تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

الإيضاح

ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه ، فيرعووا عن غيّهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :

(١) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزءوا به ، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا ، فدعا ربه وقال : «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون ، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه كما قال : «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ».

(٢) (وَعادٌ) وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية كما قال فى سورة الحاقة : «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ».

(٣) (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) وقد بعث الله إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصرّ على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى ، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ونجّى موسى وقومه بنى إسرائيل كما قال في سورة يونس : «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

١٠١

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً».

وقوله ذو الأوتاد : أي ذو الملك الثابت ، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها ، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

فى ظل ملك ثابت الأوتاد

(٤) (وَثَمُودُ) وقد جاء ذكرهم في عدة سور أرسل الله إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر : «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ـ إلى أن قال ـ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ».

(٥) (وَقَوْمُ لُوطٍ) وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب ، فمنها قوله في سورة القمر : «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ».

(٦) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة : الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب ، وقد ذكر الله قصصهم في كثير من السور ، فمنها ما جاء في سورة الحجر : «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ».

(أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل ، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.

ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال :

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة ، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب ، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابى؟.

١٠٢

ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال :

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ينظر ؛ أي ينتظر كقوله تعالى : «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» وهؤلاء أي كفار مكة ، والفواق : الزمن الذي بين الحلبتين ، والصيحة : النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة ـ بلا توقف مقدار فواق.

والخلاصة ـ إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨))

تفسير المفردات

القط : النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط ، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر :

ولا الملك النعمان يوم لقيته

بغبطته يعطى القطوط ويأفق

ويأفق : أي يصلح.

المعنى الجملي

تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد ، فأشاروا إلى الأولى بقولهم : أجعل الآلهة إلها واحدا ، وإلى الثانية بقولهم : أأنزل عليه الذّكر من بيننا ، وهنا أشار إلى الثالثة بقوله : وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد ، وأن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعلمون ، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.

١٠٣

الإيضاح

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة ـ ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ولا تؤخره لى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.

وقائل ذلك على ما روى عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه الله تعالى : «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» أو أبو جهل على ما روى عن قتادة ، ورضى بهذه المقالة الباقون ، ومن ثم أسندها إليهم جميعا.

ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغاية ، إذ قالوا إنه ساحر كذاب ، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا ـ أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال :

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره ، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك ، ثم جاعلو الظفر لك على من كذبك وشاقّك ، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك.

قصص داود عليه السلام

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

تفسير المفردات

الأيد والآد : القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، أوّاب : أي رجاع إلى الله وإلى طاعته من قولهم آب. إذا رجع ، قال عبيد بن الأبرص :

١٠٤

وكلّ ذى غيبة يئوب

وغائب الموت لا يئوب

والإشراق : أي وقت الإشراق ، يقال أشرقت الشمس : أضاءت ، وشرقت : طلعت ، محشورة : أي محبوسة في الهواء ، أواب : أي منقاد يسبح تبعا له ، شددنا ملكه : أي قويناه بالهيبة والنصر ، والحكمة : هى إصابة الصواب في القول والعمل ، الفصل : الحاجز بين الشيئين ، وفصل الخطاب : الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل.

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين ـ أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاقّ والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم ـ ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذى القوة في الطاعة والفقه في الدين ، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر وورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفرّ إذا لاقى ، وإنه كان أوّابا» أي رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه ، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر الله ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة».

وأخرج البخاري في تاريخه عن أبى الدرداء قال : «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدّث عنه قال : كان أعبد البشر».

١٠٥

وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود».

ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال :

(١) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار ، وتسبيحها معه تقديسها لله بحال تليق بها ، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما ، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات.

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه ، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه.

وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبّل الذي يعجب به الحيوان الأعجم ، فما بالك بالإنسان؟

ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال :

(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له (٢) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء (٣) (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي وأعطيناه العلم الكامل ، والإتقان للعمل ، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره ، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر :

قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها

فمن علا زلقا عن غرّة زلجا

(٤) (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف ولا ميل مع الهوى ، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم ، ومزيد فى الحلم ، وتفهم أحوال الخصوم ، ورباطة الجأش ، وعظيم الصبر ، والذكي لذى لا يتوافر لكثير من الناس.

١٠٦

قضية من قضاياه التي حكم فيها

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

تفسير المفردات

هل : هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها ، والخصم : جماعة المخاصمين ؛ ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر :

وخصم عضاب ينفضون لحاهم

كنفض البرازين العراب المخاليا

وتسوروا : أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل ، والمحراب : الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه ، والفزع : انقباض ونفار يعترى الإنسان من شىء مخيف ، بغى : أي جار وظلم ، ولا تشطط : أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة ، سواء الصراط : أي وسط الطريق ، والنعجة أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة :

١٠٧

يا شاة ما قنص لمن حلّت له

حرمت علىّ وليتها لم تحرم

فبعث جاريتى فقلت لها اذهبي

فتحسّسى أخبارها لى واعلم

قالت رأيت من الأعادى غرّة

والشاة ممكنة لمن هو مرتمى

أكفلنيها : أي ملكنيها ، وأصل ذلك اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى ، وعزّنى : أي غلبنى ، وفي المثل : من عزّ بزّ أي من غلب سلب ، وقال الشاعر :

قطاة عزّها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

فى الخطاب : أي في مخاطبته إياى ومحاجته ، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده ، والخلطاء :

هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج : واحدهم خليط ، فتنّاه : أي ابتليناه ، خر : أي سقط ، راكعا : أي ساجدا ؛ وقد يعبر بالركوع عن السجود ، قال الشاعر :

فخرّ على وجهه راكعا

وتاب إلى الله من كل ذنب

وأناب : أي رجع إلى ربه ، والزلفى : القرب من الله ، والمآب : المرجع.

المعنى الجملي

بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف ـ أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه ، مشوّقا إليه السامع ، ومعجّبا له.

الإيضاح

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي هل علمت ذلك النبأ العجيب ، نبأ الجماعة الذين تسلّقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم ، وحين رآهم

١٠٨

فزع منهم ظنا منه أنهم جاءوا لا غتيا له ، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة ، فقالوا له : لا تخف منا ، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوىّ ، ولا تشطط في الحكومة.

ثم فصّلوا موضع الخصومة فقالوا :

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي إن أخى هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة ، فقال ملكنيها وغلبنى في المحاجة ، فجاء بحجج لم أطق لها ردّا ولا دفعا.

ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال :

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي قال داود بعد أن أقرّ المدعى عليه بما قال المدّعى : لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه.

ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال :

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي :

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفّة فلعلّة لا يظلم

إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال ، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم ، وترعوى خشية من خالقها ، وما أقل هؤلاء عددا ، وأندرهم وجودا كما قال : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ».

ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال :

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى لأجل أن يغتالوه ،

١٠٩

فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن ؛ إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.

ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال :

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن ، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.

هذا خلاصة مارآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص ، وهو حسن.

بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال ـ ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال ، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه ـ إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة ـ ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود ، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر ، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه ، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي فى غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة ـ فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما ، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال ، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما ، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفى عليهما ، ولأجله تسوّرا المحراب ، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر ، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود ، فهى فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل ، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين ، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بنى إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله : «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»

١١٠

وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة همّ أن ينتقم منهما ويجازى السيئة بمثلها «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال : «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ» ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما.

وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك

فى كلام العرب كما قال

كنعاج الفلا تعسّفن رملا

فذلك يتوقف على أن كلمة

(نعجة) فى اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هى في العربية ، وتأباه كلمة (الْخُلَطاءِ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن (تَسَوَّرُوا) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسوّر ، إلى أنّ ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجىء الملكين مما يخلّ بمنصب النبوة ، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء ، فيجب علينا أن نطرحه ؛ إذ يبطل الوثوق بالشرائع ـ إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين ، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجلّ مقامهم عنه ، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم الله لرسالاته ، ومن ثم أثر عن علىّ رضى الله عنه أنه قال : من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

المعنى الجملي

بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين ـ أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل

١١١

عن سبيل الله ، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب ، إذ قد نسى يوم الحساب والجزاء.

الإيضاح

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض ، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية ، لك الملك والسلطان ، وعليهم السمع والطاعة ، لا يخالفون لك أمرا ، ولا يقيمون في وجهك عصا.

ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال :

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) المنزل من عندى ، والذي شرعته لعبادى لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة.

ثم أكد ما سلف بالنهى عن ضده فقال :

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فى الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا.

وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة ، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.

ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال :

(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي فيكون اتباعك للهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت ، والأعلام التي وضعت ، للارشاد إلى سبل السلام ، بإصلاح حال المجتمع فى دينه ودنياه ، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه ، وبينه وبين الناس.

ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه ـ لهم من الله العذاب الشديد

١١٢

يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال ، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت ، فمن دسّى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

تفسير المفردات

باطلا : أي عبثا ولعبا ، ويل : أي هلاك ، مبارك : أي كثير المنافع الدينية والدنيوية ، ليدبروا : أي ليتفكروا ، ليتذكر : أي ليتعظ ، الألباب : واحدها لبّ ، وهو العقل ، وقد يجمع على ألبّ ويفك إدغامه في ضرورة الشعر ، قال الكميت :

إليكم ذوى آل النبىّ تطلّعت

نوازع من قلبى ظماء وألبب

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن ـ أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه ، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ، بل خلقهم لعبادته وتوحيده ، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين ، ويعذب الكافرين ، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس ، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى ، فإذا هم تدبروا آياته ، واتعظوا بعظاتها ، سعدوا في الدارين ، وبلغوا السماكين ، وكانوا سادة العالم أجمع.

١١٣

الإيضاح

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس ، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم ، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون ـ لهوا ولعبا ، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة ، وأسرار بالغة ، ومصالح جمة ، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا ، فإنا لن نترك الناس سدى ، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير ، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ونحو الآية قوله : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا بالله وجحدوا آياته فقال :

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن الذين كفروا بالله وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق ، ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدالّ على قدرة خالقه وعظيم تصرفه ـ أنكروا الحكمة في خلقه ، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه ، وبرهانا على وحدانيته كما ورد في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى».

ونحو الآية قوله : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» ثم بين أن لهم سوء المنقلب ، على بطلان ما اعتقدوا ، وقبيح ما فعلوا فقال :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي فياويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما ، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم ، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم ، وإنكارهم لليوم الذي تجازى فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»

١١٤

ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين اجترحوا السيئات ، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال :

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه ، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه ، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شىء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً». «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا ، وهاموا فيها على وجوههم ، لا دين يمنعهم ، ولا زاجر يردعهم ، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون : ما هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر ، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غىّ ، أو يكفّوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات ، ويجترحون السيئات ، بما وسوس إليهم به الشيطان ، أن لا حلال ولا حرام ، ولا جنة ولا نار ، فما هذه إلا أساطير الأولين ، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين.

وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة ، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع ، ويثاب على ما عمل ، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه ، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.

والعقول السليمة ، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده ، وتدل عليه وتثبته ، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا ، ويتمتع بصنوف اللذات ، من الدور

١١٥

والقصور ، والفراش الوثير ، والسكن في الجنات ، ويركب فاره الخيول المطهّمة والمراكب الفاخرة ، ويشار إليه بالبنان ، بينا نرى المطيع لربه ، المظلوم من بنى جنسه قد يعيش عيش الكفاف ، ولا يجد ما يقيم به أوده ، ويسدّ به مخمصته ، أفيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاءوا بلا حساب ولا عقاب ، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا ، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف ، والكيل بالقسط والميزان ، وتلك هى الدار التي وعد بها الرّحمن ، على ألسنة رسله الكرام ، صدق ربنا ، وإن وعده الحق ، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم.

أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال : الذين آمنوا علىّ وحمزة وعبيدة ابن الحارث رضى الله عنهم ، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر.

ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة ، والمآخذ العقلية الصحيحة قال :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس ، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ، فى دينهم ودنياهم ، الجامع لوجوه المصالح ، ليتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار الله بصائرهم ، فاهتدوا بهديه ، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه ، وتذكروا مواعظه وزواجره ، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته ، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين ، ويستأصلهم كما استأصل السابقين ، ممن بغوا في الأرض فسادا.

وما تدبّره بحسن تلاوته وجودة ترتيله ، بل بالعمل بما فيه ، واتباع أوامره ونواهيه ، ومن ثمّ قال الحسن البصري : قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا

١١٦

حروفه ، وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا ، وقد والله أسقطه كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء.

قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

تفسير المفردات

الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال :

ألف الصّفون فما يزال كأنّه

مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال النابغة :

لنا قبّة مضروبة بفنائها

عتاق المهارى والجياد الصوافن

والجياد : واحدها جواد ، وهو السريع العدو ، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد ، والخير هنا : الخيل : توارت : أي غيبت عن البصر ، طفق : شرع ، المسح إمرار اليد على الجسم.

١١٧

الإيضاح

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان.

ونحو الآية قوله : «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ».

ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال :

(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات ، وفي كثير من المهمات ، اعتقادا منه بأن كل شىء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.

ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال :

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار ، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره.

وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية ، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها ، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن ، بل يكون في العراب الخلّص.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه ، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه ، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق ، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه ، ومن الخير أن يزداد شغفه به ، وتلك هى غاية المحبة ، فسليمان عليه السلام يقول : إنى أحب حبى لهذه الخيل ، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى.

(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي :

أثارت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا

١١٨

فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة «إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى» وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة ، ولبعد المسافة من جهة أخرى.

وبعد أن اطمأن إلى حالها ، وحمد جميل أمرها قال :

(رُدُّوها عَلَيَّ) فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها ، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات ، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات ، من غزو وغيره.

ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد ، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ ـ أظهر استحسانه لها ولفرسانها.

(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه ، إذ هى أعظم الأعوان ، فى دفع العدوان ، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها ، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء.

والخلاصة ـ إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان ، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه ، وقال إنى ما أحببتها للدنيا ولذاتها ، وإنما أحببتها لأمر الله وتقوية دينه ، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره ، أمر راكضيها بأن يردوها إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها ، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها ، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى ، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضى.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

١١٩

تفسير المفردات

فتنّا سليمان : أي ابتليناه بمرض ، جسدا : أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح ، أناب : أي رجع إلى صحته ، لا ينبغى لأحد من بعدي : أي لا ينتقل منى إلى غيرى ، رخاء : أي لينة ، أصاب : أي قصد وأراد ، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول :

أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، قال الشاعر :

أصاب الكلام فلم يستطع

فأخطأ الجواب لدى المفصل

مقرّنين : أي مربوطين ، والأصفاد : واحدها صفد (بالتحريك) وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق ، قال عمرو بن كلثوم :

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

والزلفى : الكرامة ، والمآب : المرجع.

الإيضاح

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه ، لشدة وطأته عليه (والعرب تقول فى الضعيف : إنه لحم على وضم ، وجسم بلا روح) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة من ربه ، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه ، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأن

١٢٠