نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

هذا ما وصلني من صديق

هذا ما وصلني من صديق ، هذا الصديق أيضاً صدّر النصّ بهذه العبارة : هذا ما وصلني من صديق ... وهلمّ جرّا ... يقول أو يقولون : لطالما رمتُ قول شيء ، تدوين أمر ما ، كلّما اكتوت منه أضلاعي أطفأتُه بدمع عيوني.

نعم ، أخلصتُ وأخلصتُ فكان الجفاء نصيبي.

أعترف أنّي لا اُجيد نهج التزلّف وتقليد الببغاء وتلوّن الحرباء وعبادة الأصنام ..

أعترف أنّ ذاك الحماس خفّ بريقه ; كوني تعبت من كثرة ما أخلصت ومن كثرة الجفاء الذي حصدت.

نحن نعلم أنّ الإخلاص الحقيقي يفتقر قواعد ومناهج ومصاديق للتكيّف ، فضاءً خال من الببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّف .. إلاّ أنّ العلم لا يكفي لوحده .. فالعمل هو المطلوب.

نمنّي الذات بما يقولون من أنّ المدينة الفاضلة سيكون لها وجودٌ

٢٤١

على أرض الواقع لا ندري هل هو الوجود الإمكاني أم الافتراضي.

أقول : هذا ما وصلني من صديق ، حقّاً من صديق.

ويقول الآخر : نعم ، أنا أيضاً أخلصت وبذلت حشاشة قلبي وعصارة عقلي فكان جزائي أن اُصنَّف تصنيفاً ثانويّاً ; سبب ذلك ـ باعتقادي ـ أنّي لا اُجيد مناهج الببغائيّة والحربائيّة والتزلفيّة والصنميّة ونظائرها ... رغم أنّي لم أألُ جهداً ولم أدّخر طاقةً ولم أبخل بشيء بإمكانه أن يساهم في رفع شأن الدين والمذهب والقيم الحقّة ...

قسماً بالله! فلقد كان حماساً واندفاعاً دؤوباً لا نظير له ، ولم نكن نبالي إلاّ بتقديم الأفضل والأتقن والأدقّ رغم كلّ شيء.

أعترف باُفول ذاك الحماس وضمور ذاك الاندفاع ; إذ تغيّرت البلاد ومن عليها ، ولقد فرض المكان والزمان شروطهما ، وتدخّلت الرغبات الذاتيّة أكثر وأكثر لتفرض ملاكات متفاوتة ومختلفة عن ذي قبل ، وأخذ صراع الحلقات بُعداً مصداقيّاً ، وازداد دور الشأنيّة ، وطغت المظاهر على المحتوى ، وصار الانقياد التامّ والطاعة العمياء التصنّعيّان ميزان الإخلاص والولاء ... ناهيك عن بعض المصادرات وفضاء المنّة وخشونة التعامل وطغيان الاُسريّة ولوازمها والثراء الملحوظ بحقٍّ أو بدون وجه حقّ ... متناسين توصيات وإرشادات الرموز المباركة بلزوم الابتعاد عن مظاهر الحياة المرفّهة والتقيّد بما يجب على طلبة العلم والمتديّنين التقيّد به ...

نعم ، لسنا معصومين من الخطأ والغفلة لكنّنا ألزمنا ذواتنا بأمر

٢٤٢

حسّاس مصيري «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».

لذا من باب الحرص والإخلاص ومن باب «من رأى منكم منكراً» ومن باب «الرقيب العتيد» يجب علينا العمل بتكاليفنا ..

هذا أيضاً ما وصلني من صديق.

اللّهمّ اغفر لنا وارحمنا واهدنا الصراط القويم.

٢٤٣

سأبقى بكلمتي فهي سيفي

رغم خفوت صوتي ولواعج غربتي وقسوة وحدتي ، رغم حزني واضطرابي وخشيتي إثر تكثّر خطاياي وآثامي وغفلتي ..

رغم الاعتراض الناهض من هنا وهناك ، والعواقب التي تحمّلتها ولازلت أتحمّلها وألمس أسبابها ودواعيها حتى من أقرب ناسي ، من صحبي وأهلي وكياني ; حيث لكلّ شيء ثمن وثمن الموقف مكلفٌ خطير لازلت أدفع فاتورته بين حين وحين ..

سأبقى بعون الله المتعال ومباركة ساداتي الأطهار ودعوات قادتي الأبرار ..

سأبقى أحفر كلمة الضمير التي توقفني على ذنوبي ونواقصي ومواطن الضعف في قلبي وروحي.

سأبقى أهمر دموعي كلّما أنّبتُ نفسي وذاتي.

سأبقى قدر ما استطعت قابضاً على جمرة أخلاق ديني وانتمائي.

سأبقى أصوغ الكلمة التي أتنفّس بها عبير حرّيتي وأريج كرامتي.

٢٤٤

سأبقى أرسم الكلمة التي اُداوي بها جروح صميمي وقروح أعماقي.

سأبقى أكتب الكلمة التي اُؤمن بها وتتناغم مع رسالتي واعتقادي.

سأبقى أنشد الفكرة التي تحلّق في فضاء معارفي وإيماني.

سأبقى ناهلاً من مدرسة عصمة علّمتني وما فتئت تعلّمني برامج عيشي وحياتي.

سأبقى أبحث وأحفر واُراجع وأستقرئ واُقابل واُلاحظ واُحلّل وأستنتج حتى أبلغ مرادي فأفهم حقيقتي.

سأبقى أعود وأعود عسى ولعلّني أرجع إلى أصلي ، إلى ما خلقني عليه ربّي ، إلى فطرتي.

سأبقى اُدين وأنتقد وأشجب جزء الإناء العاطل كما اُشيد واُطري وأتغنّى بجزئه الشاغل.

سأبقى ـ حدّ وسعي واستيعابي ـ أرفض ظلم القبيح الظالم وأمدح عدل الحسن العادل.

سأبقى أطلب الحقيقة وأكتبها ، فإن لم أتمكّن من جميعها فسأكتب بعضها.

سأبقى شوكةً في عيون ومرهماً في عيون.

علّمتني مدرستي مقتَ المساوئ وحبّ المحاسن ، فممّا علّمتني : حرمة الغيبة والبهتان وما ينافي المروءة وسائر ما يغضب الرحمن ، مثلما علّمتني الشيمة والشجاعة في عرض ما في جعبتي بأحسن بيان.

٢٤٥

فلا اُشهر سيفاً ، ولا أحتزّ رأساً ، ولا أسترخص دماً ، ولا اُروّع إنساناً ، ولا أنفي ، ولا أحذف ، ولا اُضلّل.

إنّما يراعي سلاحي أذبّ به عن قيم السماء ومبادئ الحقّ الشمّاء.

سلاحي قلمي لا أعتني إن نال منّي أو نال صحبي وأهلي وكياني ، ناهيك عن مناوئي وعدواني.

فهذا فضائي الذي أفخر بكوني منه وإليه ، فيه طوائف من الطيب والخير العميم مثلما فيه موارد من الهبوط الأليم ، فيه الإيمان والولاء والجود والسخاء والعلم والمعارف والتمحّض في الفضل ، مثلما فيه الحربائيّة والصنميّة والببغائيّة والتزلّفيّة والتمحّض في الجهل.

اللّهمّ أعنّي على نفسي فإنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي.

٢٤٦

بمن نلوذ؟

إذا ضاق الصدر وتوجّع الفؤاد واُثخن القلب بالجراح ، ولاذت الروح بربّها الكريم ، بأوليائها الطاهرين ، بحجّة الله على العالمين ، بأخيارها الصالحين ، بحكمائها العلماء العارفين ، تستلهم العبر ، تتروّض بالأناة وجميل الصبر ، تقتبس صحيح المعنى من رفيع السير ، فإنّها تفلح بالسكينة والأمان والثقة والاطمئنان بفعل غوالي درر بصائر اُولي النُّهى والإيمان.

إذ هم بلسم الجراح ومسبار الآلام ومشفى الأسقام ، هم الكهف والملجأ والملاذ من كلّ الأخطار وعوادي الأيّام ، تهفو لهم القلوب وترقى بهم العقول ، في قاع الضمير لهم منازلُ وئام وفي خبايا الروح لهم معاقلُ هيام.

آه لو لذنا بهم كلّما آلمتنا ذواتنا ; بفعل جهلنا وإصرارنا على غيّنا ، نشكو غرورنا وتصاعد خطايانا ; علّنا نستفيق ونتّخذ إلى ربّنا سبيلاً فيغفر لنا ذنوبنا ويمحو سيّئاتنا.

آه لو لذنا بهم كلّما آلَمْنا غيرَنا ، بفعل سوء أخلاقنا وقلّة أدبنا ، نشكو تقصيرنا وإسرافنا في مساوئنا ; علّنا نندم ونُرضي ربّنا والآخرين عنّا.

٢٤٧

آه لو لذنا بهم كلّما الغيرُ آلَمَنا ، نشكو حيفنا وظلامتنا ; علّنا بمراجعتنا أنفسنا نعرف مواطن الخلل فينا فنسعى لإصلاح ما فسد من اُمور ديننا ودنيانا.

ولكنّ الآه كلّ الآه من إيلام الصاحب الصديق وجفاء العضيد الرفيق ، فإنّه جرحٌ في الصميم أليم.

أمّا : «اُسلوب الإشغال والضرب رأساً برأس» و : «تصفية الحساب في موعد لا يُخلَف أبداً» و «مصادرة الابتكار والعطاء ، أو لا قيمة لهما مهما عظما دون حَسَب ونَسَب» و : «الاسم والرسم والغنيمة للذيول دون الاُصول» ، و : «تخزين الهفوة والفجوة لساعة النقد والاحتجاج» ، و : «الإذلال والتلهيث لقضاء الحاجات وتلبية الطلبات» و : «الإرقاء لمن يُهوى وإن قَرُبَ من صفر الميسرة وإبقاء ما سواه على ما هو عليه وإن زاد على الميمنة ألفا» ، و : «التلويح برسالة التفضيل والتمييز بوضوح في مجال الاستعانة بهذا وذاك ، هنا وهناك» و : «إبقاء العناصر في دوّامة إثبات أرقى مراتب الطاعة والولاء» و : «سريان منهج حلقات الصراع أو صراع الحلقات» و : «رواج سوق التمثيل والتملّق والتلوّن والتصنّم» و : «التهميش» و : «المنّة والتحامل والاستعلاء» و : «الترف والبذخ والإسراف» و : «العبد الخادم الذليل أرجح من العالم الفاضل العزيز» و : «الظنّ والشكّ والتهمة وتزلزل الثقة» ... إلخ ..

فهي اُمورٌ باب البحث فيها صعبٌ خطير والنقاش بتفاصيلها واسعٌ

٢٤٨

مثير والوقوف على مناشئها محزنٌ مرير.

رغم ذلك يبقى الصاحب صاحباً والرفيق رفيقاً ويظلّ الحبّ عنواناً باسقاً ومحتوىً ضارباً في عمق الحنايا والوجدان ; إذ القناعة والإيمان والمواقف الغرّ الحسان أشمخ من أن تُنكَر أو يذهب بها النسيان ، بل نصيبها الخلود أنّى طال الزمان وبَعُدَ المكان ; حيث قسم الإناء المليان سرمديٌّ مهما كانت طوارق الحدثان.

ولعلّ هذه شقشقة كان لابدّ لها أن تهدر يوماً ما ; كي تقرّ سريعاً فلا تُطفئ في القلب نوراً ولا تنشر في الجنان عتمةً تلد فتنةً يأنس بها الشيطان ويعزف على أوتارها أنغاماً وألحان.

ولعلّها شكوى مَن يحيا الوحدة بفضاء فيه عشقه وهيامه ، يحيا الغربة بين صحبه ورفاقه ، بين أقرانه واُناسه ، بين قوم طاب له المقام معهم حيث طابوا والرحيل حيث ارتحلوا وساروا ..

إلاّ أنّ النفس إلى اُفق الكرامة ترنو وإلى ألق العزّة تسمو ; فترفض سؤالاً يُذَلُّ به سائلُه ، وتشجب ذالاًّ يأنس بإذلال سائله ، أو عَلِمَ حاجة أخيه المتعفّف لكن منعه عن أدائها إليه ما فيه من الحسّ المستنكف.

نعم ، إذا ضاق الصدر وتوجّع الفؤاد واُثخن القلب بالجراح ، ولاذت الروح بربّها الكريم ، بأوليائها الطاهرين ، بحجّة الله على العالمين ، بأخيارها الصالحين ، بحكمائها العلماء العارفين ، فإنّها عسى ولعلّ أن تُريح وتستريح.

٢٤٩

بمن نحتمي؟

ليس على المرء سوى العمل بوظائفه والمهامّ الملقاة على عاتقه في أيّ موقع كان ، ببذل السعي والجهد الكافيين ، أمّا النجاح ونيل المراد فقد يكون وقد لا يكون ، إنّه رهين شروط وظروف بعضها خارج نطاق قدرات الإنسان وطاقاته ، ولاسيّما بملاحظة الحكمة الإلهيّة والمصالح والموازين والملاكات التي تغيب عنّا غالب الأحيان. هكذا نعتقد.

والعمل بالوظائف حدّ المكنة منوطٌ بتوفّر الفضاءات المناسبة الطبيعيّة ، ولعلّ من أهمّها «الطمأنينة» ، فإذا ما توفّرت فإنّها تدفع إلى مزيد من السعي والإبداع والإنتاج النوعي ، وإذا ما اهتزّت أو تلاشت فإنّها تدفع إلى مزيد من الخيبة والتراجع.

والمؤسف جدّاً أن يبذل الإنسان الجهد على طبق الإخلاص بعطاء كبير لكنّه يفتقد الأمان وطمأنينة الاستمرار ، فيرى أنّ كلّ هذا السعي والوفاء والنتاج ليس محترماً ممّا يعني غداً مجهولاً ، والأمر يسري إلى الآخرين لمّا يلمسون الخطر يتهدّد الجميع ، فالكلّ آنئذ ليس بمأمن من القرارات والتصميمات العاطفيّة أو العجولة التي طالما زلزلت كيانات

٢٥٠

وصروحاً ما كان يحسب يوماً أنّها ستضطرب أو تزول.

لا مجال للندم ، بل هنا تساؤل كبير يقود إلى سلسلة استفهامات قد لا تنتهي سريعاً ; فإنّنا ضمن آفاق الانتماء الديني والأخلاقي بأرقى صوره وأشكاله وأرقامه وإذ بنا نطرح إشكاليّة افتقار الأمان وتزلزل الطمأنينة! ممّا يعني وضع المصداقيّة برمّتها على المحكّ ، فإذا ما أفِلت القيم والمبادئ والأخلاق المعهودة عن هذه الآفاق فقد أفل حضور الدين ، وبذلك تطفح القيم والمبادئ والأخلاق المناوئة ، فتهتزّ الثقة من جذورها .. أمّا الأفكار المراقبة الراصدة فلا تقعد عاطلةً ، بل تشتغل لتولّد وتنتج نتاجاً لا يغفل شيئاً ممّا ذكر وأكثر ، وليس بالإمكان آنَها الوقوف بوجه العطاء الفكري المعرفي الثقافي الذي ينبذ الانحراف ويدعو للعودة إلى الاُصول والمبادئ التي تحفظ للدين اعتباره ومنزلته وسمعته ، ممّا يعني أنّ التمسّك بالمظاهر والقشور لا يمكن أن يدوم طويلاً ، إنّما الجوهر هو المعين الذي لا ينضب والضياء الدي لا يعرف الاُفول أبداً.

لا أدري ، قد يكون كلّ وحد منّا مرشّحاً عمليّاً ومصداقاً جليّاً لذلك الذي بذل حشاشة العمر وغاية السعي وما توفّر له من الإمكانيّات على طبق الإخلاص والحبّ لكنّه لم يحصد ـ بعد سنين طوال من العطاء ـ إلاّ فقدان الأمان وتزلزل الاطمئنان وخيبة الأمل ممزوجة بالآلام ومرارة المعاناة .. دون أدنى ندم بالطبع ; كونها جهوداً ساهمت في إعلاء راية الدين والقيم الحقّة عاليةً خفّاقة.

٢٥١

لكنّ الذي يكوي الضلوع ويفتّت الأحشاء أن تجد ذاتك وسط فضاء يبدو مستعدّاً لعدم احترام عطائك وإخلاصك ، فيمهّد لتلك الخشية من كون فضاءاتنا لا تعير أهمّيّةً لجوهر الدين واُصوله وأخلاقه وإنّما اتّخذته وسيلة ومغنماً ودرعاً.

وكما أسلفت ، فالأفكار والأقلام لا تقف متفرّجة ، إنّما تلج الميدان بكلّ إرادة وتصميم لتعرب عن شجبها للواقع الوجود ، فتبيّن الهفوات والفجوات ، وتطرح البديل الذي يستجيب لقيم الدين الصحيحة ومفاهيمه السليمة.

وإذ أكون أنا النوعي مرشّحاً عمليّاً لما ذكرت فالنظائر كثيرون ، بل هم أشدّ مصداقيّة وأكثر وضوحاً في هذه القضيّة. وليست هي بأوّل قارورة تكسر ، فنحن على هذا المنوال منذ قرون بعيدة ، منذ أمد طويل والمعاناة بشتّى صنوفها طاغية علينا ولم يتغيّر في الحال شيء ، نعم إن استقامت الملاكات واُصلحت الموازين وصرنا في شوق ورغبة إلى الثوابت والاُصول حينها ينمو الأمل ويكبر التفاؤل ، شيءٌ يقابله حزن الوجوه الناعمة والأيادي التي تدير شؤون الناس بالقشور والمظاهر والشعارات.

أليس من حقّ الجباه المحرومة والعيون الغائرة أن تفرح وتشدو وتنعم بالطيّبات من الحلال ، إلامَ تبقى الرفاهيّة حكراً على الوجوه الناعمة وتبقى «العوام» في بؤس وألم وشقاء ، إلامَ يبقى «الدين والأحكام والأموال» بقبضة الذين يؤوّلونه يميناً وشمالاً بينا الآخرون في حسرة

٢٥٢

الفرصة التي يثبتون بها لياقاتهم وقدراتهم الفائقة ، إلامَ يزداد هؤلاء نعمةً ونفوذاً وثراءً ويزداد هؤلاء عسراً وانحساراً وفقراً ، إلامَ تنطلي مهارات المظاهر وخُدَع القشور على الناس ولا تجد الاُصول حيّزها الحقيقي فيهم؟!

لقد رسم الدين في مخيلتي وذهني وأفكاري وثقافتي إيقونةً مشرقةً من الأمل ولوحة جميلة من القيم والأخلاق والمبادئ. وحقّ الدين هو ذا لا غير .. لكنّي ومذ قرّرت الالتزام بكوني رجلاً مسلماً لازلت أبحث عن ذلك النموذج العملي ـ في مَن حوالي وبقربي أو يمكنني الوصول إليه ـ المبلور للقيم والأخلاق والمبادئ ، التي شاد الدين عليها وجوده وبنيانه ، لكنّي إلى الآن لم أهتد إلى هذا المورد ، اُريد أن أعرفه واُعايشه كي أتعلّم منه واستلهم منه وأجعله مناراً أهتدي به في ظلمات الانحراف والوسواس ، ولا ريب أنّ لنا في الرسول الأكرم والأئمّة الهداة والصلحاء من العلماء وسائر الناس المؤمنين ، اُسوة حسنة .. لكنّي أحتاج إلى من اُشافهه ويشافهني ، أشكو له لواعجي وآلامي ، أكشف له مواطن الضعف والخلل في ذاتي كي يرشدني ويعلّمني ، أفتقر الملاذ الآمن والكهف المطَمْئن الذي يحميني ويضمّني ويرعاني ويأخذ بيدي صوب مراتب المعرفة والكمال.

هل لي من طريق وسبيل إلى مولاي الغائب المنتظر روحي فداه؟ لا شكّ أنّي لست كفوءاً لذلك.

٢٥٣

هل لي من طريق وسبيل إلى نائبه بالحقّ؟ على فرض معرفته والوصول إليه فإنّه قد لا يعيرني الاهتمام المطلوب ، ولا يمنحني مزيد المؤن التي احتاجها لفهم مبادئ وأخلاق وقيم الدين والعمل بها ، لكثرة المشاغل وازدحام الأفكار.

كيف لي العثور إذن على من يتبنّاني دينيّاً ، أعترف أنّه ليس بالأمر السهل لكنّه ليس بالمستحيل ، فالأرض لا تخلو من الصلحاء والنجباء والأخيار من العلماء وسائر الناس.

* * *

لا أجد تفسيراً مقنعاً لأن نحيا في بروج مشيّدة ونعيش عيشةً منعّمة بالأموال التي تصلنا بعناوين مختلفة والأعجب أنّنا نؤكّد والدين قبلها أكّد على وجوب الاستفادة منها استفادةً صحيحة. فهل التنعّم بتلك الأموال مصداق الاستفادة الصحيحة ، وهل الموائد الفاخرة والمظاهر الباذخة والسفرات الترفيهيّة والهدايا النفيسة من مصاديق ذلك ، وهل استعمال هذه الأموال أوراق قدرة ونفوذ وضغط وتركيع وإذلال وتمشية الكثير من القضايا على حساب الحقّ والقانون ـ الذي ترفض مراجعنا العظام تجاوزه حتى في بلاد الكفر ـ من موارد الاستفادة الصحيحة؟! وهكذا تستمرّ سلسلة الاستفهامات الاستنكاريّة مادامت المظاهر والقشور والشعارات حاكمة ، والأصل والجوهر والعمق محكوم.

إنّ أغلب الأفواه تصمت ولا تنبس ببنت شفة ذوداً عن الحقّ والقيم

٢٥٤

والأخلاق حين تجد النطق يزلزل مصالحها ، وكم من الأرقام والنماذج التي تمارس النفاق والملق والعبوديّة والصنميّة والببغائيّة والحربائيّة بأرقى مصاديقها وأشكالها ، كي تحفظ رزقها وحظوتها.

إنّ عيون الناس وعقولهم مجهر وميكرسكوب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وأحصاها ، والاستهانة بتذمّرهم خطأ كبير.

* * *

إنّني حين أروم البحث عن ذلك المتديّن الحقيقي كنت قد وضعت سلفاً نصب عيني معنى العبادة وكونها ارتباطاً خاصّاً بين العبد ومولاه ضمن شروط ومقرّرات معروفة.

كما أدرك المفهوم من «ثبات اليقين بلا حاجة إلى كشف الغطاء» مثلما أعرف معالم الطريق وسبيل النجاة .. لكنّي أحوم حول نقطة محوريّة ومسألة جوهريّة ربما اتّضحت للقارئ من خلال استجماع البحث.

ليس من السهل جدّاً التخلّي عن أدوات العزّ والنعمة والحياة الناعمة الفاخرة ولذائذها ، كما ليس من السهل جدّاً أن تمرّ الاُمور والأعمال بلا حساب عاجل أم آجل (مَالِ هذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) ، وأيضاً ليس من السهل جدّاً أن ترضى العيون الغائرة والبطون الجائعة والأكباد الحرّى وتقنع بأن يزداد هؤلاء تخمةً ويزدادون هم فقراً وجوعاً ومسكنةً «أَأَبِيتُ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى» :

٢٥٥

بين الأسف والألم تذكرةٌ وتحذير

كلّ كلمة ، لوحة ، نغم ، فكرة ، أثر ... لا تفرزها الحاجة ولا يصنعها الألم ، فهي كالضرب على خابية جوفاء الفوهتين.

وكلّ حُبٍّ لا تصنعه المفاعلة فإنّه آيلٌ إلى الزوال قطعاً ، فكما اليد الواحدة لا تحدث صوتاً فهذا الحبّ ميّت الإحساس أساساً.

وكلّ شيء يفيض عن حدّه يصعب وقف مدّه.

الإفراط والتفريط مرفوضان ، والتوازن والوسطيّة مقبولان ; إذ يجعلان الاُمور تجري على نصابها الصحيح وفي مسيرها السليم. ومن المنطقي أن يدرك كلّ واحد منّا مقدار وزنه وأبعاد حجمه ومساحاته ; كي يُريح ويستريح.

لذا فإنّه من المؤسف حقّاً :

أن نمنح الحبّ فلا نحصل على المفاعلة الحقيقية غير التصنّعية.

أن نثق بمن لا يثق بنا.

أن نحمي من لا يحمينا ، ناهيك عن طعنة الظهر التي هي قاسية

٢٥٦

مؤلمة تؤذينا ، والأدهى من كلّ ذلك حين يحسبك العاذل من الأبلهينا ، متغافلاً عن كونك تسعى تجنّب ما لا يُحمَد عقباه سعي الصابرينا.

أن نُظهِر صادق الودّ لمن يضمر لنا الحقد والبغضاء.

أن نذبّ بصفاء عمّن يسلمنا حين الوثبة بأسهل من رشف الماء.

أن نحفر في الأعماق منزلاً لمن لا يمنحنا على السطح موطئاً وغطاء.

أن يصادَر العطاء ويتسنّم سلّم الفخر والمجد من لا عهد له بالوفاء.

أن يُستغَلّ سكوتنا ، فهذا السكوت نارٌ تحت الرماد ، والإنسان يبقى يكادح من أجل نيل المراد.

أن نرى المؤخَّر مقدَّماً والمقدَّم مؤخّراً ; لتحكّم الرغبة الذاتية التي تتنافي مع الموازين طرّاً.

أن يُغمَز حقُّنا ولا يؤخذ بعين الاعتبار ما لنا من الخصائص والمميّزات والأنظار.

أن نلمس التمييز والتفرقة لأجل اُمور تختصّ بالذوق الخاصّ ، إذ غريب المقياس أن «تكون خاضعاً ذليلاً خيرٌ من أن تكون عزيزاً كريماً».

أن نفكر جدّيّاً بالعزلة أوالرحيل ، حيث صبرنا ـ بأن نرى ونسمع ونلاحظ ثم نصمت ـ محدود ، لا كما قال الإمام الرؤوف (عليه السلام) :

«يأتي على الناس زمانٌ تكون العافية فيه عشرة أجزاء : تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت».

وهكذا يزدحم الأسف والألم ويتراكم ، ويتكرّر الحزن والسدم

٢٥٧

ويتعاظم ، إلاّ أنّ لكلّ شيء حدّاً وحدوداً ، وأشدّ ما يُخشى منه غضبُ الحليم ، ناهيك عمّن سواه ، الذي قد يُحدِث ما لا ينفع معه الندم ولا مساعي كسر الفجوة وردم الهوّة وعلاج الألم ، فما يدرينا؟! فلعلّ البعض له من خزين الموارد والأدوات ما لم يكن بالنظر والحسبان ، غفلةً منّا أو نسياناً ، فلو ضاق ذرعاً وتقطّعت به الأسباب قد يلجأ إلى هذا المورد وتلك الأداة ; لتصفية الحساب وإشفاء الغليل ، سواء اعتبرنا ذلك عيناً بالعين وسنّاً بالسنّ ، أو ما ناظرهما ممّن يتشبّث بهذا الطريق وذاك السبيل لبلوغ المرام والنيل من الرقيب.

إنّ ديننا دين العقل والحيطة والحذر ، والأيام دُولة بين هذا وذاك ، والفطن اللبيب مَن يتعامل على ضوء أسوأ الظروف ، وبما أنّه لا تضمين ولا ضمان للغد ، فعلينا أن نُحسن استخدام العقل والقدرة والفرصة بحيث نبني ونشيّد رصيداً واعتباراً حقيقيين صادقين ، نكسب بهما قلوب الناس وأذهانهم ، فنستطيع آنذاك دفع أو مواجهة الملفّات التي قد ينتظرها بنا مَن ينتظر.

إنّها قاعدة كلّية لا تختصّ بشخص ومجموعة وكيان. وليس المعنيّ بها سوى كلّ من يوالف بين الماضي والحاضر لأجل المستقبل الآمن.

ولا فرار من قواعد الحياة وحوادثها واحتمالاتها ، والنادر منّا من هو مصداق قول أبي نوّاس :

تغطّيتُ من دهري بظلّ جناحه

٢٥٨

فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي مادرت

وأين مكاني ما عرفن مكاني

بالطبع على اختلاف الرواية والألفاظ.

وإذا ما ظنّ أحدٌ أنّه مصداقٌ ومشمولٌ ومبتلىً ـ بنحو من الأنحاء ـ بما ورد أعلاه ، فلربما هي تذكرة والتذكرة تنفع المؤمنين.

وأوّل ما اُذكّر نفسي الجانية المذنبة عساني أنتفع وأستفيد.

٢٥٩

متى نصحو؟

في ليال مقدّسة معهودة ، ما أروع ازدحام المقاطع التي تنشد إبراء الذمّة وتحكي جمالية التحلّل من الذنب وأشباهه اللائي ارتكبت بالفعل أو الفرض إزاء الغير من الناس ، حيث تتعدّى في كثير من الأحيان حدّ الرجاء وتبلغ مستوى التوسّل والإلحاح المثير للمشاعر والإحساس ..

إنّها محطّات ما أعظمها إذ تنقلنا إلى فضاءات نكران الذات ومعاقل الفطرة السليمة بكلّ صفائها ونقائها المعطّر بعبير الإخلاص وأريج التواضع ، فترسم بأنامل الإيمان وريشة الذائب الفنّان لوحة الآئب إلى رياض الخالق المنّان ، الكادح لها كدحاً لا يرضيه سوى حرّ اللقاء بربّ الأرض والسماء.

فليت العمر بأسره ليال قدسية وأيّامٌ روحانية حتى نبقى وتبقى لوحة العشق الإلهي حيّةً نضِرَةً تسوقنا أبداً صوب مراتع العدل ومرابع الهداية والرضوان ..

ليتها لا تتصرّم ولا تنصرف كي لا ننصرف إلى ذاكرتنا التعبى

٢٦٠