نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

تهبّ منه رياح التغيير ، تغيير الأنساق والتحليق في آفاق الإبداع والابتكار ، فكان أن رُفِدت الأوساط المعرفية والمعاقل الثقافية بروائع الآثار والمصنّفات التي تعكس النموّ الهائل الذي طرأ على مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً في علمي الفقه والاُصول ، وبعض النتاجات في علم التفسير وخطوات دون مستوى الطموح في علمي الكلام والتاريخ ، أمّا في ميدان مواجهة المناهج الفلسفية والفكرية والإنسانيّة ـ كالبنيونيّة والحداثوية والبنيوية المحدثة والعولمة والأنسنة وما يشوبها من مفاهيم كنهاية التاريخ وأصل الأنواع وفلسفة الدلالة والحكمة العملية والعقلانية ونظائرها ـ فلازلنا في أوّل الطريق.

إنّنا في صراع دائم ، سواء على صعيد الذات بمعنييها الأخصّ والأعمّ ، أم على صعيد الآخر أيضاً بمعنييه الأخصّ والأعمّ.

إلى ذلك : إنّ صراع اليوم يختلف تماماً بأساليبه وإمكاناته ومضامينه عن صراع الأمس ، إنّها «العقلانية» ـ مثلاً ـ التي إن لم نحسن الغور في أعماقها السحيقة وبطونها العميقة ، ستهدّدنا وتغزونا في عقر دارنا ، بل قد فعلت ذلك بنا ، وللمثال فقط : لو تابعنا وقرأنا حجم الفضاء الذي يشغله الخطاب الأميركي عبر الأقمار الصناعية ومواقع الانترنت ، الذي غزا حتى فرنسا الكبرى بأكثر من ٥٠% ، لعرفنا كم نحن تحت رحمة ثقافة الآخر دون أن نشعر بذلك حتى ، إلاّ من خلال التيه الملحوظ الذي يمرّ به الكثير من أبناء أمّتنا وديننا ومذهبنا.

٤٠١

إنّ فاعليّة الطقوس الدينية والمناسبات المذهبية والنشاطات الفكرية والثقافية عبر الأدوات السليمة والتقنيات الحديثة لها الدور المؤثّر في خلق التوازن المناسب والإمساك بزمام المبادرة في مواجهة مدّ الآخر الذي يعيش معنا وفينا ، وهنا لابدّ من التأكيد على المناهج العقلانية تأكيداً مضاعفاً ; حيث لها الكلمة الفصل في ظلّ الظروف الراهنة ، وهذا يستدعي بطبيعة الحال جهداً معرفياً هائلاً ونتاجاً علمياً راقياً وممارسةً منهجيةً رفيعةً بمستوى الحدث على أدنى تقدير.

إنّ ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا في خطر حقيقي ، فإن لم نستطع إرساء ثقافة «الإقناع» إرساءً واقعياً تؤمن به ذاتنا إيماناً واعياً بحيث تتمكّن حتى من التعبير عنه تعبيراً عقلانياً ، وأبقينا من جهة اُخرى على ثقافة «الإسكات» حاكمةً تتلاعب بعقولنا وأحاسيسنا ، فلانلومنّ إلاّ أنفسنا.

وممّا يثلج الصدر ويبعث الأمل : أنّهم كم حاولوا إسكاتنا وترويعنا ونفينا وحذفنا لكنّا بقينا إلى اليوم نحيا بكلّ فخر وإباء ; إذ علّمنا قادتُنا أنّ الوئام خيرٌ من الخصام والحرب مرجوح إزاء السلام والحوار ديدن الإسلام ودم الإنسان أفضل من كعبة الخالق المنّان. وهذا منهج راق ومصداق نابض من مناهج الإقناع.

٤٠٢

حلقات الصراع

خطورة مفهوم «حلقات الصراع» ناشئةٌ من حضوره في كافّة خلايا ومجالات الحياة ، ولا يمكن التكوّن ذهنياً وتصديقياً لسلسلة المناهج والأنساق والأنظمة وميزان القوى والسلطة وعوامل النفوذ والسيطرة ثم الهزائم والانتصارات بمعزل عن حلقات الصراع.

وكما لا يمكن ذلك فلا يمكن أيضاً فصل هذا المفهوم وإخراجه من فضاء «العقل الثاني» أي العقل العملي المسمّى بالأخلاق أو الحكمة العملية ، من باب فاعلية ودخول الحسن والقبح والعدل والظلم في ممارسات هذا المفهوم حدّ التماهي ، وبما أنّ العقل العملي في طول العقل الأوّل طبق القانون العقلي فإنّه يعني ديمومة الحضور والتماهي بدوام الحياة.

ولا يخفى أنّ مثل «حقّ الطاعة» و «الولاء» و «شكر المنعم» رغم كونها معركة الآراء إلاّ أنّ الغالب عدّها في طول الشريعة لاعرضها ، وثمرة النزاع تتجلّى في حلقات الصراع حينما تؤدّي هي ونظاهرها دوراً مفصلياً في حسم نتائج أي صراع.

٤٠٣

من هنا ذاع صيت حلقات الصراع وحيوية نقاشاتها في فضاءات العقل والفكر والمعرفة والوجدان الإنساني ، وتأثيراتها المباشرة في مصير الاُمم والشعوب عَقَدياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ...

كما لا يغيب عنّا : أنّ حلقات الصراع تعني في جملة من مراحلها : الإقصاء والحذف والتضليل ، كما تعني التعويض والتبديل والاستغناء والاستخدام المشروط غالباً بالطاعة والولاء ..

من هنا فكلّ حلقة متصارع معها ليست شيئاً ثابتاً لا يمكن إزاحته وتغييره ، بل هي ـ في طول الوصول إلى المراد ـ قد تكون مشروعَ تهميش ونفي وتشويه مادامت عائقاً دون الهدف ، مادامت مصدر إزعاج ومنافسة ورقابة.

ثم مادامت حلقتنا حلقة إنسانية فهي غير ميكانيكية ، نعني : هي حلقة بشرية روحية متحرّكة بوحي العقل والشعور لا بوحي القانون الميكانيكي النيوتني الثابت ، القانون الذي اُطيح به بظهور «مبدأ الاحتمال» الذي يمنح فرصةً أكبر للعودة إلى القوّة المهيمنة العليا ، قوّة الخالق تبارك وتعالى ، ومن ظرافة هذا المبدأ : أنّ الكون إذا لم يخضع لقانون نيوتن الميكانيكي فبالأولى عدم خضوع الإنسان له ; لكونه كتلة جوانح وجوارح وأحاسيس نابضة بالحركة والتغيّر والتقلّب آناً بعد آن ، التي بدونها لا يبقى للعقل العملي أيّ معنى ومفهوم.

نعم ، وُلِد ابن آدم وولدت معه غريزة حبّ التملّك والحزن والألم

٤٠٤

والغضب والفرح ... التي تكبر معه طردياً ، فهو يروم ويقصد ويطمح ويكادح دون البلوغ والوصول وقطف الثمار ، تارةً بالسبل المشروعة واُخرى بالسبل المرفوضة ، وعلى كلا الحالين لابدّ من العقل الثاني ومؤنه ، سواء السليمة منها أم السقيمة ، وهذا هو قانون الصراع الذي تتفرّع منه حلقات الصراع ، وإلاّ ما كان الخير ولا كان الشرّ ، ولا كان العدل ولا كان الظلم ، وما عرفنا معنى الحسن والقبح.

ذهب العديد منّا ومن غيرنا في مبحث «حلقات الصراع» إلى تحقّق الإجماع المركّب ، أي أنّها معادلة لا تحتمل أكثر من طرفين : إمّا النفي أو الإثبات ولا ثالث. بعبارة اُخرى : إمّا الطرد والحذف أو الإبقاء بشرط الطاعة العمياء والولاء المطلق.

لكنّا نقول : ـ استناداً إلى المفهوم القرآني المبارك : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١) ـ الإجماع المركّب باطلٌ وغير متحقّق هنا ; بدليل إمكان الجمع العقلاني والوجداني بين الأمرين نصّاً وعقلاً ، بإبقاء ما كان وضمّ الجديد باعتماد آلية الحلّ الوسط طبق منهج وقانون ونظام محكّم باُصول الدين.

__________________

١ ـ سورة البقرة : ١٤٣.

٤٠٥

صراعات الحلقات

إنّه الصراع الحاضر في أروقة الحياة كلّها ، وكما لا يمكن الاقتناع بمناهج وأنساق وأنظمة وموازين وتعدّد قوى وسلطات وعوامل هيمنة ونفوذ ومنافسات وهزائم وانتصارات تكون بمعزل عن الصراع النوعي .. كذلك لا يمكن الاقتناع بفصل الصراع عن العقل الثاني ، أي العقل العملي المسمّى بالأخلاق ، حيث مدخليّة الحسن والقبح والعدل والظلم والصدق والكذب ... محرزة فيه بلا ريب ، ولاسيّما أنّ القانون العقلي يضع العقل العملي في طول العقل الأوّل لا في عرضه ، وعلى هذا ساد اعتقاد الغالب بوقوع مثل الاجتهاد والتقليد وحقّ الطاعة والولاء وشكر المنعم ... في طول الشريعة لا عرضها ، بلا نكران لمعركة الآراء واختلافها هنا.

وحيث لا شائبة في وجود الصراع ودوامه بدوام الحياة البشريّة وأ نّه من منتجات العقل العملي ، ومن مصاديق الأخلاق ، فلا شائبة في كون الولاء والطاعة من مصاديق الأخلاق من جهة ومن آثار الصراع وإفرازاته ونتائجه من جهة اُخرى.

وقد اشتهر «صراع الحلقات» شهرة فائقة لما له من انعكاسات

٤٠٦

وإشارات ومخاطر وخسائر وانقسامات ومسالك مجهولة العواقب ، فالإقصاء والتهميش والحذف والنفي والتشويه مؤن أساسيّة في هكذا صراع ; إذ الحلقة الواحدة المعهودة لا يمكن لها بالضرورة أن تبقى حلقةً إلى الأبد ، فهي ليست شكلاً هندسيّاً معماريّاً يتّخذ البناء قوامه وكيانه ورسوخه برسوخ الشكل الذي يعكس حسابات علميّةً معيّنة تمنح النجاح أو الفشل له .. فالجماد خارج عن نطاق المعادلات الأخلاقيّة ، وإن تمرّد ففي الحقيقة هو تمرّد الإنسان بخطأ مقاييسه ومعادلاته ... بخلاف الحلقة الإنسانيّة التي قد تتّخذ شكلاً هندسيّاً أو معماريّاً في مناهجها وأنساقها لكنّها تبقى إنسانيّة المحتوى والحركة والسكون والشكل ، وبذلك فإنّها لا تخضع لنظريّة «الميكانيكا» التي جاهد نيوتن وأقرانه لأجل تحميلها على القوانين الكونيّة والطبيعيّة ، ممّا يعني شطب القوّة المهيمنة العليا ـ الخارجة عن نطاق المادّة ـ من الحسابات العلميّة والإنسانيّة وتفريغ الحياة عن محتواها الروحي والعيني ; النظريّة التي كادت أن تلعب بمقدّرات البشريّة وتقلبها رأساً على عقب لو لا المشيئة الإلهيّة التي أجبرت ذات المعسكر على الإذعان بنظريّة «الاحتمال» التي نعيش ألَقها حالياً ، هذه النظريّة التي أعادت القيم والموازين إلى المربّع الأوّل وقالت بضرورة وجود قوّة مهيمنة عليا خارج نطاق المادّة ، هي التي تنظّم الكون وعمليّاته المختلفة .. فإذا كانت قوانين الطبيعة لم تخضع لنظام ميكانيكي ثابت فالإنسان أولى بعدم الخضوع للنظم الثابتة ، فالاحتمال يملؤه ويملأ ما فيه من عقل وأحاسيس ومشاعر ، وكيف للإنسان أن يصمت ويقف

٤٠٧

ويجمد وهو الحركة الدائمة والتغيّر المستمر والتقلّب المثير ، ولولا هذا التغيّر الجاري لَمَا كان للعقل العملي والأخلاق معنىً أو موضوع.

نعم ، وُلِدَ الإنسان وولد معه الطموح والرغبة والحزن والألم والغضب والفرح ... ولكلٍّ منها موطّئات ودواعي وأسباب ، إنّه يروم الغاية وبلوغ المراد ، وهذا ما يكلّفه الكثير ، وقلّما نجده بالغاً أهدافه بلا تجاوز على قوانين ومقرّرات العقل الثاني ، فهو يبذل قصارى الجهد والسعي للوصول إليها ، ولعلّ أشدّ ما يواجهه في رحلته نحو المطلوب ـ إذا كان مطلوباً نوعيّاً يصعب التفريط به والإغماض عنه ـ حضور الرقيب والمنافس والمزاحم العِدْل ، بل الإحساس بوجوده وتصوّره وافتراضه كاف في ترتيب الآثار المتعلّقة به ، وهناتبرز الحاجة إلى إرساء الفضاء السلطوي المنشود بسلسلة إجراءات وخطوات تنتهي بإسقاط العِدْل وإزاحته عن جادّة الوصول بالتزامن مع إيجاد وصنع البدائل التي تجيد لعبة الولاء وتفهم معنى الطاعة ، وهي بلا شكّ عناصر وأدوات وآليات لا ترقى لرتبة العِدْل بأيّ حال من الأحوال ، إنّما وجودها يعني تعبيد الدرب وتسهيل السبيل كي يبلغ «المصارع» المقصد. ومن نتائج بلوغ المقصد : حذف المعارض وإسكات المخالف ونفي الآراء المؤثّرة من خلال ممارسة ألوان الضغط واستخدام شتّى الأدوات المشروعة وغير المشروعة.

وهنا يكون العقل العملي وتكون العدالة والتقوى والإيمان والحسن والقبح والظلم والكذب وسائر النظائر على المحكّ الحقيقي ، وكيف لنا تصوّر افتراض الالتزام بقيم ومبادئ العقل العملي على ضوء ما قرّرناه من

٤٠٨

«شروط الفضاء السلطوي» لدى نوع الإنسان؟! فحينما تهتزّ العدالة يهتزّ الموضوع فلا يغدو آنها «الولاء» هو ذلك الولاء المعهود ولا «حقّ الطاعة» ولا نظائرهما. إنّ سريان الاهتزاز لا يمكن التحكّم به آنذاك ولا يعلم متى وكيف يندمل الجرح وتُجَسر الفجوة وتُردَم الهوّة ويرأب الصدع ، فلطالما كان الهدم والإسقاط سهلاً بخلاف البناء والتشييد .. ولعلّ أشدّ ما في الهدم جانبه الروحي ; إذ جروحه وفجواته وتصدّعاته وشقوقه مؤلمة خطرة للغاية ، فهي على طول المدى مناطق بركان لا ندري أنّى تنفجر.

إنّ مناهج «الإسكات» لا يمكن أن تدوم طويلاً ; لضعف ركائزها وخواء محتوياتها ، وهكذا حال أنساق الحذف والتحريف والترويع ، الأمر الذي يستدعي تنشيط ثقافة «الإقناع» بتفعيل المناهج والأنساق السليمة ، ولا تتناغم السلامة مع الإسكات والحذف والتحريف والترويع ، إنّما هي وليدة العقل العملي الذي يؤسّس للقيم والمبادئ والاُصول «خريطة الطريق» ، ممّا يعني تحوّل الصراع إلى حوار ، والنقد إلى فكر ، بتبنّي التقييم البنّاء ، فتتلاقح الأفكار وتتضايف الآراء ، وقد تكوّن نهاية المطاف عجينة مشروع واحد ، فلا حذف ولا إسكات ولا ترويع ولا تحريف.

إلى ذلك ، فإنّنا طبق المعايير العلميّة والأدوات المعرفيّة لو أجرينا مقارنةً مختصّةً بين العناصر التي تتعرّض للحذف والتهميش ضمن الحلقة الواحدة وبين العناصر البديلة ، فالغالب في التقييم والمميّزات أنّ الطائفة الاُولى تمتاز بالخبرة والكفاءة والحصافة وسعة الاُفق .. وتمتاز الثانية

٤٠٩

بالحركة والديناميكيّة والولاء والطاعة .. وإن أنصفنا البحث حقّه ورمنا الوصول إلى نتائج بنّاءة لابدّ من مسلك وسط مفاده الجمع بين الطائفتين ; استناداً إلى رؤية منطقيّة معروفة ، ممّا يعني أقلّ الأضرار والخسائر بنفع أكثر وربح أوفر.

٤١٠

«رفسنجنة إيران» بين الواقع وماهيّة النوايا

«رفسنجنة إيران» مقالٌ بقلم محمّد السمّاك ، نُشر في جريدة السفير اللبنانيّة بتاريخ ٦ / ١٢ / ٢٠١٤.

يقوم المقال على أمرين :

١ ـ قطع دابر التطرّف الديني.

٢ ـ تطبيع العلاقات العربيّة الإيرانيّة.

المقال المشار إليه لا يضيف رصيداً جديداً إلى مخزون المثقّف العربيّ والإسلاميّ وغيرهما ، فلا يصنع فكرةً ولا يمتاز بالإبداع والابتكار ، سوى أنّه محاولة غير موفّقة سعت إلى شخصنة وحصر «المنهج المنقذ» في اُخدود وقناة واحدة ، فسجّلت ـ المحاولة ـ على نفسها هروباً واضحاً إلى الأمام ، ناهيك عن مغالطات الألفاظ التي جهد الكاتب على تمريرها بين السطور كي يعكس ما يجول في باطنه من أمانيّ وأحلام ..

إذ نجد ـ مثلاً ـ جملة : «لا إيران قادرة على إلغاء العرب ولا العرب راغبون في إلغاء إيران» تعبّر عن اُمنية الرجل في تصوير مساحات القدرة

٤١١

والنفوذ التي لا تتّفق مع الواقع الذي إن أنصفناه هو أن يقال فيه : «... ولا العرب قادرون ...» فسواء رغب العرب أو لم يرغبوا فإيران باقية كما غيرها باق ، مثلما أنّ العرب وغيرهم باقون سواء رغبت إيران أم لم ترغب ، حيث الواقع هو الملاك لا الرغبة والتمنّي.

كما نجد جملة : «لا السنّة يحتكرون الإيمان ولا الشيعة يحتكرون الإسلام» هي الاُخرى تعبّر عمّا يدور في خلد الرجل من تصوّر طائفي لمفهوم الإيمان الذي حصره في السنّة وقابله بتصوّر لمفهوم الإسلام الذي يأتي بالدرجة الثانية بعد الإيمان ـ كما هو معروف الفقهاء ـ فنعت الشيعة به.

لم نعقد البحث والنقد لأجل الإشارة إلى نظائر هذه الجزئيّات ونزاعات الألفاظ التي لا جدوى منها ولا طائل لها ، فهي ليست سوى مجرّد عبث بالأوقات وتلاعب بالمفردات لا يغني ولا يسمن أبداً .. إنّما عقدنا البحث والنقد لغرض أسمى وغاية أرقى تتجلّى في التنويه والتذكير بالمنهج العلميّ الذي اعتمده الفكر الشيعيّ منذ البدء ، نعني : منهج الوسطيّة والاعتدال وترجيح منافع الدين ومصالح الرسالة على طرّ ما سواها من المنافع والمصالح الاُخرى ، ولا يهمّنا هنا تغريد بعض المغرّدين خارج السرب ، الذي سعى إلى لصق نهج التكفير والحذف بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ; إذ مخالفة معلوم المدرك لا تضرّ بالإجماع كما هو ثابت في فقه أهل البيت (عليهم السلام).

٤١٢

إنّ سكوت أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ربع قرن من الزمن .. ظلامة الزهراء (عليها السلام) .. صلح الحسن بن عليّ (عليه السلام) .. مقتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) .. وهكذا سائر الأئمّة الهداة (عليهم السلام) ومنهجهم ـ كآبائهم ـ في رفض العنف والحذف والتضليل .. هي مجرّد إضاءات بعناوين كلّية ، بتفاصيل ومصاديق يعجز البيان والمقام عن عدّها وكشفها وخوض غمارها.

على خلاف الآخر الذي لا زال جادّاً موغلاً في حذف التشيّع ونفيه بالعنف والتضليل والتحريف ، بكلّ ما اُوتي من عدّة وعديد.

فالفكر الشيعيّ فكرٌ حواريٌّ استدلاليٌّ قائمٌ على المنهج العلميّ المعرفيّ السليم .. ولعلّ العالم بدأ يدرك رويداً رويداً حقيقة الاُصوليّة الشيعيّة القائمة على منطق الحوار والعقلانيّة ، الاُصوليّة التي طالما وصفها سابقاً خطأً بالتطرّف والراديكاليّة ، ولاسيّما أنّه قد وقف مؤخّراً على ماهيّة الفكر التكفيريّ وكيف وجده لا يتورّع عن إزهاق الأرواح البريئة بأبشع الطرق والأساليب الرهيبة.

لذا لا يمكن شخصنة وحصر «المنهج المنقذ» ، منهج الوسطيّة والاعتدال ، بالاُطر والأفراد والحدود الضيّقة .. إنّه منهج الفكر المستلهم رؤاه واُصوله وثوابته من مدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ويكفي سبر الغور في ثقافة وأدبيّات وممارسات علماء التشيّع والنخب منه والأتباع ليظهر بوضوح صحّة المدّعى.

إنّ خصيصة الحكمة والأساليب العقلانيّة مثالٌ حيٌّ نابضٌ ومصداقٌ

٤١٣

رائعٌ شامخ من مصاديق رؤية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) القائمة على الحبّ والسلام والوئام واحترام الإنسان في انتخاب الحياة الحرّة الكريمة ، هذا المنهج الذي جنّب العالم شرّ الفتن والمخاطر والويلات التي لا تُحمد عقباها ولا يُعرف مداها.

فالكرة في ملعب الآخر الذي عليه إثبات حسن النوايا بالدليل والممارسة الصادقة لمفاهيم الوسطيّة والاعتدال التي تحترم رأي المخالف وتعمل معه في الوفاقيّات وتتحاور في الخلافيّات ، بلا حذف ولا نفي ولا عنف ولا ترهيب ولا ترويع.

إلى ذلك : إنّ إصرار الآخر على تكرار الشبهات والموارد التي تتنافى مع إجماع فقهاء التشيّع لا يسهم في حلّ المشاكل العالقة قطعاً ; حيث الحوار العلميّ المنطقيّ هو السبيل الوحيد لتضييق نقاط الخلاف وحصرها والسعي على التعامل معها بأساليب حضاريّة متطوّرة تعكس الوجه الناصع للدين الإسلاميّ الحنيف.

من هنا بات واضحاً عقم التصوّر القائم على شخصنة «المنهج المنقذ» وحصره بهذا الفرد أو ذاك ; من حيث إنّ مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أنّى كانت وتكون هي مدرسة الاعتدال والوسطيّة بإجماع علمائها وفقهائها ومفكّريها ونخبها .. ذلك رغم تعرّضها مدّ التأريخ لحملات الحذف والتحريف والتضليل ، لكنّها بقيت تنبض بالحياة ، بالقيم والمبادئ الحقّة المستقاة من بصائر أهل بيت العصمة الاُباة.

٤١٤

إلى متى يا عراق؟

أعلمُ أنّ الكثيرين سيختلفون معي في الرأي ، ينتقدون ، يغضبون ; حيث كلّ واحد منّا يحمل في جعبته سبباً وتصوّراً يدعوه لذلك ، فلا مندوحة آنئذ لمّا يكون الاختلاف في الأشياء أمراً طبيعيّاً.

لا أتلو آية اليأس ولا أعتقد بنهاية «فوجي ياما» الإيديولوجيّة ـ التي قيل : إنّه تراجع عنها مؤخّراً ـ لكنّي أنطلق من رحم التاريخ ، بماضيه وحاضره واستشرافاته .. أنبعث من صلب العقلانيّة التي نؤاخَذ ـ نحن المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً ـ بقلّة القناعة والاعتناء والتأقلم معها رغم ما لدينا من الخزين الثرّ والإرث السمين والثوابت القويّة والاُصول الغنيّة .. أنهض من نصوص ساداتنا النجباء (عليهم السلام) ..

فأقول : سيظلّ العراق ـ كما كان وكما هو عليه الآن ـ بلداً على كفّي عفريت ، بلداً تتقاذفه التناحرات والتقلّبات والخلافات ، بلداً لن يهدأ أبداً ، وأسباب ذلك قد تبدو للبعض واضحة شفّافة ، ولا أساس لها من الصحّة عند البعض الآخر ، وغير معروفة لدى طائفة ثالثة .. إلاّ أنّنا جميعاً ربما نتّفق على كون العراق بلداً صعباً معقّداً بامتياز ، قياساً حتى بمن جاوره

٤١٥

وقاربه من الدول التي رغم ما في بعضها من التناقضات والتعاكسات والإشكالات في النظم الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، لكنّها تعيش أيّامها ولياليها أفضل من عراق الخيرات بكثير.

فلو استقرأنا وتفحّصنا وقرأنا وراجعنا وقارنّا وبعثرنا وتمسّحنا وحلّلنا بلاد الرافدين لَمَا استنتجنا سوى أنّه بلدٌ لم يستقرّ إلاّ نادراً ، وهكذا أظنّه سيبقى وطناً مشتّتاً لا تتّحد فيه القلوب ناهيك عن وحدة العقول ، يتقاذفه الفساد من جميع أطرافه ، يعجّ بظاهر القيم وقشور المبادئ بمناسبة هذه الذكرى وتلك الواقعة ، لكنّها على الغالب ليست سوى ظاهرة صوتيّة سرعان ما تخفت وتستكين.

مأساتنا تكمن فينا ، في ذواتنا ، معاناتنا أنّنا نُخِرْنا من داخلنا منذ أمد بعيد ، اختُرِقنا اختراقاً ضرب فينا الأعماق والجذور ، فتداعت الذاكرة وانهارت العلقة المعهودة وتأزّمت الروح ، روح الحبّ والسلام والوئام ، صرنا ننهش بعضنا البعض ، فتضاءلت فرص التواثق وتوسّعت الهوّة بيننا ، حتى غدا الأخ والصديق لا يحمل سنخه إلاّ على ما يرغب من المحامل ويريد ... نجح وفاز وانتصر من أراد بنا ذلك وخسرنا نحن ، وعسى ألاّ تثبت علينا الهزيمة ; إذ قد يخسر الإنسان لكنّه ينبغي ألاّ يُهزَم فالهزيمة تعني كلّ شيء.

سيظلّ العراق هكذا إن لم تشمله العناية الربّانيّة ، إن بقي أهله على هذا الحال لا يغيّرون ما بأنفسهم ، لا يتآزرون لرفع الحيف عن بعضهم

٤١٦

البعض ، لا يعترفون بأ نّهم مخترَقون مستهدَفون مشتّتون متخلّفون عن الركب ، يفصلهم بونٌ شاسعٌ بين القول والعمل الدؤوب ، فليس الوقت وقت المكابرة والتفاخر البائس ، إنّه وقت الثبوت والإثبات.

لقد منّ الله تعالى على أهل العراق عبر طول التاريخ بمنن كثيرة ، لكنّها لم تُستغَلّ بالشكل الكافي والصحيح ، منن وبركات عينيّة وروحيّة ، نلمس منها في حاضرنا : المعادن الثمينة والكنوز النفيسة والأنهار العذبة والتربة الخصبة والمواهب النادرة ...

في العراق أنوار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) والولاة الأبرار والصلحاء والأخيار وحوزات الدين الحنيف ومراجعها العظام.

في العراق نعمة المرجعيّة العليا التي عملت ولا زالت تكدح من أجل خير العراق والدين والبشريّة جمعاء ، مرجعيّة الاُلفة والأمان وكرامة الإنسان أنّى كان ويكون.

فلماذا العراق هكذا يا تُرى؟ لماذا حاله هذا الحال رغم كلّ الذي فيه من الخصائص والخيرات والبركات؟

أما آنَ له نفض غبار الألم والحزن والفساد والتخلّف واللحاق بركب الآخرين الذين ـ وغالبهم ـ هم أدنى منه رتبةً وأقلّ اعتباراً في شتّى الحقول والميادين؟!

أما آن لموازين العلم والمنهج والقيم السليمة ومصلحة الوطن أن تطيح بالواقع المأساوي الذي نتخبّط به ولا نتذوّق إلاّ مرارة رواشحه؟!

٤١٧

أما آن لنا بجلسات وگعدات مطالعة ودراسات مختصرة صادقة حقيقيّة تؤسّس لمراكز استراتيجيّة تنهض بصناعة الفكرة وما يتلوها من مراحل وخطوات؟!

أما آن لنا أن نهتمّ بإخلاص ـ طبق المبادئ التي نتشدّق بها ـ بمعاناة أهلنا ونهمس في ذواتنا : كفانا صخباً ونفاقاً وكذباً وفساداً وشهوانيّةً ...

اللّهمّ انقذ العراق واحفظ دينك وحماة دينك ، إنّك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين.

٤١٨

إليك يا عراق

فسيفساءٌ من الأديان والمذاهب والأعراق ، أمواجٌ متلاطمةٌ من التغيّر والتآلف والافتراق .. خضمٌّ يحكي السطح منه ما في العمق من أشياء ، بحرٌ تروي سواحله ملاحم الجود ومآسي الجفاء ، عراقٌ بلدي ، بلد الأنبياء والأئمّة والشرفاء ، بلد المحن والآهات وميدان الغرباء ...

بلدٌ حملته صفحات التأريخ ، لا ، بل حملها على أكفّ الجراح والآلام ; فحيث كان العراق كان التأريخ وكأ نّهما توأمان تلازما منذ البدء حتى الختام .. فهل أنصف الزمان وأبرّ بأرض السواد ، أم عقّ ونسى اللطف وإحسان الجواد ، أم تغيّر الماء وذاك الهواء فتغيّر العراق وتغيّرت البلاد؟

جاوزتُ فيك يا عراق مفردات الهويّة والأهل والحنين ، ثم اللغة والفكر وتعداد السنين ; علّني أختلي لاُعيد قراءتك من جديد ; إذ قرأتك يومَ كنتُ يافعاً غضّاً غرير ، وها أنا خلّفت ورائي الخمسين : ثلاثون وبضع منها أرقبك من على البُعد دام حزين ... وشتّان ما بين المشهدين.

لن أزيد الغدير بقراءتي قطرةً إزاء ما يغمرني من رواشح العلوم

٤١٩

والمعرفة جرعاً كلّما رشفني بها لازلتُ ذاك الصادي الذي يهتف دوماً : هل من مزيد؟ فما ارتويت منك يا عذب يا غدير .. فهيهات أن تنفكّ أحاسيسي وأفكاري عنه أبد ما حييت ... إنّه يجري في عقلي وعروقي جريان الماء والأثير.

وهل يكفي أن أكون أديباً فناناً مفكّرا .. لاُجمله بقصيدة ولوحة ورؤية تسمو بي جذلانَ ألِقاً سامقا؟

إنّه يوجب علينا ويدعونا لنفهم حقيقة التقاطعات والتباينات والشموخات والكبوات ...

لنعلم كم نحن بحاجة لنعلم ما هو العراق ، فقد اختلف الناس فيه وفي أهله بين ظالم مجحف وعادل منصف ومفرط غال ...

لندرك لِمَ آلَ الحال إلى ما آل ...

أما آنَ أن يهدأ بال وتستقرّ له أحوال ، أم كُتِب عليه الشقاء والعناء وليال من الضيم طوال؟

قصدته آنذاك بعطش الضمآن وعبرة تتكسّر في الصدر ثلاثةً وعشرين عام ، رمته وفي قلبي وذهني مشاعر وأفكار تغلي كالبركان ، إنّه الهيام يا كرام .. أخترقُ المدن والمسافات وكأ نّها أضغاث أحلام ، وزاد الحلم حلماً لمّا وجدتُ مدينتي تغشّيني بالأحضان ، مدينتي حيث لي في كلّ شبر منها ذكرى وعنوان ، مدينتي التي حملتني عقدين من الودّ والحنان حتى رمى بي المستبدّ الشيطان بعيداً عن الأهل والأوطان ، ذقت

٤٢٠