نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

الشوق حركة النفس إلى تتميم ابتهاجها ، بتصوّر حضرة محبوبها ، وهو من لوازم المحبّة وذاتيّاتها ; إذ النفس أبداً تحنّ إلى من تحبّ ، ولا يكون إلاّ لمن علم من طرف وجهل من آخر ، فتحرّك المحبّة لذّة ما أدركه إلى طلب ما لم يدرك. ولا ينقطع الشوق إلى الاستكمال بالله في الدنيا ولا في الآخرة.

قال أحمد الكمشخانوي النقشبندي في جامع الاُصول (٦٢ ، ٣) :

الشوق وهو على ثلاثة أقسام : شوق العامّ وهو إلى الدنيا ، وشوق الخاصّ وهو إلى العقبى ، وشوق الأخصّ وهو إلى المولى ، فمن اشتاق إلى الدنيا اشتاقت النار إليه ، ومن اشتاق إلى العقبى اشتاقت الجنّة إليه ، ومن اشتاق إلى المولى اشتاق المولى إليه.

وقال في ص ٢٧١ ، ١٩ : الشوق ففي اللغة احتياج القلب إلى لقاء المحبوب ، وكذلك هو في اصطلاح أهل الحقيقة ، حتى قال بعضهم : هو احتراق الأحشاء وتلهّب القلوب وتقطّع الأكباد ، وقيل : علامته قطع الجوارح عن الشهوات ، وقيل : علامته حبّ الموت مع كون الإنسان في العافية والراحة.

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف (٣٠٩ ، ٨) : الشوق إلى لقاء الله تعالى إنّما يكون بمحبّة الموت ، وذلك لا يقع غالباً إلاّ عند خوف ضرّاء مضرّة في الدنيا أو فتنة مضلّة في الدين ، فأمّا إذا خلا عن ذلك كان شوقاً إلى لقاء الله عزّوجلّ.

٣٢١

قال أبو حامد الغزالي في إحياء علم الدين (ج٢ ص٣٤١ ، ٢٤) : كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال : قلت ذات يوم : يا ربّ! إن أعطيت أحداً من المحبّين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضرّ بي القلق. قال : فرأيت في النوم أنّه أوقفني بين يديه وقال : يا إبراهيم! أما استحييت منّي أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه ، فقلت : يا ربّ ، تهتُ في حبّك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلّمني ما أقول ، فقال : قل : اللهمّ رضّني بقضائك وصبّرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك. فإنّ هذا الشوق يسكن في الآخرة.

نقول : من الحيف أن يكون الشوق شرّاً وفيه من المدارج ما تسمو بها النفس إلى حيث لقاء المحبوب ، وأيّ محبٍّ هذا الذي انطبع بالشرّ وانسلخ عن الخير؟! فلابدّ للشوق إذن أن يكون خيراً تتحرّك به النفس إلى معشوقها ، وهل معشوق أجمل وأجلّ منه جلّ جلاله؟!

وأجمل ما في الشوق معرفة غايته ، وللمعرفة اُصول ومناهج واُسس إن حصلنا عليها أدركنا معنى الشوق الحقيقي وأ نّه إليه تبارك وتعالى ذلك الاشتياق الذي لا تهدأ به النفس بعد اللقاء ، بل يتضاعف ويزداد إليه جلّ وعلا ..

إنّه لا يتخلّى عنّي أبداً يجرّني إليه وأنا أبتعد عنه ، تبعدني عنه شهوتي وجهلي ، فأعتقد واهماً أنّي أطلب شيئاً من دنياي غافلاً عن كوني أطلبه

٣٢٢

بالفطرة ونداء العقل ، وهكذا أعدو فأنال الشيء تلو الشيء لكنّي لازلت طالباً ... إنّني أطلبه غير أنّي غارقٌ ببحر لذّتي وحضيض بهيميّتي فلا اُدرك حقيقة طلبي ... ويظلّ بانتظاري إلى الرمق الأخير ، وأظلّ اُكابر ; لأ نّي لم أعرف معنى الحبّ والشوق والعشق والاشتياق والخاطر والميل والاعتقاد والهمّة والعزم ، فأحبس عنّي لطفه وعنايته بجرمي وجريرتي ، باختياري وعنادي ، وهو لم يزل أرحم عليّ من كلّ شيء.

إن فهمنا المقصد النهائي وأ نّنا لا محالة سائرون إليه ، وأ نّه الجمال المطلق والمراد المطلق وغاية الغايات ومنتهى الطلبات والباقي بعد فناء الأشياء ، فأيّ حبيب حينئذ أحبّ منه وأيّ معشوق أعشق منه وأيّ جميل أجمل منه وأيّ مراد أنول منه وأيّ غاية أغيى منه وأيّ طلبة أطلب منه وكلّها زائلة دونه؟! فهلاّ سرنا إليه وقصدناه سيرَ معرفة وقصدَ علم ويقين ...

٣٢٣

يا صاحبي

يا صاحبي ، قف هنيهة وتأمّلني ، فلقد جئتك أسعى رغم همومي ، أسعى والحبّ مركبي ، الحقيقة رغبتي ، الصدق هدفي ، لا شكّ أنّ لي من الأوزار ما تكفيني ، إنّها تؤرّقني وتؤلمني وتمثّل كابوساً لا ينفكّ عنّي أبداً ، فأنا أعرف خطاياي ، فمهما كدحت لتطهير ذاتي أو استعضت بطرق الخير كي أنجو منها يبقى «هاجسي» رفيقي الذي لا يفارقني.

جئتك لا كمن جاءُوك حينما حمل أحدهم لواء الاستقلال لكنّه ازداد ذيليّةً فوق ذيليّته وتبعيّةً فوق تبعيّته.

ولا الثاني الذي أراد أن يصنع منك صنماً ليعبده فلا يقبل بك الخطأ أبداً.

ولا الثالث الذي يسبّح بحمدك علناً ويبثّ شكواه منك سرّاً.

ولا الرابع الذي يعني له السكوت : الطاعة والقفز إلى منصّة العزّ التي طالما حلم بها.

٣٢٤

ولا الخامس الذي اشترى منك ـ بل أخذ جلّ ما لديه مجاناً ـ ليبيع عليك بغالي الثمن.

ولا السادس الذي همّه وغمّه تقمّصك في صغيرتك وكبيرتك.

جئتك لأكون لك أخاً وصديقاً وسنداً وعمداً ، عارفاً بجميلك أبد ما حييت ، واقفاً على مواطن الشيمة والمروءة والوفاء والصدق والالتزام لديك ، شفّافاً يكشف ما يجول في ذهنه وصدره وحناياه من تساؤلات وآهات وآلام ، هكذا جئتك ..

لكنّك يا صاحبي فهمتني فهماً آخر أنا بريءٌ منه براءة الذئب من دم يوسف ..

٣٢٥

خذلان الصاحب الرفيق

حينما لا تجد من تلوذ به وتشتكي له لواعجك وآلامك ، حينما تبحث عن القلب الذي ينبض بالحبّ فلا تعثر عليه ، والصدر الذي يضمّك ويحميك فلا أثر له ، حينما تكتوي بمرارة المعاناة والأحزان فلا معين أو مواسي ، حينما ترى وأنت تكابد الوحدة ألاّ شريك ولا أنيس ، حينما يقطّع ا لهجران أحشاءك وأوصالك فلا وصل ولا قرب ، حينما تفتقد من يهتمّ بك وتبدو شيئاً مهملاً لا جدوى منه ، حينما تكون عبئاً ثقيلاً على كلّ من أحببت وأجللت ، حينما ينفر منك الأحباب والأصحاب وأنت تحفر لهم على صفحات القلب رسم العشق والإكبار ، حينما تبدو مُعدياً وتخشى الناس الدنوّ منك وما سواك تختار ...

حينها تبغض نفسك وتنفر من كلّ ما فيها ، وتودّ لو تغادر بلا كرّة وإياب ، إلى حيث لا ذكر لك ولا أثر ، لتريح وتستريح ، لتغمض جفنيك وأنت منسلخ عن كلّ الأشياء التي أودت بك إلى هذا الحال ، لتبكي وتنهمر الدموع على خدّيك وأنت تعلم ألاّ ناصر لك ولا معين ، فتستسلم ذلك الاستسلام المحض إلى ربّ الرحمة والحنان ، علّه يشفق بك ويرأف

٣٢٦

بحالك فينتشلك من حضيض ما أنت فيه إلى حيث يقرّك ويُهدي منك العقل والجنان.

لا ألوم إلاّ نفسي لمّا أوردتها هذا المورد وأقحمتها هذا الفضاء ليتشاركا في ما أنا به من الخيبة والحزن والهموم.

إنّما خيبتي إذ وجدت أنّ سوق العزّة والكرامة الإنسانيّة لا رونق فيه واُناسه قليلون ، فالغالب منهم قد اختاروا مهن التزلّف والنفاق والصنميّة والببغائيّة والذيليّة ... ففيها من الأرباح والمنافع ما يسيل معها اللعاب ، فلا ضير أن تركع الجباه ويجفّ ماء الوجوه ، ويصادَر الكبرياء ، وتُنتهَك القيم والمبادئ ... مادامت النفوس طيّبة طربة بما يغدق عليها السلطان ويتصدّق!!

أنا أعلم أنّ الطريق الذي اخترته فيه كثير من الآلام والتضحيات والأضرار ، إلاّ أنّ ذاكرتي بقدر ما تسعفني أجدني أرفض الذلّ والخضوع بمختلف ألوانه وأدواته ، ولا اُساوم على شخصيّتي مهما تمكّنت ، وبقدر ما أحمل في قلبي وعقلي وحناياي من حبٍّ وإجلال واحترام للناس فإنّي أنتظر منهم المثل ولا أطلب المزيد ; أمّا أن تُختبَر كرامتي أو يزايَد عليها فلا يجدوني إلاّ ذلك المقاوم العنيد.

سأبقى بفكري وأحاسيسي وضميري رهين مبادئ لا أنفكّ عنها أبداً ، مفاهيم ومعاني لا ترتضي لي الذلّ والخنوع ، وتشحذ بي همّة الشموخ الإنساني الرفيع ، فأنا عبد إله وربيب مدرسة ترفض فيّ الضعف والهوان

٣٢٧

وتدعوني إلى حفظ الشأن وتدعيم التماسك الذاتي الديني ، ونحن إذ نخلّد رموزنا وأعلامنا إنّما نخلّد فيهم حفظ العزّة والشأن الإنساني والمبادئ الحقّة لا غير ، فلنا بهم ـ من هذا المنطلق ـ خير اُسوة وأرقى انموذج.

إنّما خيبتي أن وجدتُ في الناس الذين شغفت بحبّهم وذدتُ عنهم وعانيتُ لأجلهم وقطعتُ لهم ميثاق الوفاء محفوراً على صفحات القلب وأعماق الضمير ، وجدتهم حين وحدتي وغربتي وآلامي أبعد من الثريّا منالاً وأشدّ من الصخر قسوةً ومن الظبية خذلاناً. ينقل العطّار النيسابوري في تذكرة الأولياء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه لمّا سُئل عن سبب اعتزاله الناس وهم بحاجة إليه شكى من الإخوان ... ثم أنشد (عليه السلام) هذين البيتين :

ذهب الوفاء ذهاب أمس الدابر

والناس بين مخايل ومحارب

يبدون بينهم المودّة والوفى

وقلوبهم محشوّة بالعقارب

إنّما خيبتي : أنّ الذي طالما كنت أخشاه وأخاف وقوعه قد حصل ، أن تمنح اُناساً صادق الحبّ والوفاء على طبق القيم والمبادئ الدينيّة التي تؤمن بها وتعمل لأجلها ، فلا ترى في اللحظات الحاسمة نفسك إلاّ وحيداً فريداً تتنازعك الآلام والأحزان من كلّ حدب وصوب.

اُناسٌ جعلتَ منهم ملاذاً وملجأً وكهفاً تأوي إليه كلّما عصفت بك نائبات الدهر وانهالت عليك الهموم وصبّت الدنيا غضبها ، وثقت بهم واطمأ نّت لهم الحنايا وهتف بهم العقل والقلب سيّا ، اُناسٌ ... «أسلموك

٣٢٨

حين الوثبة» ولم يرعوا فيك حرمة كلّ شيء ، اُناسٌ أزاحوا الستر عمّا في أعماقهم من حقائق وكشفوا عن هويّتهم وما فيها من دوافع.

لست نثّاراً ولا سجّاعاً ، ولكن لواعجي فرضت عليّ سبكاً من الصياغة كهذا.

كنت ـ وإلى وقت قريب ـ أعتقد بشموخ من بنيتُ لهم في الأعماق صرحاً ، شموخاً ورُقِيّاً معرفيّاً ودينيّاً وأخلاقيّاً ، لكنّ لحظات الحسم أذهلتني وأقضّت مضجعي لمّا وجدتهم أدنى من الشموخ وأقلّ من الرقي المعهود ، حسبتهم وأنا المتواضع في معارفي وديني وأخلاقي ركناً ومتّكأً ومسنداً ألوذ به حين الملمّات ، خاب السعي وخسرت الصفقة واختلّت الحسابات ، فلابدّ من إعادة الانتشار وجدولة الآراء وتنظيم الأفكار من جديد ; إنّها فعلاً تجربة نافعة مؤلمة مؤسفة.

٣٢٩

خلوة الليل

كثيراً ما تضايقتُ من الليل ، ولازلت ; إذ يأخذني بعتمته فلا ألتذّ براحة الوسن ، هكذا اعتقدت به مؤرِّقاً يسلبني حقّي واسترخائي ، فجنيتُ عليه دون أن أقف متريّثاً متأمّلاً متفحّصاً مستخلصاً أنّ الذي يفعل بي كلّ هذا ليس سوى أعماقي وحناياي ، أفكاري ورؤياي ، آهاتي وبلواي ، أحاسيسي ونجواي ، آمالي ورجواي ، آثامي وشهواي ، همومي وشكواي ، غربتي ولوعتاي ، وحدتي وحنيناي ...

فلولا الليل والأرق لما استقام ما اعوجّ منّي من خُلُق وعود وفهم وإحساس ، إن استقامت حقّاً ، فآناء الليل حيث تنام العيون وتهدأ الأصوات ويأوي كلٌّ إلى عشّه وعرينه وملاذه ، ويعجّ المعجّ إلى ما يسائله ويناغمه ويلهيه ويرويه ، أعجّ أنا إلى مناطق النقص في ذاتي ومواطن الضعف في روحي وفجوات أفعالي وفلتات أقوالي وهفوات تقريري ، فلا أعثر على كهف يضمّني منها ويحميني سوى دموع الندم ومرارة الآه.

وكم فعلت ذلك كراراً ومراراً لكني أعود بجهلي وغفلتي وغروري وطغواي ورغبتي فأقترف الذنب وأرتكب الخطأ وأفعل المحرّم مستصحباً

٣٣٠

معي دوماً سلاح التبرير وذراع التوجيه لأغرس في ذاتي قناعةً مزيّفة ظنّاً منّي بنجاح تمريرها على الناس والمجتمع ، فإن نجحت فعلاً فهل أنجح مع ربّي ومن قبله أعماقي وضميري؟! فأنا المتشدّق بالقيم والمبادئ والموازين ، إلامَ أسحقها وأدوس عليها عابراً أقصى المسافات لأنال صيدي ومغنمي؟!

وهكذا يبقى الليل والأرق وسهر العيون ورهق الجفون فرصةً تتشكّل كي ينبض القلب نبض الحبّ بنقاء ويرشح العقل بأفكار ملؤها الخير والصفاء.

٣٣١

اعلموا

إلى الذين اُحبّهم إلى كلّ الناس :

اعلموا أنّي لم أكره إنساناً قطّ ، ربما تأ لّمت وأتأ لّم من هذا الفعل وذاك القول ونظائرهما لكنّي لم ولن أكره من الناس أحداً.

لستُ رجلاً هامّاً ولا شخصاً كبيراً بل مجرّد إنسان يودّ لو يكون إنساناً حقّاً .. أعرف بأ نّي اُخطئ الحسابات وأجهل الكثير ويقودني الغرور والكبر إلى ارتكاب الحماقات ، إلاّ أنّي اُحبّ أن اُحشر في زمرة الصالحين.

كم أدعو الله أن يصلح ما فسد بيني وبين الآخرين ، على أساس العزّ والكرامة.

وأسأله كثيراً أن يسمو بي ويشمخ بذاتي فوق مواطن الذلّة والتبعيّة التي تصادر شخصيّتي وتخدش حرّيّتي.

وكم أدعوه غفرانه خطيئتي تجاه اُمّي وأبي ، فلم يستقرّ لي بال حتى

٣٣٢

علمتُ بفرصة رضاهما عنّي إن أنا عملتُ الخير لأجلهما حتى بعد مماتهما.

كما أدعوه أن لا تظلّ في عنقي أمانةٌ لأحد أبداً ، فما ليس لي يعود لأهله.

ولطالما ابتهلت إليه تبارك وتعالى أن يمنحني توفيق المعرفة.

وإنّي إذ أصرّ في التوسّل به جلّ شأنه أن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ، وأن لا يفضحني بخفيّ ما اطّلع عليه من سرّي ، وأن يغنيني بحلاله عن حرامه وبفضله عمّن سواه وبطاعته عن معصيته ... تراني ـ للأسف ـ أشتاق إليه قليلاً وأفتر عنه كثيراً ; لدوام تفريطي وغفلتي وكثرة شهواتي وعثرتي.

٣٣٣

ماذا يعني لنا الحبّ؟

إنّنا نسقط بفخّ اللفظ لمّا نفهم معنى الشيء بالتبادر فقط ، مثلما يتبادر إلى الذهن والقلب معنى الحبّ من حدود اللفظ المرسوم.

فللحبّ ـ مثلما لكثير من القيم والصفات والحالات والأحاسيس ـ أبوابٌ واسعة من التصوّرات والتصديقات والمؤشّرات والأدوار والأوجه. فليس من الضرورة بمكان أن نمارس ذهنيّاً وشعوريّاً الوجه المليح من الحبّ فقط ، فبما أنّ من لوازمه الحرص والوفاء للمحبوب ، بات العناء والألم والمشقّة ونظائرها داخلة في أدوات الحبّ ، أدواته التي تحميه وتذود عنه.

لذا صار الحبّ أسمى من مفهوم الموافقة القطعيّة الصبيانيّة العمياء ; حيث بها يسقط الحبّ وتسقط قيَمه ودواعيه ويهتزّ كيانه وينهار.

إنّ الخالق تبارك وتعالى أحبّ خلقه ولاسيّما الإنسان أيّ حبّ ; حينما كرّمه وعظّمه وفضّله على سائر مخلوقاته. لكنّه عزّ شأنه حازمٌ شفّاف معهم لمّا عرّفهم النجدين وعواقب كلّ واحد منهما ، فهو الناصح

٣٣٤

الأمين والصادق الوفي ، وبذلك فقد جسّد المعنى المقدّس للحبّ بأرقى صوره وحقائقه.

إنّ مَن أحبّ امرأةً أو فكرةً أو شيئاً لابدّ له أن يعي المعنى الصحيح للحبّ ، لا المعنى الصبياني المراهق.

نعم ، أنا اُحبّ وأعشق .. اُحبّ وأعشق أهلي وناسي واُسرتي وانتمائي وأصحابي ووطني وأشيائي حبّاً متأسيّاً بحبّ الله لعباده ، حبّاً تمرّ به مختلف خطوط الوفاء والالتزام ، المتباينة والمتوازية والمتقاطعة منها ، حبّاً يغور في الأعماق والحنايا كي يحفر ويبعثر ويراجع ويتأمّل ويستشرف ويقارن ويحلّل ويستنتج ، حبّاً تمازجه الحركة الناشطة بأدوات المعرفة والأنساق العلميّة ، حبّاً يقصد الأمان والنموّ والطمأنينة الراسية على مرافئ الحقيقة التي ترفض كلّ ما هو ضبابي هلامي ، الحقيقة التي تهتزّ طرباً لمبادئ الخير والفلاح.

٣٣٥

حبّ الناس / ١

أشعر أحياناً أنّ الشخص الوحيد الذي يحبّني في هذا العالم هي ابنتي ذات الربيع السابع من العمر .. لكنّه مجرّد شعور ربما مصدره سوء الظنّ أو فرط الحساسيّة أو الجهل ...

نعم ، فأنا اُعاني الجهل ، لطالما قادني جهلي إلى ارتكاب الأخطاء والولوج في حسابات غير دقيقة .. فكم حاولت معرفة الناس ـ ولاسيّما القريبين منهم لي ـ لكنّي فشلت ، وجرّني فشلي إلى الوقوع في أزمات ومشاكل لازلت اُعاني منها .. فما هي حقيقة هذا وذاك؟ الأمر بحاجة إلى أدوات أنا عاجز عنها ; لضعفي ...

ويبقى هاجس جهلي بالآخرين يؤرّقني أرقاً اُحاول أن أصنع منه الحركة والباعثيّة نحو ردم الهوّة وجسر الفجوة ..

أعترف أنّ المشكلة فيّ أنا لا في غيري ، ومجرّد الطموح والأماني لا تغيّر من الواقع شيئاً ، إنّما الجهد وبذل السعي القائمان على الآليّات الصحيحة هما الكفيلان بالوصول إلى النتائج المطلوبة ، وهذا يعني :

٣٣٦

مجانبة المحاولات السطحيّة التي تفتقد العزم والإرادة والمعرفة وولوج المختبرات المنهجيّة المتمثّلة بالبحث والتمحيص والاستقراء والمقارنة والتسجيل والمراجعة ... ، فالقضيّة ليست بالأمر اليسير لكنّها تثمر النتائج الباهرة والمحصّلة الراقية.

ولعلّ التسلّح بـ «الموضوعيّة» خير ما نبلغه جرّاء الخطوات المعهودة ، فمن خلالها يمكن معالجة الإشكاليّات وتجاوز العقبات ، فالموضوعيّة تدعم المحاولات التي تجدّ في الوقوف على موارد النقص والضعف فتوجد الباعث والمحرّك والداعي نحو معالجتها أو الوقاية منها.

آنذاك تكون الفرصة سانحة لتغيّر العقل والإحساس نحو مزيد من الانفتاح والقبول ، فنجد أنّنا نحبّ الناس والناس تحبّنا ، إنّها سعادةٌ شامخةٌ ضمن موسوعة السعادة الإنسانيّة المنشودة.

٣٣٧

حبّ الناس / ٢

وطّنت النفس على مفهوم لا أعلم تخومه ونهاياته وأجهل به المصير والمقصد ، ولعلّ الحقيقة ما كانت تحتاج التوطين حتى ، نعم «ليس هامّاً أن أكون أو لم أكن» سواء حضرتُ أم غبت. هذا المفهوم ذو جزأين :

أحدهما : أن أعرف نفسي وقدرها ولا أزجّها في ما ليس يعنيها ، فلا أطير بكبريائي في اُفق الوهم والغرور ، ولا أشمخ بأنفي فرحاً مستبشراً بخيال لا واقع له .. وهذا ما يسمح لي بورود فضاء الاتّزان والعقلانيّة والاطمئنان الذاتي والقناعة وسلامة التفكير والاستنتاج.

ثانيهما : أن أتكيّف على آلام الوحدة والغربة ومعاناة الإهمال ، حيث لا أنيس ولا همسة حبّ وحنان ، فحتى الذي كنت تتوسّم فيه دفء المشاعر والأحاسيس ـ فافترشتَ له القلبَ دربَ انتظار والعيونَ غطاءَ ذود واحتراس ـ لمّا جاء بعثر بجفائه صور الماضي الجميل ، فاغتال أنفاس الذكريات وعنفوان الخاطرات. أمّا الذي نخت برحلك عنده بعد ذاك الانتظار ووهبته الحبّ وكلّ الوفاء فلم يرفدك بالذي كنت تحلم فيزيل عنك الشقو والعناء.

٣٣٨

هذا ، رغم أنّك تعيش شعوراً طيلة حياتك حملته برفق بين ضلوعك وحناياك ، شعوراً خالط الدم واللحم والعظم ونما عليه العقل والقلب وكلّ خلاياك ، مفاده : أنّك تحبّ الناس كلّهم ولا تكره فيهم أحدا. وإن رفضت أو توقّفت أو انتقدت منهجاً أو فكرةً أو فعلاً أو نصّاً أو تقريراً فلا يعني الكره أبدا.

إنّ الشعور بحبّ جميع الناس ألذّ ما فيه أنّه يمنح العقل والضمير والقلب هدوءاً واطمئناناً ورغبةً غامرةً في الاستمرار مع كلّ الآلام والأحزان.

٣٣٩

القلب والعقل كلاهما يريد

إيه من قلب لا يرحم ، طوراً يقودني إلى العزلة فيرسمها بريشة الفنّان الأريب الألمعي ، وطوراً يدفعني إلى العشرة فيجعلها متنفّسي وراحتي من ألمي وشقائي .. يثنيني عن السفر والرحيل مرّة ، ويشوّقني لهما أُخرى .. يحبّب لي الأشياء حيناً ويبغّضها حيناً آخر .. أعيش الكابة والحزن بلا سبب تارةً والسرور والفرح تارةً اُخرى ..

هكذا يرميني في أحضان الحيرة وظُلَم المتاهات ، فلا أدري ماذا أصنع وبأيّ الطريقين أمشي وأسير ، أأترك عزلتي وفيها سكوني وهدوء أعماقي ، أم أهجر عشرتي وفيها صحبتي ورفاقي؟! أاُسافر وفي السفر قلقي وابتعادي ومشاهداتي ، أم أبقى وفي البقاء توقٌ إلى الرحيل شديد ، إلى حيث أرى وأطّلع واستفيد ...

وعلى هذا المنوال تتقاذفني أهواء القلب.

أمّا العقل فلطالما أخفق في مماحكة القلب .. كلاهما يريد ، فالحنايا تريد ونار الشوق تكوي الضلوع ، والعقل بما عنده من الحجّة والدليل

٣٤٠