• الفهرس
  • عدد النتائج:

«صباح الخير» تاريخ ١ ـ ١ ـ ١٩٧٠ بعنوان «المعمار القرآني» نقتطف منه ما يلي :

«اني أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن .. فكانت كلماته تسعى الى نفسي وكأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة .. وقد اكتشفت دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنية في العبارة القرآنية ، وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني .. انه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع ، وإنما هو بيان خاص من الألفاظ صيغت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنية فيها .. ان الموسيقى المألوفة تأتي من الخارج ، وتصل الى الاذن من خارج العبارة ، وليس من داخلها ، بل من البحر والوزن والقافية ، أما موسيقى القرآن فتخلو من القافية والوزن والتشطير ومع ذلك فهي تقطر من كل حرف .. من أين؟ وكيف؟ هذا سر من أسرار القرآن لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي .. انه محير لا ندري كيف يتم .. انه نسيج وحده بين كل ما كتب باللغة العربية سابقا ولاحقا. وتقليده محال».

أجل ، ان تقليده محال .. وهنا يكمن سر الاعجاز .. وبعد أن قدم الكاتب العديد من الشواهد على هذه الحقيقة من كلمات الله وآياته قال :

«وليست الموسيقى الباطنية هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية ، بل ان مع هذه الموسيقى صفة أخرى تشعرك بأنها من صنع الخالق لا من صنع المخلوق .. اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة بكلمة رقيقة مهذبة لا تجد لها مثيلا ولا بديلا في أية لغة : («فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) ـ ١٨٩ الأعراف. هذه الكلمة تغشاها .. تغشاها .. يمتزج الذكر والأنثى كما يمتزج ظلان ، وكما تذوب الألوان بعضها في بعض .. هذا اللفظ العجيب يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير .. لقد انفرد القرآن بخاصة عجيبة تحدث الخشوع في النفس ، وتؤثر في الوجدان والقلب بمجرد أن تلامس كلماته الأذن ، وقبل أن يبدأ العقل في العمل ، فإذا بدأ يحلل ويتأمل اكتشف أشياء جديدة تزيده خشوعا ، ولكنها مرحلة ثانية قد تحدث وقد لا تحدث ، قد تكشف الآية عن سرها وقد لا تكشف ، قد تؤتي البصيرة وقد لا تؤتي ، ولكن الخشوع ثابت ومستقر».