نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

الثمار وانتشر الخير وعمّت البركة وانحسر الشرّ وتراجع القفر والجدب.

والإنسان مخيّر بعقله وأحاسيسه أيّ النجدين يسلك ، إنّها حرّيّة الانتخاب التي منحها الباري عزّوجلّ لعباده ، كي يستفيدوا من مختلف الأدوات المتاحة استفادةً منهجيّةً معرفيّةً حتى يكون الإيمان إيماناً عن بيّنة ، والكفر كفراً لا حجّة ولا إعذار معه.

ووقوع الاختيار على «فريضة الصيام» كمصداق للبحث ، ليس لسبب خاصّ ، إنّما للفضاء الذي يحدثه شهر رمضان في مجتمعنا الإسلامي من تبدّل وتحوّل في شتّى مجالات الحياة الماديّة والمعنويّة والاجتماعيّة والثقافيّة ... وتلعب الذكريات وأيّام الطفولة دوراً هامّاً في حفظ هذا الشهر الكريم على شريط التاريخ الشخصي لكلّ فرد مسلم حفظاً خاصّاً ، فأنا المسلم لست أنسى جلسات السحر والسحور والدعاء والصلاة وقراءة القرآن ثم تحمّل الجوع والعطش والامتناع عن كلّ المحرّمات المادّيّة والمعنويّة التي ذكرت في الكتب والرسائل العمليّة لمراجعنا نحن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وفرحة الإفطار والجلوس الجماعي على سفرة رمضان الكريم والبرامج الليليّة ، هذا الشهر الذي يكون النوم فيه عبادة والأنفاس تسبيحاً ، بركاته المتواصلة التي تشعر الإنسان بحلاوة الإيمان والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى. أمّا فرحة العيد فإنّها لا توصف والحديث عنها يطول.

والواضح أنّ أحكام الدين مكلّف بها الإنسان ولابدّ من امتثالها ، لكنّ

٢٨١

الامتثال شيء والفوائد المترتّبة على الامتثال شيءٌ آخر ، فربّ شخص امتثل وصام الشهر الكريم ولمجرّد أداء الواجب والتكليف الشرعي وكفى ، ولكنّ الآخر صام أيضاً إلاّ أنّه استفاد من الشهر المبارك في ترويض النفس وتهذيبها وتربيتها وتقوية اُسس الإيمان فيها ، إنّه رفع في ذاته شأن الكرامة والعزّة الانسانيّة وخلق الإرداة الصلبة في مواجهة التحدّيات وتحقيق الطموحات ، وما طموح المؤمن إلاّ بلوغ مراتب الكمال وكشف الحقيقة النورانيّة والعودة إلى فطرة الله التي فطر الإنسان عليها ، لا تبديل لخلق الله.

إنّ تجربة الصيام الناجحة تمنح ثقة عالية بالنفس وتفتح آفاقاً نحو محاولات أكبر ، وهكذا الحال بالنسبة لسائر العبادات إن استثمرت استثماراً صحيحاً كاملاً.

لقد صدّقتُ إمكان تطبيق نظام غذائي صارم نسبيّاً عبر تصديقي إمكان صيام شهر رمضان ، وحينما مارست النظام الغذائي ممارسةً مستمرّة امتلكت إرادةً لم أشعر بها من قبل ، إنّها إرادة الصبر والتحمّل والمقاومة وعدم الخضوع والمساومة ، ممّا منح شخصيّتي قوةً وصلابةً استطعت بها تحقيق جملة أهداف طالما كانت أحلاماً يصعب حصولها على أرض الواقع ، وأصبحت أشعر بلذّة امتلاك التصميم والقرار والاختيار ، وما عدت أكترث كثيراً بالمغريات التي تصادر حرّيّتي واستقلالي وتبتزّ عزّتي وكرامتي ، فانفتحت أمامي فضاءات من التحوّل والتطوّر والنموّ على صعيد الفكر والثقافة والمعرفة التي ساعدتني كثيراً

٢٨٢

في إيجاد الآليات والأدوات اللازمة على طريق الاكتفاء الذاتي وعدم الاتّكاء على كلّ من بإمكانه مصادرة استقلاليّتي وكرامتي وحقوقي.

وأنا الآن أجني حصاد الدرس الذي تعلّمته واستفدته من شهر رمضان وقانون الصيام ، إنّه حقّاً شهر الخير والبركة والرضوان.

٢٨٣

بمَ اُفكّر وماذا اُريد؟

لا مفرّ عن قانون الحياة الحاكم بسلسلة واجبات ومنهيّات ومباحات ومكروهات ومستحبّات ، ولا أعني بها الأحكام الخمسة الشرعيّة التي نتداولها فقهيّاً ، بل الأحكام المتعلّقة بالإنسان على نحو لا بشرط ، فإنّه كي يبقى لابدّ أن يلتزم جملة اُمور ويمتنع عن اُخرى ويتخيّر في ثالثة ويحبّذ رابعة ويكره خامسة.

ولا نقصد بهذا النظام والقانون مسائل الحلال والحرام والطاعة والعصيان والكفر والإيمان ; إنّه نسق الاستمرار ونهج الدوام ، وبما أنّه نسقٌ فهو بحاجة إلى أدوات ومؤن وآليات أوّلها العقل ثم المشاعر والأحاسيس ، ووجود المشاعر والأحاسيس هنا وجود فاعل ومؤثّر في دفع العقل إلى جدولة الأولويّات ورسم خارطة طريق منطقيّة للوصول إلى المطلوب ، ولاسيّما أنّ الغريزة تشكّل عامل ضغط كبير كي ينشط العقل وينتج الأفكار المثمرة ; على أنّ ثمار الأفكار مرتبطة ارتباطاً عضويّاً بخلفيّات التكوّن البيئي والثقافي والاجتماعي والايديولوجي.

٢٨٤

كلّ «أنا» هي واحدةٌ لا غير ، «أنا» التي تعقل وتشعر وتحسّ ، حالها حال كلّ «أنا» سواها.

بناءً على ذلك : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد أنا؟ علماً بعدم إمكان استبدال الأنا العائدة لي بأنا الغير ، ولا أستطيع أن أحلّ محلّها في التفكير والإحساس والشعور ; وفرقٌ بين إدراكي ومشاطرتي وتفهّمي لفكر وأحاسيس الغير ، وبين حلولي محلّ الغير في التفكير والإحساس أو استبدالي لأناه بأناي ; فلكلّ إنسان عقل وأحاسيس منحصرة به فقط كما هي بصمات الأصابع والعين ونظائرهما.

انطلاقاً من ذلك أعود ثانيةً فاُكرّر : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد أنا؟ لا شكّ حينئذ أنّ الإجابة ستكون تعبيراً عن مكنونات ذاتيّة مكوّناتها جملة آراء وتصوّرات وطموحات وأحاسيس ومشاعر يخالطها الكثير من القضايا والمسائل التي تدور في أروقة العقل والقلب.

لا أدري قد أحمل في فضاءات العقل بعض ابتكارات وإبداعات واكتشافات ، وقد لا أحمل ذلك ، لا أدّعي شيئاً ، لكنّي كأيّ إنسان أنبعث من زاويتي ، هي الزاوية بما تحمل معها من انتماء وهويّة وثقافة وتاريخ ومتابعات وآلام ومعاناة وطموحات وآمال ومشاهدات ومواقف وأفكار وتجارب وخصائص.

ولا شكّ أنّ التناسب طردي بين نوعيّة الأداء ـ أعني به الجواب عن السؤال المطروح أعلاه ـ وبين طبيعة الثقافة والمعرفة والهويّة التي تعرّفني

٢٨٥

واُعرَّف بها ، بما في ذلك مزايا الضبط والدقّة والإحاطة والاتّزان والموضوعيّة والعمق والتأثير والواقعيّة.

وقد يصعب عليّ الجواب بشفّافيّة تميط اللثام عن حقيقة ما اُفكّر به وماذا اُريد ، فإنّنا ـ نوعاً ـ نحتفظ بحقائق ما يدور في أعماق ذواتنا احتفاظاً محاطاً بحراسة مشدّدة مع مراعاة كافّة الجوانب الأمنيّة التي تحول دون الفجوات والثغرات وارتكاب الأخطاء ـ أعني الأمنيّة ـ فنحاول دوماً التمويه والمناورة لإغواء وإغفال الغير وإفشال مساعيه الرامية إلى كشف الحقيقة ; فكيف لي إذن كشفها على الورق الذي سيبقى ويكون وثيقةً وسنداً قد يستعمل كدليل إدانة ضدّي في يوم من الأيّام.

إلاّ أنّني سأقول الحقيقة يوماً ما عبر أيّة آليّة كانت ، الحقيقة ذاتها ، وربما ليس كلّ الحقيقة ، لكنّ الذي اُدوّنه اُريد له أن لا يخرج عن نطاق الحقيقة أبداً ، وسأبقى حريصاً على قول الحقيقة وإن لم تكن كلّ الحقيقة ; لأ نّني إن مُنعت ذاتيّاً أو خارجيّاً عن الإدلاء بالحقيقة فهذا لا يعني أنّني سأتوقّف بل سأستمرّ في بيان الحقيقة ولو بعضها ; فقول الحقيقة ولو ليست كاملةً أفضل من دثرها وطمسها ، بل وأفضل من قول غيرها.

نعم ، إنّما البحث في : كيف لي إصابة الحقيقة وأنا أسلك خلافها ، كيف لي فهم الحقيقة وأنا اُجافيها ، كيف لي قول الحقيقة وأنا أسمع غيرها ، كيف لي كتابة الحقيقة وأنا أقرأ غيرها ... لذا بات عليّ معرفة سبيل الحقيقة كي ألج فضاءها فأسمعها ثم أفهمها كي لا أقول ولا أكتب غيرها ..

٢٨٦

إنّه مسلكٌ وعرٌ صعبٌ مرير يقتضي مقدّمات وشروطاً على ذات السنخيّة.

بعبارة اُخرى : إنّه منهج تهذيب النفس والتسلّح بمزايا العقل العملي المصطلح عليها «حالة الوعي» حيث يتّحد العلم والعالِم والمعلوم ، وحيث يتميّز الحسن عن القبيح تميّزاً إدراكيّاً ، ممّا يعني العثور على جواب لسؤال الحياة الكبير ، واستيعاب مفهوم التوحيد استيعاباً تكامليّاً ، والانتفاض والخروج والتمرّد على صفات وعوامل النفي كالشهوة والشهرة والقدرة والثروة .. إنّه الدين الذي يقود إلى الحقيقة ، حقيقة الإنسان بما له وعليه وما ينبغي وما لا ينبغي له.

إنّ «الوعي» المشار إليه ـ الحاصل بعد تحقّق شروطه ـ يعني التسليم والقبول الواعي الناشئ عن قناعة اشترك في تحصيلها العقل والحواس .. إنّها إغارة بصائريّة حسّيّة معرفيّة في ثنايا الذات استدعت بحثاً وتنقيباً واستقراءً ومراجعةً وتحليلاً ومقارنةً وحفراً واستنتاجاً .. إنّها حركة تمرّد على الخضوع والخنوع والكسل المنبعث عن التسليم بدين الآباء ، ففي كذا تسليم وإن كان «المسلَّم به» صحيحاً سليماً لكنّ «المسلِّم» يفتقد غالباً مقوّمات «الوعي» المعهود ، ممّا يمهّد للتزلزل والانحراف والضلال بفعل تحرّك عوامل النفي ـ الشهوة والشهرة والثروة والقدرة ـ تحرّكاً يبعد الذات الإنسانيّة عن فضاء التوحيد ; إذ لا علم ولا عالِم ولا معلوم ، فلا وعي ; وبذلك يفتقد مفهوم الغيب موضوعيّته في الذات ، فتنفتح آفاق الرفض والإلحاد على مصراعيها بعد انغلاق الروح ، تلك الروح التي تعقل وتحسّ وتتأمّل وتتدبّر ، فإذا ما أفلت هذه الروح

٢٨٧

أو ماتت مات الباعث على تحريك الذات صوب معايير الوعي والتوحيد والإيمان.

بناءً على ذلك : بِمَ اُفكّر أنا ، ماذا اُريد؟ فعلى القاعدة المألوفة : اُفكّر بما تمليه عليّ ثقافتي وانتمائي وطموحاتي ; والحوادث المشاهدة والمسموعة والمقروءة ـ مضافاً إلى الحاجة النوعيّة ـ ذات الأثر الهامّ في تفكيري ..

أمّا الإرادة فإنّها على ارتباط وثيق بالتفكير ، بل هي من نتائجه وثماره ; فالباعث والمحرّك والداعي إلى الشيء هو العقل أوّلاً ثم الحسّ ـ ويرى آخرون العكس ـ ; ذلك على ضوء النسق والمنهج العلمي والمعرفي ، وهذا ما يوفّر فضاءً طردياً تجانسيّاً ابتداءً من مرحلة الثبوت إلى آخر مرحلة الإثبات ..

أمّا إذا غلب الحسُّ العقلَ فلا ضمان للتجانس والتناسب الطردي. نعم ، قد يتحقّق ذلك ، لكنّه تجانس وتناسب السلب مع السلب لا الإيجاب مع مثيله.

إلى ذلك : فإنّ الرقيّ الفكريّ ينقل الإنسان من فضاء السلب إلى فضاء الإيجاب ، بفعل المعايير المعرفيّة وأدواتها العلميّة التي تجرّده شيئاً فشيئاً من عوامل السلب وتهيّئ له وسائط الانتقال إلى آفاق الإيجاب رغم ثقافة الانتماء المعاكسة ونوع الطموح الآني ، فإنّه ينهض حينئذ بذاته أوّلاً ثم بانتمائه وثقافته إلى ممارسة واعية قائمة على التفكير المعياري المستند إلى تلقٍّ وفهم وإثبات سليم ، ولاسيّما إن كان على علاقة طيّبة

٢٨٨

ووثيقة بالاُصول والثوابت ، فإنّه ـ بما يمتاز به من فكر معياري نسقي ـ متمكّن من تجاوز مختلف الإشكاليّات الزمانيّة والمكانيّة وما سواها.

الإنسان مركّب عقلي حسّي ، مادّي روحي .. اُولى نقاط الحركة فيه ووسائطها ومقاصدها تبدأ بالمصالح ، «فيمَ يرى صالحه وطالحه» رؤية تستخدم كلّ مكوّناته وتستنهض جميع قواه لأجل البلوغ .. ولكي يفهم الصالح والطالح ونيل المراد فإنّه يحفر في ذاته جدولاً ، يقارن فيه ويحلّل ويستقرئ ويفترض ويراجع ويحفر ويستنتج ، والاستنتاج السليم متوقّف أساساً على المقدّمات السليمة ، على الصدق مع الذات والواقعيّة في الفهم والتلقّي العقلي والشعوري ، ونعني بالاستنتاج السليم ألاّ يستوي يوماه فيغبن ذاته ، وغبن الذات أوّل ما يبدأ بغياب الجدول والمنهج والنسق المشار إليه ، فإذا ما افتقد النظم الفكري في ذاته افتقد كلّ شيء ، وكان التراجع سمته على الدوام.

إنّنا جميعاً نبدأ بطفولة وننشأ على رغبات وطموحات بحجم تلك الطفولة ، لكنّها تأخذ محتوىً وقالباً آخر كلّما بدأ الجدول المعهود فاعليّته على صفحات العقل ، وهذا الجدول بذاته يتغيّر محتواه بين الفينة والاُخرى تبعاً للتطوّر الحاصل ، أعني به الاستنتاج المترشّح عن تلك الأدوات والآليّات المعرفيّة المشار إليها ، لكنّه يبقى معنا باستمرار حيث يتغذّى على نتائج الفكر والحسّ ، التي تأخذ مكانها الموضوعي كلّ مرّة لتخضع كسالفها لعمليّات المراجعة والاستقراء والمقارنة ...

٢٨٩

إنّ جدول الفكر أو الفكر الجدولي يمنحنا فضاءً مترامياً من الحركة والفاعليّة والنشاط ، ويوفّر فرصاً أكثر للتلاقح والحوار والتقارب والاندماج ، ويفتح أبواباً عمليّة لممارسة قائمة على العدل والإنصاف ، ويؤسّس لحياة ملؤها الأمن والحبّ والسلام ، ويجعل «الصالح» مستنداً إلى القيم والمبادئ السليمة ، فيكوّن فهماً كافياً لمعنى «الطالح» ، الأمر الذي يبني أساساً واعياً لمحاور الطاعة ـ حيث يجب العمل ـ والعصيان

ـ حيث يجب الترك ـ ويقود إلى الفلاح ; وتلك هي غاية الإنسان في الحياة ، غايته مهما اختلفت الأذواق والمشارب والانتماءات (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) (١).

إنّني ـ إذن ـ حينما اُفكّر إنّما أبحث عن ذاتي أوّلاً ، فإذا وجدت ذاتي فقد عثرت على كلّ شيء صغيره وكبيره.

ولابدّ لي من الإقرار بأنّ التفكير وإن كان عمليّة عقليّة ذهنيّة ، لكنّها توظّف وجود الإنسان ـ مادّيّه ومعنويّه ـ لأجلها ، مقترنةً بسلسلة مخاضات وآلام وتضحيات ، فالروح الحبلى باللذّة والشهرة والقدرة والثروة إن لم تُجْهَض بنواقضها كان الوليدُ ضالاًّ لا محال ; أمّا الروح الحبلى بذاك الوعي المترشّح عن اتّحاد العلم والعالِم والمعلوم فإنّها تلد الفلاح لا غبار.

لا غموض ولا إبهام في ذلك ، إنّما المشكلة في الروح التي تتأرجح

__________________

١. سورة الإسراء : ٨٤.

٢٩٠

بين النقيضين ، فلابدّ من الحسم آنذاك ; فلا منطقة وسطى بين الفلاح والضلال ، بين الإيمان والكفر ، بين الجنّة والنار ، وبتعير الاُصوليّين : لا إجماع مركّب في المسألة ، حيث لا قول ثالث فيها. فلا فرار من الانتخاب : إمّا هذا وإمّا ذاك ، وليس الانتخاب إلاّ انتخاب البحث عن الذات ، فإن كان كما ينبغي له أن يكون كان الفلاح المبين وإلاّ فالضلال والخسران المشين.

٢٩١

أتمنّى

أتمنّى لو أعيش كما اُريد أنا لا كما يريد الآخرون منّي.

أتمنّى لو اُعبّر عن مشاعري وأحاسيسي دون قيود وشروط.

أتمنّى لو أحيا السعادة التي أنشدها أنا لذاتي.

أتمنّى إرضاء نفسي لا إرضاء الآخرين.

أتمنّى الاستمتاع بحياتي طبق ما اُحبّ لا كما يحبّ الآخرون.

أتمنّى لو تتحقّق رغباتي التي لازالت مجرّد أمانيّ وأحلام.

أتمنّى مقابلة أصدقائي القدامى بين الحين والآخر.

أتمنّى ... وما أكثر التمنّي.

كثيرةٌ هي الأشياء التي منعتُ نفسي عنها أو لم أستطع بلوغها ونيلها ، فأعدّ حياتي ناقصةً دونها ، وأغبط الآخرين ـ ولربما أحسدهم ـ كونهم بلغوها ونالوا منها.

وكثيرةٌ هي المزايا التي تمنّيت لو كانت متوفّرة بي لأستفدت منها في تحقيق هذا المراد أو ذاك المقصود.

٢٩٢

غالباً ما ألمس أنّي أعيش لغيري ، لإرضاء الآخرين ، غير مكثرت بذاتي ، ولا مهتمّاً بإرضائها ، أليس حركة الحياة بمختلف مفاصلها تبدأ من الذات ثم إلى خارجها؟! فلماذا نبدأ بالغير وننتهي بذواتنا؟! أليس الوهم والشكّ والظنّ واليقين تبدأ كلّها من الذات ثم تنطلق إلى خارجها؟! فلِمَ العكس؟!

الأجدر بي : بناء ذاتي وتوفير احتياجاتها كي تتماسك وتتكامل وتسمو ، ثم أتحرّك صوب الآخر ليؤثّر به ما أثّر بعقلي وقلبي وروحي ، وإلاّ فحركتنا ما هي إلاّ عبث وهراء ، بل السكون أفضل ، فلعلّ في السكون لا يحصل التراجع ، بخلاف حركتنا الطائشة التي ستخلق مزيداً من احتمالات الفشل والانتكاسات المريرة.

أتمنّى لو أعيش كما اُريد أنا لا كما يريد الآخرون .. أن تكون القناعة قناعتي ذاتيّاً وإلاّ فكلّ شيء في مهبّ الريح .. لستُ عبداً سوى له تبارك وتعالى ولا إيمان إلاّ به وبرسله وأنبيائه وأوليائه المنتجبين (عليهم السلام) ، وما عدا ذلك «فَذَرْهُ في بقعة الإمكان».

إنّنا محاصرون ، مكبّلون ، مرغَمون ، محاطون بشواهق التعبّد والاستبداد والاستغلال والظواهر والقشور والرغبات والتسلّط والعنف .. الجور يصول بنا ويجول ، كبت الأفكار قائم ، مصادرة الأفكار واضحة كشمس النهار ، هذا حال اُمّتنا ومجتمعنا ، أمّا المناوئ فهو يعدّك تارة إنساناً من الدرجة الثانية واُخرى كافراً ضالاًّ ينبغي حذفك .. وليس لدينا

٢٩٣

من خيارات سوى أن نلبس لباس النفاق والببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّفيّة ، متذرّعين غالباً بيافطة «التقيّة» التي اُسيء فهمها على مرّ السنين والأيّام .. أو أن نصمت ونصبر ونتحمّل .. أمّا أن نلج ميدان الصراع فلابدّ أن نلبس جلباب الخطر والمجازفة بكلّ شيء.

٢٩٤

معنى العشق

كثيراً ما اعتقدت أنّي أفهم العشق ومعناه وأعيشه في حناياي عمقاً واعياً .. لكنّي مخدوعٌ كما يبدو لي ، مخدوعٌ بسلسلة تصوّرات بدائيّة لا تفهم منه ولا تعي من قيمه إلاّ اليسير.

إنّ جَسْر الهوّة الفاصلة بين الادّعاء والحقيقة يفتقر إلى كمٍّ هائل من الموطّئات الإنسانيّة والشعوريّة والمعرفيّة التي لا يمكن لها التبلور بين ليلة وضحاها ، بل قد تستنزف العمر كلّه ..

إنّه إشراقة نورانيّة تملأ القلب وتضيء الباطن وتفعّل العقل فترشح عطاءً وهاجّاً يملأ آفاق الروح وصلاً وذوباناً وإيمانا ...

إنّ العشق يعني الحياة ، الحياة التي تتدفّق شوقاً وهياماً وولهاً إلى المحبوب الذي رسى على ضفاف الجنان بكلّ جمال وعنفوان ; إنّها حالة الحبيب لمّا يندكّ في المحبوب ، لحظة الكمال الإنساني المنشود ، لحظةٌ ما أعبق أريجها وأسنى وهجها ..

فهلاّ من سبيل لبلوغ ذلك العشق السرمدي؟! فنرقص على أنغامه وترانيمه رقصَ الثمالى ، ثمالى العشق الإلهي؟! أم للعشق أُناسه ، أمّا نحن

٢٩٥

فمتطفّلون لا تزيدهم الحيرة سوى حيرةً وضياعاً؟ اُناسه الذين صاغوا من موطّئاته سبيلاً إلى شامخ اليقين بنهج العارفين فنالوا وفازوا .. اللّهمّ احشرنا فيهم.

٢٩٦

الفنّ الإلهي

قفر الصحراء الكئيب وشموخ الرواسي المخيف وغور الوديان العميق وترامي البحار الرهيب وصور الرحيل الأليم وحال المدن المرئي بما فيها من حركة وضجيج ... تثير فيَّ حسّاً من الرجوع والعودة إلى الذات ، تمنحني فرصة اللوذ بمفاهيم القناعة والهدوء والاسترخاء ; إنّها ارتجاجة أعماق تبدأ بهالة من الحزن المطرّز بالكآبة الخانقة التي سرعان ما تتلاشى وتضمحلّ ليفور بدلها شعورٌ بالطمأنينة والحاجة إلى الارتماء في أحضان ناعمة دافئة ، إلى ملاذ وملجأ يحميني من غربتي ووحدتي ، لا أدري علّها مرتبة من مراتب العشق ، إذ الحبيب يعني كلّ ذلك ، بل أجمع وأمنع .. شحنات العشق تمنحنا الأمان والسلام والوثوق بخطى الانطلاق صوب المعشوق ، المعشوق المقصد ، المعشوق المراد.

الإنسان ذروة الفنّ الإلهي ، والفنّ عشق ، فهلاّ كنّا في أدنى مراحل الوفاء والإخلاص إزاء صانع الفنّ المطلق؟! إنّنا نغرق في محيط الأحاسيس الجاهلة ، في بحار الأحلام الزائفة ، في أنهر الصور الزائلة ... إذ غاية ما فهمناه من العشق هو الدوران حول امرأة جميلة المفاتن رائعة

٢٩٧

المشاعر ، أو حول سائر النظائر .. دون أن نعرف المعشوق المقصد الذي لابدّ أن تهفو له كلّ القلوب والألباب .. إنّها معرفةٌ ستظلّ حتى في أعماق أغلب المدّعين مجرّد التزام نظري يفتقد الإنجاز.

٢٩٨

مكمن السرّ

لا أعلم مكمن السرّ أين ، فلمّا أطلب حاجتي من السماء أطلبها بضغط مثير على جسدي ، أشدّ على دماغي ، على جوارحي ، اُحسّ أنّ كلّ دمي يتجمّع في هامتي فيكاد يتدفّق من أنفي ، تكاد عيناي تخرجان من رأسي ، بهذا الحال أعتقد أنّ حضور القلب والعقل والروح قد حصل ، حينها أطلب حاجتي ، أيّاً كانت : استغفار ، توبة ، طلب أمان ، قضاء أمر مستعصي .. والأهمّ هو ذلك الشعور الذي اعتدت عليه ، الشعور الذي يرافق تلك الحالة ، الشعور الذي يؤكّد طلب حاجتي بصفاء وحضور قلب وعقل منقطع النظير ، الشعور الذي يهتف في أعماقي أنّ حاجتي سيقضيها المولى القدير. لا أدري لعلّ الجميع لمّا يتفاعل ، أعني الجسم والروح والعقل ، تحصل النتائج المرجوّة ; إذ الإنسان خُلِقَ على الفطرة ، ولعلّ المعهود نوع من الرجوع إلى الفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها ، لذا تراني أشعر بالأمن والطمأنينة وأنّ هاتفاً يناديني : أبشر ، فَلَكَ من السماء منحةٌ ولك من ربّ العلى قرائنُ وإشاراتُ خير سغبى.

٢٩٩

أيّ ملاذ أروم؟

حينما تفتقد ظلاًّ يحميك وملاذاً يؤويك وقلباً يحنو عليك وسنداً تتّكئ عليه وصدراً تودعه الأسرار وعقلاً تستشيره فيشير عليك .. تلمس الوحدة بأمرّ صورها ومصاديقها وتعيش الغربة بأقسى حالاتها ، فتودّ لو أنّك تبكي بكلّ الدموع وتصرخ أشدّ الصراخ كي تخفّف الضغط الرهيب الذي يكاد يهشّم عظام صدرك ويفتّت قلبك وفؤادك .. إنّك والحال هذه تحترق بلهيب الزفير فلا تجد ما يكفيك من هواء الشهيق كي توازن به ذلك الاحتراق ، وكلّما تنفّست ضاق بك الفضاء الرحيب ، تتمنّى لو أن كلّ هواء العالم لك كي تهرب من هذا الاختناق المميت.

ما أشدّ اشتياقي واحتياجي إلى أُمّي وأهلي ، إلى تلك الصحبة البعيدة ، إلى تلك الشريكة النائية ، إلى ذلك الحكيم القاصي ، إلى ذلك المكان الذي ضمّهم والزمان الذي عاشوا فيه ، وهل تولد الأشياء ثانيةً بعد موتها؟!

ليتني نائماً كي أستيقظ من هذا الحلم الحزين ، لاُزيح عن جبهتي طيفاً أليماً أفقدني أثمن ما أملك وأغلى ما أُحب وأشدّ ما أحتاج.

٣٠٠