الشيخ أمين حبيب آل درويش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
١٦ ـ الحَائِر أو الحَيْر
١٧ ـ حرم الحسين
١٨ ـ رَوْضَةٌ من رِيَاضِ الجنّة
١٦ ـ الحَائِر أو الحَيْر :
هذا الإسم من أهم الأسماء التي نعتت بها البقعة الطاهرة ؛ وذلك لما أحيط به من الحرمة والتقديس ، وما ترتب على ذلك من أحكام شرعية إلى يومنا هذا ، والذي يبدو أنّ هذا الإسم كان صريحاً في بداية وضعه ، إلا أنّه حصل عليه بعض الغموض بالتدريج مع مرور الزمن ، حيث حصل في القرون المتأخرة الخلط بين الحائر والحير ، حيث يأتي مرة مترادفاً ، وأخرى مختلفاً عنه في الرواية والتاريخ ، حيث أدى هذا الخلط إلى كثير من الإلتباس في أمره ، فأشكل الأمر على الفقهاء ، وعلماء اللغة ، والتاريخ ، والذي نريد بحثه هو ما يلي :
أولاً ـ في الروايات :
١ ـ عن الحسين بن علي بن ثوير بن أبي فاخته قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : (يا حسين ، من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهما السلام ـ ، إن كان ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة ، وحطّ بها عنه سيئة ، حتى إذا صار بالحائر كتبه من المفلحين ، وإذا قضى مناسكه ؛ كتبه الله من الفائزين ، حتى إذا أراد الإنصراف أتاه ملك فقال : أنا رسول الله ، ربك يقرئك السلام ويقول له : إستأنف العمل فقد غفر لك ما مضى) (١١٦).
٢ ـ عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (قلت له : إذا خرجنا إلى أبيك أفلسنا في حج؟. قال : بلى. قلت : فيلزمنا ما يلزم الحاج ، قال : ماذا؟ قلت : من الأشياء التي يلزم الحاج ، قال : يلزمك حسن الصحابة لمن يصحبك ، ويلزمك قلة الكلام إلا بخير ، ويلزمك كثرة ذكر الله ، ويلزمك نظافة الثياب ،
__________________
(١١٦) ـ الفيض الكاشاني ، المولى محمد حسن : الوافي ، ج ١٤ / ١٤٦٧.
ويلزمك الغسل قبل تأتي الحائر ، ويلزمك الخشوع ، وكثرة الصلاة على محمد وآل محمد ، ويلزمك التوقير (١١٧) لأخذ ما ليس لك ، ويلزمك أن تغض بصرك ، ويلزمك أن تعود إلى أهل الحاجة من إخوانك ، إذا رأيت منقطعاً والمواساة ، ويلزمك التقية التي قوام دينك بها ، والورع عما نهيت عنه ، والخصومة وكثرة الأيمان ، والجدال الذي فيه الأيمان ، فإذا فعلت ذلك تم حجك وعمرتك ، واستوجبت من الذي طلبت ما عنده بنفقتك ، واغترابك عن أهلك ، ورغبتك فيما رغبت ، أن تنصرف بالمغفرة والرحمة والرضوان) (١١٨).
٣ ـ عن أبي الصامت ، قال : (سمعت أبا عبد الله عليه السلام وهو يقول : من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً ؛ كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ، ومحا عنه ألف سيئة ، ورفع له ألف درجة ، فإذا أتيت الفرات فاغتسل وعَلّق نعليك وامشِ حافياً ، وامشِ مشي العبد الذليل ، فإذا أتيت باب الحائر فكبر أربعاً ، ثم امشِ قليلاً ثم كبر أربعاً ، ثم ائت رأسه فقف عليه فكبر أربعاً وصلِّ عنده ، واسأل الله حاجتك) (١١٩).
٤ ـ عن الحسن بن راشد ، عن أبي إبراهيم عليه السلام ، قال : (من خرج من بيته يريد زيارة قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام ؛ وكّل الله به ملكاً يضع إصبعه في قفاه ، لم يزل يكتب ما يخرج من فيه حتى يرد الحائر ، فإذا دخل من باب الحائر ، وضع كفه وسط ظهره ثم قال له : أما ما مضى ؛ فقد غفر لك فاستأنف العمل) (١٢٠).
__________________
(١١٧) ـ الظاهر (التوقي).
(١١٨) ـ بن قولويه ، الشيخ جعفر بن محمد : كامل الزيارات : ٢٥٠ ـ ٢٥١. (الباب ٨٤ ـ حديث ١).
(١١٩) ـ نفس المصدر / ٢٥٥.
(١٢٠) ـ نفس المصدر / ٣٥٢ ـ ٣٥٣.
٥ ـ عن يوسف الكناسي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام ؛ فائت الفرات واغتسل بحيال قبره ، وتوجّه إليك وعليك السكينة والوقار ، حتى تدخل الحائر من جانبه الشرقي ، وقل حين تدخله : السلام على ملائكة الله المسومين ، السلام على ملائكة الله الذين هم في هذا الحائر بإذن الله مقيمون) (١٢١).
٦ ـ عن عامر بن جذاعة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (إذا أتيت الحائر فقل : الحمد لله ، وصلى الله على محمد وأهل بيته ، والسلام عليه وعليهم السلام ، ورحمة الله وبركاته ، عليك السلام يا أبا عبد الله ، لعن الله من قتلك ، ومن شارك في دمك ، ومن بلغه ذلك فرضي به ، أنا إلى الله منهم بريء) (١٢٢).
٧ ـ عن أبي هاشم الجعفري قال : (بعث إليّ أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه ، وإلى محمد بن حمزة ، فسبقني إليه محمد بن حمزة ، فأخبرني أنه ما زال يقول : إبعثوا إلى الحائر. فقلت لمحمد : ألا قلت له : أنا أذهب إلى الحائر ، ثم دخلت عليه فقلت : جعلت فداك أنا أذهب إلى الحائر ، فقال : «أنظروا في ذلك» ثم قال : إن محمداً ليس له سرّ من زيد بن لعي ، وأنا أكره أن يسمع ذلك قال : فذكرت ذلك لعلي بن بلال ، فقال : ما كان يصنع بالحائر وهو الحائر؟ فقدمت العسكر فدخلت عليه ، فقال لي : أجلس حين أردت القيام ، فلما رأيته آنس بي ، ذكرت قول علي بن بلال ، فقال : ألا قلت له : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كان يطوف بالبيت ويُقبِّل الحجر ، وحرمة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ
__________________
(١٢١) ـ المصدر السابق / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.
(١٢٢) ـ نفس المصدر / ٣٨٢.
والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله أن يقف بعرفه ، وإنما هي من مواطن يحب الله أن يدعى فيها ، والحائر من تلك المواضع) (١٢٣).
٨ ـ عن أبي هاشم الجعفري قال : (دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه ـ عليه السلام ؛ يعني الهادي ـ عليه السلام ـ نعوده وهو عليل ، فقال لنا : وجِّهوا قوماً إلى الحير من مالي ، فلما خرجنا من عنده ، قال لي : محمد بن حمزة المشير : يوجهنا إلى الحائر ، وهو بمنزلة من في الحائر ، قال : فعدت إليه فأخبرته ، فقال لي : ليس هو هكذا ، إنّ لله مواضع يحب أن يعبد فيها ، وحير الحسين ـ عليه السلام ـ من تلك المواضع. قال الحسين بن أحمد بن المغيرة : وحدذني أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الرازي ـ المعروف بالوهوردي ـ بنيسابور بهذا الحديث ، وذكر في آخره غير ما مضى في الحديثيين الأوليين ، أحببت شرحه في هذا الباب ؛ لأنّه منه ، قال أبو محمد الوهوردي : وحدثني أبو علي محمد بن همّام (ره) ، قال : حدثني محمد الحميري ، قال حدثني أبو هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي الحسن ، علي بن محمد ـ عليهم السلام ـ ، وهو محموم عليل ، فقال لي : يا أبا هاشم ، إبعث رجلاً من موالينا إلى الحير يدعو الله لي ، فخرجت من عنده فاستقبلني علي بن بلال ، فأعلمته ما قال لي ، وسألني أن يكون الرجل الذي يخرج ، فقال : السمع والطاع ، ولكني أقول : إنه أفضل من الحير ، إذا كان بمنزلة من في الحير ، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعائي له بالحائر فأعلمته ـ صلوات الله عليه ـ ما قال ، فقال لي : قل له : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أفضل من البيت والحجر ، وكان يطوف بالبيت
__________________
(١٢٣) ـ النوري ، الميرزا حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٠ / ٣٤٦.
ويستلم الحجر ، وأنّ الله تبارك وتعالى بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها ، فيستجيب لمن دعاه والحائر منها) (١٢٤).
٩ ـ عن الحسين بن ثوير قال : (كنت أنا ويونس بن ظبيان ، والمفضل بن عمر ، وأبو سلمة السّرّاج جلوساً عند أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ وكان المتكلم منا يونس ، وكان أكبرنا سناً .. قلت : جعلت فداك ، إني أريد أزوره فكيف أقول ، وكيف أصنع؟ قال : إذا أتيت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ فاغتسل على شاطئ الفرات ، ثم البس ثيابك الطاهرة ، ثم امشِ حافياً في حرم من حرم الله وحرم رسوله ، وعليك بالتكبير والتهليل ، والتسبيح والتمجيد ، والتعظيم لله عَزّ وجَلّ كثيراً ، والصلاة على محمد وأهل بيته ، حتى تصير إلى باب الحير ... الخ) (١٢٥).
١٠ ـ عن محمد بن مسلم قال : (خرجت إلى المدينة وأنا وجع ، فقيل له : محمد بن مسلم وجع. فأرسل إليّ أبو جعفر عليه السلام شراباً مع غلام ـ مغطّى بمنديل ، فناولنيه الغلام وقال لي : إشربه فإنه قد أمرني أن لا أبرح حتى تشربه ، فتناولته فإذا رائحة المسك منه ، وإذا بشراب طيب الطعم بارد ، فلما شربته قال لي الغلام : يقول لك مولاي : إذا شربته فتعال ففكرت فيما قال لي ، وما أقدر على النهوض قبل ذلك على رجلي ، فلما استقر الشراب في جوفي فكأنما نشطت من عقال ـ والحديث طويل إلى أن قال ـ : يأخذه الرجل فيخرجه من الحائر وقد أظهره ، فلا يمرّ بأحد من الجن به عاهة ولا دابة ولا شيء به آفة إلا شمّه ، فتذهب بركته لغيره ، وهذا الذي نتعالج به ليس هكذا ، ولولا ما ذكرت لك ، ما يمسح به شيء ولا شرب منه شيء إلا أفاق من ساعته ، وما هو إلا
__________________
(١٢٤) ـ المصدر السابق / ٣٤٦ ـ ٣٤٧.
(١٢٥) ـ الفيض الكاشاني ، الشيخ محمد محسن : الوافي ، ج ١٤ / ١٤٨٥ ـ ١٤٨٦.
كالحجر الأسود ، أتاه أصحاب العاهات والكفر والجاهلية ، وكان لا يتمسح به أحد إلا أفاق ، وكا كأبيض ياقوته فأسودّ حتى صار إلى ما رأيت. فقلت : جعلت فداك وكيف أصنع به ، فقال : أنت تصنع به مع إظهارك إياه ما يصنع غيرك ، تستخف به فتطرحه في خرجك وفي أشياء دنسه فيذهب ما فيه مما تريده له. فقلت : صدقت جعلت فداك ، قال : ليس يأخذه أحد إلا وهو جاهل بأخذه ولا يكاد يسلم بالناس. فقلت : جعلت فداك وكيف لي أن آخذه كما تأخذه؟ فقال لي : أعطيك منه شيئاً ، فقلت : نعم ، قال : إذا أخذته فكيف تصنع به؟ فقلت : أذهب به معي ، فقال : في أي شيء تجعله؟ فقلت : في ثيابي ، قال : فقد رجعت إلى ما كنت تصنع ، اشرب عندنا منه حاجتك ولا تحمله فإنه لا يسلم لك ، فسقاني منه مرتين ، فما أعلم أني وجدت شيئاً مما كنت أجد حتى إنصرفت) (١٢٦).
ثانياً ـ في اللغة :
تناولت كتب اللغة لفظة (الحَائِر والحَيْر) كالتالي :
١ ـ في لسان العرب : «والحَيْرُ ، بالفتح : شِبْهُ الحَظِيرَة أو الحِمَى ، ومنه الحَيْرُ بكربلاء» (١٢٧).
٢ ـ في كتاب العين : «والحائر : حوض يُسيَّبُ إليه مسيل الماء في الأمصار ، يُسمّى هذا الإسم بالماء ، وبالبصرة : حائر الحُجّاج ، معروف يابس لا ماء فيه ، وأكثر
__________________
(١٢٦) ـ ابو قولويه ، الشيخ جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٤٦٢ ـ ٤٦٥ (باب ٩١ ـ الحديث ٧).
(١٢٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٤ / ٢٢٦.
الناس يُسمّونه : الحَيْر ، كما يقال لعائشة عَيْشة يستحسنون التخفيف وطرح الألف ، وإنما سُمّيَ حائراً ؛ لأنّ الماء يتحير فيه ، يرجع أقصاه إلى أدناه» (١٢٨).
٣ ـ في مراصد الإطلاع : «الحائر موضع فيه قبر الحسين (عليه السلام) ؛ لأنّه في موضع مطمئن الوسط ، مرتفع الحروف» (١٢٩).
٤ ـ تاج العروس : «الحائر عليه السلام (١٣٠) بالعراق ، فيه مشهد الإمام المظلوم الشَّهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ؛ سُمّي لتَحَيَّر الماء فيه» (١٣١).
٥ ـ لسان العرب : «وقيل : الحائر المكان المطمئن ، يجتمع فيه الماء فيتحيّر لا يخرج منه ، والحائر بكربلاء ...» (١٣٢). وبعد عرض هذه الأقوال ؛ نخرج بما يلي :
أ ـ إنّ المراد بالحائر لغة : المكان المطمئن الذي يجتمع فيه الماء فيحير ، أو شبه الحظيرة والحمى.
ب ـ في التفريق بين لفظة (الحائر والحير) يقول ابن منظور : «وقالوا : لهذه الدار حائر واسع ، والعامة تقول : حَيْرُ وهو خطأ» وقال أيضاً : «وبالبصرة حائر الحجاج ، معروف يابس لا ماء فيه ، وأكثر الناس يسميه الحير ، كما يقولون : لِعَائشَة عَيْشَةٌ ، يستحسنون التخفيف وطرح الألف» (١٣٣).
__________________
(١٢٨) ـ الفراهيدي ، الخليل بن أحمد : كتاب العين ، ج ٣ / ٢٨٩.
(١٢٩) ـ البغدادي ، عبد المؤمن عبد الخالق : مراصد الإطلاع ، ج ١ / ٣٧٣.
(١٣٠) ـ المراد بـ(ع) رمز لكلمة موضع.
(١٣١) ـ الزبيدي ، السيد محمد مرتضى الحسيني : تاج ال عروس من جواهر القاموس ، ج ١١ / ١٠٩.
(١٣٢) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٤ / ٢٢٣.
(١٣٣) ـ نفس المصدر.
«وقال الأصمعي : يقال للموضع المطمئن الوسط ، المرتفع الحروف حائر ، وجمعه حوران ، وأكثر الناس يسميه الحير ، كما يقولون لعائشة عيش ، والحائر : قبر الحسين بن علي «رضي الله عنه»» (١٣٤).
ويرجع هذا القول الدكتور عبد الجواد الكليدار بقوله : «والحير وإن كان مخفف الحائر على ما يذهب إليه أهل اللغة كالحرث والحارث ، والمخفف يؤدي عادة نفس المعنى الذي يؤديه المخفف عنه ، ويقوم كل واحد منهما بدل الآخر بدون فرق أو تمييز ، غير أنّ العرف واستعمال التاريخ كأنهما خالفا القاعدة في هذا المورد ؛ لإختلاف ظاهر في مدلول اللفظين وكيفية إطلاقهما ، فخصص كل منهما لمعنى غير الآخر ، وإن تقارب مدلولها في الأصل ؛ لأنّ الحير أصبح في الإستعمال ـ حسب الظاهر ـ علماً لمدينة كربلاء نفسها ، بينما صار الحائر علماً لقبر الحسين (عليه السلام) ، كما يستفاد ذلك من إطلاق المؤرخين والجغرافيين لهما ، فمن ذلك قول معجم البلدان : «والحائر قبر الحسين بن علي (رضي الله عنه) ، وأنهم يقولون الحير بلا إضافة إذا عنوا كربلاء» ، ومفاد هذا القول : أنّ الحير بذاته والحير وإن كانا من أصل واحد ، وأحدهما مخفف الآخر إلا أنهما ليسا بمترادفين في الإستعمال ، وليس لهما مدلول واحد ؛ لأنّ الفرق بينهما في الدلالة كالفرق بين إسم كربلاء وبين اسم حرم الحسين في هذا اليوم ، فلعلّ من يقصد كربلاء دون أن يكون قاصداً لحرم الحسين وبالعكس» (١٣٥).
__________________
(١٣٤) ـ الحموي ، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت : معجم البلدان ، ج ٢ / ٢٠٨.
(١٣٥) ـ الكليدار ، الدكتور السيد عبد الجواد : تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) / ٧٤.
أقول : لا مانع من القول بالترادف ؛ حيث أنّ المستفاد من كلمات اللغويين أن الحير مخفف الحائر ، فهما من أصل واحد ومؤداهما واحد ؛ وخير دليل على ذلك ، أنّ الأئمة عليهم السلام يُعَبِّرون عن تلك البقعة الطاهرة بـ(الحير) وتارة بـ(الحائر). وكذلك اللغويون يعبرون تارة بـ«ومنه الحير بكربلاء» وأخرى بـ : (والحائر بكربلاء).
فالإستعمال ؛ قد يكون في بداية الأمر يطلق على ما حول القبر ، ثم تطوروا في إطلاقه على كربلاء. كما أنّ إطلاق عامة الناس الحير أكثر من الحائر ، فكل هذا لا يؤثر على القول بالترادف.
ثالثاً ـ في التاريخ :
قد إتفق الرواة ، والمؤرخون ، والجغرافيون ، واللغويون ، على تسمية هذه البقعة الشريفة بـ(الحائر) ، بل من الواضح الذي لا ريب فيه ، أنه يوجد في لسان المعاصرين للأئمة عليهم السلام ومن قارب عصرهم ـ وخصوصاً من عصر الإمام الصادق عليه السلام ـ ، وفي كتب الأخبار والسير إطلاق الحائر على هذه البقعة الشريفة كثيراً ، بحيث قد بلغ حد الظهور ولو بضرب من التوسعة والمجاز ، والذي نريد بحثه هو ما يلي :
أ ـ وجه تسميتها بالحائر أو الحير :
ولعل أهم ما توصل إليه الباحثون في وجه التسمية هو التالي :
١ ـ قال العلامة الكبير المحقق السيد جعفر بحر العلوم (قده) : «أما ما كان مشتملاً على لفظ الحاير ـ وهو بعد الألف ياء مكسورة وراء ساكنة ـ ؛ فهو في الأصل حوض ينصب إليه مسيل الماء من الأمطار ، سمي بذلك ؛ لأنّ الماء يتحير فيه يرجع من أقصاه إلى أدناه ، وبهذه المناسبة أطلق لفظ الحاير على
موضع قبره عليه السلام ؛ لوقوعه في أرض منخفضة ، كما هو المشاهد من الصحن الشريف من جوانبه الأربع ، خصوصاً باب الزينبية وباب الصدرة ، ولا وجه لما هو مشهور من وجه التسمية بذلك ، من جهة أنّ المتوكل العباسي لما أمر بحرث قبره عليه السلام أطلق الماء عليه ، فكان لا يبلغه ، وإن صدقت القصة ـ إذ في كثير من الأخبار الصادرة قبل وجود المتوكل ، إطلاق لفظ (الحاير) على موضع قبر الحسين عليه السلام ، ... ـ فإن ولادة المتوكل سنة (٢٠٦ هـ) ، ووفات الصادق عليه السلام سنة (١٤٨ هـ) ، ولا يصح أن يكون الإطلاق باعتبار الواقعة المتأخرة» (١٣٦).
٢ ـ وقال الدكتور عبد الجواد الكليدار (ره) : «ومع أنّ إسم الحير بقي يطلق على كربلاء إلى عصر متأخر كما مر بيانه ، فلا يعلم اليوم بالضبط متى اندرس إستعماله؟ ، أو في أي قرن من القرون الأخيرة غاب هذه الإسم عن الأنظار نهائياً ، ليحل محله إسم (الحائر) وحده في العرف والتاريخ ، علماً لكربلاء ولقبر الحسين ـ عليه السلام ـ معاً. على أنّ هناك بمسافة غير بعيدة في جنوب كربلاء موضعاً آخر ، يشتق إسمه هو والحائر من مادة واحدة في اللغة ، وهو (الحيرة) ، فكأنهما يرجعان حتى في وجه التسمية إلى أصل واحد ، خصوصاً إذا ما لا حظنا أنّ كل واحد من هذين الموضعين يقع بجانب الآخر تقريباً ، فهل هناك إذن ، من صلة تاريخية أو جغرافية ، أو من أي نوع آخر كانت تجمع بين إسم الحائر والحير بكربلاء ، وبين إسم الحيرة بانلجف؟ فإنّ هذا الأمر لمن الأمور التي لا يمكن البث فيها بصورة قاطعة ، وذلك لعدم وجود مستندات تاريخية يمكن إستنباط شيء منها ، غير أنّ إقتراب الموضعين ، وتقارب الإسمين ورجوعهما إلى أصل واحد في اللغة ،
__________________
(١٣٦) ـ بحر العلوم ، السيد جعفر محمد باقر : تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ، ج ١ / ٣٠٤.
يجعل الباحث يتسائل عن علّة هذا الأمر ، أو على الأقل عن هذه الصدفة في وجه التسمية بينهما ، أكانت ذلك لأمر واقعي ، أو على سبيل الإتفاق؟» (١٣٧).
نتيجة البحث :
بعد ذكر القولين السابقين نخرج بالنتيجة التالية :
١ ـ بناء على ما تقدم ، يمكن أن نستنبط بعض الصلة بين مسمى الحائر والحيرة ، من صلات القومية التاريخية والجغرافية ، والقول بأنّ هذا النوع من البناء في هذه المنطقة يسمى بهذه التسمية قديماً ، فسميت (الحيرة) لوجود الحير فيها ، وسمي (قبر الحسين عليه السلام) وما أحاط به بالحائر ، ويؤيد هذا الوجه الحديث التالي :
روى جابر عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (أرسل علي عليه السلام إلى أسْقُف نَجْرَان يسأله عن أصحاب الأخدود ، فأخبره بشيء ، فقال عليه السلام : ليس كما ذكرت ، ولكن سأخبرك عنهم ، إنّ الله بعث رجلاً حبشياً نبيّاً ـ وهم حبشة ـ ؛ فكذبوه ، فقاتلهم فقتلوا أصحابه ، وأسروه وأسروا أصحابه ، ثم بنوا له حَيْراً ، ثم ملأوه ناراً ، ثم جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء ؛ فليرمِ نفسه في النار معه ، فجعل أصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ، فلمّا هجمت على النار ؛ هابت ورقّت على إبنها ، فنادها الصبي : لا تعابي وارميني ونفسك في النار ، فإنّ هذا والله في الله قليل. فرمت بنفسها في النار وصبّيها ، وكان ممن تكلم في المهد) (١٣٨).
فالمستفاد من (ثم بنوا له حَيْرَاً) ، أنّ المراد بالحير هو : شبه الحظيرة أو الحمى.
__________________
(١٣٧) ـ الكليدار ، الدكتور السيد عبد الجواد : تاريخ كربلاء وحائر الحسين (ع) / ٣٦.
(١٣٨) ـ البحراني ، السيد هاشم : البرهان في تفسير القرآن ، ج ٨ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.
٢ ـ إنّ الحائر في عرف ذلك العصر ؛ هو السور الذي كان يحيط بالقبر المطهر حريماً له ، وصوناً للمشهد من الطوارئ ، ولربما يكون بمثابة مأوى وملجأ للمنقطعين من الزائرين يأوون في داخله ، كما جرت عليه العادة فيما بعد في هندسة العتبات المقدسة ، بتزويد أسوارها الخارجية بحجرات في أطرافها من الداخل لمثل هذه الغاية.
٣ ـ لعلّ بإطلاق مثل هذا الإسم على هذا النوع من البناء في ذلك العصر ، أرادوا التكتم والتستر به كي لا يثيروا الشبهة حوله ، فتتحرك ضغينة الأمويين على الزائرين والإنتقام منهم ؛ ولذا توجد مسالح على حدود كربلاء في العهد الأموي ، لمنع الزائرين من الوصول إليها ومعاقبتهم حتى القتل ، وكان الزائرون يتخذون الغاضرية أو نينوى ملجئاً ومحطاً لرحالهم ، وذلك إتباعاً لتعليمات الإمام الصادق عليه السلام ـ كما في رواية أبي حمزة الثمالي ـ : (إذا أردت الوداع بعد فراغ من الزيارات ، فأكثر منها ما استطعت ، وليكن مقامك بنينوى أو الغاضرية ، ومتى أردت الزيارة فاغتسل وزر زورة الوداع) (١٣٩).
وبعد هذا البحث والتوضيح نخرج بالنتيجة التالية :
أولاً ـ المستفاد من المرويات أو الأنبياء حاروا لما مروا بهذه الأرض ، بل أن جميع المخلوقات وخصوصاً البشر حاروا في أمر هذه الأرض باعتبار ما حلّ فيها من المصيبة على الحسين وأهل بيته عليهم السلام ، وهذا ما نقرأه واضحاً من كتابات البشر بمختلف لغاتهم ودياناتهم.
ثانياً ـ إنها حضيرة وحمى لكل من أراد التوسل وقضاء الحاجات. فهو مصباح دجى وسفينة نجاة الحائرين.
__________________
(١٣٩) ـ ابن قولويه ، الشيخ جعفر بن محمد : كامل الزيارات / ٤٣٧ (باب ٨٤ ـ الحديث ٢).
إستنتاج المؤلف :
بعد عرض ما ذكره أعلام اللغة والتاريخ والفقه في سبب تسمية هذه البقعة الطاهرة بـ(الحير أو الحائر) ، يمكن إستنتاج بعض الأمور التي لها إرتباط بسبب التسمية ، من خلال النصوص الواردة في السيرة الحسينية ، وهي كالتالي :
أولاً ـ حيرة الأنبياء في كربلاء :
تذكر الروايات (١٤٠) أن جمعاً من الأنبياء مروا بكربلاء وهم : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وسليمان ، وعيسى (عليهم السلام) ، وكل منهم أُصيب بحدث حَيّره ، ثم أُخبروا من قبل الوحي بما سيحدث على الحسين عليه السلام في هذا المكان.
ثانياً ـ حيرة أفراس الحسين (عليه السلام) في كربلاء :
ونَصّ على ذلك المؤرخون في السيرة الحسينية : «ففي منتخب المرائي ، ومقتل أبي مخنف : لما وصلوا كربلاء ـ وهو يوم الأربعاء ـ إذ وقف الجواد الذي تحت الحسين عليه السلام ولم ينبعث من تحته ، وكلما حَثّه على المسير لم ينبعث خطوة واحدة يميناً وشمالاً ، فركب غيره فلم ينبعث من تحته ، فلم يزل الحسين عليه السلام يركب فرساً فرساً حتى ركب ستة أفراس ، وهي لا تخطو تحته خطوة واحدة ، فلما نظر إلى ذلك ؛ قال لهم : يا قوم أي موضع هذا؟ ... إلخ» (١٤١).
ثالثاً ـ حيرة أصحاب الحسين (عليه السلام) في تصرفاته وقتاله للقوم :
وإلى هذا يشير حديث الإمام الجواد عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام قال : (قال علي بن الحسين عليهما السلام : لما إشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب ؛ نظر إليه من
__________________
(١٤٠) ـ راجع بحار الأنوار ، ج ٤٤ / ٢٤٢ ـ ٢٤٤.
(١٤١) ـ القزويني ، السيد رضي بن نبي : تظلم الزهراء / ١٧٨ ـ ١٧٩.
كان معه فإذا هو بخلافهم ؛ لأنهم كلما إشتدّ الأمر ؛ تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، ونهدئ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض : أنظروا لا يبالي بالموت. فقال لهم الحسين عليه السلام : صبراً بني الكرام ، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة ، والنعيم الدائمة ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل سجن المؤمن وجنة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم ، وجسر هؤلاء إلا جحيمهم ، ما كذبت ولا كذبت) (١٤٢).
رابعاً ـ حيرة الجيش في أمر الرضيع :
قال السيد هبة الدين الشهرستاني (ره) : «... فالحسين عليه السلام بعدما خلى رحله من الماء وطال على أهله الظمأ ـ حتى جفت المراضع وشحت المدامع ـ تناول طفله الرضيع ـ واسمه علي أو عبد الله ـ ليقدمه إلى العدو وسيلة لرفع الحجر من الماء ، فأشرف على الأعداء بتلك البنية المعصومة من أية جانحة أو جارحة قائلاً : (يا قوم! إن كنا في زعمكم مذنبين فما ذنب هذا الرضيع؟ وقد ترونه يتلظى عطشاً ، وهو طفل لا يعرف الغاية ولم يأت بجناية ، ويلكم اسقوه شربة ماء ، فقد جفت محالب أمه)ز فتلاوم القوم بينهم بين قائل : لا بد من إجابة الحسين عليه السلام فإن أوامر ابن زياد بمنع الماء خصت الكبار دون الصغار ـ والصغير استثنته الشرائع والعواطف من كل جريمة وانتقام ، حتى لو كان من ذراري الكفار. وقائل : إن الحسين قد بلغ الغاية من الظمأ والضرورة ، فإن
__________________
(١٤٢) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٤٤ / ٢٩٧.
صبرتم عن سقايته سويعه أسلم أمره إليكم وتنازل لكم. فخشي ابن سعد من طول المقام والمقال أن يتمرد عليه جيشه المطيع ، فقال لحرملة : اقطع نزع القوم وكان من الرماة القساة ، فعرف عرض ابن سعد فرمى الرضيع بسهم نحره به ، وصار الحسين يأخذ دمه بكفه ، وكلما إمتلأت كفه دماً رمى به إلى السماء ، قائلاً : (اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل يعنى فصيل ناقة صالح) (١٤٣).
خامساً ـ حيرة القوم في قتل الحسين عليه السلام :
قال أبو مختف في مقتله : «ولقد مكث طويلاً من النهار ، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ، ويجب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء ، قال : فنادى شمر في الناس : ويحكم ماذا تنظرون بالرجل؟ أقتلوه ثكلتكم أمهاتكم ... إلخ» (١٤٤). وإلى هذا المعنى يشير الشيخ القرشي بقوله : «وكانت هيبته تأخذ بمجامع القلوب ، حتى قال بعض أعدائه : لقد شغلنا جمال وجهه ونور بهجته عن الفكرة في مقتله. وما إنتهى إليه رجل إلا إنصرف كراهية أن يتولى قتله» (١٤٥) ، وإلى هذا يشير إمامنا الصادق عليه السلام بقوله : (لما ضرب الحسين بن علي عليه السلام بالسيف ، ثم إبتدر ليُقطع رأسه ، نادى منادٍ من قبل ربّ العزّة تبارك وتعالى من بطنان العرش فقال : ألا أيتها الأمة المتحيرة الظالمة بعد نبيها ، لا وفقكم الله لأضحى ولا فطر. قال : ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : لا جرم والله ، ما وفقوا ولا يوفقون أبداً حتى يقوم ثائر الحسين عليه السلام) (١٤٦).
__________________
(١٤٣) ـ الشهرستاني ، السيد هبة الدين : نهضة الحسين / ١٢٧ ـ ١٢٨.
(١٤٤) ـ أبو مخنف ، لوط بن يحيى : مقتل الحسين / ٢٠٠.
(١٤٥) ـ القرشي ، الشيخ باقر شريف : حياة الإمام الحسين ، ج ٣ / ٢٩٠.
(١٤٦) ـ الصدوق ، الشيخ محمد بن علي : أمالي الصدوق / ١٤٢. (المجلس ٣١ ـ حديث ٥).
سادساً ـ حيرة بنات الرسالة في كربلاء :
إنّ من يقرأ السيرة الحسينية ، يلاحظ أنّ لبنات النبوة مواقف أحارتها وأذهلتها ، وأوجلت قلوبها ، وخصوصاً ساعة الوداع ، حينما جاءها سيد الشهداء عليه السلام مودعاً ، فقد ذابت أساً وتجرعت غصصاً ، حينما رأت عمادها وسياج صونها بتلك الحالة المشجية ، حيث الدماء تغلي كما أشار إلى ذلك الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله : (ضمني والدي عليه السلام إلى صدره حين قتل والدماء تغلي) (١٤٧). من الذي يستطيع أنّ يصوِّر الحسين عليه السلام مع عياله ، وقد خرجت كسرب القطا المذعورة ، وتعلقن بأذياله بين طفلة تنشد الماء ، ووالهة أذهلها المصاب؟
يقول الشيخ عباس القمي (ره) مصوراً لنا هذا الموقف : «إنّ مصاب الإمام الحسين عليه السلام كلها لها في القلب حرقة ، وفي العين دمعة ، لكن مصيبة الوداع لعلها أشد تأثيراً وإيلاماً في النفس ، خاصة وأنّ صغاره وأطفاله ، وبني قرباه ممن كانوا منه بمنزلة أولاده عليه السلام ، كانوا يحيطون به جميعاً وهم يبكون ويعولون ... وينقل عن عبد الله بن الحرّ قوله : قدم عليّ الحسين ولحيته كأنها جناح غراب ، فما رأيت أحداً قط أحسن منه ، ولا أملأ للعين منه ، فما رفقت على أحد رقّني عليه حين رأيته يمشي والصبيان حوله» (١٤٨).
إن هذه الساعة من أعظم المصائب على قلب الزهراء عليها السلام ، ومما يؤيد ذلك ما يلي :
__________________
(١٤٧) ـ القمي ، الشيخ عباس : منتهى الآمال ، ج ١ / ٥٣٣.
(١٤٨) ـ نفس المصدر.
١ ـ «رأى أحد الخطباء ليلة العاشر فاطمة الزهراء عليها السلام قالت له : إذكر للناس مصيبة ولدي الحسين عليه السلام. قال : سيدتي أنا أذكر مصرعه. قالت : ما قصدت هذا ، ولكن أذكر للشيعة لمّا ودع الحسين عليه السلام بناتي وبقين حيارى ليس مهن أحد غريبات. فانتبه وهو ينادي : واحسيناه ، وذكر هذا الأمر للشيعة» (١٤٩).
٢ ـ حكاية الميرزا يحيى الأبهري قال : «رأيت في منامي العلامة المجلسي (ره) في صحن سيد الشهداء المطهّر ، في الطرف الأدنى عند باب قبة الصفا ، وهو مشغول بالتدريس ، فبعد أن قال موعظة ، وأراد الشروع في الحديث عن المصائب ؛ أتاه شخص فقال : إنّ الصديقة الطاهرة سلام الله عليها تقول لك : إذكر المصائب المشتملة على وداع ولدي الشهيد.
فأقبل المجلسي يتحدث عن مصيبة الوداع ، وأخذ الناس يبكون بكاء شديداً لم أرَ مثله عمري. أقول : ورد في الرؤيا نفسها الحسين (عليه السلام) قال له : قولوا لأوليائنا وأمنائنا يهتمون في إقامة مصائبنا» (١٥٠).
إنّ محنة الإمام في توديعه لعياله من أعظم المحن والخطوب ، فما حاله وهو ينظر بعلمه إلى مستقبل هذه الودائع النبوية ، كيف يتراكضن في ارض كربلاء وقد حُرقت خيامهن والسياط على متونهن. قالت فاطمة الصغرى : (كنت واقفة بباب الخيمة ، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مجزرين كالأضاحي على الرمال ، والخيول على أجسادهم تجول ، وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي ، يقتلوننا أو يأسروننا ، فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه
__________________
(١٤٩) ـ آل إدريس ، الخطيب السيد محمد : لطائف وطرائف / ٤٠.
(١٥٠) ـ القمي ، الشيخ عباس : منتهى الآمال ، ج ١ / ٥٣٣.
وهنّ يلذن بعضهم ببعض ، وقد أخذ ما عليهن من أسورة وأخمرة ، وهنّ يصحن : واجداه وابتاه واعلياه واقلة ناصراه واحسيناه ، أما من مجير يجيرنا ، أما من ذائد يذود عنا ، قالت : فطار فؤادي ، وارتعدت مفاصلي ، فجعلت أحيل طرفي يميناً وشمالاً على عمتي أم كلثوم ، خشية منه أي يأتيني ، فبينما أنا على هذه الحال ، فإذا به قد قصدني فذهلت خشية منه ، وإذا بكعب الرمح بين كتفي ، فسقطت على وجهي ، فخرم أذني وأخذ قرطي ومقنعتي ، وترك الدماء تسيل على دخدي ورأسي تصهره الشمس ، وولى راجعاً للخيام وأنا مغشياً عليّ ، وإذا أنا بعمتي عندي تبكي وتقول : قومي يا بنية نمضي فما أعلم ما جرى على البنات وعلى أخيك العليل ،فقمت وقلت : يا عمتاه ، هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النظارة؟ فقالت : يا ابنتاه وعمتك مثلك. فرأيت رأسها مكشوفاً ومنتها إسودّ من الضرب ، فما رجعنا إلى الخيمة إلا وقد نهبت وجميع ما فيها ، وأخي مكبوب على وجهه لا يطيق الجلوس والقيام من كثرة الجوع والعطش والسقام ، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا) (١٥١).
هذه بعض المآسي المحيرة ، التي أذابت القلوب وأبكت حتى العدو الغاشم ، وبهذا نكتفي.
ولقد أجاء السيد حيدر الحلي (ره) في تصوير هذه المآسي في أبياته التالية :
وحائرات أطار القوم أعينها |
|
رعباً غداة عليها خدرها هجموا |
كانت بحيث عليها قومها ضربت |
|
سرادقاً أرضه من عزهم حرم |
يكاد من هيبة أن لا تطوف به |
|
حتى الملائك لولا أنهم خدم |
فغودرت بي أيدي القوم حاسرة |
|
تسبى وليس لها من فيه تعتصم |
__________________
(١٥١) ـ ابن نما ، الشيخ جعفر بن محمد : مثير الأحزان ، ج ٢ / ٩١ ـ ٩٢.