروح البهيميّة وتسامى بجوهره وأصالته فإنّ كلّ الآلام والأحزان والمعاناة تهون ، فلا يغضب آنذاك إلاّ بنظام ولا يشدو إلاّ بنظام ، ولا نقصد بالنظام حذف الأحاسيس والمشاعر وتحوّل الإنسان إلى كتلة من الجمود والانقياد ، بل هي عمليّة منهجة الأحاسيس والمشاعر ضمن الاُطر الاعتقاديّة ، فإنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد طاله الغضب لحظة بصق عمرو بن عبدودّ في وجهه المبارك وكان بإمكانه النيل منه ، إلاّ أنّه ترك غضبه الشخصي لصالح غضبه العقائدي ، فقتله لكفره ومحاربته الدين والرسول (صلى الله عليه وآله) ، لذا فإنّ الإنسان متمكّن من برمجة أحاسيسه ومشاعره وترويضها وصهرها في بوتقة النظام العقائدي

٣٤٦

حتى في أصعب الحالات وأخطرها ، على أنّنا لا يحقّ لنا منعه من الحزن والغضب والفرح و... إذ إنّه عملٌ خارج نطاق قدرتنا ، إنّها مجرّد دعوة للعودة إلى الاُصول والثوابت والتعمّق في القيم والمبادئ ، ولا شكّ أنّ العودة المشار إليها إن جرت بنسق وأدوات صحيحة فإنّها تهب الإنسان الأمان والاطمئنان وتفتح له آفاقاً من التفكّر والتأمّل والتدبّر ، وفضاءات من الراحة والخير والفلاح.

٣٤٧

الصنميّة

(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (١)

الشاخص الحقيقي للنموّ الأخلاقي هو الالتزام العملي بالمُثل والقيم والمبادئ ، فليس الأمر مجرّد ظاهرة صوتيّة أو تصويريّة وانتهى كلّ شيء ، بل ممارسة جوهريّة سليمة عبر آليات وأدوات مسانخة ، وهكذا ممارسة لا شكّ أنّها تفتقر النضج والفهم والتلقّي الصحيح ; فكيف يمكن تصوّر نجاح العمليّة المذكورة بلا وعي معرفي وعلمي وثقافي؟! كيف يمكن فهم ماهيّة وحدود العقل العملي ، العقل الثاني ، الحكمة العمليّة ، الحسن ، القبح ، طول الانتماء ، عرض الانتماء ، فوارق العقل الأوّل والثاني والاختلاف في تداخل مواردهما ، آراء المدارس القديمة والحديثة ... بلا محاور واُصول وثوابت وقواعد ومعايير تفتح المغاليق وتوضّح الغوامض وترسم الحدود وتضع الفواصل وتعرّف المبهم وتفصّل المجمل؟!

ولسنا عابثين أو لاهثين خلف الحلقات المفرغة إذا رمنا التوقّف عند

__________________

١. سورة الحجّ : ٧١.

٣٤٨

نقطة النضج الصوري الثبوتي ، إنّنا نعتقد بالتصديق والإثبات كونهما الفرصة الناجعة لبروز القيم والمبادئ كلاعب أساس في بناء الشخصيّة الفرديّة والجماعيّة ، القيم والمبادئ التي بإمكانها ـ عبر التأ لّق والاستمرار في الأداء تصاعديّاً ـ أن تتسامى وتغدو «حالة أبويّة» تنظّم وتنسّق وتشرف وتحسم وتفصل وتحكم وتقرّر ...

إذن الملاك والضابط منحصرٌ في ممارسة القيم والمبادئ السليمة بأدوات سليمة تحفظ لها البقاء والدوام والنموّ المضطرد ، ولا نعني بالنموّ المضطرد تشكيلَ تعارض مع القيم وأصالتها ; فالنموّ حركةٌ والقيم ثوابت ، فكيف تتلاءم الحركة مع الثابت؟ نعم ، تتلاءم بقراءة وفهم الثوابت فهماً متناغماً مع حاجة الظرف بلا أدنى قفز على هذه الاُصول والاُسس ، ولاسيّما أنّ كلّ الأفهام المنجزة إلى يومنا هذا تبقى في إطار النسبي إزاء المطلق ، أي هي ناقصة بنقص ما ، وهذا ما يفتح الاُفق دوماً لقراءات جديدة تضع الثابت دوماً في الصدارة من حيث تلبيته لحاجة الآن ، وهذا ما يجعله نابضاً حيويّاً متدفّقاً بالحركة والفاعليّة ، طريّاً في الطرح والممارسة والاستمرار والتأقلم والنمو ; ولا يمكنه أن يكون كذلك لو لا خصائصه ومميّزاته التي منحته عمقاً وتجّذراً ضارباً في أغوار الوجود البشري الفكري المعرفي.

لقد منح الله تبارك وتعالى الكون نظاماً دقيقاً قائماً على المعادلات والحسابات والمعايير العلميّة الصحيحة كما منح الإنسان كلّ الفرص المريحة السهلة التي تجعله يركب أجنحة الفلاح والهداية ليبلغ المقصد

٣٤٩

والمراد ; إنّه سبحانه وتعالى خلق الكون ، خلق الانسان وأهداه نعمة العقل وعزّزه بالرسل والأنبياء والرسالات والحجج البالغة ، فأتمّ الحجّة عليه ، وبعد أن أتمّ الحجّة عليه تركه مخيّراً غير مسيَّر (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١) فلا جبر ولا تفويض ، بل هو أمرٌ بين الأمرين ـ كما قال الصادق (عليه السلام) ـ (فَمِنْهُم مَن آمَنَ وَمِنْهُم مَن كَفَرَ) (٢).

لقد أثبت النزاع التاريخي الكبير عقم كلّ المحاولات التي سعت إلى حذف «الله» من دائرة الحياة ، ولا أعظم من الجهد الخارق والتقنيات المهيبة والأفكار العملاقة التي أسّست للنهضة الاُوربيّة الحديثة منهجاً ونسقاً ينفي «الله» من ساحة العمل والفكر ويحلّ محلّه التجربة والطبيعة كبديل نهائي عنه تبارك وتعالى ، وازدهرت الوجوديّة وطغى المدّ الإلحادي طغياناً حمل معه كلّ صفات الرفض والتمرّد والحرب على «الله» بالاستفادة ممّا توفّر من الأدوات والآليّات المعرفيّة والعلميّة والتقنيّة .. إلاّ أنّ الأدوات والآليّات والتقنّيات والمعايير العلميّة ذاتها أثبتت مرّة اُخرى فشل محاولة حذف «الله» من الحياة لمّا قالت : لابدّ للكون من قوّة عليا مسيطرة ، فأفَلَتِ الميكانيكا وتبخّرت أحلام نيوتن وراسل وبيكون وسارتر ... وها هم الأقطاب يفخرون بانتمائهم المسيحي ، وها هو فوكوياما يعلن فشل نظريّة نهاية التاريخ.

«الله» هو الحقيقة التي غلبت الإنكار والإلحاد ، وقد أعلمنا تبارك

__________________

١. سورة الإنسان : ٣.

٢. سورة البقرة : ٢٥٣.

٣٥٠

وتعالى بمختلف الوسائط والإرساليّات أنّه خالقنا ويوجب علينا طاعته وعبادته وأن لا نشرك بعبادته شيئاً وأ نّه يغفر كلّ شيء إلاّ الشرك به.

الله تبارك وتعالى بهذه الصورة والمصداقيّة فرض نظاماً واسع الأبواب والفصول والمسائل والفروع ، استنبطنا منه لوائح من القيم والمبادئ والأخلاق ، هي لا تثمر شيئاً إن لم تبلور بالممارسة والتطبيق السليم.

لكنّ حياتنا العمليّة الواقعيّة تصنع وتُوجد الشريك له تبارك وتعالى في أغلب المراحل والظروف ، والنادر كالمعدوم ، الشريك له سبحانه وتعالى فاعلٌ ومتواجدٌ حتى في أدقّ خلايا المجتمع ناهيك عن الأوسع والأكبر منها. وجعْلُ الشريك متحقّقٌ سواء في مرحلة الوعي أو في مرحلة اللاوعي ، سواء أدرك الإنسان أنّه يفعل ويمارس ويفكّر شركاً ويرتّب الآثار واللوازم طبق ذلك أو لم يدرك.

وللشرك بالله تبارك وتعالى صورٌ وحالاتٌ وممارساتٌ تختلف باختلاف الأفراد والظروف :

فهناك من يرى في شخص صفات وشروطاً هي بذاتها مختصّة بالخالق سبحانه وتعالى وحده ، أو من مزايا الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) ، سواء كانت هذه الرؤية ـ كما أشرنا ـ عن وعي أو عدم وعي ، عن غفلة أو عن عمد.

بل قد يرى البعض في ذاته ذلك الأمر ، أي أنّه يرى في ذاته وجود

٣٥١

تلك المقوّمات المذكورة من الصفات والشروط.

ولا يمكن إهمال الترابط العميق والآصرة الشديدة بين الشرك بالله عزّوجلّ وبين الأنا والفردانيّة ; فالأنا والفردانيّة تفتحان الاُفق الأوسع وتوطّئ المقدّمات الأساسيّة للشرك ، وذلك من خلال انتحال صفات ومزايا وخصائص هي في الأصل منحصرة بذات الباري أو بأنبيائه وأوليائه الخاصّين ، ممّا يسحب الآخرين إلى جعله مقصداً وموضع طلب الحاجات ، فيتّخذونه مرجعاً ومصدراً لقضائها ـ ولاسيّما الدنيويّة ـ في بادئ الأمر ، ثم تنمو الحالة وتستشري بجعله مصدراً لسائر القضايا والمسائل ، فإنّه إذن قاضي الحاجات ، ذوالعقائد والأفكار الصحيحة ، بل فيه من المزايا ما هي مفقودة في غيره ، الخطأ معدوم في قاموس ممارساته وأفعال ورؤاه!! تنمو الحالة أكثر فيصبح صنماً يُعبَد بوعي أو بلا وعي.

حينما تتحوّل الصنميّة والشرك بالله تعالى إلى ثقافة فإنّها بمرور الزمن تصبح عادة وممارسة طبيعيّة ; لكثرة استعمالها في الاُسرة ومحلّ العمل وسائر خلايا المجتمع ، وكثرة الاستعمال تنقل الشيء من معناه المجازي والافتراضي والهامشي إلى حقيقة ، وهذا ما يكشف عنه التحليل الواقعي لأفعال وممارسات الإنسان وردود فعله ومقاصده ومراميه وأهدافه ، فإنّها على الأعمّ الغالب تحمل معها آثاراً لها معنى ومفهوم الشرك والصنميّة.

٣٥٢

إنّ الحلّ الأساسي لهذه المشكلة الكبيرة ـ التي تعدّ أخطر آفة تصادر قيمة الإنسان وتسلبه كلّ الفرص المؤدّية إلى الهداية والفلاح ـ يكمن في بناء الشخصيّة ، وبناء الشخصيّة عمليّة أخلاقيّة تعتمد نظاماً ومعايير واضحة ، عمليّة فكريّة تستدعي معرفةً بمناهج وأنساق تعيد الإنسان إلى المربّع العقائدي الأوّل ، لذا فإنّ اللبنة الاُولى في إطار إعادة الانتشار الإنساني السليم تعني إحكام محاور مرحلة الثبوت للإنطلاق إلى مرحلة الإثبات بثبوت ورسوخ ، إنّه انتقال من عالم التصوّر إلى عالم التصديق ، من النظريّة إلى التطبيق .. والإنسان إذا ما طوى مراحل بلوغ الحقيقة طيّاً منهجيّاً نسقيّاً ـ أعني به الوعي والفهم ـ فإنّ مزلّ القدم منخفِضُ النسبة لديه ، بخلاف الطيّ المشاعري العاطفي فإنّه ـ على العموم ـ في معرض الأخطار والمنخفضات المخيفة.

لابدّ من قراءة وفهم وممارسة اُصول ومفردات الاعتقاد بشكل مستوعب شامل من أجل تجاوز العثرات والمطبّات : من شبهات وخيالات واغراءات ونظائرها ، والتفرّغ علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً وتطبيقيّاً لتسلّق سلالم الكمال الإنساني .. لا شكّ أنّها عمليّة شائكة صعبة لكنّها ممتعة لمن عزم حازماً على فهم الحقيقة وفهم أنّه من أين وفي أين وإلى أين.

* * *

٣٥٣

نقول : تختلف الرؤى والمطامح باختلاف شخصيّة أصحابها ، فهناك من يمارس وظائفه فقط ولا تهمّه الأشياء الاُخر ، وهناك من لا يمارس وظائفه بالشكل الصحيح وتهمّه الأشياء الاُخر ، وثالثٌ يمارسها وتهمّه الأشياء الاُخر ، ورابع لا يمارسها ولا تهمّه الأشياء الاُخر ..

إنّ وجود هذه الثقافة ورواجها في أنظمتنا المعرفيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة يعني وجود اللوازم والتأثيرات التي تعدّ نتائج طبيعيّة لسريان كذا ثقافة وممارسات .. ومن هنا تنشأ اللبنة الاُولى للشرك والصنميّة ; فترى القلوب والعقول والحناجر في ذلك الرأس الصنم موضعَ طلب الحاجات ومحقّق الاُمنيات ودافع الصعاب والمشكلات وفاتح الآفاق نحو القفز والنموّ والازدهار.

ومنهم من يعبد الرأس الصنم عبادة عمليّة دون وعي وشعور ; باعتقاد أنّه الحكيم ، القوي ، المدبّر ، الذي لا يخطأ ، واجب الطاعة ومحرّم العصيان ; فيذود عنه ذوداً غريباً ، ولا يرى في أقواله وأفعاله وتقريراته إلاّ الصواب.

وهناك من يفعل هذه الاُمور ولكن بوعي وشعور ، ولا دافع له سوى تحقيق الطموحات والرغبات والوصول إلى مراتب النموّ والتطوّر والازدهار الدنيوي.

وثالث يرى في الرأس الصنم مجموعة من الممارسات الخاطئة ، لكنّه لا ينكر عليه جهوده ومساعيه في الميادين المختلفة.

٣٥٤

ورابع لا تهمّه كلّ هذه الاُمور سوى أنّه ينجز وظائفه المحوّلة إليه.

وخامسٌ انتقاديٌّ بحت.

وسادسٌ تشاؤميٌّ لا يرى بصيص أمل ...

إنّ أخطر ما في هذه الطوائف تلك التي عبدته وصنّمته وجعلت منه ربّاً ، سواء بوعي منها أو بلا وعي ، فإنّها بؤرة التخلّف الأخلاقي الإيماني التي تنشر أضرارها ويستشري ضلالها كلّما تمادت في ممارساتها المذكورة ، فهي تغوي معها الآخرين وتعمل على ترسيخ ثقافة الانحراف والفساد ; بل تغوي الرأس الصنم أكثر فأكثر وتتركه يتهاون في فردانيّته وكبريائه وغروره فتنأى به رويداً رويداً عن القيم والمبادئ الأخلاقيّة والدينيّة الصحيحة ، فلمّا يكون الكلّ يسبّح ويحمد ويلهج باسمه فكيف لا يركبه الشيطان وتوسوس له نفسه بفعل ما لا يحقّ له فعله من المحظورات وترك الضرورات مادام الفضاء مهيّاً لذلك؟!

من رواشح ذلك القضاء : أنّ الكلّ ـ إلاّ ما ندر ـ في معرض الإهانة والحطّ من الكرامة والانتقاص والاتّهام والتشكيك. أمّا الرأس الصنم فمنزّه عن الخطأ ، فالذي ينال منه قيد أنملة فقد ارتكب إثماً وباء بغضب وسخط كبيرين ، فإن لم يستغفر ويتوب ويعلن الولاء باليمين المغلّظة فإنّه سينال حظّه الأوفر من العقاب الذي يختلف باختلاف الأفراد وطبيعة شخصيّاتهم.

ومن رواشحه أيضاً التدثّر بعباءة الدين والعقيدة ، ولاسيّما أنّ الجوهر

٣٥٥

والأصالة مصادرَتان والقشور ذات حضور فاعل.

إنّنا نعيش في زمن يكبر فيه الصغير ويصغر فيه الكبير ، لا لشيء سوى لأنّ الكبير الحقيقي مارس أدوات العزّة وآليات الكرامة بمحتواها الصحيح ، فلابدّ أن يصغر إذن ، أمّا الصغير الحقيقي فقد مارس لعبة الشرك والصنميّة ممارسةً نالت رضى الرأس الصنم ، فقد كبر ونما وانتفخ وازدهر.

للأسف وللألم ، فإنّ الحضور المعرفي العلمي الثقافي لا يرقى إلى الحضور الفيزيائي المقرون بالشرك والصنميّة أبدا ، ولاسيّما أنّنا نحمل شعاريّاً يافطة العلم والثقافة والمعرفة ونعلن رياءً واستعراضاً مسرحيّاً نشر القيم والمبادئ السامية التي جاهدت دونها مدرسة العصمة والطهارة (عليهم السلام).

٣٥٦

آفة الشهرة

مادمتَ مغموراً فالناس لا تكترث لأمرك ، هم في راحة منك وأنت في راحة منهم ، فلا رقابة ولا تربّص ولا متابعة ولا ملاحقة ولا أضواء ولا شهرة ولا انتظارات ولا حسد ولا غبطة ولا افتراء ولا نقد ولا تزلّف ولا مراء ولا صحف ولا إعلام ولا كلّ شيء .. فأنت إنسانٌ لك وما عليك بحجمك وبما يتناسب مع وجودك الطبيعي ، وأنت ملْكُ ذاتك غالباً والباقي سهم الآخرين فيك كاُسرتك ومجتمعك والتزاماتك الخاصّة كأيّ فرد يواصل حياته بشكلها الاعتيادي.

نعم ، كلّما اتّسع نطاق وجودك اجتماعيّاً وسياسيّاً ودينيّاً وفكريّاً ... قصرت المسافة بينك وبين الناس ، آنذاك تنشط الأدوات المشار إليها من رقابة وأضواء وانتظارات وافتراءات وانتقادات وتزلّفات وغيرها ، كما أنّ «ملْكَ الذات» يبدأ بالمضمور ويحلّ محلّه «ملْكُ الناس والمجتمع والاُمّة والعالم» كلٌّ حسب دوره ومنزلته وكيانه. آنذاك تتمثّل الاُسرة والمجتمع والاُمّة والعالم بك أنت ، فصرت الشخص والنوع بل الجنس في آن واحد.

ومهما سموت وألقتَ وذاع صيتك وثنت لك الدنيا وسادتها تبقى ذلك الإنسان الذي يحبّ ويكره وله من الأحاسيس والمشاعر والعقل

٣٥٧

كسائر الناس ، لكنّك بحكم كيانك الحالي لا يمكن لك استخدام الأدوات المتاحة لبلوغ رغباتك الخاصّة ومطامحك الذاتيّة ، بنحو من الحرّيّة ; خشية إثارة التساؤلات وإن كانت ضعيفةً ، ناهيك عن التي تثير استفهامات عريضة .. أنت الآن في شامخ المرتبة والجلالة فلا يمكن لك إلاّ أن تُبقي ـ ولو ظاهراً ـ على التصوّر المقبول فيك لدى عموم الناس بتجاوزك عن كلّ ما يخدش كيانك ورفعتك ; إذ أنت ثروة نوعيّة وملك للجميع ، ومثال الاُمّة ونموذجها الراقي ; فلا يعقل حالئذ أن تتجاهر أو تصرّ على المجاهرة برغباتك الذاتيّة غير مكترث بمشاعر الجمهور ولا مهتمّ بالنقد بشطريه ، ولا آبه بخدش القيم والمبادئ.

إنّك وبهذا الحال ، عليك بالدقّة والتأمّل والضبط ، فحتى الثغرة التي تفتح اُفقاً ونافذةً على مطامحك الخاصّة يجب أن تردم وتقفل. وبدون ذلك فالكارثة كبيرة والألم عظيم والإحباط هائل والعواقب وخيمة ، ليس عليك فقط ، فهذا ليس هامّاً جدّاً ، بل على الاُمّة والمجتمع وكلّ الناس .. والأنكى أنها تُلقي بظلالها المعتمة على المفاهيم والاُسس التي آمنت بها الاُمّة وجعلتك نموذجاً ومثالاً تصديقيّاً لها ، فإذا ما حصلت النكسة وبدأت الردّة وشاع الانتقام وتفشّى الانحراف وحلّ الاستهزاء بالقيم التي جاهدت الأنبياء والأوصياء الشرفاء والصالحون من أجل ترسيخها في أعين ومشاعر وعقول الناس ، فما الذي بإمكانه أن يوقف هذا الإعصار والسيل الجارف؟! إنّها الفتنة بذاتها التي لا تصيب الذين ظلموا خاصّة ، بل ستحرق الكلّ بنارها الرهيبة.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً).

٣٥٨

الغاية والغرض

هل أنا إلى لا غاية ولا غرض؟ أو من لا غاية ولا غرض؟ هل المبدأ الأوّلي ومبدأ النظام الكلّي خَلَقَ الكون بلا غاية ولا غرض؟ هل نسير إلى العبث وفي العبث؟ أين نضع الاعتبار والمواضعة وفكرة العناية ، ماالذي يهمّنا أكثر : أحكام الواقع أم أحكام الواجب ، أحكام الكائن أو ما ينبغي أن يكون ، هل الحسن والقبح من الأحكام العقليّة أم من المشهورات والقضايا المحمودة؟ أين نضع الثواب والعقاب ومدى ارتباطهما بإثبات النبوّة والتشريع وقواعد الحياة الأساسيّة ، أين وهل ومتى وكيف و...؟

تزدحم أسئلة الفتاوى ثم أيٍّ نختار من المدن الفاضلة؟ كيف نؤسّس لنظام أخلاقي؟ وعلامَ يقوم هكذا نظام : بمقوّمات الحكمة العمليّة أم بالدليل العقلي والبرهان والقياس المنطقي؟ أيّ المناهج يوصلنا إلى المرام؟ كم تمكّنت نظريّات المعرفة من إيصال الإنسان إلى معرفة سليمة حقيقيّة؟ هل نلهث وراء الفلاسفة ويقيناتهم الذهنيّة أم نبقى على دفء الظاهر ونقنع به؟ الشعور واللاشعور ، ما قبل الطبيعة «الميتافيزيقيا» وبعدها ... ألا يكفي : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ألا يكفي :

٣٥٩

(فِطْرَةَ اللهَ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهَ) ألا تكفي سهولة الملّة والشريعة السهلة السمحة؟ لِمَ لا يقنع الفكر بالسبل الواضحة الدالّة وينبذ الوعرة الشاقّة الخطرة المخيفة منها؟ ألا تكفي لحظات تدبّر وتأمّل حقيقيّة كي تعيد النصاب إلى واقعه؟ كي يتأ لّق المعشوق في قلب العاشق وعقله بلا وعورة ولا إرهاق وخطر وخوف ومجازفة؟ وهل من يقين أرقى من هذا اليقين أم يشبح أمامنا سارتر ورسل وهيغل ... كي يطوف بنا ويصلّي ويسعى ويرمي ويحيا ويموت بالمادّة لا غير ، فيرمينا بذنب الهروب إلى ربٍّ موهوم حينما تنسدّ المنافذ ويضعف العزم وتسقط الحجّة؟ لِمَ لا نتركهم يعيشون لدنياهم كما يريدون ونعيش نحن لدنيانا وآخرتنا كما نحن نريد؟

٣٦٠