تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح ، وقدّموا من ذخر طيب.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية.

قصص لوط عليه السلام

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

الإيضاح

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم ، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين ، فنصحهم فلم ينتصحوا ، فأهلكهم الله ونجاه هو وقومه كما قال :

(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته ، فإنها هلكت مع من هلك من قومها ، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم ، منتن الريح.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أهلكنا عدا من ذكرنا.

ثم أرشد مشركى مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال :

٨١

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) أي وإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح ، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا ، لا أنيس فيها ولا جليس ، ولا ديّار ولا نافخ نار.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أتشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون.

قصص يونس عليه السلام

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

تفسير المفردات

أصل الإباق : هرب العبد من سيده ، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه ، المشحون : المملوء ، فساهم : أي فقارع من في الفلك ؛ أي عمل قرعة ، المدحضين : أي المغلوبين بالقرعة ، فالتقمه : أي فابتلعه ، مليم : أي آت ما يستحق عليه اللوم ، بالعراء : أي بالمكان الخالي ، يقطين : أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل : الموز ؛ وهو أظهر لأن أوراقه أعرض

٨٢

الإيضاح

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل ، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه ، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية : إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى بالهجرة ، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده ، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى ، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه ، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.

ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال :

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلو لا أنه كان من الذاكرين الله كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره ، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث ، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر ، وهو عليل الجسم سقيم النفس ، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه ، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به ، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة فى دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.

ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال :

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها ،

٨٣

ويستظل بأغصانها ، فتقيه لفح الشمس ووهجها ، وبرد الصحراء وشديد صرّها ، وكذلك يأكل من ثمارها ، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى.

ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه ، ليتمّ دعوته ، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون ، فاستقامت حالهم وآمنوا به ، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم ، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه ، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك.

تذنيب

هاهنا مسألتان :

(١) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق ، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.

(٢) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك ، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ

٨٤

تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

المعنى الجملي

أمر الله رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده ، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده ، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم ، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين ، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل : وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهى جعل البنات لله وجعل البنين لأنفسهم بقولهم : الملائكة بنات الله ، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا ، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها.

الإيضاح

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها ، ألربى البنات ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم ، وإلام تستندون؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله : «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».

٨٥

ونحو الآية قوله في سورة النجم : «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» أي قسمة جائرة.

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق؟

وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة ، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل ، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل ، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته ، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد ، فلم تبق إلا المشاهدة ، وهذه لم تحصل ، ونحو الآية قوله : «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ».

ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال :

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأى الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن لله ولدا ، وهو افتراء قبيح وإفك صريح ، لا مستند له ، ولا شبهة ترشد إلى صدقه.

ثم أكد هذا النفي بقوله :

(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون ، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون ، فمن أين جاءهم هذا؟

ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال :

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟) أي أىّ شىء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا.

ونحو الآية قوله : «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً».

٨٦

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ، وتتفكرون فى صحة ما تعتقدون؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون ، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون.

ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال :

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل ألكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين.

ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم ، والإنكار الشديد لأقاويلهم ، وتسفيه أحلامهم ، مع الاستهزاء بهم ، والتعجيب من جهلهم.

ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغى أن قال فقال :

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد بالجنة الملائكة ، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون ، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة ، فقالوا الملائكة بنات الله.

ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال :

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا ـ إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا.

قال مجاهد ومقاتل : القائل ذلك هم كنانة وخزاعة ، قالوا إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن ، وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله ، فهو النسب الذي جعلوه ، وقال الكلبي وقتادة : قالت اليهود ـ لعنهم الله ـ : إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.

٨٧

والخلاصة ـ إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على الله بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك.

ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال :

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد ، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

تفسير المفردات

بفاتنين : أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه ، صال الجحيم : أي داخل في النار ومعذب فيها ، الصافون : أي صافو أنفسهم للعبادة ، ذكرا : أي كتابا

المعنى الجملي

بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم ـ أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له ، وقد سبق

٨٨

فى حكم الله أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها ، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد الله.

الإيضاح

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم ، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها ، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن :

أحمد الله فلا ندّ له

بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضلّ

ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال :

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى خضوعا لعظمته ، وخشوعا لهيبته ، وتواضعا لجلاله كما روى فى الخبر «فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، وساجد لا يرفع رأسه».

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات ، ومنازل الكرامات ، لكل منا منزلة لا يعدوها ، ومرتبة لا يتخطاها. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال : ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها ، فقلنا : يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال : يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف» وكان عمر يقول إذا قام للصلاة : أقيموا صفوفكم واستووا ، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ : «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبّر.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه الله تعالى عما لا يليق به ، فنحن عبيد له ، فقراء إليه ، خاضعون لأوامره.

٨٩

ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي صلّى الله عليه وسلم فقال :

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده ، ليخلصوا له العبادة ، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى.

ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال :

(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به ، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا.

ونحو الآية قوله : «وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً».

ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد ، على كفرهم بربهم ، وتكذيبهم برسوله صلّى الله عليه وسلم.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

٩٠

تفسير المفردات

كلمتنا : وعدنا ، المنصورون : أي الغالبون في الحرب وغيرها ، جندنا : أي أتباع رسلنا ، والساحة : المكان الواسع.

المعنى الجملي

لما هدد سبحانه المشركين بقوله : فسوف يعلمون ـ أردفه ما يقوى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بوعده بالنصر والتأييد ، كما جاء في آية أخرى «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

الإيضاح

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم ، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك.

ونحو الآية قوله : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ».

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم ، واصبر على أذاهم ، وانتظر مدة قليلة ، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد.

(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال.

بمخالفتك وتكذيبك ، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا ، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً»

٩١

ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به ، وكفرهم بك والله منزله عليهم لا محالة.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم ، وفي الصحيحين عن أنس قال : «صبّح رسول الله خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون : محمد والله ، محمد والخميس ـ الجيش ـ ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : الله أكبر ، خربت خيبر ، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» رواه البخاري.

قال صاحب الكشاف : مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه ، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ا ه ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال :

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم ، وانظر إليهم ، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة.

ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال :

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركى قريش من نحو قولهم : ولد الله. وقولهم : الملائكة بنات الله. وأمنة

٩٢

من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم ـ من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى ، والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه ، لأن كل نعمة لعباده فهى منه.

وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه.

روى البغوي عن على كرم الله وجهه أنه قال : «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين».

وعن أبى سعيد الخدري قال : «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

مجمل ماحوته السورة من موضوعات

(١) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.

(٢) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.

(٣) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.

(٤) وصف الجنة ونعيمها.

(٥) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.

(٦) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا : الملائكة بنات الله.

(٧) تنزيه الله عن ذلك.

(٨) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال.

(٩) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.

(١٠) مدح المرسلين وسلام الله عليهم.

(١١) حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.

٩٣

سورة ص

هى مكية ، نزلت بعد سورة القمر ، وعدة آيها ثمان وثمانون ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين :

(١) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان.

(٢) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا : لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد الله المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم ـ بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذى الذكر وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

٩٤

تفسير المفردات

الذكر : الشرف كما قال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» الذين كفروا هم رؤساء قريش ، فى عزة : أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه ؛ والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم : من «عزّ بزّ» أي : من غلب سلب ، شقاق : أي مخالفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من قولهم : فلان في شقّ غير شق صاحبه ، فنادوا : أي استغاثوا ، لات : أي ليس الحين ، مناص : أي فرار وهرب ، عجاب : أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلا الصبر عليه ، الملة :

الآخرة : هى ملة النصارى ، اختلاق : أي كذب وافتراء ، فليرتقوا : أي فليصعدوا ، فى الأسباب : أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش ، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلّم

جند ما : أي جند كثير عظيم كقولهم «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، مهزوم : أي مغلوب ، الأحزاب : أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه.

الإيضاح

(ص) تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للاصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا ، ويا ، وينطق بأسمائها فيقال (صاد) بالسكون.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي أقسم بالقرآن ذى الشرف والرفعة إنه لمعجز ، وإن محمدا لصادق فيما يدّعيه من النبوة ، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر ، وإن كتابه لمنزل من عنده : ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه

٩٥

ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم ، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم وحرصهم على مخالفته.

ثم حذرهم وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم فقال :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا ، فقد فات الأوان وحل البأس ، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب.

ونحو الآية قوله : «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ» وقوله «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» وقوله «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ».

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعى النبوة ويدعو إلى الله وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة ، ومن ثم قالوا ما هو إلا خدّاع كذاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي ، ثم ذكر شبهتهم فى إثبات كذبه من وجوه ثلاثة :

(١) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم ، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقّا صادقا ـ ولا شك أن هذا استبعاد فحسب ، ولا مستند له من عقل ولا نقل.

ونحو الآية قوله «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

٩٦

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ».

روى ابن جرير عن ابن عباس قال : «لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل واحد ، قال فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرقّ عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه ، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخى ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول ، وتكلم رسول الله فقال يا عم : إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية ، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم ما هى وأبيك ، لنعطينّكها وعشرا ، قال صلّى الله عليه وسلم (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون : «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» فنزل من هذا الموضع إلى قوله : «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ».

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبى طالب بعد ما بكّتهم رسول الله وشاهدوا تصلبه في الدين ، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه ، يتحاورون بما جرى ويقلّبون وجوه الرأى فيما يفعلون ، ويقولون : اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغضّ من شأنها والاستهزاء بأمرها.

ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا :

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان ،

٩٧

أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم ، واصبروا على عبادة آلهتكم.

ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا :

(٢) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهى ملة النصارى ، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه ، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب.

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم.

(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له ، وليس له مستند من دين سماوى ولا من عقل فيما يزعمون.

ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد صلّى الله عليه وسلم بالوحى وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا :

(٣) (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) أي إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف ، والرياسة والكياسة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ثم نعى عليهم تعرّضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال : «أهم يقسمون رحمة ربّك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات» فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة.

ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم ، إذ هى دالة بأنفسها على صحة نبوته ، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.

٩٨

ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجىء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجىء العذاب فقال :

(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنهم لما يذوقوا عذابى بعد ، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك.

والخلاصة ـ إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكرى.

ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أيملكون خزائن رحمة الله القهار لخلقه ، الكثير المواهب لهم ، المصيب بها مواقعها ـ فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون ، ويمنحوها من يشاءون ، ويصرفوها عمن لا يحبون ، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم ، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم؟

والخلاصة ـ إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شىء «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

ونحو الآية قوله : «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً».

ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار ، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب فقال :

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشئون الغيبية ويفكروا فى التدابير الإلهية التي يستأنر بها رب العزة والكبرياء؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السموات ، وليدبروا شئونها حتى يظن صدق دعواهم ، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك.

والخلاصة ـ إنه ليس لهم شىء من ذلك ، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله

٩٩

بحسب ما يريدون ، وإعطاء النبوة لمن يشاءون ، فذلك من شئونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.

ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال :

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة ، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم ـ جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين ـ مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم ، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها ، فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية ، والتصرف في الخزائن الربانية؟.

وهذا خبر من الله لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند ـ أنه سيهزم جند المشركين ، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع ـ وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق كتابه وأنه من عند الله لا من عند البشر.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

المعنى الجملي

لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب ـ بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.

وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم.

١٠٠