نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

مبسّط ; إذ «إنّ من البيان لسحر» .. بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإنّهما يقلبان العداء ودّاً والبغض حبّاً والبلقع مرتعاً.

علينا ترجمة عنوان «الجذب أولى من الطرد» إلى ممارسة حقيقيّة ، لا كما تفرضه المصالح والمنافع ، فبمجرّد خلاف واختلاف ـ ناهيك عن الصراع ومراتبه العليا ـ نُركِنُ هذا المفهوم جانباً ونشرع بالحذف والنفي ، فنخسر كوادرنا ونخسر قيمنا وأخلاقنا لأجل منافعنا واستبدادنا وهيمنتنا التي لن تدوم أبداً ، وقد قيل قديماً : الملك مع الظلم لا يدوم ، وما لا يتحقّق بالعنف يتحقّق بالرفق.

ولقد أدانت كلّ الأديان السماويّة والمذاهب الوضعيّة «المنّة» وبيّنت مساوئها وآثارها الوخيمة ، إنّها تمثّل تراجعاً أخلاقيّاً وشوكةً خطرةً في خاصرة الوجود الإنساني ، بإمكانها تضييع العديد من الجهود وفقدان الطاقات ، فهي مؤشّر تخلّف يجدر بنا الحدّ من انتشارها والتحذير من عواقبها السيّئة ثم التخلّص منها بالوعي والإيمان.

على هذا النسق والفكر والشعور والاعتقاد أودّ أن أكون حاضراً ، وبهذه المحاور أودّ الانتشار ، ولا سبيل عندي للكشف والبيان أنجع وأفضل من الكتابة ، ولو كنت أجيد سواها لفعلت. وهذا لا يعني بأ نّي أجيد الكتابة بالشكل المطلوب ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.

٢٠١

من الناس ، إليهم ، فيهم

من الناس .. إلى الناس .. في الناس .. فقيرٌ مثل الفقراء ، غنيٌّ مثل الأغنياء ، عالِمٌ مثل العلماء ... يدرك من أين ، في أين ، إلى أين .. يروم «الإنسانيّة» ويعمل لأجلها ، لأجل ذاته وغيره ، فالسعادة تعني أن تسعد وتشرك الآخرين في سعادتك. وهل سعادةٌ أشمخ وأجمل وأعزّ وأغنى وأرسخ من سعادة «الإنسانيّة» ...

نعم ، بلوغها شيء ، وحفظها شيء آخر ، وهنا نفهم لذّة دوام السعي والمجاهدة والصراع النبيل ، فلابدّ من البقاء في دائرة الضوء الإنساني بقاءً ينمو ويسمو نحو الأرقى كي لا يعلو الغبن فيتساوى اليوم بالأمس ، ولا تهبط الزيادة فيحصل النقصان ثم الموت ، موت الإنسانيّة ، موت المبادئ والقيم الشريفة.

بلوغ «الإنسانيّة» يعني أن تكون خيراً لذاتك وغيرك. أنت إنسانٌ من الناس ، فإلى الناس تبدأ رحلة الخير ، وبينهم تنشر الخير ، وفي أعماقهم تبني له الاُسس والقواعد ، حالك حالهم ، تتكيّف كما هم ، صادقاً بلا كذب ورياء ونفاق ، تعيش آلامهم ومعاناتهم ، أفراحهم وأحزانهم ،

٢٠٢

آمالهم وطموحاتهم .. خبيراً يعي متى وكيف وأين ، بالأدوات القمينة والآليات السليمة .. حكيماً بحركته وسكونه ، بقوله وفعله وتقريره .. مستوعب القيم والأخلاق استيعاب الذائب فيها.

إنّنا إن لم نمتلك هذه المواصفات فعلينا الجدّ بالتدرّب على كلّ واحدة منها لترسخ في قلوبنا وعقولنا وأعماقنا شيئاً فشيئاً ، نتدرّب بالتفكير فيها تفكيراً حقيقيّاً ، ثم تدوينها ، ثم المشافهة بها ، حتى تغدو حركة بدائيّة بسيطة نحو مرتبة الظهور ، ثم تتحوّل إلى حالة تأخذ حيّزاً صغيراً ، ثم ترتفع تدريجيّاً لتحصل على حيّز أوسع تنطلق من خلاله محلّقة بارتفاع شاهق ، فإذا ما ألقت في سماء الإنسانيّة فقد اخترقت الحواجز وانغرست في الضمائر وتبلورت حركةً فاعلةً تمتلك مقوّمات التغيير ، تغيير القيم المنحرفة السائدة واستبدالها بقيم نبيلة متعالية تصبو إلى الخير والفلاح والسعادة الإنسانيّة.

وهذا ما لا يحصل بالطبع إلاّ عبر «منهج الإقناع» ، إقناع الذات ثم إقناع الغير ، ممّا يعني أنّ «منهج الإسكات» أرقى ما يبلغه هو أن يكون علاجاً مؤقّتاً ومسكّناً مرحليّاً يتعسّر الوصول من خلاله إلى الغايات المنشودة.

وبذلك يكون في مقولة «الناس على دين ملوكهم» ـ على ضوء أصل التبادر ـ نوع امتهان للكرامة الإنسانيّة ولحركة الفكر وحرّيّة التعبير وتقرير المصير .. ونوع ترويج لمفاهيم الاستبداد والعبوديّة وتعطيل حركة

٢٠٣

العقل .. كون هذه المقولة تستمدّ مقوّماتها من «منهج الإسكات» المشار إليه.

علماً بأنّ الإنسان العادل حقّاً ـ أيّاً كان حاله وموقعه ـ يأخذ الناس «بمنهج الإقناع» ، وهذا ما ينطبق مع القيم النبيلة والمفاهيم السليمة التي تجعل السعادة الإنسانيّة مقصوداً أسمى وغايةً أرقى.

٢٠٤

أخشى من نفسي على نفسي

أخشى من نفسي على نفسي ، من ذنوبي ونفاقي وريائي وشهواتي وخيانتي وإهمالي وتقصيري ، من كبريائي العنيد الجاثم على صدري وقلبي وعقلي ، من ضعف إيماني وشكّي ووسواسي ، من اهتزاز أفكاري وأحاسيسي لمجرّد مكتوبة أو مقولة أو فعل يستفهم ويحفر في انتمائي وهويّتي ، الانتماء الذي ورثته من آبائي دون أن أجهد في تجذيره وترسيخه في أعماقي إلاّ قليلاً.

أخشى من نفسي على نفسي من كلّ تهافت وتناقض وتباين يشوب منهجي وسلوكي.

من تفريطي بما منحه لي ربّي من مكرمات وأنعام وأفضال ، غير مكترث بنفاستها إذ هي بمتناولي واختياري ، متأفئف متحسّر إن هي نأت عنّي وفارقتني آناً أم أبدا.

أخشى من نفسي على نفسي حين أرغب بالاستقامة والفلاح وأسعى لهما طوراً ، وحين أرغب عنهما واُجافيهما أطواراً وأطوارا ، من حبّي

٢٠٥

للخيرات وفعلي الموبقات ، للحسنات وفعلي السيّئات ، لإبهاج الخلق وفعلي المحظور ; باجتهاد واستحسان وتأويل وتفسير يتوخّز منه الضمير وتتأرّق له الجفون ويضطرب منه القلب والحنايا ويتيه به الفكر ويحير.

أخشى من نفسي على نفسي إذ تحسد وتغار ولا ترجو الخير إلاّ لها ، وإن نال الخير آخر ـ ولاسيّما إن كان صاحباً وصديقاً ورفيقاً وقريباً ـ تحزن وتألم ، فلا تفهم من الغبطة إلاّ شعاراً يُلفَظ ويقال.

أخشى من نفسي على نفسي حين تغضب وتثور فلا تدري ماذا تفعل وتقول ، حين تهذي وتنطق بما لا يُرضي الله والناس والرسول.

أخشى من نفسي على نفسي حين تدّعي وتتقمّص وتتلبّس بما يعاكس باطنها وحقيقتها ، حين تُظهِر ما لا تُضمِر ، وتُعلِن ما لا تُخفي.

أخشى من نفسي على نفسي حين تحجز مكاناً بين ذوي المعرفة والفهم والتدبير ، وهي لا تفقه شيئاً ولا تعلم إلاّ القشور والسطوح والعناوين ولا تحكم أمراً.

أخشى من نفسي على نفسي لمّا تآخذ الناس على أفعال وصفات وأقوال هي فاعلتها ومتّصفة بها وقائلة لها ، بذات السوء والقباحة بل أكثر .. لمّا تزداد في غيّها وغرورها وعصيانها ودوامها على ذمائمها وقبائحها وسوآتها ، فلا تخجل ولا تندم ولا تبذل السعي الصحيح لنفض غبار الانحراف والاستعداد لكسب موطئ قدم على جادّة الصواب والاستقامة.

أخشى من نفسي على نفسي ...

٢٠٦

أتراني أرحت ضميري وتخلّصت من ذنوبي وسلكت طريق الخير باعترافي هذا ، إنّه اعترافٌ خاو لا ثمن ولا اعتبار له إن لم يقترن بتوظيف العقل والقلب والجوارح وكلّ شيء بشكل حقيقي يعتمد الاُسس والقيم والمعايير السليمة التي تأخذ بالإنسان إلى ضفاف الفلاح ومرافئ العزّ الواقعي والطمأنينة الراسخة ..

صكوك الغفران لا تُشترى بالاعتراف كما يتوهّم الكثيرون ; إنّها تُمنَح لمن حفظ العهد والأمانة التي أودعها الله بذمّته ، أو لمن تاب وآب وعلم صالحاً ; وإلاّ فهيهات هيهات.

واعترافٌ أخير : رغم كلّ ذلك ، لازلت لم أحسم أمري ولم أتّخذ قراري في الأخذ بأيّ النجدين. ربّي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ، ربّي إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير.

٢٠٧

لاحت آفاق الخمسين

لاحت آفاق الخمسين والقلب الغضّ ينبض بالعشرين ، حناياي مرابُع عشق خضراء لا بلقع ، نصف القرن لا أدري كيف مضى وتقشّع ، أيّامي كالريح تعدو بل أسرع ، والقلب الهيمان نواظر حبٍّ تترقّب ، لنسمة سحر تروي صدراً متعب ، لسحابة صيف تسقي أملاً أنهد ، أملاً شعّ ضياه في صدري لن يخمد.

ألمي ومرارة حزني أن أموت فلا اُدرك مقصدي : هفتُ له كلّ حياتي ، وأمرّ وجدي حيرة أمري ; إذ تشطّر ما كنت اُطارد :

بين امرأة ، تاق لها عقلي وقلبي وكلّ كياني ، لتزيح عن عيني حلم الوجد الأثقل ، لاُعانقها فنعلو حين الهوي إلى الأسفل ، لاُحاكيها بلسان النطق الصامت ، لأبوح لها بالسرّ المكتوم منذ الزمن الفائت ، لأغفو في أحضان العشق غفو اليقظان الفائق ، نبكي حيناً ، نضحك حيناً في الثالث نحكي ونعاتب. نعلو جبلاً نهبط واد نطوي سهلاً نركب بحراً ، نغتنم عمراً ، نستبق دهراً ، نطفئ جمراً.

٢٠٨

لهفي أن تأتي كي تسمع همسي ، ليتها ... يا لوعة فؤادي ، حصاد عمري ، بؤرة حنيني ، همّ سنيني ، عناء أيّامي ، شمس حياتي ، ضياء دروبي ، شامخ أفكاري ، شكواي وعتابي ، خوفي وانتظاري.

إليّ إليّ يا أملاً محبوساً بزنزانة يأسي وقنوطي ، يا صغيرتي الكبيرة ، يامن أجد فيك أشيائي الكثيرة ، ما عدت اُطيق غروب محيّاك الأبلج ، فأنا إليك ضمآن أحوج.

يا حياتي في موتي ، يا هنائي وراحتي ، يا أنيسي في وحشتي ، ياوطني في غربتي ، يا ملاذي في وحدتي ، يا كهفي في عرائي ، يا ملجأي في تسكّعي ، يا دمعتي في لوعتي ، يا بسمتي في فرحتي ، يا هويّتي في اُمّتي ، يا عرسي في رقصتي ، يا فجوتي في خلوتي ...

إليّ إليّ لأنعم بما ترقّبته كلّ الخمسين ، بالعشق الذي نذرت له كلّ الخمسين ، يا أجمل أطيافي وأعمق مكتوباتي وألذّ آمالي ، يا أملاً قضّ مضجعي وأرّق جفوني ، وأدمى قلبي ، أأنتِ خيطُ دخان أم سراب حسبته ماءً أنا الضمآن ، إلامَ أقرأ هذي العيون وتلك الوجوه ، إلامَ أنتظر وأرقب الدروب ، إلامَ يتعذّب قلبي الملهوف.

عظيم خشيتي ألاّ تأتين ، أو تأتين فلا ننعم بالسعد الذي رجوناه كلّ السنين ، فأقول لك حينها : حيّاك القلب وأعماقي واشتاق العمر للقياكِ ولكن فات الوقت ونامت آمالي ، فنامي يا حلوتي نامي ، نامي على صدري الضامي علّكِ توقظين بعضاً من آمالي.

٢٠٩

ـ بين امرأة ... وبين أن أكون أو لا أكون ، أن أكون :

حيّاً يفهم السؤال الكبير ويجيب عليه بعقله وأفكاره ورؤاه ، بقلبه وأحاسيسه وحناياه ، باستنطاق الثابت ومراجعته وحفره ومقابلته وإعادة انتشاره ، بلا أدنى مسّ بقداسته وعنفوانه ..

حيّاً يصون العهد ويحفظ الأمانة الراسخة في الذاكرة الأزليّة ..

حيّاً يبعثر في الساكت والهامش وخلف السطور ، يقرأ الأعماق بالعيون البصائريّة ..

حيّاً يدرك القيَم وأثمانها ، المبادئ وقرابينها ، الاستقامة ومرارة نيلها ، الموازين وحدودها ، الأخلاق ومعانيها ، الناس ومراميها ، غامضها وجليّها ..

حيّاً يخلّف لمساته على كلّ معاقل حياته من بيت إلى عشيرة إلى مجتمع إلى اُمّة إلى طرّ المعمورة بما توفّر له من أدوات وآليات وأنساق ومناهج تمنح الخير والأمان والازدهار والفلاح ، تفتح الآفاق إلى المعرفة السليمة ، معرفة النفس ومعرفة مبدأ الفيوضات العظيمة.

ـ بين امرأة ... وبين أن أكون ... وبين ألاّ أكون :

إلاّ ميّت الأحياء ، همّاً من العلف واللذّة ، تافهاً ، حقيراً ، رخيصاً ، ذليلاً ، جيفةً متنقّلةً ، خائناً ، حسوداً ، جاحداً ، ناكثاً ، مارقاً ، قاسطاً ،

٢١٠

جاهلاً ، مغفّلاً ، ملفوظاً من بيته وعشيرته ومجتمعه واُمّته والناس أجمعين.

هيهات أن يكون نصيبي ثالثها ; إذ لا يمكن لي أن أقنع أو أقبل أن انحطّ إلى ذلك الحضيض :

أمّا المرأة فإنّها عنوانٌ من عناوين الجمال ، والجمال مفهوم مترامي المعاني والمصاديق ، لعلّ منها : انتظار الفرج ، بل هو أسمى وأقدس معاني الجمال ومصاديقه إن لم نقل : إنّه الجمال بذاته ، جمال الفيض الربوبي المتجلّي ، الساطع على ربوع القلب الإنساني ; ليحفظه أو ينقله من مستنقع البهيميّة إلى مرابع العزّ والسعادة السرمديّة.

٢١١

ماذا دهاك يا قلبي؟

حينما تشعر أن لا أحد يفكّر بك أو يهتمّ بشؤونك تودّ لو ترحل إلى مكان بعيد جدّاً ، إلى مكان ما ، حيث لا أهل ولا معارف ولا أصحاب ، آنذاك يكون الشعور بعدم التفكير والاهتمام بك طبيعيّاً ، وآلام الغربة والوحدة هناك لا يمكن أن ترقى لنظيريهما وأنت ينتابك بين أحبّتك وخلاّنك وعلى أرضك ذلك الشعور المرير.

ماذا دهاكَ يا قلبي وأنت الذي خُلِقتَ لتغنّي فرحة الحبّ للأهل والناس والسلام والفلاح ، للقيم والمفاهيم والاُسس والمباني التي تشيد الحياة الكريمة على نهج ونسق سليم ، بالأدوات المعرفيّة الشريفة ، بالتنقيب والفحص والتأمّل والتجزئة والتركيب ; إذ العقل القبلي إن كان يقبل البديهيات من الصور والمعاني والتصديقات فالعقل البعدي لا يستسيغ ذلك القبول على نحو الإطلاق والعموم أبداً ، إنّه يعمل بجدٍّ وجزم وعزم لمراجعة ومقابلة وتحليل كلّ الوارد عليه كي يحصل على الناتج الأسمى ، لذا سمّي هذا العقل البعدي بالعقل العملي ; وبذلك فإنّه يرفض الوصفات الجاهزة دون تمريرها وإدخالها في مختبراته ، إنّه لا

٢١٢

يفهم معنى الجمود والتقفّي الأعمى ، وهل للمعرفة أن تجمد وتقلّد وتجامل؟! فإنّنا لا نشكّ لحظةً بتغيّر الموضوع إن كان النسقُ نسقَ الجمود والتقليد الأعمى والمجاملة الجاهلة.

علّمني التطفّل على فضاءات المعرفة وأدواتها أنّ الإيمان وعيٌ لا غير ، وهذا يعني بعثرة الأوراق المفاهيميّة على الدوام وإعادة ترتيبها بذاك الشكل أو غيره ، فلا أقبع خلف قضبان التقليد ولا أقبل التجديد مطلقاً ، فأنا أدّعي الانتماء ولي هويّة تعرّفني وفكرٌ يقوّم رؤياي ، وأساليب الحركة والسكون مختمرة في عقلي ; هذا من جهة.

ومن جهة اُخرى ، فنفس هذا العقل وهذا الفكر والانتماء والهويّة تحتّم عليّ جميعاً أن أغور في العمق متجاوزاً كلّ القشور والأغلفة الخارجيّة ـ التي هي مجرّد حواجز ورقيّة إن أردتُ التجاوز ـ لأبلغ ما يرفدني ويغذّيني بمؤن الأمان والاطمئنان ، فأشمخ إنساناً يرى بوعي ويشمّ بوعي ويسمع بوعي ويلمس بوعي ، بقلب ينبض بالوعي ; فأنا لا اُريد أن اُبقي على وجودي وانتمائي كتلةَ أحاسيس ليس إلاّ ، فإنّها تتصدّع أو تذوب لأدنى حادث أو رشقة مطر صيفيّة ; هذا لأ نّي اُريد أن أكون مؤمناً بوعي ، مؤمن الكياسة والفطنة لا مؤمن القشور والأغلفة الزائلة ، المؤمن الذي يشعّ نور الفيض الالهي على كلّ خلايا وأنسجة عقله وقلبه ، فيغدو محور إشعاع وقطب هداية ووسيلة فلاح ، محوراً يرفض الحذف والنفي والترويع بشتّى صنوفه وآلياته ، يقبل الآخر ، مصداقاً للإجابة عن سؤال الحياة الكبير ... إنّها النفس المطمئنّة الأوّابة الراضية

٢١٣

المرضيّة ، لا النفس الخائفة المتردّدة المختبئة خلف القشور الورقيّة ، لا النفس التي اخترقتها الهواجس في كلّ أروقة ومرافق حياتها ومناهجها وأدواتها ، فراحت تساوم على كلّ شيء مع كلّ أحد طبق مخاوفها المنبعثة من إيمانها الورقي الفضّ ، فليس الملاك ملاك الصراخ بالقيم والمفاهيم الصحيحة المنطلق من سكون العقل وسكوته ، بل الملاك ملاك الوقار والتؤدّة المنطلقين من هيجان العقل ووعيه الناطق ، العقل الدافق بكلّ ما هو معرفي ضارب في الأعماق ، العقل الذي يأبى السكون والاستقرار كنظام استاتيكي ، إنّه الحركة الدائمة الدؤوبة.

٢١٤

حلمٌ إيماني

ما أرقى أن يشعر الإنسان أنّه ملْكُ إيمانه لا غير ، منفكٌّ عن أغلال الدنيا وقيودها وزنزاناتها ، لا تتحكّم فيه إلاّ قِيَمهُ ومبادئُه التي ذاب فيها واعتقد بها ، الداعية إلى المحبّة والعدل والإنصاف والخير والهداية ، المفعمة بالأمان والسلام ، المتجرّدة عن الكراهيّة والظلم والشرّ والضلال والخوف والعنف.

إنّ هذا الشعور إن قُدِّر له أن يكون حقيقيّاً فهو يمنح الإنسان بالغ العزّة والكرامة وحرّيّة الانتخاب ، ويجعله يعيش الطمأنينة بألذّ صورها وتصديقاتها.

لا شكّ أنّ الإيمان لا ينعقد عبثاً ولا يولد في الأعماق والحنايا صدفةً ، بل هو ناتج كفاح مرير وجهاد طويل وصبر كبير ومعاناة وآلام امتزجت كلّها مع الأفكار الفيّاضة والرؤى السديدة في إناء واحد .. فهو لمّا يلعقها إنّما يلعق حصاد العمر وتعب السنين ، وهكذا حصاد لابدّ له أن يستقرّ في الأعماق والحنايا بكلّ رسوخ وثبات ليشعّ بأنواره على غاية

٢١٥

من التأ لّق والعنفوان ، إنّها نشوة النصر والفلاح التي تجعل ذلك الشعور السامي يشمخ بهيبة وجلال.

آه لو يعلم الإنسان ما في ذلك الإيمان من عظمة وشموخ لما ركع لغير خالقه قطّ ، بل ستركع له الدنيا بأسرها آنذاك فتأتيه ساجدةً خاضعةً بفضل من الله ورضوانه ، وسيكون هو الممسك بزمام الاُمور وصاحب القرار الذي يدرك متى يفعل أو لا يفعل ، مالك الاختيار الذي يرفض هذا ويقبل ذاك.

لكنّ الإنسان ظلومٌ جهول ، يظلم ذاته بتجاوزه على القيم والمبادئ الصالحة اعتقاداً منه أنّ استغلال الفرص منقبةٌ وفضيلة وأ نّها تمرّ مرّ السحاب ، فاختلطت عنده المفاهيم وصار لا يميّز أيّ الفرص التي تُستغَلّ سريعاً عاجلاً من دونها ، والغالب الأعظم من بني الإنسان يقوده ضعفه إلى اقتناص فريسة بأيّ جهد وثمن كان ، غافلاً عمّا لو استخدم أدوات العقل والمعرفة طبق المبادئ والقيم السامية لانقادت له الدنيا انقياد العبد لمولاه.

٢١٦

آهات الروح

أن تستشعر الوحدة والغربة لا ناصر لك ولا معين ، ليس هناك من يهتمّ بك ، من يفكّر بآلامك وجراحاتك ، من يخفّف عنك همومك وأحزانك ، لا كهفاً تأوي إليه ، لا ملاذاً تستريح فيه ، لا ملجأً يحميك من قساوة ما تعانيه.

فإنّ ذلك أمرّ من العلقم وأحرّ من الجمر .. ولاسيّما أنّك قد عشقت الناس وأحببتهم وعملت لهم ما بوسعك ، لم تعرف الكره والحقد ، وتبقى واحدةً من أجمل أمانيك المقرونة بخالص الابتهال الدعاء : أن تزيل كلّ شائبة من كلّ قلب ربما آلمته وآذيته ، أن يشدو هذا ويسعد ذاك ، وينفرج كرب ثالث ، وينفَّس عن رابع و...

إلاّ أنّك حين تألم وتحزن وتعاني وتركبك الهموم تجد نفسك غريباً وحيداً ، تجود بجروحك بلا عمد وعضيد ، لا رفيق ولا صاحب ولا صديق ، بمفردك تكابد وتتجرّع الغصص والآهات ، ليس لك إلاّ التضرّع والتمتمة بكلمات نازفات يذوب معها العمق والفؤاد ، فتنطلق إلى عنان السماء تترقّب رحمة المولى الحنون الذي مازال يمدّك بعناياته

٢١٧

وإحاطاته وتسديداته ، ولولاه لمسّك الضرّ وجالت عليك الخطوب جولانها المميت.

تبكي وستظلّ تبكي بأدمع حرّى ، فالبكاء متنفّسٌ وراحة واستقرار وتهدئة أعماق.

ربّنا اغفر لنا وارحمنا يا خير الغافرين وأرحم الراحمين ، بمحمّد وآله الطاهرين.

٢١٨

لحظةٌ واحدةٌ تكفي

لن يغيب عن ذهني أبداً يوم ذكرى وفاة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسبطه الحسن المجتبى (عليه السلام) إذ قصدت مكتبتي وفي قلبي وعقلي تساؤل كبير واستفهامٌ مخيف لا أعلم إن بحت به قد اُلسع بسوط الضلالة والانحراف ، وإن كتمته قد يقرِّض أحشائي من الداخل رويداً رويدا ، كان همّاً مريراً ومعاناةً مثيرةً رمتُ حسمهما إنقاذاً لعقائدي وكرامتي وعاقبتي من التزلزل والضياع ولاسيّما أنّي عدت أشعر وألمس خطورة الموقف الذي أنا فيه.

لعلّ منشأ هذا المأزق الفكري العقائدي يستمدّ وجوده من طبيعة وكيفيّة بناء تصوّراتي وقناعاتي في القضايا المختلفة ، فأنا لا أقبل الوصفات الجاهزة مهما رقت وارتفعت ، لا أجمد على الوارد جمود الخاضع المتسلم بقرار مسبق ، أسعى محاورة أدوات الإثبات بنصّها وتقريرها وفعلها بعقل غير وراثي ; فليس الامر بقالب «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» وانتهى كلّ شيء ببساطة وسهولة ، إنّه مفترق سبيل وحسمٌ يتوقّف عليه مفهوم الحياة والموت ، فلا أذود عمّا لاقناعه لي به ; فهو بدونها يصير ذود التجّار والعبيد والمتزلّفين والجهلاء.

٢١٩

إنّ بحث «علم الإمام» بما فيه من فصول في حدوده وتأويلاته ، وعلم الغيب وتفريعاته ، ومفهوم العلم الحصولي والحضوري ، ومعاني الروح ونظائر ذلك ، والدراسات المختصّة بالمعمّرين ، ومسألة علم الأنسجة والخلايا وإمكانيّة المحافظة عليها بالدليل العلمي ممّا يؤدّي إلى بقاء الإنسان وسلامته ، وتنصيب الإمام الجواد عليه السلام في سنّ الخامسة وكيف أبلى ذلك البلاء الحسن بحضور المرموقين من كبار العلماء والفقهاء ، ونظريّة نهاية التاريخ والايديولوجيا وإجماع كلّ الأديان والمذاهب على الشخص الواحد المنقذ للبشريّة ، وسائر البحوث والمطالعات والمقولات والنصوص المسانخة ..

كلّها لم تمرّ على ذهني ومشاعري مرّة واحدة في اليوم المشار إليه ، إذ سبق وأن مرّت عليّ كراراً من خلال قراءاتي وسماعاتي ومشاهداتي التي لا تخلو نوعاً من التأمّل والتوقّف ، فأنا أعتقد بمنهج التحليل والمراجعة والاستنطاق والحفر والمقارنة ... كي أبني آرائي وأفكاري وقناعاتي.

كلّ ذلك ليس فيه شيء جديد بالنسبة لي.

إلاّ أنّ الجديد المثير الذي شعرت به ، بل لمسته في إحساسي وعقلي ، أنّني صرت أنظر إلى هذا الارشيف المذكور برؤية اُخرى ، بروح ثانية ، لا أدري كيف حدث كلّ هذا بلحظة انتباه وتأمّل معيّنة ، لعلّها حاصل تلك الآلام والمعاناة والهموم التي كانت تأخذ الحيّز الأكبر من

٢٢٠