نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

وقفة نقديّة / ٤

يتبادر من النقد في عقولنا وأحاسيسنا : أنّه انتقاصٌ وحطٌّ وإذلال ، يرسم في قلوبنا وأذهاننا الصورة السيّئة القاتمة ممّا يجعل الناقد عندنا مكروهاً مرفوضاً غير مرغوب فيه.

وهذا بحدّ ذاته مجافاةٌ للحقيقة والإنصاف ، مجافاةٌ أساسها ردود الفعل السريعة ، والأحكام العاطفيّة ، وعدم الإحاطة اللازمة بمفهوم النقد ومعناه العلمي المعرفي ، والارتماء بالقشور خشيةً من الجوهر وعمقه ودلالاته ومصاديقه.

النقد الصحيح يفضي إلى امتلاك إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، إلى دفع الإنسان نحو الاُطر والمضامين السليمة للتفكير والممارسة ، إلى إيجاد الرقيب المحسوس والخفيّ ، الذي يدفعنا دوماً نحو إيجاد أفضل فرص النموّ والتطوّر.

وفي السياق ذاته يمتلك النقد الأخلاقي القدرة على توفير السبل المناسبة إلى حقيقة روحية عليا حينما يرى الحياة قد تلوّثت برذائل

١٤١

مدمّرة كالأنانيّة والكبرياء والجشع والقسوة و...

لازَمَ النقدُ حياةَ الإنسان منذ البدء إلى يومنا هذا بأشكال وآليات ومناهج مختلفة ، تبعاً للمتغيّرات المكانيّة والزمانيّة.

أمّا الفكر النقدي الحديث (١) فقد ظهر في مجتمعنا العربي والإسلامي منتصف الخمسينات من القرن الماضي. ولقد بلورت المطارحات والنقاشات والحوارات ـ القائمة على أساس التلوّن والتنوّع الفكري ـ الفضاء المعرفي المناسب لتجلّي المناحي النقديّة وجريانها في اتّجاهات دينيّة وفلسفيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة.

إنّ وجود المتوازيات الفكريّة في عالمنا العربي والإسلامي : اتّجاه عقلي وآخر وضعي ، اتّجاه موضوعي علمي وآخر ذاتي وجداني ، اتّجاه قومي وآخر ديني ... كشف عن خفايا الأعماق وحناياها عبر الرواشح العقليّة على مختلف انتماءاتها وميولها.

وكانت مواجهة التيّارت المعاصرة الوافدة من مهامّ حملة الفكر النقدي ، من خلال استيعاب هذه التيّارات وتوظيفها وترويضها ، ولاسيّما أنّها تعارض ما لدينا المكرّس عقائديّاً وسلطويّاً وتقليديّاً. لذا حاول النقّاد منّا تنصيب العقل وإخضاع الدراسات الدينيّة لسلطته بواسطة الاستفادة من الآليّات الحديثة في الأنساق والمعارف لنقد الفكر الديني وأساليب

__________________

١. وضعنا نصب أعيننا : جيرار جهامي ، سميح دغيم ، رفيق العجم ـ موسوعة مصطلحات الفكر النقدي العربي والإسلامي المعاصر ، مكتبة لبنان ناشرون / بيروت ، الطبعة الاُولى ٢٠٠٤م.

١٤٢

الحياة الماضية. فكان مصير النقّاد : المعارضة والتهميش والملاحقة والتكفير.

وانطلاقاً من قاعدة : «أن لا شيء يقع خارج دائرة الفحص والجدل فلسفيّاً» :

فإنّ انقسام علمائنا إلى أهل ظاهر وباطن ، أهل تنزيل وتأويل ، وما شهدناه من صراعات السلفيّة والمعتزلة والأشعريّة والعدليّة ، المغلّفة بالنقد وتفكيك البُنى الفكريّة وتفتيت المسلّمات وهدم البراهين ، المتجسّدة في أنظار الغزالي بنقده الفلسفة المشّائيّة ، وابن رشد في تهفيته الغزالي وغيره في جوانب من مسائلهم بإسم اليقين والبرهان ، وابن خلدون بنقده الفلسفة الإلهيّة والتصوّف الغيبي اللاواقعيّين ، وملاّ صدرا في انتفاضته على منكري حركة الجوهر ...

يثبت فاعليّة حركة الفكر النقدي آنذاك وانتشارها وإن كانت بأساليب تتناسب مع المكان والزمان بمصطلحات نقديّة تناسبهما أيضاً مثل : المشاغبة ، التبكيت ، التعاند ، المغالطة ، التحيير ، المنع ، التسخيف ، التهفيت ، التضعيف ، المرجوحيّة ...

أمّا الفكر النقدي الحديث فهو عقلاني التوجّه نوعاً ، يعالج قضاياه ويتناول قضايا الآخرين مراعياً وجهتي المع والضدّ ، ومطلقاً أحكامه التقديريّة والتقويميّة عليها : أهي صحيحة أم كاذبة ، عادلة أم جائرة ، مقبولة أو مرفوضة ، فالناقد ـ بأدواته المعرفيّة ومنهجه العلميّ القائم على

١٤٣

المراجعة والحفر والبعثرة والاستنطاق والمقارنة والاستقراء والتحليل والاستنتاج ... ـ يرمي إلى إماطة اللثام عن الوجه الخفيّ للواقع. لذا فهو يقتحم مكامن الخلل والنقص والضعف لدى خصمه ليبرهن أنّ الحقيقة لا تتمثّل من جانبه كخصم بهذا الموقف المجتَزأ أو ذاك المتهافت. وغايته القصوى تقضي بوضع شروط معرفيّة جديدة وتأسيس نظم فكريّة تناسب المطلوب. فالعقل النقدي لا يسلّم بأيّ معطى أو مبدأ إلاّ ويدقّق فيه بذاته ، دونما الانبهار بما يقوله الآخرون أو يفرضه العقائديّون.

إنّ النقد يفضي إلى امتلاك إمكانيّات جديدة للوجود والحياة ، تتغيّر معها علاقات القوّة بين المرء ونفسه ، وبينه وبين الغير والعالم. وفي ضوء مبادئ النقد هذه ومرامي النقّاد انصرف معظم المفكّرين المعاصرين نحو إعادة قراءة الوقائع المعاشة والمعرفيّات المرتهنة والسلوكيّات الممارسة لنفض غبار التقليد عنها ومحاولة ترسيخ اُسس نهضويّة تكون أكثر فاعليّة من تلك القائمة سابقاً على النقل والإسقاط ، حين رام أصحابها إخفاء المشاكل الحقيقيّة أو تخوّفوا من أبواب حلول جذريّة. والهامّ في الفكر النقدي كشفه عن أنماط جديدة من العلاقات بين الفكر وإجراءاته العملانيّة.

هذا ، ولم يألُ الناقد جهداً على جادّة الاغتراف من شتّى المنهجيّات والوسائط التحليليّة التي تدعمه في بلوغ المراد بما يتناسب مع العصر والتطوّر ، فكانت أنساق العلوم الإنسانيّة واللسانيّة ضالّته التي تفتح له

١٤٤

آلياتها آفاقَ عرض الجديد أو مراجعة الماضي وقراءته طبقاً لاجتهادات منفتحة.

فمثلاً : ركّز محمّد عابد الجابري على الموضوعيّة واشترط في الناقد القدرة الشموليّة «على استيعاب جميع التحوّلات التي يتحرّك بها ومن خلالها فكر صاحب النصّ». فهو يرى أنّ المسبقات والايديولوجيّات المنحرفة تقتضي منّا انفصالاً عن النصّ في مرحلة اُولى ، ثم نعود لنتّصل ونتواصل معه للكشف مرّة اُخرى عن محتواه الايديولوجي وجعله معاصراً لنفسه ، ومن ثم إعادة تكوينه في ظلّ معطيات تمكّننا من استغلاله. وبذلك نعيد مثلاً فهم التراث وجعله متحرّكاً وفقاً لظروفه وظروفنا ، وعليه فالجابري يرى «إنّه ليست جميع المناهج صالحة لجميع الموضوعات ... فطبيعة الموضوع هي التي تحدّد نوعيّة المنهج» وبذلك نفكّك العلاقات الثابتة ونولجها عالم المتغيّرات تحليلاً ، أيضاً نجعل المطلق نسبيّاً واللاتاريخي تاريخيّاً. ومثل هذه المنهجيّة الواعية ـ كما يقولون ـ توصلنا إلى مستوى النقد الابتسمولوجي لإزاحة الستار عن طرق ومفاهيم انتاج المعرفة ونقدها.

ومثلما فعل زكي نجيب محمود في نقده الوضعي المنطقي للميتافيزيقيا ـ قبل أن يتراجع عنه في أواخر نتاجاته الفكريّة والمعرفيّة ـ فقد فكّك الجابري بُنى العقل العربي ، ليعيد تشييدها طبق ما يمكن بواسطته توسيع مجالات البحث في اُصوله وخصائصه وأهدافه وايديولوجيّته العامّة.

١٤٥

وتبنّى محمود أرگون النظريّات الاجتماعيّة ـ التاريخيّة والسيمياء في معالجة النص ، ممّا يسمح بإعادة تأطيرها ومتابعة تطوّراتها. ورفض في الوقت ذاته المنهجيّة الفللوجيّة ـ التاريخيّة معتبراً إيّاها «وصفيّة سكونيّة دونما طرح الإشكاليّات العامّة». انبثاقاً من ذلك فهو يرفع بيرق العمل بإركيولوجيا العلوم الإنسانيّة ; كونها تتجاوز المثاليّة الشائعة.

وهذه المنهجيّات تتيح للناقد فتح مساحات كانت شبه محرّمة على المنقّبين والباحثين والمختصّين ، بالأخصّ العقائديّة منها. إنّه بذلك يزحزح ما كان قارّاً غير مفكَّر أو يستحيل الخوض في مقدّساته.

ويعتقد أرگون ضرورة العمل بأساليب «مدرسة الحوليّات» التي أضاف روّادها العلوم الإنسانيّة إلى ميدان التاريخ والمؤرّخين ، ممّا أطلق عنان المؤرّخ وفتح أمامه سبلاً أوسع نحو أداء فنّ التحليل التاريخي. ويُعتقد أنّ سرّ نجاحها يكمن في اعتمادها ابتسمولوجيا تاريخيّة «تطرح فرضيّات جديدة وتضعها على محكّ الواقع لمعرفة مدى صدقها أو كذبها» حتى لا تبقى الحقائق محتمية بغطاء دوغمائي ، ولا مطليّة بتوجّه ايديولوجي بعيد عن مراقبة العقل النقدي.

ويرى طه عبدالرحمن : «أنّ كلّ تقويم للنصّ التراثي هو عبارة عن عمليّة نقدية مبناها أساساً على الاعتراض على هذا النصّ بالمناهج المشروعة حتى يتبيّن كيف تستند وسائله أو مضامينه إلى أدلّة مقبولة» لذا فهو يدعم كلّ توجّه فكراني في هذا الإطار ، ويأخذ بآلية العلوم التي

١٤٦

تخصّ كلّ علم على حدة بمنهجيّة تطبعه وفقاً لمعطياته ، وتبعاً لأوصاف ثلاث للآليّة : الخدمة (لذاته ولغيره) ، العمل (كيفيّة إجراءاته) ، المنهج (طرق وأساليب يتوصّل بها إلى نتائج معيّنة).

وقد مارس طه عبدالرحمن ـ بشكل خاصّ ـ المنهج المنطقي الفقهي ، والمنهج المنطقي الرياضي ، تحليلاً للثابت والمتغيّر في الفكر العربي والإسلامي.

هذه المنهجيّات المختلفة ـ التي أشرنا إلى نماذج منها في واقعنا العربي الإسلامي ـ تؤكّد باعتقاد الفكر النقدي وحملة لوائه ضرورةَ إعادة النظر في أساليب وأدوات تحليل وقراءة النصوص ، سواء كانت ذات مضمون يعدّ من المسلّمات أم من المقدّسات ، فلا يمكن حينئذ الاستبداد واحتكار النصّ وتأويله صوب أهداف معيّنة أو مؤطّرة بذريعة «أنّ الفرقة الناجية واحدة».

وفي هذا السياق يستشهد نصر حامد أبو زيد الذي يعرّف الهرمينوطيقا بأ نّها «لا تعني مجرّد عمليّة الفهم لشيء معطى محدّد سلفاً له وجود خارجي محايد عن المتلقّي الذي يحاول أن يفهم هذا الشيء أو هذا النصّ فلا ننساق حينئذ ـ والرأي لأبي زيد ـ ونطأطئ حيال سلطة التراث السلفيّ ونأخذ بسبل طرحه للحقائق ...

ويرى أيضاً : أنّ اليسار الإسلامي يجسّد هذا الخط التأويلي المنفتح ; إذ يرفض «صياغة الحاضر طبقاً لنموذج الماضي ; لأ نّه يرى أنّ مأساة

١٤٧

الحاضر تَشَكُّلُهُ بالفعل على نموذج الماضي ، من حيث القيم والمفاهيم وأنماط السلوك» ...

ودعم حسن حنفي هذا التوجّه حين افترض قراءة اليسار المتجدّد للتراث قراءةً كاشفة «قراءة للماضي في الحاضر ورؤية للحاضر في الماضي». إلاّ أنّ أبازيد يحذّر من التمادي في هذا النوع من التأويل ; خشيةً من ضياع الدلالات التاريخيّة المتنوّعة للنصّ الواحد «فنضحّي بالابتسمولوجي لحساب الإيديولوجي».

نقول : يلعب الحاضر دوراً هامّاً رئيساً في ديمومة الماضي ومعرفة آفاقه وكيفيّة التعامل مع تأثيراته ، ولاسيّما أنّ الماضي وتراثه ليسا جامدين حتى يزولا بزوال أصحابهما.إنّنا نأخذ منهما ما يخدم يومنا وغدنا ، انطلاقاً من كون التاريخ ليس مجرّد عمليّة تدوين للوقائع والأحداث ، إنّ التاريخ بماضيه وتراثه يظلّ حيّاً نابضاً بأفكاره ومضامينه في الوجدان البشري ، إنّه ينعش النفوس ويوقظ الضمائر على وقع القيم والمفاهيم والمبادئ التي كم سعت السياسات والقوانين والتيّارات إلى محوها وطمسها.

أمّا الفكر الحديث فقد اختلف في كيفيّة التعامل مع التراث ، فهناك من يدعو إلى فكّ أيّ ارتباط معه ، انبثاقاً من فصل الأصالة عن الحداثة ، وهناك من هو على العكس ، وثالث يؤمن بالتواصل بين الماضي والحاضر خدمةً للمستقبل وتطويره مع الالتزام بالثوابت والانتماء الذاتي.

١٤٨

من هذا المنطلق اكتسبت مسألة تقويم التراثيّات وإعادة قراءتها على ضوء المعطيات الجديدة أهمّيّةً خاصّة ، ولاسيّما أنّ ذلك يتطلّب نمطاً من الجرأة والشهامة والإقدام ما قد يعدّ مجازفةً أو انحرافاً أو كفراً ، فمثلاً حينما تنقلب الموازين والمعادلات وتتغيّر مناهج العلوم ومقاصدها ويجعل الكلام هو قصد الإنسان نحو الله ، حينها تكون الاحتمالات المذكورة أعلاه واردة ، مع أنّ الدافع لذلك ـ برأي أصحاب هذا التوجّه ـ ليس ترميم الماضي بل تغيير الحاضر ، ذلك حينما لا يكون التراث غاية في ذاته بل وسيلة للتحريك والتغيير.

وفي الوقت الذي يرى فيه محمّد عابد الجابري ضرورة إحداث قطيعة ابستمولوجيّة بين العقل العربي وعصور الانحطاط وامتداداتها فإنّه يؤكّد على وصل المعاصرة بالأصالة ، لأ نّنا ـ حسب تعبيره ـ لا نستطيع أن ننشد الواحد دون ربطه بالآخر.

ويدعو جابر عصفور إلى ابتداع أدوات تفكير جديدة ومقولات تفسير لرؤيا متجدّدة ; ذلك من أجل عدم الوقوع في حداثة أحديّة موحّدة لكلّ تجلّيات الوعي الفردي والجماعي ، إنّما جدليّاً خلق حداثات متعدّدة تنخرط في تطوّر التاريخ وتطويره ، فالحداثة تنقلب نحو مثيلتها أو نقيضتها لكنّها تبقى حداثة وتبتغي التحديث ..

وهذا التنوّع يظلّله حقّ الاختلاف وحرّيّة الاختيار ، الذي يدافع عنه كذلك علي أومليل من جهة نظر ديمقراطيّة مشروعة كما يعتقد ، تذهب

١٤٩

إلى حدّ قبول أيّة رواية جديدة للتراث وإن أتتنا من ملل مختلفة ، وإلاّ وقعنا في دوّامة الاختزال والاستبداد ، الاحتكار والتسلّط.

وفي السياق ذاته انقسم الاستشراق إلى جهتين :

إحداهما : سعت إلى تحميل رواشحها الفكريّة على التراث وبيان نتاجاته طبق بناها ومعتقداتها الايديولوجيّة والفلسفيّة.

واُخرى : تمكّنت من فهم آليّة التعامل الصحيح مع التراث على ضوء ثوابته واُصوله. ومع ذلك ، فإنّ نقّاداً إسلاميّين ، أمثال نديم البيطار وأنور الجندي وهشام جعيط وحازم صاغية وغيرهم ، عدّوا ذلك غير كاف ; إذ سدّ الثاني ـ كما يرون ـ منافذ الفهم الصحيح وضيّق بل أغلق على البحوث والمطالعات والدراسات الدينيّة آفاق الانفتاح والشموليّة ، فالاستشراقيّون حوّلوا هويّة القطّاعات الاستشراقيّة إلى مصاديق من التفكير المثالي ; إنّهم بذلك أظهروا عجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته لتطويرها.

لذا فإنّ أيّة دراسة أو تحليل أو قراءة للتراث ـ سواء كانت منّا أو من الغير ـ لابدّ أن تتناول التراث بأكمله غير مشطّر ولا مفكّك ولا مهملة وظيفة من وظائفه أو عنصر من عناصره.

من هنا فقد بُنيَتْ حقولٌ للخوض في خصائص التراث ومزاياه ، وكانت المشاريع العقليّة هي الرائد فيها ، ممّا أوجد مطارحات ومناظرات ومساجلات حول موضوع «العقل العربي» بالذات وطرحت إشكاليّة مرجعيّة مثل هذه المشاريع ، أو هل هناك عقل عربي حقّاً كما هو رأي

١٥٠

جورج طرابيشي وهشام غصيب .. مع الأخذ بنظر الاعتبار افتقار مشروع الجابري المثالي إلى عدّة نماذج لاستيعاب هذه المرجعيّة المتعدّدة الأطراف ; إذ نظام الثقافة الشمولي لا يتوقّف عند مجرّد تجسيد تصوّرات معيّنة لمستويات الذهن والواقع ، ولاسيّما أنّ العقل يغور في كلّ الأروقة والآفاق.

ولقد بُذِلت جهودٌ من أجل إيجاد «مناطق ثقافة حرّة» تتلاقح فيها مختلف الحضارات والعقول في «هذه المنطقة المحايدة» على ضوء المشتركات والتقاطعات الممكنة .. إلاّ أنّ التباينات الفكريّة والعقائديّة جعلت من التراثيّات ساحة شجار ونزاع لا تلاقي ، رغم كلّ محاولات «الأنسنة الإسلاميّة» التي قام بها البعض من أجل درء هكذا شجارات ونزاعات فكريّة وعقائديّة.

وهذا ما يفسّر برأينا ضرورة التفكير باُطر وآليّات وأدوات اُخرى تجعلنا مثل «كاسب الطهورين» الذي ما إن افتقد أصلاً التجأ إلى أصل آخر يحميه من الانحراف والخروج عن بوتقة الانتماء والهويّة ، الأمر الذي يجعلنا في وقت واحد متمسّكين بثوابتنا واُصولنا وتراثنا المفيد ، منفحتين على الجديد والحديث انتقائيّاً ، أي نأخذ الذي يلائم ثقافتنا وقيمنا ومبادئنا ونترك الذي لا يلائم.

إنّ الإسلام الذي بإمكانه توفير مثل هذه الظروف العلميّة المعرفيّة والواقعيّة ليس «إسلام النفط» كما يسمّيه فؤاد زكريّا وجابر عصفور ، بل

١٥١

الإسلام الذي بامكانه ـ نسقاً ونظاماً ومحتوىً وممارسةً ـ مواجهة الواقع والتحدّيات المفروضة ، الإسلام الذي يتناغم مع حنايا الإنسان وأعماقه ومشاعره. وهذا الإسلام إسلام واحد لا ضرورة إلى تشطيره وتفكيكه إلى إسلامات متعدّدة كما يرى محمّد أرگون ، الإسلام الذي يخضع لثوابت وشروط واُصول واحدة ، واختلاف الفهم والتأويل لا يعني تعدّد الإسلامات ، وإلاّ لعمّت الفوضى في كلّ أركان الكيان حتى في أدقّ خليّة منه ، فلا يبقى للإسلام إلاّ لفظة تقال أو تراث ربما تتذكّره الأجيال أوْ لا.

ولقد استدلّ المدافعون عن الإسلام الذي نؤمن به بالانفتاح والعقلانيّة التي نحملها في أدبيّاتنا وثوابتنا وممارساتنا ، بالدعوة مثلاً إلى نبذ الطائفيّة واحترام كلّ الطوائف والأديان ، بالدعوة إلى فتح أبواب الاجتهاد ، بالدعوة إلى تكريس الحوار ونبذ العنف والتحلّي بقيم الدين الذي يؤمن بالعقل ودوره في إخماد الصراعات والفتن والمغامرات الخاسرة.

نقول : تبنّى بعض النقّاد عندنا اُسساً جديدة للإبداع الفلسفي ذي هويّة عربيّة شرقيّة أو إسلاميّة اجتهاديّة ، ممّا أتاح بناء فضاء رحب في شتّى العلوم والمعارف يُستنشَقُ منه نسيم الأمل بفضاء يزيل الجمود والتحجّر ويعالج قصر الإدراك والفهم لمتطلّبات الحاضر والتطلّعات الجديدة على القاعدة المشار إليها من حفظ الاُصول والثوابت والتعامل الانتقائي مع الوارد والوافد من هنا وهناك. ولا شكّ أنّ الأمر يتطلّب التسلّح بأرقى مراتب البحث والمعرفة والفهم السليم ، وهذا ما يستدعي

١٥٢

استقلالاً فكريّاً نقدّياً ملتزماً بموضوعه محدّداً لآليّات وطرق المعالجة المناسبة.

كما نقول : إن أراد الفكر الفلسفي أن لا يكون منحسراً على ذاته ، سجيناً في دائرته ، فعليه النزول إلى ساحة العمل وميدان الممارسة ، عليه أن يقوم بواجبه الاجتماعي حين يؤازر عامّة الناس ، يحميهم من خلال التثقيف والتوعية ، يراقب أداء الخاصّة ، ينتقد ما هو بحاجة إلى النقد. ولا ننكر عليه خطواته العلميّة الساعية إلى نبذ التشرذم والطائفيّة والانقسام والإرهاب والاستبداد وقبول الآخر والتفاعل مع المتغيّرات تفاعلاً ملموساً.

إنّنا لا نتّفق مع الذين يزعمون الخلاص عبر العلمانيّة بحجّة تحريرها الدين من استغلال السلطة له ، العلمانيّة التي لا تعادي الدين كما يزعمون. فعلمانيّةٌ لا تقف بوجه الدين فهذه مجرّد علاجات وقتيّة وإقناعات طفوليّة بل أماني وأحلام ورديّة ، إلى ذلك فبإمكان الدين أن يقيم النظام الذي يتجاوز ما تخشاه العلمانيّة من سلطة الدين إذا ما فُسّر الدين تفسيراً واقعيّاً مستنداً إلى قواعده الذاتيّة التي لها الإمكانيّة الكاملة في التكيّف مع الحاضر والمستقبل (كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا).

إنّ أمثال سمير أمين وعزيز العظمة جعلوا مفتاح الحلّ السحري في الدولة العلمانيّة التي يرون فيها تجاوز الطائفيّة ، وأ نّها سلطة منفتحة لا تساوم على حرّيّة الفرد ولا تحتكر المجتمع.

١٥٣

أمّا أمثال أنور الجندي فإنّهم يرون في العلمانيّة الخطر الأعظم الذي بإمكانه تمزيق نظام المجتمع الإسلامي وشرذمته.

وليس الفكر الديني بذلك البعبع المخيف الذي يعيق عمليّة التجديد والتطويركما يزعم روّاد العلمانيّة وأقرانهم ، فبالرغم من كونه فكراً يؤمن بالغيب والروحانيّات فإنّه لا يعيش الحاضر والمستقبل بواقع الماضي ، بل يعيش الحاضر والمستقبل بكامل عنفوانهما ، العنفوان المستمدّ قيمه ومبادئه من الاُصول والثوابت التي تدعو بكلّ شفّافيّة إلى الاستفادة من كلّ جديد على قاعدة : «شجرة مباركة تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربها».

ثم أليس المركزيّة الحزبيّة ـ إحدى نماذج الحداثة ـ نوعاً من أنواع الطائفيّة بلباسها وآلياتها الجديدة ، اللهمّ إلاّ أن يقال بخروج «الحزبيّة» من رحم الفكر الديني الأصيل ، وهذا من السخف العجيب حقّاً ; إذ الفكر الديني المعهود هو الذي يتجاوز الانتماءات والتيّارات والأحزاب والطموحات الفرديّة ، فيعيش في الاُمّة حالةً وثقافةً وممارسةً أبويّة تكون على خطٍّ ومسافة واحدة من الجميع ، قانونها وملاكها العامّ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) ، هدفها السعادة الدنيويّة والاُخرويّة.

وهذا الفكر الديني بأنساقه ونظامه وأدواته له القدرة على الإجابة عن إشكاليّة «الفرقة الناجية» التي يعدّها البعض من أشكل المشكلات في مضمار تطبيقات الفكر الديني وممارساته الواقعيّة.

إنّنا حين ندّعي ونلتزم بالفكر الديني نسقاً ومنهجاً ومنقذاً للإنسان وكافلاً وضامناً ، لا يعني أنّنا نغلق على الفكر مجالات الحركة والحوار

١٥٤

والنقد ، وإلاّ كان الجمود والسكون والموت البطيء مصيرنا ، ولنقضنا على أنفسنا التمسّك بقاعدة «شجرة مباركة تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها».

إنّنا لا نتعبّد بكلّ ما هو موجود من فهم وتأويل وتفسير لثوابت الدين واُصوله وجذوره ; فالمراجعة الدائمة والقراءات المختلفة والاستنطاقات الجادّة والتحليلات العلميّة والمقارنات المدروسة والاستقراءات المنهجيّة ، تقودنا إلى استنتاجات ورواشح أكثر تأ لّقاً وعنفواناً ، إلى حصيلة مفعمة بالروح والحركة والنموّ ، تجافي الجمود والسكون المملّ ، تلبّي حاجة الإنسان في الثبات والتكيّف المنطقي مع المتغيّرات.

إنّ النقد الجادّ من أرقى الأدوات والآليّات التي بإمكانها توفير الفضاء العلميّ المعرفيّ المناسب في استدرار الاُصول والتراث رؤىً وبصائر تتجاوز الخلل والنقص والضعف الذي يهيمن على التفكير الديني بين الحين الآخر.

ولا ينبغي لنا ـ أخيراً ـ إغفال الجهود الفكريّة التي شادها أمثال الشهيدين السيّد محمّد باقر الصدر ومرتضى مطهّري وشريعتي وعبدالكريم سروش وعمّار أبو رغيف وداريوش شايغان وغيرهم ، في سياق الفكر الديني ومحاولة الخروج به من دوائره الرتيبة إلى اُفق الفاعليّة والنشاط المطلوبين ، مع كلّ ما يثار على بعضهم من إشكالات وانتقادات أساسيّة ومبنائيّة ، ولا ضير في ذلك أيضاً ; فالنقد ونقد النقد كلاهما رقيبٌ يسعى إلى نشر رسالة هدفها سوق الإنسان صوب القيم والمبادئ الحقّة.

١٥٥

معنى الذات

أشياء ، أحداث ، مواقف ... تبقى تحفر في ذاكرة الوجود الإنساني شواخص تأمّل وتدبّر ومراجعة ، إفرازات ورواشح من الأفكار والأحاسيس المتباينة ... تبني وتهدم ، تثبت وتغيّر ، تؤلم وتفرح ، تفتح وتغلق ، تضيء وتعتم ، تعدل وتظلم ، تحسن وتسوء ...

يظلّ الإنسان والخليّة والجماعة والمجتمع والاُمّة والعالم بأسره يتناقلها جيلاً عن جيل ... يبقى الحسن سرمدياً كما يبقى القبيح سرمدياً ، ولا يمكن التعبير عن المعاناة إلاّ بما يسانخها ، والهجين هجينٌ على كلّ حال ، ولاسيّما أنّ النظم والنظام حاكم بلا إشكال ، والخارج عن كليهما لا محال مصنّف في زمرة الشواذّ والمستثنيات الخارجة عن القاعدة والمألوف عقلاً وعرفاً وشرعاً.

لا يمكن لنا نسيان الحقيقة مهما بذلنا جهداً إضافيّاً لتناسيها وطمسها أو تحريفها وتغييرها ; أنا لا أنسى من أحسن لي كما لا أنسى من أساء لي ، هذه الأنا التي تضيق لتكون ذاتي ووجودي الشخصي وتتّسع لتكون اُمّة وشعباً ومجتمعاً ، لا فرق ، فالأنا هي الأنا وإن اختلفت الكيفيّات والكمّيات

١٥٦

والأماكن والأزمان ، فالعزّة والكرامة تبدأ بالأنا الذاتيّة لينتهي بها المطاف بالأنا المجتمعية والاُممية ، وهكذا سائر الأشياء ومعها الأحداث والمواقف ، فإنّها تنطلق ابتداءً بأنا الخاصّة لتحطّ الرحال بالأنا العامّة .. إنّه نسق الحياة والنهج الذي تترتّب على ضوئه الموازين والضوابط والمعادلات الإنسانيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ; إذن الخطوة الحسّاسة المصيرية تبدأ بنقطة وتنتهي بنقطة : نقطتي الأنا الذاتيّة ونقطة الأنا العامّة.

إنّ صنعة الفكر والمعرفة والثقافة لا يمكن لها التخلّي عن الاُصول والثوابت التي قامت واستندت عليها ، إنّها على الدوام ترصد وتراقب وتلاحظ وتسجّل وتراجع وتستقرئ وتقارن وتحفر وتحلّل وتبعثر وتستنتج وتدوّن ; استفراغاً للوسع نحو استيعاب وضمّ الذات الأعمّ ، وهذا ما ترومه الأديان والمذاهب والتيّارات والأفكار والنظريّات التي تحوم حول شيء واحد وتدّعي شيئاً واحداً : الأخذ بالإنسان إلى الفوز. أو تهدف إلى نجاة الإنسان.

ولا ينجو الإنسان إلاّ :

بالجهل القصوري ، وهذه مرتبة تجعله خارجاً عمليّاً عن مرتبة الإنسانيّة وداخلاً في صنف الحيوانيّة.

أو بالمعرفة على اختلاف مراتبها ، والمعرفة أقلّ ما تعنيه الوعي الذي يسبح في أمواج التفكير ويحلّق في آفاق التأمّل والتدبّر.

وما بينهما ضياع وحيرة وتخبّط.

١٥٧

حديث الذات

أليس لهذه الدموع والآلام مرسى وشفاء؟

إلامَ نحترق بنار الهجر والجفاء؟

إلامَ تستعر الضلوع بلهيب البعد والعناء؟

إلامَ تجثم الآهات على الصدر وتذيب الأحشاء؟

نشكو ندرة الصحبة وشتات الرفاق.

نشكو لواعج الوشي وعلقم النفاق.

نشكو ممّن حفرنا لهم على صفحات القلب عناوين حبٍّ واشتياق.

نسلّي الروح برصف الكلمات علّها تُخمِدُ جمرة الأعماق.

نعلم أنّ ثمن العزّة نفيسٌ مقرونٌ بالمرارة وتضحيات واسعة النطاق.

نبتهل إليك ربّنا ونتضرّع أن تنقذنا من عذاب لا ندري هل نحن استعجلناه أم هو قد عاجلنا في التحقّق والظهور ; حيث لم نعد نطيق عبء الاستعراضات الفارغة وتفاهة القشور .. نروم ذاتاً عارفةً بما تفعل وتقرّر وتقول .. ترفض المرفوض وتقبل المقبول .. تنشد فضاءً يمرّنها ويعلّمها

١٥٨

حقيقة دين الخاتم ومبادىء آل الرسول .. تبحث ممّن وفيمن وإلى من تؤول .. فنحن الذين هاجمتنا الخطايا والذنوب علينا الكدح علّنا ننسلّ من زخارف دنياً سرعان ما تفنى وتزول.

فما جدوى دموع الليل وأهات الخلوات إن لم تقوّم دروب المتاهات وتروّض غليان الرغبة ونار الشهوات؟!

إن استقرّ الإيمان فينا حقّا ، فلا نكترث بطوارق الحدثان حقّا ، حيث المناط يكمن في الحصيلة لمّا تألق وترقى ، حصيلة أن نكون من أصحاب النعيم وجنّة المأوى.

ربّنا اغفر لنا وارحمنا إنّه لا يغفر الذنب إلاّ أنت يا خير مقصود يُرتجى.

١٥٩

حديث القلب

ما تصنع إن خذلك أخصّ ناسك وأقربهم زلفةً إلى ذاتك ، هذا الذي روّيته عشقاً بأعذب الغدير ، هذا الذي تحمّلت وخسرت لأجله الكثير ، منحته أعزّ ما تملك من إحساس وتقدير ، منحته العقل والقلب والذود المثير ; لمّا اقتنعت به رفيقاً ومستشاراً ومخزناً للأسرار ، فصار العمر الذي لا حلاوة له بدونه ولا قرار.

يساوم عليك بالأدنى ، الملاكات القبلية والانتماءات الضيّقة والرغبات الذاتيّة اتّخذها ميزانا ، وأنت الذي تخلّيت عن هذه الملاكات الرخيصة لصالح المبادئ فاتّخذتها شكلاً ومضمونا ..

حينما تستفزّه العاطفة المراهقة وتهيمن عليه ..

حينما ينكر فيك الملاذ والكهف والأمان ، وأنت الذي اخترته حضناً وملجأً ولازلت تحنو عليه.

فأين ترحل بعقلك وقلبك ، بأفكارك وأحزانك وآهاتك ، من ذا الذي يؤويك ويضمّك ويضمّد جراحك ويعوّضك بعض ما فاتك ، من ذا الذي

١٦٠