نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

وأعترف أنّي عانيت ولا زلت اُعاني من قلّة العمق أو عدمه في تصوّراتي ومطالعاتي إثر فهمي السطحي للقضايا والمسائل ، التي لابدّ من استيعابها استيعاباً متكاملاً قويّاً ، ولعلّ سبب الضعف هو الاغترار بالمرور على عناوين ورؤوس الأفكار وحفظها دون الولوج في أغوارها وفهمها وفكّ رموزها واستنطاقها ومقارنتها وتحليلها.

إنّ جنوحي منذ أكثر من عقد إلى الفكر النقدي أوجد في ثقافتي تحوّلاً استدعى شروطاً لابدّ من تحقّقها حتى أنال إمكانيّة دركه ثم التعامل به ، الشروط التي تعني التلقّي الصحيح والشموليّة والتسلّط على الأفكار والمباني وتوفّر عناصر المراجعة والبعثرة والحفر والمقارنة والاستنطاق وقراءة ما خلف النصّ والتحليل والاستنتاج ، ثم إجادة عناصر الطرح والخطاب .. كلّ ذلك بناءً على حفظ الاُصول والثوابت ، وعلى كون الفكر النقدي عمليّة بناء لا هدم تجري ضمن مناهج وأنساق علميّة معرفيّة كما أشرنا إليه ، وهذا ما يتطلّب جهداً فكريّاً كبيراً وعملاً دؤوباً مشفوعاً بالرغبة والأناة والهمّة والعشق والأمانة والمسؤوليّة والإيمان.

١٢١

قالها ورحل

قال لي كلمات لا أستطيع تذكّرها بالضبط ; إذ مرّ عليها زمن طويل ، لكنّي لازلت أحفظ معناها والمراد منها ، وليس ضروريّاً كشفُ النقاب عن هويّته بقدر بيان فحوى ما أسمعني إيّاه.

لم أتجاوز العاشرة من العمر حينها .. ألهو وألعب وإذا بسهامه تجرحني في الصميم وأنا طفلٌ صغير .. قذفني بما يخدش عقلي وينال منّي ، وصفني بما يباين الفطنة والذكاء الإنساني. منعتني طفولتي وبراءتي ـ كأقراني ـ من الذبّ عن نفسي والدفاع عن حقوقي. أضمرتها في قلبي وحناياي ناراً تلتهب وحمّىً تستعر.

كلّما يصلب عودي وتكثر أيّامي أعود فاُراجع ما مضى منها ورحل ، مراجعةً ساهم ببناء مشروعها في ذاتي وكياني ذلك الرجل العجوز بكلماته القلائل تلك. قالها ومضى إلى سبيله ، أنجز ما أراد إنجازه ببضع ثوان ، إلاّ أنّي بقيت العمر كلّه أنوء بحمل ثقيل. افترضتُ في كلماته ـ لمّا كنت اُكرّر المقصود منها ـ التحدّي أو النقد ; إذ لا مخرج لي ـ للحفاظ على كرامتي ـ سوى حمل المراد منها على ذلك ، حملاً شيّدته أنا كي اُخرج

١٢٢

وجودي من حيّز المحنة النفسيّة إلى فضاء معالجة الألم والمعاناة.

نعم ، منذ ذلك اليوم وإلى يومي هذا صار لي مع النقد والتحدّي ألف ملفّ وألف حكاية ، ملفّات وحكايات تكتنف أسراراً وألغازاً وتأريخاً من الأخطاء والغفلات والكبوات المتبوعة بمراجعات ومقارنات واستقراءات وتحليلات واستنتاجات.

قالها ذلك الرجل العجوز ورحل ، لكنّه لا يعلم عظيم الفضل الذي أسداه لي ، وأ نّي لأحسبها عنايةً ولطفاً خصّني الله بهما ; إذ بتلك الألفاظ التي تمتم بها ذلك الشيخ الكبير قُدّر لي أن أحفظ الهدف في أعماقي وحناياي طيلة أعوامي ، ليتحوّل روايداً رويداً إلى واقع اُعايشه وألمس بركاته.

حمداً لك يا ربّ ، فلقد غدت كلماتٌ ما شعلةً ونبراساً يضيىء لي الدرب ويعبّد طريق البحث عن الحقيقة الخالدة.

فمَن قال : إنّ النقد هدّامٌ مطلقاً؟! إنّ النقد إذا صدر صدوراً منهجيّاً علميّاً أو تُلقّي تلقّياً صحيحاً سيكون برنامج بناء ونمو. وليس كلّ سهام النقد جارحة قاتلة ، فإنّ منها ما يشاد على جراحها صروخٌ شامخةٌ تعلن التحدّي وتحيي الأمل وتبعث الحياة من جديد.

علينا جميعاً السعي الجادّ لبناء الاُسس والقواعد وإيجاد الأدوات والآليات التي تساعد على ترويج ثقافة النقد العلمي المنهجي وتشكيل فضاءات من الرصد والمراقبة ; إذ النقدُ فكرٌ ومعرفةٌ ومعيارٌ ومحرارٌ

١٢٣

وضابطٌ ومقياسٌ ونقطة توازن وموجّهٌ ومانعٌ من الانحراف وحافظٌ للاُصول والقيم والمبادئ.

وليس النقد البنّاء امتهاناً للمفاهيم والثوابت والكرامة الإنسانيّة كما يعتقد البعض ، بل هو نوعٌ من أنواع الإمضاء والقبول والتبليغ والحماية والترسيخ للقيم النبيلة والمبادئ المقدّسة. وما يخشاه إلاّ الذين يخشون الجوهر والأصل والعمق ويتشبّثون بالقشور والمظاهر والشعارات الخاوية.

كلّ الكتب السماويّة والرسالات الإلهيّة والمذاهب والتيّارات والفرق والطوائف اتّخذت من «النقد» عاملاً محوريّاً في الظهور والانتشار والبقاء والنمو. وإذا ماارتقى فكر وازدهرت نظرية وتلألأت حضارة واتّسعت قيم فلا شكّ أنّ «النقد» أخذ فيها مكانه الطبيعي.

إنّ رواج ثقافة النقد السليم يعني انحساراً لثقافة المظاهر والقشور والشعارات الخاوية ، وتراجعاً للاستبداد والظلم والانحراف ، وانهزاماً للصنميّة والببغائيّة والحربائيّة والتزلفيّة والرغبات الذاتيّة الشهوانيّة.

لا ريب أنّ «النقد» مؤلمٌ جارحٌ حال ظهوره وانتشاره ، لا يعالجه سوى منهجُ التعامل الصحيح ، فإذا كان المنهج انفعاليّاً عاطفيّاً كانت النتيجة فشل التعامل والمعالجة ، أمّا إذا كان علميّاً عقلانيّاً يعتمد المعايير والأدوات السليمة كانت النتيجة نجاح التعامل والمعالجة.

وأساس الفشل والنجاح يعود إلى خصائص المحتوى ، فإن كانت

١٢٤

الخصائص والمحتوى دون مستوى النقد كان الفشل ، وإن كانت بمستوى النقد أو أرفع كان النجاح. إنّها إذن أشبه بالمعادلة الرياضيّة ، بل معادلة منطقيّة لا تقبل النقاش.

إنّنا نمتلك المحتوى والخصائص الكافية لكنّنا بحاجة ماسّة إلى الأساليب والأدوات والوسائط والأوعية الناقلة للمحتوى نقلاً وإيصالاً أميناً مطمئنّاً .. نعاني من ضعف مفرط في الوسائط والآليات وافتقار شديد للأدوات ولاسيّما تلك التي تناسب المكان والزمان وتحفظ في ذات الحال الاُصول والثوابت.

إنّ هذا الضعف قد انعكس سلباً على المحتوى ، ومظلوميّة المحتوى نتحمّل نحن مسؤوليّتها حينما اتّخذنا الصمت والمدارة والمسايرة اُسلوباً خاطئاً في مواجهة ثقافة القشور ; فهذا الفكر السامي والرسلة العظيمة قد اُنتهكت حرمتهما واتُّهما بما لا يمتّ لهما بأيّة صلة ، ذلك بسبب ضعف الحركة والأدوات الوسائطيّة عندنا.

١٢٥

رقابة النقد البنّاء

كثيراً ما تتحوّل معاناة الإنسان وهمومه ـ الراشحة عبر الملاحظة بشتّى أدواتها وآلياتها ـ إلى فكرة تأخذ مجالها ومتنفّسها من خلال المشافهة أحياناً والتدوين طوراً والفعل ثالثاً ; وإذا ما ظلّت حبيسة فضائها فإنّها قدتنفجر فتدمّر ذاتها وما حواليها ، بل ربما يصل مدى التدمير شعاعاً نجهل حدوده ومساحاته وأحجامه.

لذا فمن الضروري الاحتكام إلى العقل ومخزون الذهن لترويض الحنايا وأعماق الشعور بواسطة عقد حوار ذاتي تشترك فيه جميع فصائل الذات للخروج بحصيلة منهجية عمليّة ، الأمر الذي يستدعي استخدام مراحل الاستدلال المعرفيّة من مراجعة وإعادة قراءة ومقارنة وحفر واستقراء وتحليل وفحص ، آنذاك تنعقد الفكرة وتشقّ طريقها نحو البروز متجاوزةً «الثبوت» صوب «الإثبات» و «التصوّر» نحو «التصديق».

إذن كيف بي أن أجعل من معاناتي وهمومي فكرةً تسهم في الرقيّ البشري والوجود الإنساني؟

١٢٦

لن يصنع العنف والصدام رقيّاً ولا الترويع والحذف مجداً ، إنّما الكلمة الطيّبة سحرٌ يخترق العقول والقلوب على السواء ، ويا حسرتي فغالباً ما أفتقد القدرة على استخدام الكلمة الطيّبة فأخسر الكثير واُضيّع ما جمعته وربحته في سالف أيّامي.

الكلمة الطيّبة : فكرةٌ ومبدأ وقيمة وأخلاق وبيان وأناة ومنهج ومعرفة ...

فليس من الصحيح استغلالها مجرّد عنوان نتغّنى به ونتّخذه شمّاعة لمظاهرنا ومسارحنا واستعراضاتنا وشعاراتنا وقشورنا الفارغة المحتوى ورغباتنا الذاتية الجامحة.

حينما يعلو السفلي ويطفح الزبد ويشمخ النفاق وتتأ لّق الحربائيّة وتفوز الصمنيّة وترتفع الببغائيّة وتُحتَرم التزلّفية ، وتغيب الاُصول ويستهان بالحبّ والإخلاص والمبادئ والأخلاق ; يجب أن أصنع من الألم والمرارة : فكرةً تجابه الانحطاط والانحراف ، فضاءات نقد بنّاء وآفاق «نفس لوّامة» تعيدنا إلى ثوابتنا الرفيعة ومفاهيمنا النبيلة.

لسنا أعداء بعض ، إنّما كلّ واحد منّا يرقب صاحبه ، فالرقابة تخرجنا من حُفَر الاستبداد والتعسّف والرغبة الذاتية والكبر والغطرسة ... إلى قلل العدل والعقل الجمعي والأخلاق الحميدة ... تفتح لنا آفاقاً رحبةً نحو النموّ والازدهار بكلّ ثقة وعزم وثبات.

إنّ غياب الرقابة والنقد البنّاء يجعل فرص التقدّم نادرةً كالعدم ; إذ

١٢٧

يستحوذ العقل الفردي على شتّى الاُمور وتتدخّل الرغبة والشهوة في حسم القضايا ، فتضيع الاُصول والقيم والموازين ، ممّا يعدّ مؤشّراً خطراً ينذر بالتخلّف والتراجع ، مع ما له من عواقب وخيمة على شتّى الميادين والمجالات.

إنّنا يجب أن نستلهم من آلامنا وهمومنا ومعاناتنا وملاحظاتنا فِكَراً ورؤىً تسند العقل الجمعي وتسهم في إعادة كلّ شيء إلى مركزه الطبيعي ، على قاعدة القيم والمبادئ والاُصول السليمة.

١٢٨

وقفة نقديّة / ١

فلينتبه الجميع ويستوعبوا مغزى أن تقول كلمتك شفّافةً قويّةً تحمل بين طيّاتها هموم الآخرين واستفهامات الناس وحرص النخب ، موجّهاً إيّاها إلى مَن يمرّ بقمّة المجد وذروة التأ لّق والقدرة والنفوذ ، تقولها غير آبه بالعواقب المترتّبة والنتائج الحاصلة ، ما دمت قلتَ شيئاً طالما اقتنعت به وذدّت عنه وكشفته تدريجيّاً تبعاً لحاكميّة الظرف ، حتى سنحت الفرصة لتدلي به مجتمعاً رغم بعض الاُمور التي كان لابدّ من ضمّها وإضافتها إليه لكن الغفلة والنسيان تحولان دون ذلك على الدوام.

كلّ منّا يعمل بما هو مكلّف به ، وقد وجدت لزاماً عليّ العمل بما ينبغي عمله ; انطلاقاً من المسؤوليّة التي أثقلت كاهلي كثيراً ; وإزاحةً للهمّ الذي كان جاثماً على صدري ، فلا يمكن أن أرى وأسمع وألحظ دون فعل شيء ما ، إلى ذلك أكون بخطوتي تلك قد ساهمت قليلاً في إلغاء حجّة عدم العلم والانتباه والاطّلاع على القضايا المعهودة. وما كان في حساباتي الحصول ـ بعملي هذا ـ على إطراء ومدح أو التعرّض للوم وذمّ ،

١٢٩

إنّما هو الواجب والتكليف الذي حتّم عليّ التحرّك لفعل شيء ما ، بقدر ما يسمح به الظرف والمقام.

أقدمت على خطوتي وأنا واضع في الحسبان أسوأ الاحتمالات وأصعبها ، وبالفعل فقد مررت بمقاطع مرّة وعصيبة لكنّي بفضل الدعاء والقناعة حافظت على تماسكي وإصراري على موقفي. لقد زادني الله تبارك وتعالى ثقةً بالنفس ومنحني طمأنينةً وأماناً وراحة بال لم أكن أحسبها أبداً.

بدأت رويداً رويدا أطلّ على فضاء الأحداث إطلالةً أكثر إشرافاً وإحاطةً بعدما كنت منغمساً مندكّاً فيه بشكل أكاد أفتقد الوضوح والواقعيّة والإنصاف ، فصرت أعقد مقارنةً واستقراءً ومراجعةً وتحليلاً ، ما كان يمكن أن تكون بهذه الكيفيّة سابقاً. أعترف بجنوحي إلى تغيّر في النظرة والمواقف بعدما كنت ذلك المتحمّس الراديكالي بعض الشيء ، لا أدري فلربما قادني البحث والتأمّل إلى مزيد من الجنوح نحو الوسطيّة والاعتدال.

العيّنة التي ألمسها على الدوام عيّنة اللاهثين خلف الذلّ والذيليّة ، خلف الرغبات الرخيصة والأماني القصيرة ، خلف المظاهر الزائفة والشهوات التي لا تدوم.

أن يهوي المرء إلى أدنى الحضيض وأسفل القاع لأجل حاجة ما ، أمل ما ... فإنّها تجارة العبيد الذين باعوا العزّة والكرامة الإنسانيّة بثمن بخس.

١٣٠

إنّما المرارة أن تُعدّ أنت أيضاً في قافلة هذه الشرذمة المعهودة ; إذ قد يصعب على الناس الفرز والتمييز إزاء هذا الكمّ الهائل من المتزلّفين والببغائيّين والحربائيّين والصنميّين ... فلا يبعد أنّهم كانوا ـ أو لازالوا ـ يحسبونك كذلك من اللاهثين المعهودين.

يبقى شيء واحد ، فالأيّام كفيلة بزوال الخلط والوهم والضبابية والتردّد ، وللناس حقّ في ذلك ; فإنّهم إزاء فضاء واحد ، فالتفكيك والتجزئة صعبة جدّاً عليهم.

لست موافقاً لكثير ممّا يقوله الناس بشأننا ، فبعض التقوّلات تصل حدّ الافتراء والكذب والظلم .. غير رافض لبعضها الآخر وإن كان يحمل بين طيّاته قدراً من التضخيم والمبالغة.

والمؤسف حقّاً اعتقادنا بكون الناس لا يدركون ولا يكشفون الحقائق ، متناسين أنّنا من خلال فلتات ألسنتنا ـ وما أكثرها ـ نمنح الحجّة كي يقولوا فينا ما يقولون ; حيث يأخذنا الغرور ـ مثلاً ـ والغطرسة والمباهاة في حالات من الشعور واللاشعور ، فنسرد القصص كي يقفوا على مراتبنا ومكانتنا واعتبارنا وأهمّيّتنا وإنجازاتنا ، سرداً لا تغادره اللذّة والنشوة والكبرياء ، وهذا بحدّ ذاته كاف في تحقّق المطلوب لدى المتصيّدين في الماء العكر. إلى ذلك مظاهر حياتنا وأساليبنا المجافية للاحتياط ، كلّها تمنح الفرص المناسبة للنيل منّا نيلاً قد يكون أحياناً بحقٍّ وإنصاف واُخرى بظلم وإجحاف.

١٣١

ولعلّ «الفضاء» الحاكم فينا وعلينا قد أوجد المبرّرات الواسعة لبروز هذه الظواهر والأفعال والأساليب. نعم ، إنّه الموروث الذي نرزح تحت وطأته منذ أمد بعيد ، مضافاً إلى استغلال المسائل العَقَدية في تدعيم هذا الموروث المؤلم ، بل تجاوزنا ثوابتنا واُصولنا وعَمِلْنا بما نقول ببطلانه من أجل بلوغ المقاصد والمرامي ، فمسحنا على أنفسنا مسحة صلاحيّات أقطاب الدين والشريعة ، وصرنا نقيس ما ليس لنا بما للمعصومين عليهم السلام من خيارات وحدود وإمكانيّات ، مع السعي منّا لإيجاد التوجيه العَقَدي والفكري الذي ينطلي على الكثيرين.

وبالطبع فإنّ كلّ الأضواء تكون مسلّطة على نقطة واحدة.

من هنا يصبح ارتفاع صوت أو أصوات تنادي بالإصلاح والتعديل والتغيير ، غير مألوف وسط فضاء يعجّ بثقافة محدودة الآفاق ، ولاسيّما مع وجود شرذمة ترى مصالحها مرهونة بدوام هذه الثقافة وما يترتّب عليها من آثار ولوازم ، الثقافة التي تحتاج إلى أدوات ووسائل ووسائط لتثبيت ركائزها واُسسها ، هم أدواتها ووسائلها ووسائطها ، ولكلّ شيء ثمن ، فمادام الملاك «هل امتلأتي» و «الرغبات الذاتيّة» ، فليكن الثمن ما يكون.

وفي خضمّ بروز الانتقادات والملاحظات على هكذا ثقافة يدخل الجميع مختبر القيم والمواقف والعزّة الإنسانيّة ، فينجح قوم ويفشل آخرون ، وتنكشف حقائق ، ويزاح الستار عن المخفيّات ، وتعرف

١٣٢

المزيّفات ، ويتعرّى الذين كانوا يتلبّسون بلباس الوقار والمتانة والمنعة والإباء والاستقلاليّة ، فتتجلّى الذيليّة والحربائيّة والببغائيّة والصنميّة ... شفّافةً أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى.

وليعلم الكلّ أنّ خطوة النقد لم تكن الاُولى والأخيرة مادامت هنالك مبادئ لا تحتَرم وقيم تندثر وظواهر خطرة تنمو وتنتشر.

وليس القصد سوى الحفاظ على المنجزات الطيّبة والسير نحو الأمام بخطى راسخة وعزم أكيد من خلال إرساء الفضاءات المناسبة ، الصحيحة والحقيقيّة ، المؤمنة بأصل القيم والمبادئ لا بالظواهر والقشور ، بالتلاقح والاستشارة ، لا بالاستبداد والاختناق ، بالعمل الجادّ والإخلاص والحبّ ، لا بالأساليب المرفوضة ، بالمعنويّات ، لا بتحكيم المادّة كقدرة مهيمنة في كلّ شيء وعلى كلّ شيء.

١٣٣

وقفة نقديّة / ٢

أعيش فضاءً فيه الصلاة والصيام والخمس والمروءة قائمة كما هي الشهوات والرغبات والمنّة والخذلان ومظاهر الدنيا فيه قائمة ...

أيّ فضاء هذا الذي يجمع المتخالفات المتباينات؟! ماذا يوصل من إشارات ومفاهيم ومعطيات؟

لِمَ اجتمعن سويّةً ، ألاِجلِ أن يحمي بعضها البعض لإيجاد المسوّغ والدليل ، فيتسالم الناس عليها ويقبلوا بها؟ وهل يمكن الأخذ بالسليم المختلط بالسقيم ولاسيّما بلحاظ الإيمان ببعض وعدمه في البعض الآخر (١) ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المحاسبات الإلهيّة الدقيقة لا تغفل حتى الصغيرة المستهان بها عندنا (٢)؟

ليس المهمّ كلّ ذلك بقدر أهمّيّة المحصّلة النهائيّة التي تقرّر الفلاح أو الضلال ، الفوز أو الخسران ، السعادة أو الشقاوة ، دار النعيم أو دار البوار.

__________________

١. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض).

٢. (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا).

١٣٤

هناك .. هناك ، لا ضحك على الذقون ، فلا خفاء ولا إخفاء ولا ظاهر ولا باطن ، كشفٌ ليس بعده كشف ، وحقائق ما فوقها حقائق ، وبمجرّد التفكير بهذا الأمر يصاب الإنسان برهبة وخوف وذهول.

أعتقد أنّ فضاءنا فضاء خير وصلاح ، أي الأصل فيه هكذا ; لدلائل وشواهد وقرائن عدّة ، لكنّ المتغيّرات والمستجدّات وقوّة الرغبات الذاتيّة فرضت واقعاً مختلطاً ، اختلط السليم بالسقيم ، هذا السقيم القوي الذي ما استطاع فضاؤنا صدّه والتغلّب عليه ، فغدا جزءاً شاخصاً جليّاً من أجزاء حياتنا التي سبّبت متاعب وتراجعات وهجمات لاذعة وانتقادات حادّة تزداد شدّةً يوماً بعد آخر ، بل جعلنا في عيون الناس وعقول الكثير من النخب كتلة غلبت عليها مظاهر الحياة ورغبات الذات ، فعادوا لا يعيرون أهمّيةً أو لا يرون بوضوح ما نمنح الوسط الديني والاجتماعي والثقافي من عطاءات وإنجازات.

إنّنا يجب أن نكون حيث ينبغي أن نكون : ظاهرنا يعبّر عن باطننا ، تأخذنا القيم والمبادئ والشريعة إلى ما تريد لا أن نسوقها إلى ما نرغب ونهوى ونريد .. ملاكنا رصد السماء لا رصد الأرض ، عيون السماء لا عيون الأرض. فهل نحن كذلك يا ترى؟ قبل الإجابة لابدّ أن نتذكّر أنّنا إن حاولنا الاشتغال بالتورية ونظائرها فلا يمكننا تمرير توجيهاتنا وتعليلاتنا على السماء وقوانينها الدقيقة العادلة.

والمؤسف فينا أنّنا صرنا نرى في نتاجنا أنّه الأرقى والأفضل ،

١٣٥

زاهدين في عطاء الآخرين وإنجازاتهم ; فما عادت عيوننا تبصر إلاّ

ذاتها وما حواليها ، بل حتى ما حواليها تتحكّم فيه بعض الشروط والخصائص المستقاة غالباً من واقع الرغبة الخاصّة التي تأخذ به إلى أروقة الاهتمام والعناية بلا خضوع حقيقي لمراحل البحث والمطالعة والتحقيق ولوازمها.

وهذا ما جعلنا دون مستوى الطموح والانتظار ، بل لأجل مناغمة الرأي العامّ عمدنا إلى إكثار الأسماء والعناوين سعياً منّا إلى استخدام «منهج تحريك الجمهور» ولا شكّ أنّها سياسة انفعاليّة سرعان ما تهدأ كزوبعة الفنجان. نعم ، محطّاتنا ونقاطنا كثيرة جدّاً لكنّها هل تؤدّي الأداء المطلوب ، وهل هي الراجحة على ما سواها من مشاريع وأفكار نظيرة أو اُخرى اُهمِلت ولازالت تُهَمل؟

إنّنا طبق النسق الجاري والمظاهر الحاكمة لا يمكننا البقاء طويلاً ونحن نسير بلا تعامل جدّي مع الجوهر والأصل والعمق ; حيث المحكوم على نسقنا أنّه بالشعارات والظاهر والقشور والنماذج الاستعراضيّة.

يجب أن نراجع ـ على الدوام ـ ما نحن فيه وعليه ، ونقرأ الاُمور قراءةً أوسع وأشمل وأدقّ وأعمق ، ونستقرئ ، ونقارن ، ونستقصي ، ونحلّل ، ونحفر ، ونبعثر ، ونتمسّح ; لنحصل على نتائج ترسم لنا نهجاً ونسقاً علميّاً يقودنا إلى النموّ الحقيقي والفلاح المعهود. وبدون ذلك فلا نخدع إلاّ ذواتنا أوّلاً وآخراً.

١٣٦

وقفة نقديّة / ٣

لسنا بصدد الإنشاء أو الإخبار عن كون «النقد» فلسفةً أو علماً أو مذهباً له أقطابه وتأريخه واُسسه ومبانيه وقيَمه وأدواته المعرفيّة وأنساقه الخاصّة ، فهذا جهدٌ قد وُفِّر عناؤه على أرقى المستويات والأفكار ، ولاسيّما أنّه قائمٌ قبل هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض بأمر المولى تبارك وتعالى بفعل معصيته الشهيرة التي انتُقِد عليها أشدّ الانتقاد ، وعانى على إثرها المعاناة المريرة والآلام الصعبة ، فقُدّر للإنسانيّة أن تبدأ رحلة شاقّة وهي ترى واقعها منقسماً بين خطّين متوازيّين لا يمكن لهما الالتقاء أبداً.

كما لسنا في مقام تجديد معرفتنا بالنقد والأقوال فيه ; إذ إنّنا نعلم أو لابدّ أن نعلم أنّ :

النقد : ليس إضعافاً للموقف وللذات ، بالعكس ، إنّ النقد بما هو كشف وتعرية وفضح ، يؤول إلى خروج المرء من عجزه ، باختراق حاجز نفساني معيق ، أو كسر قالب معرفي ضيّق ، أو تفكيك جهاز مفهومي قاصر ، أو تغيير شرط وجودي قاهر .. بهذا المعنى يفضي النقد إلى إمتلاك

١٣٧

إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، تتغيّر معها علاقات القوّة بين المرء ونفسه ، وبينه وبين الغير والعالم.

ـ النقد : هو فاعليّة معرفيّة تطال بالكشف وتعرية المساحات المستبعدة من دائرة الضوء والنقاش ، بهذا المعنى لا يقتصر النقد على الفروع والتفاسير وعصور الانحطاط ، بل يطول أيضاً وخاصّة الاُصول والاُسس وعصور الازدهار ... والذين يركّزون نقدهم على فترات النكوص وعصور انحطاط لكي يحيّدوا مراحل الصعود وحقب الازدهار ، لا يريدون لنا سوى التراجع إلى الوراء وممارسة النقد المقلوب.

ـ الأصل في كلمة النقد : «دراسة إمكانيّات» الموضوع الذي يُنقَد ، أي دراسة ما كان يمكنه أن يكون عليه ، وما هو عليه بالفعل وأسباب ذلك التفاوت أو التطابق. هذا هو المعنى الفلسفي العلمي ، وهو معنى لا يمكن قبوله إلاّ في بيئة حضاريّة تسعى إلى التجدّد والتطوّر وتعدّي القديم البالي ، أمّا إذا كان الأساس هو الإبقاء على المألوف ، فإنّ فكرة النقد تصبح عدوانيّة ، لا يمكن أن تستعمل إلاّ للهدم والتجريح.

ـ إنّ نقدَ علم هو تكريمٌ للعلم ... نقدُ الشيء يحييه ، عدم نقده معناه أنّه مات ، خرج ورحل.

ـ النقد الأخلاقي للوضع التأريخي أو الإنساني ، والذي يقول في بعض اتّجاهاته ومذاهبه الدينيّة والفلسفيّة والعلمانيّة بأنّ جميع جوانب الحياة والعلاقات الإنسانيّة مسمّمة برذائل مدمّرة كالأنانيّة والكبرياء

١٣٨

والجشع والطموح والقسوة و... وبالتالي فإنّ الحلّ لها يكون في تجاوزها إلى حقيقة روحيّة عليا.

ـ النقد مزيج من كره وحبّ : كره لما يرغب عنه من موجود ، وحبّ لما يرغب فيه من مفقود ، الذي هو عنصر الإصلاح بعينه ، وأيّ شيء يحلّ بنا لولا الإصلاح.

ـ النقد عمل الحياة الدائم.

ـ كلّ نقد صحيح هو الذوق ، فمن حرمه لا يمكن أن يستعيض عنه بشيء آخر.

ـ الناقد لابدّ أن يكون واسع المعرفة والإدراك ، رقيق الإحساس ، صادق الإخلاص.

وما إلى ذلك من الأقوال والمعاني والآراء الواردة في أبواب النقد المختلقة.

إنّما نحن إزاء تساؤل كبير :

لِمَ نهرب من النقد ، نهابه ونخشاه ، لِمَ يتبادر منه في عقولنا وأحاسيسنا : أنّه انتقاصٌ وإذلالٌ وحطٌّ ، فيرسم في أذهاننا وقلوبنا الصورة السيّئة القاتمة ، يجعل الناقد عندنا مكروهاً مرفوضاً غير مَرغوب فيه ...؟!

إنّنا إذ نجافي الحقيقة ونتشبّث بالقشور وننأى عن الجوهر ، فلا نخوض في مساحات الفكر عمقاً ولا مراجعةً ولا تحليلاً ولا حفراً

١٣٩

ولا حتى فهماً واستيعاباً أوّلياً ، ولا نغادر سطوة أنفسنا واستبدادها وتعسّفها ورغباتها ولذائذها ، ونقدّس الجمود إذ يحمينا من التغيير ، ونصطفي الراحة والاسترخاء والتقليد حيث تخلّصنا من عناء العمل والبحث والجدّ ، ونروّج للشعارات الملهبة الحماسيّة حينما تمنحنا غطاء الأخذ بغلاف القيم والمبادئ والأخلاق ...

فلابدّ لنا من الهرب والهيبة والخشية من النقد ، فكيف نسمح لكرامتنا وعزّتنا أن تُنتَقص وتُذلّ وتُحطّ ، وأ نّى لنا أن نرتضي بالذي يفضحنا ويعرّينا ; فليس الهامّ عندنا اُممنا ومجتمعاتنا ولا حتى الهويّة والانتماء ، التي نفاخر بها نفاقاً وكذباً ، بل الهامّ رغباتنا ومنافعنا وكياناتنا الشخصيّة!!

من البعيد جدّاً وفي ظلّ الظروف والمعادلات القائمة حاليّاً أن ندرك بالاستيعاب والممارسة أنّ النقد ـ كما أشرنا لبعض نماذج معانيه ـ يعني النموّ والازدهار ومواصلة الحياة وبثّ الأمن والاستقرار والعدل والإنصاف وإزالة مظاهر الظلم والتخلّف المعرفي والقيَمي والأخلاقي ; وأنّ به يزداد الحبّ وتأفل الكراهيّة ويعمّ الناس الأمل ويكبر الطموح بفرص أفضل وأرقى .. ذلك بعيدٌ جدّاً ما لم نغيّر ما بأنفسنا.

(إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

١٤٠