نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

وأوهامنا السقمى ، حيث تعودان بنا إلى دهاليز النسب والعشيرة والقبيلة والسوق والمسرح ، إلى : أنا .. أنا .. أنا الأعلم ، الأثقف ، الأفهم ، الأقوى ، الأثرى ، الأرأس ، كلّ ما يهمّني : شأني ، اعتباري ، غلبتي ، كلمتي ... ودونها ما سواها ، حقّاً كان أم باطلاً ، إيلاماً كان أو إيذاءً أو هتكاً أو ظلماً ، فلا أعتني ..

هنا تنهزم الذات المراقبة المعترضة المنتقدة ، فيأفل نجمها ويخفت صوتها وتشحب صورتها ويضمحلّ وجودها .. حينها إمّا أن تموت أو تقاوم بانتظار أن تستفيق وتصحو وتينع في ليال وأيّام مقدّسة اُخرى ، وكأنّ الله تبارك وتعالى قد حصر التوبة والندم ونظائرهما وجعلها وقفاً على ذلك المقطع الزماني دون سواه ، وكأنّ الأوبة المذكورة إفاقةٌ مرحلية تزول بزوال تلك الأيّام والليالي.

متى نصحو ونستفيق على الدوام ، متى لا نحيا على هامش هذه الليالي والأيّام حياة ذوي الأسقام والذنوب العظام ، متى تجعلنا أيّام الله ولياليه من أهلها وذويها مدّ سنّي العمر وكلّ الأعوام؟!

٢٦١

من وحي التجربة

«حالةٌ قد يشعر بها الكثير منّا إزاء بعض القرارات والسلوكيات الحادثة» ولسانها هو ذا غالباً :

أعلم أنّي أتحمّل وزري دون غيري ، فلقد كان الأجدر بي إعمال مزيد الفحص والاستقراء والمقارنة والتحليل بقدر كاف من الدقّة والتأ نّي والاستشارة.

إلى ذلك : فإنّي كنت أفتقر القراءة الواعية ، فلربما ولجت فضاءً أو اتّخذت موقفاً سحبتني إليه بعض ضرورات أجدها الآن لا تستحقّ كلّ ذلك العناء ، ثم ذبتُ في هذه الفضاءات ـ بحلوها ومرّها ـ ذوباناً أفقدني الكثير من الإرادة والتصميم ، وعلق بها قلبي وعقلي ، فصرت لا أرى سواها ، والأنكى من ذلك طرّاً غدوت اُحسّ التيه دونها ..

صحيحٌ أنّني اُردّد في حناياي : لست نادماً أبداً ; إذ تعلّمت فيها الكثير ، إلاّ أنّ معاناتي هي في استحالة تصوّر الديمومة وأنا منفكٌّ عنها ، اُكابد القلق والاضطراب والانقسام الذاتي ، اُحسّ وكأنّ قلبي منشطرٌ

٢٦٢

نصفين ، فلاقرار هنا ولا هناك .. وهذا هو عين الضعف ، فلكم وددت الانطلاق في الاُفق الرحيب كي أكون أنا بما هو أنا بلا تشظٍّ ولا إثنينية ، ولازلت اُكادح ; حيث المعنى الحرفي قاس جرحه في الصميم أليم ، رغم ما بذلته من جهد ليس بالقليل للخروج من وهم التبعية المملّ ، جهد ربما تعسّر على الآخرين إنجازه ; لِما فيه من خسائر وعواقب وآثار لازالت تلاحق نوعي إلى يومنا هذا ، لكنّي وأنا المتطلّع إلى كسر القيود أعدّها بكلّ اعتزاز من أرقى وأشجع القرارات التي اتّخذتها طيلة حياتي ; إنّها منحتني شعوراً وإحساساً لا يوصف بالاستقلالية والكرامة الإنسانية واحترام الذات ، من خلال رفض كلّ الصفات الدنيئة والممارسات الهابطة كالنفاق والصنمية والتزلّفية والحربائية والغطرسة والرغبات الشخصية.

على أنّنا جميعاً عرضة للخطأ والسهو والغفلة.

وبالمراجعة العلمية السليمة باستخدام المناهج المعرفية الصحيحة يمكننا اغتنام فرصة التكفير عن الذنب وردم الهوّة ومعالجة الأخطاء ، ممّا يمهّد السبيل نحو الارتقاء إلى الأرفع.

نسأله تبارك وتعالى الصفح عنّا والأخذ بنا صوب مرابع المعرفة ومراتع الفلاح ; ليلج العقل فضاء الهداية النقي ويلتذّ القلب بالعشق الأبدي ، فتتناغم الروح ثانيةً مع الفطرة ثم يندكّا معاً في بوتقة واحدة كما كانا آنذاك.

٢٦٣

شيخنا الجليل ، السلام عليكم

دع عنك ما نشرتُه تحت عنوان «من وحي التجربة» حيث رمتُ طرحاً بإطار عام لا عهدية فيه وإن استعرضت هناك اُموراً قد تُفسَّر هكذا.

راجياً قراءة هذا ، فأقول :

حتى في ذروة الصراع الذاتي أجدني منتصراً لهذا المعهود الكبير وذابّاً عنه ; لقناعتي وحبّي له .. لستُ الرقم الأوّل لكنّي أعدّني لذاتي هكذا ; إذ أرفض إلاّ أن أكون صادقاً في حياتي ، ولعلّ الغد سيزيح الستار عن أشياء أستبق البعضُ أحداثَه فراموا صوب التشكيك والتهم الظالمة بحقّي وحقّك وحقّ أصحابي ، واختبئوا خلف أسوار النفاق والتزلّف والصنمية والحربائية. ولكلّ شيء ثمن وما الإنسان إلاّ موقفٌ ودونه فالموت أولى به.

لا زلتُ كأقراني قائماً على جبل جليد لا أدري هل يذوب وأهوي .. رغم ذلك أحببتكم وأحببت هذا الفضاء الرحِب .. لا أعتني كثيراً إن هويتُ أو حُذفتُ بمقدار ما أعتني بالإفصاح عمّا ينبغي الإفصاح عنه.

٢٦٤

طالما هتفتُ ببعض الأصحاب : إيّاكم والهروب من عزّ الشفّافية إلى ذلّ النفاق والازدواجية ; فالإنسان قد يخسر أحياناً لكنه لن يُهزَم ; إذ الهزيمة تعني كلّ شيء.

أحببت هذا المعهود الكبير ; لأ نّه يعشق المبادئ الحقّة ويذبّ عنها ; لأ نّه بإمكانه صنع المتاعب لي ولم يفعل.

لستُ مطمئنّاً إن كان هذا المتميّز الألق يحبّني ، أم يجاملني من باب «الجذب أولى من الطرد» ، وإن أحبّني فلعلّي أرى حبّه مقروناً بالثواب والعقاب.

أقول : هناك تساؤلات عريضة تنتظر الجواب رفعاً للغموض والالتباس.

لكلّ هذا أشعر أحياناً أنّي عبء على ذاتي وغيري فيراودني التفكير بالعزلة والصمت أو الرحيل ، ثم أكرّ بحناياي لهفةً فيهفو قلبي إلى فضائي وأحبّتي.

أخشى إن دارت الأيام وسألتنا الناس عن أشياء إبّان قدرتنا ، فماذا عسانا أن نقول لهم.

دمتم.

٢٦٥

غربة الروح

يُروى أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) سأله سفيانُ الثوري سببَ اعتزاله الناس وهم بحاجة لفوائد أنفاسه ، فقال (عليه السلام) : «لأ نّي أشمّ رائحة فساد الزمان وتغيّر الإخوان» ، ثم أنشأ هذين البيتين :

ذهب الوفاءُ ذهابَ أمس الدابر

والناسُ بين مُخايل ومحارب

يفشون بينهمُ المودّة والوفا

وقلوبُهم محشوّةٌ بالعقارب (١)

قال الإمام الرضا (عليه السلام) :

«يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء ، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت» (٢).

* * *

ليس منّا من يأنس بمخالفة قوانين العقل والمنطق والعرف ، أو يرغب

__________________

١. تذكرة الأولياء / فريدالدين العطّار (ترجمة الإمام الصادق (عليه السلام)).

٢. تحف العقول : ٣٣٣ وعنه في البحار ٧٨ : ٣٤٥ / ٣.

٢٦٦

في الاتّصاف بالعناوين الشاذّة الذميمة ، ولاسيّما أنّ الأصل في أعمال الإنسان الصحّة والسلامة والبراءة والنقاء.

إنّما رحلة المتاعب تبدأ لمّا يُفترَض الحفاظ على سجلّ الروح الأبيض الخالي من الشوائب والأدران ، ففي المواضع التي ينبغي بها الإقدام يأتي الترك وفي المواضع التي ينبغي بها الترك يأتي الإقدام .. والاستصغار والاحتقار اللذان يؤلمان ويجرحان العزّ والنفس والكرامة يولدان باستصغار واحتقار دنايا الذنوب وقصارها ، وتكبر الخطايا بمقدار ما تكبر معها اللاّمبالاة ، والإنسان عقلٌ وعينٌ وسمعٌ ولمسٌ وحسٌّ ومشاعر ، يراقب ويلتقط ويصوّر ويحفظ ويحلّل ويستنسخ ويقارن ويرجع ويبعثر ويحفر ويستقرئ ويستنتج ، وغالباً ما تكون النتائج تابعة لأخسّ المقدّمات كما يقول المنطقيّون ، فإن كانت خيراً فخيراً ، وإلاّ فالشرّ لا محالة حاصل وقادم ومستقرّ ، وأخطره ما يعلق في الحنايا ويقبع في الأعماق ، فإنّها المصيبة الكأداء التي تدمّر وتسحق وتخلط كلّ قوانين العقل والمنطق والعرف ; إذ تضرب أصل الإنسان وتستهدف الصميم ، تصادر الفطرة وتهدم أسوار الصحّة والسلامة والبراءة والنقاء.

في خضمّ أمواج التيه والضياع تبحث الروح الخيّرة ـ أو التي تنشد الخير ـ عن كهف وملجأ وملاذ لتصون وتحافظ أو لتهتدي وتؤوب ، ممّا يعني أنّها تبحث عن الحقيقة ، فتركب الوسائط التي توصلها برّ الأمان وشاطئ الاطمئنان ، ترتمي في أحضان من ترى أنّهم المحاور والأقطاب وسبل الهداية ، فمرّة تخطئ واُخرى تصيب ، فإن أصابت فلا تجد في ذلك

٢٦٧

مايدعو إلى العجب والاستغراب كونها استقرأت وتفحّصت ونالت المقصد ; إلاّ أنّ فاجعة الخطأ في إصابة الهدف تكلّفها الكثير ; إذ تجد في من آمنت به معبراً إلى الخير والفلاح سوى أخاديد من الضلال والضياع والانحراف ، مصداق الخذلان وتمام البعد عن الأصل والجوهر.

ومن الطبيعي أن تمتلك الذات الطامحة ـ التي مازالت تبحث عن مخرج ـ رغبة عارمة في المواصلة والمثابرة لبلوغ الحقيقة ، فلا يصيبها القنوط واليأس والتراجع ، بل نجدها أكثر عزماً وحزماً ، وقد يستدعي الأمر تقديم خسائر مختلفة ، فلربما أخرجت من قوائم حساباتها عناصر العشرة الواسعة والرفقة الطويلة والصحبة المديدة إثر تلك الفاجعة والانتكاسة المعهودة ، فاجعة الانتخاب الخاطئ وانتكاسته الأليمة فترتمي في أحضان العزلة والوحدة كردّ فعل أوّلي على ذلك ، ولا شكّ أنّ الروح تعاني بذلك الغربة والوحدة والفراق معاناةً مرّة مؤلمة ، وإن هانت فإنّها تهون إزاء ما فعلته العشرة والرفقة والصحبة من خذلان وتثبيط وتحبيط لا يمكن معه التجاوز والنسيان.

إنّ عناصر الموضوع الأساسيّة تفتح اُفقاً حيويّاً نحو فضاءات من الحوار أو الصدام تقود إلى اكتشاف نقاط الضعف والخلل ، الأمر الذي يعدّ بحدّ ذاته فتحاً كبيراً ; فالوقوف على اُسّ المشكل يكوّن الانطلاقة الصحيحة تجاه إنهائه وإزالته طرّاً ، وهذه كبرى منطقيّة عقليّة تجد في موردنا مصداقاً صغرويّاً قابلاً للانطباق والتطبيق.

٢٦٨

إنّنا إذن نعاني أزمةً حقيقيّةً على صعيد تشخيص ومعرفة الأدوات والآليّات والوسائط التي تصيب المراد.

فهل نكتفي بالنصّ؟ فإنّه اكتفاء تخصّصي نخبوي محدود لا يمنح النتائج المرجوّة.

أم نكتفي بالعقلانيّة؟ فإنّها هي الاُخرى بحاجة لمؤن لا تقلّ تخصّصاً عن الأوّل بل أشدّ محدوديّةً ودقّةً.

هل نتّجه صوب الأفهام؟ فرغم أنّها المادّة النابضة بالحركة والمعرفة لكنّها تبقى في إطار النسبي إزاء المطلق ، وللنسبي مشكلاته من حيث الشموليّة والإحاطة والاستيعاب ونظائرها.

إنّنا اذن لابدّ أن نستفاد من جميع المحاور والفرص السليمة لبلوغ المقصد ، استفادة قائمة على المعايير العلميّة والمنطقيّة الصحيحة ، فلابدّ أن نقرأ ونستقرئ ونراجع ونقارن ونوازن ونحلّل ونحفر ونبعثر ... كي نستنتج ونقرّر أيّ الطرق أسلم وأصوب .. حينها نجد الثوابت والاُصول بما لها من عمق وجوهر هي اللاعب الشامخ في ميادين الوسائط المؤدّية للغرض ، أمّا القشور فإنّها تذهب جُفاءً.

ومع ما للجمع بين الوسائط الآنفة الذكر ـ النصّ ، العقلانيّة ، الفهم ـ من فوائد جمّة لكنّ إشكاليّة التخصّص والنخبويّة والمحدوديّة لازالت قائمة ، والسواد الأعظم من الناس ليس بإمكانه التوفّر على أدوات التعامل مع المحاور الثلاث لأسباب قد تبدو واضحةً للجميع ، لذا فنحن لم نستطع حلّ الأزمة.

٢٦٩

بعبارة اُخرى : لم نستطع خلق فرص مناسبة للتعامل وفهم النصّ فهماً يهيّئ العقل الجمعي لفضاء الممارسة السليمة ، لم نتمكّن من إيجاد مدّ معرفي ثقافي عارم يأخذ على عاتقه مهمّة تحريك الناس تحريكاً فهمويّاً استيعابيّاً تجسيديّاً ; إذ لا يخفى أنّ صياغة الأنساق والمناهج التي تنجح في تحريك العقل الجمعي تحريكاً ميدانياً تصنع أرقى مراتب الثقة والاطمئنان بالقيم والمبادئ الداعية إلى الطاعة والإيمان بما لها من أدوات وآليات ، فإنّ نبل القيم والمبادئ وشرف الأدوات والآليات ينتج فضاءات شريفةً وأجواءً نبيلة.

وإذا ما وجد العقل الجمعي فرصة التكوّن والظهور والنمو والتفاعل فإنّ تلك الروح تهجر غربتها وتترك حريم وحدتها وأسوار عزلتها ; حيث الباعث والداعي إلى ذلك قد ارتفع ، ولاسيّما أنّ مقتضي الوصول إلى الحقيقة موجود والمانع مفقود.

ولابدّ لي أن اُذكّر أنّني لمّا اخترت عنوان «غربة الروح» لموضوعي هذا ما كنت اُفكّر قط أن أنتهي إلى النتيجة التي خرجت بها ; إذ كنت قد عزمت على حصر الفكرة في إطار ممارسة ذاتيّة وتجربة شخصيّة كي اُنفّس عن آهاتي وآلامي وأحزاني جرّاء ما قاسيته من جفاء وخذلان ممّن منحتهم الحبّ والاحترام والوفاء والدعم ، جفاء وخذلان كلّفاني جرحاً عميقاً في الصميم وإحباطاً كبيراً عمدت على إثرهما انتخاب الوحدة والعزلة رغم مرارتهما وصعوبتهما ; فحيث لا أرى ولا أسمع فهذا

٢٧٠

أمرٌ يحفظ لي راحة العقل والمشاعر ..

لا أكاد اُصدّق أنّ مثلي يألف يوماً العزلة والوحدة!! لا أدري هل كلّ شيء على ما يرام؟ هل أرى وأسمع وأعقل بالخطأ؟ هل القيم والمبادئ وموازين الأخلاق جارية على النسق الصحيح في قلوب وأذهان الناس ، وإنّما أنا الذي لا يعي ولا يفهم بالشكل السليم؟

لا أعلم حقيقة الجواب ، إلاّ أنّي صرت أسعى إلى تخفيف الظلّ وتقليل الكلام علّني اُوفّق في محاصرة أخطائي وتحجيمها ; لا للشيء سوى لكي يرتاح لي ضمير وتستقرّ لي أحاسيس ، فشمّرت عن ساعد الجدّ لأعتزل العشرة والرفقة والصحبة رغم حجم التضحيات وصعوبتها ، فوجدت في غربة الروح عنواناً مناسباً لمعاناة ذاتيّة لكنّه استشرى خلاف إرادتي ورغبتي ليكون عنواناً لموضوع يعالج أكثر من معاناة ذاتيّة وآلام شخصيّة.

ولا أدري ، فلعلّ المعاناة الذاتيّة قد تكون أحياناً بوّابة تطلّ على آفاق واسعة من المعاناة والآلام والأحزان الاُخرى ، في نفس الوقت الذي تمثّل فيه مصداقاً من مصاديق الأزمات الأخلاقيّة والاجتماعيّة والدينيّة التي لابدّ من التعامل معها تعاملاً منهجيّاً علميّاً للوصول إلى النتائج الكفيلة برفعها وتجاوزها.

٢٧١

وقفة أخلاقيّة

من القوانين الفيزيائيّة والميكانيكيّة الطبيعيّة : لكلّ فعل ردّ فعل مساو له في القوّة ومعاكس له في الاتّجاه.

ولست في مقام ضبط المتن لغويّاً ; إذ قد يعتقد البعض أنّه يضبط هكذا : لكلِّ فعل ردٌّ فعلٌ مساو له ... بجعل «ردٌّ» مبتدأ مؤخّر ، و «فعلٌ» صفة أو بدل عن «ردٌّ» ; لأ نّني أحوم حول معنى أخلاقي قيَمي كي أجد المنفذ المناسب للولوج في أعماقه ما استطعت ، فلا أنا بصدد الحسابات الفيزيائيّة والرياضيّة البحتة التي تشرح وتحلّل وتجزّئ القانون ، ولا بصدد الضبط اللغوي له.

أقول : إنّ تطبيق هذا القانون على المستوى الفكري والأخلاقي والاجتماعي قد يخلق فجوات وثغرات لا يمكن معها ردم الهوّة ورأب الصدع .. فليس قانون : العين بالعين والسنّ بالسنّ ، عمليّاً دائماً ، ففي الكثير من المواطن ترجح الحلول العقلانيّة الاُخرى كالمراجعة والمداراة ، بل هناك ما يخرق القانون كلّيّاً مثل : جواب الإساءة بالإحسان والبخل بالكرم ، خرقاً ينتج حلولاً سامية وآثاراً راقية ، بخلاف ممارسة القانون

٢٧٢

الفيزيائي الميكانيكي التي قد تؤدّي إلى نتائج خطيرة وآثار سلبيّة لا تحمد عقباها. لذا فالتفصيل هو الراجح في المقام ; فقد تحتاج بعض الموارد إلى تطبيق القانون ، وموارد اُخر قد تسكت عنه ، وثالثة تباينه تماماً.

وهذا التفصيل يخفي وراءه منهجاً فكريّاً متكاملاً ونسقاً معرفيّاً متوازناً ينهض من رحم المعايير العلميّة السليمة المستندة إلى القيم والمبادئ الأصيلة .. وأهمّ خصائصه توفّره على العقل الجمعي ، حيث فقدان العقل الجمعي يعني شلل التفصيل المذكور وعدم فاعليّته واهتزاز وانتفاء موضوعيّته ، ولابدّ من الاعتراف بعدم تحقّق هذا العقل عندنا ، ولاسيّما فيما نحن بصدده ، وهذا ما يجعل التفصيل المذكور مركوناً على رفوف الإهمال أو معلّباً محفوظاً في ثلاّجات التجميد .. من هنا تروج ثقافة الانتقام والكيل بمكيالين رواجاً مطلقاً ، الأمر الذي أوجد حالةً من النفور والكراهيّة وانعدام الأمن والاستقرار وتصدّع العلاقات وفقدان الثقة والاطمئنان حتى في أصغر خليّة من خلايا المجتمع ، بل يفقد الفرد الراحة والثبات ، فتهدّد الطاقات وتضيع فرص النمو ويفقد الوقت حرمته ; حيث يكون شغل العقول الشاغل ومهنة الأفكار الرئيسة كيفيّة الردّ والمقابلة بالمثل ، استعادةً للاعتبار والشأن والحيثيّة والكرامة والعزّة الفرديّة والجماعيّة والوطنيّة والاُمميّة والدينيّة.

إنّ لنا في محاورنا وأقطابنا اُسوة حسنة : بدءاً بالرسل والأنبياء والأئمّة الهداة وانتهاءً بالأولياء والمؤمنين الأبدال من العلماء والفقهاء

٢٧٣

والصالحين ; تسلسلاً تاريخيّاً يمنحنا محتوىً وضّاءً يعكس الممارسة الواعية لذلك التفصيل المعهود ، الممارسة التي عبّرت عن حكمة وفراسة وتدبير جنّب المجتمع والاُمم ويلات الحروب الطاحنة والدماء النازفة وقادت إلى فضاءات من الحب والسلام والازدهار.

لا شكّ أنّ حسّ الانتقام والردّ بالمثل أو أشدّ موجود في ذات الأحاسيس والمشاعر ، لكنّ العقل السليم هو الذي يدير المعادلة كما هو المفروض ، وإدارة المعادلة يعني سوق المشاعر نحو مرابع التهدئة ومراتع الاسترخاء كخطوة اُولى ، ثم اتّخاذ القرار المناسب في مواجهة ذلك الفعل الموجّه ضدّ الذات ، سواء كانت الذات الفرديّة أو الجماعيّة. وباستنفاد كافّة الحلول العقليّة واستحالة أرسائها على واقع الأمر يحصل الردّ على ذلك الفعل الضدّي بضوء أخضر يدعو إلى التحرّك لدرء الخطر أيّاً كان الخطر : أخلاقيّاً أو اجتماعيّاً أو دينيّاً أو اقتصاديّاً أو حتى عسكريّاً.

ذاتياً وفرديّاً ـ وهذه نقطة الانطلاق الهامّة السارية على خلايا المجتمع الواحدة تلو الاُخرى ـ تحتفظ ذاكرة الإنسان بقاموس ومجموعة من الأفعال التي استهدفت وتستهدف شتّى جوانب الحياة لديه ، منها ما أخذ نصيبه من الردّ بقدرات مختلفة ، ومنها ما ناله السكوت تعقّلاً أو صبراً أو ضعفاً أو انتظاراً للفرصة المناسبة .. ولكنّ المعيار والملاك الصحيح والضابط والميزان السليم يتمثّل بالتفصيل المشار إليه ، فإنّه دأب الأنبياء والأوصياء والأئمّة والصلحاء ، مدركين حجم الصعوبات المرّة

٢٧٤

والتضحيات الكبيرة التي تبذل على جادّة الالتزام بهذا النهج الشريف والنسق النبيل ، الذي يعني الانتماء الأخلاقي الشامخ والهويّة القيَميّة المبدأيّة التي نادت بها السماء ودعت إليها الرسالات الإلهيّة السمحة الغرّاء.

٢٧٥

ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم

ليس من المعقول أن تُسمّى الأشياء عبثاً ، فلا يكون الفكر ولا الثقافة والأخلاق وما سواها كذلك إن لم تستند إلى قيم ومعايير وأنظمة وأنساق تبرز محتواها واُطرها وخصائصها وأدواتها وأساليبها.

ويبقى الإنسان هو المقصود الأوّل والأخير ، به البداية وإليه النهاية ; إذ ينحصر المراد من كلّ هذه الصنعة والخلق والتكوين والشريعة في «الاستقامة» التي لا تجب ـ بفعل الشروط الموجودة والمسؤوليّة المعهودة ـ إلاّ على الإنسان (إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ عَلَى السَّمواتِ وَالاْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١).

وللمسؤوليّة شروط ولوازم لابدّ من احترامها والتقيّد بها ، وبذلك سُنَّت الشريعة والقوانين والمناهج وانطلقت الأفكار لتصوغ وتؤسّس وتوضّح وتستدرك وتستكمل ...

__________________

١. سورة الأحزاب : ٧٢.

٢٧٦

وإذا ما كان الإنسان جادّاً منضبطاً معتقداً فإنّه يلتزم بنهج ونسق يدير به الحياة ، وهذا ما يفرض عليه الواجبات والقوانين ولوازمها.

وإذا ما التزمت بشيء فإنّي ألتزم بلوازمه أيضاً ، إلى ذلك : فالعقل والمنطق والمجتمع يلزمني بما ألزمت به نفسي.

ولابدّ لي من ذلك الالتزام رغم الألم والمعاناة وتحمّل المشاق ، هذا إذا بقيت شروط الالتزام متوفّرة وبقي الموضوع على حاله ، وإلاّ فأنا في حلٍّ من ذلك ، فإذا ما انتفى الموضوع انتفى الحكم معه.

لذا فأنا باق على العهد الذي قطعته على نفسي ، عهد وفاء وشرف ومبادئ أن أخدم الدين والقيم المقدّسة ، فلن اُفكّر بالنكوص والتراجع والتوقّف ولا أدع مجالاً للوهم والتخاذل والخيانة ، رغم كلّ الآلام والأحزان والمشاهد والمواقف التي ينبئ عنها حتى السكوت والخفاء.

نعم ، إن علمت يقيناً أنّ الآلية والأداة التي اتّخذتها لخدمة الدين والقيم المقدّسة قد تزلزلت أو تآكلت أو كان فيها خللٌ ونقصٌ فلن أتردّد في اتّخاذ قرار المراجعة ثم المراجعة حتى أقف على مواطن النقص والضعف وأعمل بالصحيح الذي يقودني مجدّداً لخدمة الدين والقيم والمبادئ الحقّة.

٢٧٧

الصيام قانونٌ وأخلاق

لا اختلاف في كون صياغة القوانين عمليّة شاقّة تخصّصيّة دقيقة ، ولابدّ لها أن تستمدّ شرعيّتها من المصادر والمراجع الموثوقة جدّاً ; إذ المفروض أنّ كلّ قانون بفروعه وجزئيّاته وموادّه وملحقاته يحمل دليله معه ، بل حتى الدليل بذاته تناقش دليليّته وتخضع للبحث العميق ، ناهيك عن القانون الذي يأخذ وجوده من ذاك الدليل.

نحن المسلمون ، قوانينا مأخوذة ومستنبطة من الأدلّة الاجتهاديّة وهي : القرآن الكريم والسنّة والإجماع والعقل ، وإن أعوزنا الدليل أخذناها من الأدلّة الفقاهتية وهي : الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير ، وللضرورة والعناوين الثانويّة وأقرانها مكانها وحيّزها في الشرع والقانون ، ولعلّ النقاش في العناوين الثانويّة يطول من حيث التوسعة والتضييق ومدى تأثير المصالح والمفاسد فيهما. وهناك من المسلمين من يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة و... كأدلّة تستقى منها التشريعات والقوانين.

إنّ منظومتنا الدينيّة تفرض علينا قوانين وتشريعات ، أحكاماً

٢٧٨

شرعيّة ووضعيّة ، واجبات ومحرّمات ، مستحبّات ومكروهات ومباحات ... تعتمد الدليل ـ قَوِيَ أو ضَعُفَ ـ في التأسيس.

ويجب علينا ـ كحدٍّ أدنى ـ الالتزام بما أراده الدين منّا كلٌّ حسب انتمائه المذهبي ، بل حتى في الإطار المذهبي حينما يزاول المكلّف ما أمر به الدين ترى الاختلاف موجوداً في كيفيّة التعامل مع قوانينه وأحكامه ومفاهيمه.

واُركّز بحثي على «فريضة الصوم» كمصداق لاختلاف النفوس والأفراد في ممارستها ، قد يسري مثالها على سائر الأحكام والقوانين أيضاً.

الصيام فريضةٌ أوجبها الله تعالى على المسلمين في شهر رمضان المبارك بنصّ القرآن الصريح ، إلاّ من كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر ، فالله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ; لذا بات واجباً على كلّ إنسان مسلم صومُ شهر رمضان بأكمله.

وبحلول شهر رمضان المبارك تتغيّر مظاهر الحياة وبرامجها لدى المسلمين وتخرج من منطقها الروتيني المعتاد ; حيث الامتناع عن الأكل والشرب والإمساك عن كلّ المحرّمات المادّيّة والمعنويّة من أذان الصبح حتى أذان المغرب ، فتسنح الفرصة العباديّة المناسبة كي يوثّق المسلم ارتباطه بخالقه وقيمه ومبادئه ، وبالصيام يتذكّر معاناة الفقراء والمساكين والمحتاجين مثلما يتذكّر جوع وعطش الآخرة ، فيعمل على تهذيب

٢٧٩

النفس وتحصينها من الذنوب والآثام كي يلقى الإله قرير العين مطمئنّ النفس.

إنّنا إزاء القانون والأحكام متفاوتون من جهة كيفيّة التعامل معها والإفادة منها ، والذين يخضعون لها أيضاً متفاوتون فيها ، ففي المسألة تفصيلٌ لا يمكن التغافل عنه ; فمنّا من يعمل بها عملاً ميكانيكيّاً صرفاً ، ومنّا من يفكّر بمقدار النفع والضرر منها .. أمّا الذي جعل منهج المراجعة والتحليل والاستقراء والمقارنة والاستنطاق طريقه في التعامل مع القوانين والأحكام عموماً ، والإلهيّة خصوصاً ، فإنّه لا شكّ ينوي بناءً علميّاً معرفيّاً ، بناء الذات التي تروم الحقيقة والكمال الإنساني.

إنّ تطبيق القوانين الإلهيّة بقدر ما هو خضوع لإرادة الباري سبحانه وتعالى فإنّه منشأ العزّة والكرامة والسموّ الإنساني ، هكذا يتعامل الفرد المؤمن ، منهجاً ومعرفةً ، كي ينال المطلوب.

فالصيام قانون وحكم إلهي وتطبيقه يمنح الإنسان الإرادة والأناة والتحمّل ... هذه الخصائص والمزايا والصفات هي التي توفّر له غطاءً قويّاً وسدّاً منيعاً إزاء ما قد يعرّضه للبلاء وفتنة المظاهر والمغريات ، التي لا شكّ أنّها تنافي العزّة والكرامة والسموّ الإنساني.

إنّ الإنسان الذي جعل من الصيام أداةً لغرس القيم والمبادئ من عمق العقل والمشاعر لن يخضع لأساليب الابتزاز والاستبداد والمصادرة والانحراف ، فإذا ما قويت البذرة وصلب العود أورقت الأغصان وأينعت

٢٨٠