تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا قد أحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد.

ونحو الآية قوله : «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله : «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ».

ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس فقال :

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ففى هذا اليوم يوم القيامة لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، ولا يحمل عليها وزر غيرها ، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح ، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح ، جزاء وفاقا لما عملت في الدنيا.

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

تفسير المفردات

الشغل : الشأن الذي يصدّ المرء ويشغله عما سواه من شئونه وأحواله لأهميته لديه ، إما لأنه يحصّل مسرة كاملة أو مساءة عظيمة ، الفاكه : الطيب النفس الضحوك قاله أبو زيد ، والظلال : واحدها ظل وهو ضد الضّح (ما تصيبه الشمس) والأرائك : واحدها أريكة ؛ وهى سرير منجّد مزيّن في قبة أو في بيت ، يدّعون : أي يطلبون.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن ذلك اليوم كائن لا محالة ، وأنه سيأتى بغتة من حيث يشعر به أحد ، فما هو إلا صيحة واحدة فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون ـ

٢١

أردف ذلك بيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم من ثواب وعقاب ، ليكون فى ذلك ترغيب في صالح الأعمال ، وترهيب من فعل الفجور واجتراح السيئات.

الإيضاح

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها ، ويكون بذلك في شغل عما سواه ، إذ يرى ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فأنى له أن يفكر فيما سواه؟ وهو بذلك فرح مستبشر ضحوك السن هادىء النفس ، لا يرى شيئا يغمه أو ينغّص عليه حبوره وسروره.

ثم ذكر ما يكمل به تفكههم ويزيد في سرورهم فقال :

(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس ، لأنه لا شمس فيها (وألذ شىء لدى العربي أن يرى مكانا فيه ظل ظليل ، وأنهار جارية ، وأشجار مورقة) وهم فيها متكئون على السرر عليها الحجال (الناموسيات) وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة لدى من نزل عليهم التنزيل.

وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس ـ ذكر ما يتمتعون به من مآكل ومشارب ، ولذات جسمانية وروحية فقال :

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي لهم فيها من الفواكه مالذ وطاب ، مما تقرّ به أعينهم ، وتسرّ به نفوسهم ، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا ، ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون وتشتاق إليه نفوسهم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : ادّع علىّ ما شئت أي تمن علىّ وتقول فلان في خير ما ادّعى أي في خير ما تمنى.

ثم فسر الذي يدّعون بقوله :

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم

٢٢

تعظيما لهم ، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه : «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ».

والسلام أمان من كل مكروه ، ونيل لكل محبوب ، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها ، فكأن هذا إجمال.

لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

تفسير المفردات

امتازوا : أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين ، والعهد : الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة ، وعبادة الشيطان : يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة ، وأضيفت إلى

٢٣

الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها ، والجبلّ : الجماعة العظيمة ، اصلوها : أي قاسوا حرها ، والختم على الأفواه : يراد به المنع من الكلام ، والطمس : إزالة الأثر بالمحو ، فاستبقوا الصراط : أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ، فأنى يبصرون : أي فكيف يبصرون الحق ، ويهتدون إليه؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة ، على مكانتهم : أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح ، ونعمره : أي نطل عمره ، ننكسه في الخلق : أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد ، وانتقاص بنيته يكثر ، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات ـ أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض ، فيكون لهم عذابان : عذاب النار وعذاب الوحدة ، ولا عذاب فوق هذا ، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه ، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به ، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا ، لكنهم اتبعوا وساوسه ، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا ، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى ، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم ، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة ، ولا تقبل منهم معذرة ، بل تتكلم أيديهم بما عملت ، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت ، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات ، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا ، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا ، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا ، ثم دفع معذرة أخرى ربما

٢٤

احتجوا بها وهى أن ما عمّروه قليل ، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل ، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال : «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ولكن ذلك ما كفاهم ، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا.

الإيضاح

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار ، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا ، ونحو الآية قوله : «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» وقوله : «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» وقوله : «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ».

ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي ألم أوصكم بما نصبت من الأدلة ، ومنحت من العقول ، وبعثت من الرسل ، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة ـ أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمرى.

ثم علل النهى عن عبادته بقوله :

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل ، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى ، ويوقعكم في مزالق الهلاك.

ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال :

٢٥

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي ، وأطيعونى فيما أمرتكم به ، وانتهوا عما نهيتكم عنه.

ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال :

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان ، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن ، هو الصراط المستقيم ، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى.

وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك ، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال :

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دونى آلهة يعبدونها.

ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال :

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم.

وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هى جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان ، وعصيتم الرّحمن ، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان ، واجترحتم الفسوق والعصيان.

ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله :

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم ، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا ، وتكذيبكم إياها ، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا ، وأوقظتم فلم تستيقظوا.

وخلاصة ذلك ـ إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة :

٢٦

(١) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون : «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

(٢) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم.

(٣) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها ، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل :

أليس بكاف لذى همة

حياء المسيء من المحسن

ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال :

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففى هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام ، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى الله عنهم من قولهم : «وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة ، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه.

ونسب الكلام إلى الأيدى والشهادة إلى الأرجل ، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال ، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله : «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» وقوله : «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» وقوله : «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب ، إذ هى كالأجنبية منها.

وجاء في الخبر : «يقول العبد يوم القيامة إنى لا أجد علىّ شاهدا إلا من نفسى ، فيختم الله على فيه ويقول لأركانه : انطقى ، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

٢٧

وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه ، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها ، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا ، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة.

وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر ، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة : «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فالنفس إذا هى الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب ، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم ، أي تدل على المراد أفصح دلالة ، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد ، وهذا هو الذي ينبغى أن يفهم في الآية الكريمة.

ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار ، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال :

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم ، فطمسنا على أعينهم ، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا ، ولا يهتدون إلى شىء.

وإجمال المراد : لو شئنا لأذهبنا أحداقهم ، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك.

ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال :

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها ، فجعلناهم قردة وخنازير وهم

٢٨

فى مساكنهم التي يجترحون فيها السيئات ، فلا يقدرون على ذهاب ولا مجىء ولا غدوّ ولا رواح.

ثم شرع يقطع معذرة لهم ربما احتجوا بها وهى قولهم : إنهم لو عمّروا لأحسنوا العمل فقال :

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي إنه كلما طال عمر المرء رد إلى الضعف بعد القوة ، والعجز بعد النشاط.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أنهم كلما تقدمت بهم السن ضعفوا وعجزوا عن العمل ، فلو عمّروا أكثر مما عمروا ما ازدادوا إلا ضعفا ، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم ، وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث والتفكير ، والتروّى في عواقب الأمور ومصايرها ، فلم يفعلوا ، وجاءتهم النذر فلم يهتدوا ، فمهما طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك ، ولن يصلح من حالهم قليلا ولا كثيرا.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيحق الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))

تفسير المفردات

وما ينبغى له : أي لا يليق به ولا يصلح له ، ذكر : أي عظة من الله وإرشاد للثقلين ، حيّا : أي حىّ القلب مستنير البصيرة ، يحق القول : أي يجب العذاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أمر الوحدانية في قوله : وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ، وذكر أمر البعث في قوله : اصلوها اليوم ـ ذكرها الأصل الثالث. وهو الرسالة في هاتين الآيتين ،

٢٩

الإيضاح

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) الشعر : ضرب من ضروب الكلام ذو وزن خاص ينتهى كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية ، وهو يسير مع العواطف والأهواء ، ولا يتبع ما يمليه العقل والمنطق الصحيح ؛ ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجى والمدائح والتفاخر والتنافر ، فإذا غضب الشاعر أقذع في القول ، وبالغ في الذم ، وضرب بالحقيقة عرض الحائط ، ولا يرى في ذلك ضيرا ، وإذا هو استرضى بعد قليل رفع من هجاه إلى السمّاكين ، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان ، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا مما تراه في شعر الهجائين المداحين حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا : (أعذب الشعر أكذبه).

والقرآن الكريم آداب وأخلاق ، وحكم وأحكام ، وتشريع فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم ، فرادى وجماعات ، فحاشى أن يكون شعرا! أو أن يمت إليه بنسب.

فالمراد من نفى تعليمه الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا ، لأن الله علمه القرآن وإذا لم يكن المعلّم شاعرا لم يكن القرآن شعرا البتة.

وهذا رد لقولهم : إن القرآن شعر ، وإن محمدا شاعر ، ومقصدهم بهذا أنه افتراء وتخيلات وأباطيل ، وليس وحيا من عند الله.

(وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ولا يليق به الشعر ولا يصلح له ، لأنه مبنى كما علمت على الركون إلى الأهواء تبعا لفائدة ترجى ، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور ، أو كبتا لسورة حقد أو حسد بحق أو باطل ، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا.

وما اتفق له عليه الصلاة والسلام دون قصد من نحو قوله يوم حنين وهو راكب بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

٣٠

فلا يسمى شعرا ، لأن مثل هذا يقع في الكلام المنثور ولا يسمى قائله شاعرا.

وقد صح «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أنشد :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك ما لم تزود بالأخبار

فقال أبو بكر رضى الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام إنى والله ما أنا بشاعر ولا ينبغى لى».

وأخرج ابن سعد وابن أبى حاتم عن الحسن «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا : كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء. والرواية : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر : أشهد إنك رسول الله ، ما علمك الشعر وما ينبغى لك».

والخلاصة ـ إن الله تعالى كما جعل رسوله أمّيّا لتكون الحجة أتم ، والبرهان على المشركين أقوم ، كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها ، والأباطيل التي ينمّقها ، وليس بوحي من عند ربه.

وبعد أن نفى عنه أنه شعر وتخيلات أثبت أنه مواعظ ونصائح فقال :

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا ، يرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم ، نزل من الملإ الأعلى ، وليس من كلام البشر ، فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله فما استطاعوا ، فلجئوا إلى السيف والسنان ، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان.

ثم ذكر من ينتفع به فقال :

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينتفع بنذارته من كان حىّ القلب ، مستنير البصيرة ، يعرف مواقع الهدى والرشاد ، فيسترشد بهديه ، وليس له من صوارف الهوى ما يصدّه عن اتباع الحق ، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض ما يكون حائلا بينه وبين

٣١

الهدى ، فهو يتواثب على الإقرار بالحق إذا لاح له بريق من نوره ، فتمتلىء جوانبه إشراقا وضياء ، ويخرّ له مذعنا مستسلما ، وكأنّ طائفا من السماء نزل عليه فأثلج صدره وألان قلبه ، فاطمأنّ له وركن إليه ، وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية ؛ وكتب له الفوز والسعادة.

وبعدئذ بين عاقبة من أعرض عنه فقال :

(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين به الذين هم كأنهم أموات لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة التي من دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على الأصول الثلاثة : الوحدانية والحشر والرسالة ـ أعاد الكلام في الوحدانية وذكر بعض دلائلها.

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان : أنا خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير ـ أنعاما من الإبل والبقر والغنم يصرّفونها كما شاءوا بالقهر والغلبة

٣٢

فهى ذليلة منقادة لهم ، فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير ، وإن شاءت ساقته وصرّفته كما تريد ، قال العباس بن مرداس :

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير

ثم ذكر منافعها فقال :

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وسخرنا لهم هذه الأنعام ، فمنها ما يركبون في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار ، ومنها ما ينحرون ، فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها ، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية) ولهم منها مشارب من ألبانها ونتاجها.

ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها فقال :

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعمتى عليهم ، وإحسانى إليهم ، بطاعتي وإفرادى بالألوهية والعبادة ، وترك وساوس الشيطان ، بعبادة الأصنام والأوثان؟

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنهم كفروا بأنعم الله عليهم وأنكروها ـ أردف ذلك بيان أنهم زادوا في ضلالهم ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه

٣٣

النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال تعالى حاكيا عنهم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» والحقيقة أنها لا هى ناصرة ولا منصورة.

الإيضاح

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونهم ، طمعا في نصرتهم ، ودفع العذاب عنهم ، وتقريبهم إلى الله زلفى ثم بيّن بطلان آرائهم ، وخيبة رجائهم ، وانعكاس تدبيرهم فقال :

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها ، فهى أضعف من ذلك وأحقر ، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها ، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء ، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا ، وهم لا يسوقون إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم ضرا.

والخلاصة ـ إن العابدين وهم المشركون كالجند ، لحمايتهم والذبّ عنهم في الدنيا ، والمعبودون يوم القيامة لا يستطيعون أن يقدّموا لهم معونة ، ولا يدفعون عنهم مضرّة.

ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى بنحو قولهم : هو شاعر ، وهو ساحر ، وهو كاهن إلى نحو ذلك من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته فقال :

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي فلا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين من قومك : إنك شاعر وما جئتنا به شعر ، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك.

ثم ذكر أنه سيجازيهم على ما يضمرون في نفوسهم ويتفوهون به بألسنتهم فقال :

(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك

٣٤

إنما هو الحسد ، وأنهم يعتقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر ، وأنك لست بكذاب.

والخلاصة ـ إنا نعلم ما يسرون من معرفتهم حقيقة ما تدعوهم إليه ، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية ، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم بما يستحقون يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرا لديهم.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

تفسير المفردات

أولم ير : أي أولم يعلم ، والخصيم : المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية ، وضرب لنا مثلا : أي وأورد في شأننا قصة عجيبة هى في غرابتها كالمثل ؛ إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة ، والرميم : كالرّمّة والرفات ، وبلى : كلمة جواب كنعم ؛ تأتى بعد كلام منفىّ ، أمره : أي شأنه في الإيجاد ، والملكوت : الملك التام كالرحموت والرهبوت والجبروت ، والعرب تقول : جبروتى خير من رحموتى.

٣٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته ، ووجوب عبادته ، وبطلان إشراكهم به ، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث ـ أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم دالة على قدرته تعالى ومبطلة لإنكارهم له ، ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا ، وقالوا : كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة؟ ، فأجابهم عن شبهتهم بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم هو الذي يحييها ، وهو العليم بتفاصيل أجزائها مهما وزعت وتفرّقت ، ثم ذكر لهم دليلا آخر يرفع هذا الاستبعاد ، وهو أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء ، قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضّا طريا ثم يبس وبلى ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان وفيه الدليل على قدرته ، وهو خلق السموات والأرض ، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف ، وفيه بطلان لإنكارهم ، فأبان أن كل شىء هيّن عليه ، فما هو إلا بقول (كُنْ فَيَكُونُ) تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون ، فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء.

قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة : «جاء أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتّه بيده ويذروه في الهواء ويقول : أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ قال صلّى الله عليه وسلم «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار ، ونزلت هذه الآيات من سورة يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخرهن».

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدإ على سهولة الإعادة ، فإن من بدأ خلق الإنسان من

٣٦

سلالة من ماء مهين ، ثم جعله بشرا سويا يخاصم ربه فيما قال : إنى فاعل ، فيقول : من يحيى العظام وهى رميم؟ إنكارا منه لقدرته على إحيائها ـ قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله.

ونحو الآية قوله : «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» وقوله : «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ» أي من نطفة من أخلاط متفرقة.

والخلاصة ـ إنه تعالى خلق للانسان ما خلق من النعم ليشكر ، فكفر وجحد المنعم والنعم ، وخلقه من نطفة قذرة مذرة ليكون متذللا ، فطغى وبغى وتجبر ، وخاصم ربه واستبعد البعث والإعادة.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) أي وذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرتنا على إحياء الخلق ، فقال : من يحيى العظام؟ ونسى خلقنا له ، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقا سويا ناطقا؟ ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياء ، والعظام الرميم بشرا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.

وإجمال ذلك ـ إن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله ذى القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميم ، ونسوا أنفسهم وأنه تعالى خلقهم من العدم ، فكيف هم بعد هذا يستعبدون أو يجحدون؟.

ونحو الآية حكاية عن المشركين : «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» وقوله أيضا على طريق الحكاية «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا ، الْأَوَّلُونَ».

وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكّتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم وخلقهم من العدم فقال :

٣٧

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك : من يحيى العظام وهى رميم؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا وهو العليم بالعظام ، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض؟ وأين ذهبت؟

لا يخفى عليه شىء من أمر خلقه ، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة.

وكان الفيلسوف الإسلامى الملقّب بالفارابي يقول. وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلىّ في قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) الآية ، إذ تفصيله : الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة ، وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا ـ ونتيجة هذا ـ الله قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا ا ه.

ولا شك أن الفارابي إنما يريد القياس الذي يفهمه اليوناني باصطلاحه المنطقي ، وإلا ففى الآية قياس فهمه العربي على أسلوبه في التخاطب الذي يجرى عليه ويقتنع به ، ولكل أمة أساليب في الإقناع والحجاج تسير عليها وتسلك سبيلها ، وقد اقتنع الكثير من العرب بما جاء به في هذا ، ومن جحد فإنما فعل ذلك عنادا واستكبارا.

ثم ذكر دليلا ثانيا يرفع استبعادهم ويبطل إنكارهم فقال :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار أخضر ناضرا ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار ، ومن فعل ذلك فهو قادر على ما يريد لا يمنعه شىء ، إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق ، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا فيبس وبلى.

ثم زكى ذلك بدليل ثالث على قدرته أعجب من سابقيه فقال :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى منها هذا الكافر الذي قال : من يحيى العظام وهى رميم؟

٣٨

إلى خطأ قوله ، وعظيم جهله ، بأنّ خلق مثلكم من العظام الرميم ـ ليس بأعظم من خلق السموات والأرض ، وإذا لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم منكم ، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبليت؟.

والخلاصة ـ إنه تعالى نبّه إلى عظيم قدرته على خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وقفار وما بين ذلك ، وإلى أن الذي قدر على إيجاد هذه العوالم العظيمة ـ قادر على إعادة الأجساد بعد البلى.

ونحو الآية قوله : «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» وقوله : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته ، وإثبات عظيم سلطانه فقال :

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده : تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير.

وهذا ولا شك تمثيل لتأثير قدرته فيما يريد ، بأمر المطاع لمن يطيعه في حصول الأمور به بلا توقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل ولا استعمال آلة.

وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة ، نزّه نفسه عما وصفوه به ، وعجّب السامعين مما قالوه فقال :

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزه ربنا الحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض ـ عن كل سوء.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد ، فيجازى كل عامل بما عمل ، وهو العادل المنعم المتفضل.

٣٩

ونحو الآية قوله : «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وقوله : «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ».

والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ، نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تنير قلوبنا بالتبصر في فهم كتابك ، كما أنزت به قلوب عبادك الأبرار ، وأصفيائك الأطهار.

أهم مقاصد هذه السورة

(١) بيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من عند الله حقا ، وأنه نذير للأميين وغيرهم.

(٢) المنذرون من النبي صلّى الله عليه وسلم صنفان : صنف ميئوس من صلاحه ، وآخر قد سعى لفلاحه.

(٣) أعمال الفريقين تحصى عليهم ، فتحفظ أخبارهم ، وتكتب آثارهم.

(٤) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية ، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.

(٥) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.

(٦) تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.

(٧) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب.

(٨) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.

(٩) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.

(١٠) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم.

(١١) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.

(١٢) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.

٤٠