تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

سورة الزمر

هى مكية إلا الآيات ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ فمدنيات ، وآياتها خمس وسبعون نزلت بعد سبأ.

ووجه اتصالها بما قبلها :

(١) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله : «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ووصفه هنا بقوله : «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

(٢) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدإ إلى المعاد ، وذكر هنا مثله ـ إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

الإيضاح

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى ، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِ

١٤١

 الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» وجاء في قوله : «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

وبعد أن بيّن شأن المنزل وأنه من عند الله ـ ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزّل من الحق والعدل فقال :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما.

ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال :

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبده تعالى ممحّضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه ، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ندّ له ولا شريك.

ثم أكّد هذا الأمر بقوله :

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها ، لأن كل ما دونه ملكه ، وعلى المملوك طاعة مالكه ، وفي حديث الحسن عن أبى هريرة «أن رجلا قال : يا رسول الله إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ، لا يقبل الله شيئا شورك فيه ، ثم تلا : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)».

وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص لله ـ أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم ، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.

١٤٢

ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب ، والملائكة ، والأنبياء ، والصالحين الذين مضوا ، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها ، وقالوا إن الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة ، فنحن نعبد هذه الآلهة وهى تعبد الإله الأعظم.

وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العالقة بها ، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة كما قال : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقال : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ».

قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم فلم تعبدونهم؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده ، فرد الله عليهم بقوله : «فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ».

ثم هددهم وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون فقال :

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة ، ويجازى كلا بما هو أهل له ، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة ، ويدخل المشركين النار.

ثم بين نتيجة الحكم قال :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه ، بزعمه أن له ولدا وأن له ندّا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل ، ولا تجد لها مستندا من نقل.

ثم فصّل ما كذبوا فيه فقال :

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا ـ ولا ينبغى له ذلك ـ لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء ، فكيف نسبتم إليه البنات؟

١٤٣

ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال :

(سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تقدس الله أن يكون له ولد ، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وكل ما سواه مفتقر إليه ، وهو الغنى عما سواه ، قهر الأشياء فدانت له ، وتسلط على المخلوقات بقدرته فذلت له ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

تفسير المفردات

التكوير : فى الأصل اللف واللى من كار العمامة على رأسه وكوّرها ؛ والمراد يذهب الليل ويغشى مكانه النهار ، والعكس بالعكس ، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له ، والأجل المسمى : يوم القيامة ، والظلمات الثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة ، تصرفون : أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.

المعنى الجملي

بعد أن أبان سبحانه أنه منزه عن الولد بكونه إلها قهارا ، وأن كل المخلوقات فى قبضته وسلطانه ـ أردف ذلك ما يدل على كمال قدرته بآياته التي أوجدها

١٤٤

فى الأكوان ، وفي خلق الإنسان ، فبسط سلطانه على الشمس والقمر وذللهما ، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت الذي لا يعلم مداه إلا هو ، كما خلق الإنسان الأول وجعل له زوجا من جنسه ، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان ذكر وأنثى فكانت نواة التناسل فى هذه الأنواع ، فهل بعد هذا يجد العاقل معدلا عن الاعتراف بربوبيته ، وعظيم قدرته.

الإيضاح

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار ، تكوّن الليل والنهار ، والعالم السفلى المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد ، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله ، واستخدم فكره في استنباط مرافقه ـ خلقهما على أكمل وجه ، وأبدع نظام ، قائمين على الحق والصواب ، والحكم والمصالح.

وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال :

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لفّ اللباس على اللابس ، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض ، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهى مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل ، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار ، فالأرض كالرأس والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة ، ويلتفان متتابعين حولها.

وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا ، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا ، فتكوير الأرض ظاهر الآية ، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له (وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما) يجريان لمنتهى

١٤٥

دورتهما ، ومنقطع حركتهما ، وهو يوم القيامة ، «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ».

ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له ، والتحذير من الكفر والمعاصي ، فقال :

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال ، وأنعم على خلقه بهذه النعم ـ هو القادر على الانتقام ممن عاداه ، الغفار لذنوب عباده التائبين.

ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته ، وكمال رحمته ؛ فهو القهار ذو القوة المتين ، الغفار لذنوب التائبين.

وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي ـ أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلى ، وبدأها بخلق الإنسان ، لأنه أعجب ما فيه ، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية ، ولله در من قال :

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ـ من نفس واحدة وهى آدم ، ثم جعل من جنسها زوجها وهى حواء ، ثم ثنّى بخلق الحيوان فقال :

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهى التي ذكرها في سورة الأنعام «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» أي ذكر وأنثى لكل منها.

ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسى والأنعام فقال :

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يبتدىء خلقكم أيها الناس فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، فيكون أحدكم أوّلا نطفة ، ثم يكون علقة ،

١٤٦

ثم يكون مضغة ، ثم يكون لحما وعظما وعصبا ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن ، قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه [الإسلام والطب الحديث] : يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات : هى الغشاء المنبارى ، والخربون ، والغشاء اللفانفى ، وهى لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق ، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة ا ه.

وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله ـ هو الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تنبغى العبادة إلا له وحده لا شريك له.

(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها ، وانتفاء ما يصرف عنها ـ إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها.

والخلاصة ـ كيف تعبدون معه سواه؟ أين ذهبت عقولكم؟ وكيف ضاعت أحلامكم؟.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ

١٤٧

ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

تفسير المفردات

منيبا : أي راجعا إليه مطيعا له ، خوّله : ملّكه ؛ وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير ابن أبى سلمى :

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا

وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

المعنى الجملي

بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى وذكر أن المشركين عبدة الأصنام لا دليل لهم على عبادتها ، وكأنّ عقولهم قد ذهبت حين عبدوها ـ أعقب ذلك ببيان أنه هو الغنى عما سواه من المخلوقات ، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة ، ولا دفع مضرة ، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده ، بل يرضى لهم الشكر ، وأن كل نفس مطالبة بما عملت ، وبعدئذ تردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت ، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون ، فإذا أصابهم الضر رجعوا في طلب دفعه إلى الله ، وإذا ذهب عنهم عادوا إلى عبادة الأوثان ، وقد كان العقل يقضى بأنهم وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه ـ أن يعبدوه في جميع الحالات ، ثم أمر رسوله أن يقول لهم متهكما موبخا تمتعوا بكفركم قليلا ثم مصيركم إلى النار وبئس القرار.

الإيضاح

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا ، فهو الغنى عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى : «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ

١٤٨

 لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» وجاء في صحيح مسلم «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا».

ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال :

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به ، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنّصب وممن يأكل الطعام ويمشى في الأسواق.

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه على مقتضى السّنن القويم ، والصراط العادل المستقيم كما قال : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ».

ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل ، ولا يضيره عمل سواه فقال :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل أىّ نفس أوزار نفس أخرى ، بل كلّ مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا.

ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال :

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى ، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا ، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا.

ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال :

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون ، وأدركته الأبصار؟.

ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ

١٤٩

 يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإذا أصاب الكافر بلاء فى جسده ، أو شدة في معيشته ، أو خوف على حياته ـ استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به ، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته ، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضرّ ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء ـ ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ ، فجعل لله شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده والإقرار به والدخول في الإسلام له.

ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال :

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك : تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها ، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها الله في الأكوان ، وجعلها في نفس الإنسان ، زمنا قليلا إلى أن تستوفى أجلك ، وتأتيك منيّتك ، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

تفسير المفردات

القانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة ، آناء الليل : ساعاته واحدها آن ، يحذر الآخرة : أي يخشى عذابها.

المعنى الجملي

بعد أن أبان صفات المشركين الضالين ، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة ، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء ـ أردفه ذكر

١٥٠

أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم ، ولا ينيبون إلا إليه ، ويرجون رحمته ، ويخافون عذابه.

الإيضاح

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات ، ودائب على وظائف العبادات ، فى ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس ، وأبعد من الرياء ، فتكون أقرب إلى القبول ، وهو في حال عبادته خائف راج؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.

والخلاصة ـ أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ إنهما لا يستويان.

ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال :

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لقومك :

هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب ، والذين لا يعلمون ذلك ، فهم يخبطون خبط عشواء ، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون من سيئها شرا.

وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير ، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر ، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.

ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذى لبّ ، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، لا يفقهون موعظة ، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال :

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا ، لا أهل الجهل والغفلة.

والخلاصة ـ إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.

١٥١

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

المعنى الجملي

بعد أن نفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم ـ أردفه أمر رسوله أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح :

(١) تقوى الله وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد ، فإذا تعذرت طاعته فى بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء ، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب ، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان.

(٢) إنه أمر بعبادة الله وحده مخلصا له الدين ، وقد قال كفار قريش للنبى صلّى الله عليه وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله الآية وأمره أن يكون أول المسلمين ، وفي ذلك تنبيه إلى كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة.

(٣) إنه أمر أن يقول لهم : إنى أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته ، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.

١٥٢

(٤) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله ، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.

(٥) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب ، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوّف بها عباده.

الإيضاح

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره.

ثم علل وجوب الامتثال بقوله :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن في هذه الدار ، وعمل صالح الأعمال ، وزكّى نفسه فيها ـ حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله ، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ».

ثم رغّبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبّرهم على مفارقة الأوطان فقال :

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك ، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك.

ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال :

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره ، كما وفّى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة ، وعن الحسين بن على رضى الله عنهما قال : سمعت جدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس ، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس ، يا بنى إن في الجنة

١٥٣

شجرة يقال لهال شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا ثم تلا : «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» قال النحاس : من صبر على المعاصي يقال صابر ، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا.

ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك : إن الله أمرنى أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد.

وفي هذا نعى لهم على تماديهم في عبادة الأوثان ، والكلام عليه من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره).

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم فى إخلاص التوحيد لله ، وإخلاص العبادة له ، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم : إنى أخاف إن عصيت ربى بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية ـ عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام.

وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.

ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال :

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي قل لهم : الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا ، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء ، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام ، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.

ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال :

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل لهم

١٥٤

أيها الرسول : إن الخسران الذي لا خسران بعده ـ هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال ، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.

(أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له ، وفظاعة شأنه.

ثم فصل ذلك الخسران وبينه بعد إبهامه تهويلا وتعظيما لأمره فقال :

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل ، ومن تحتهم مثلها ، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» وقوله : «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ».

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام.

بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال :

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي يا عبادى بالغوا في الخوف والحذر والتقوى ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى ، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ

١٥٥

فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه وعيده لعبدة الأصنام ـ أردف ذلك وعد من اجتنبوا عبادتها وبعدوا عن الشرك ، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد ويحصل بذلك كمال الترهيب والترغيب.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الطاغوت : الشيطان ، ويطلق على الواحد والجمع ، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان ، إذ كان الآمر بها ، والمزيّن لها.

أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام ، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه ـ لهم البشرى بالثواب العظيم من الله على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب.

ثم مدحهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل فقال :

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول ـ بالنعيم المقيم فى جنات النعيم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي هؤلاء هم الذين وفقهم الله للرشاد ، وإصابة الصواب ، لا الذين يعرضون عن سماع الحق ، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.

(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والفطر

١٥٦

المستقيمة ، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم ، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.

روى أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر : زيد بن عمرو وأبى ذر الغفاري وسلمان الفارسي ، كانوا في الجاهلية يقولون «لا إله إلا الله».

ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال :

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ؟ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) أي أأنت مالك شئون الناس ومصرّف أمورهم ، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي ـ فأنت تنقذ من النار؟ ـ كلا ، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله.

ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب محارمه ، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق ، مبنيات محكمات تجرى الأنهار خلال أشجارها.

ثم أكد حصول ذلك لهم فقال :

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) أي وعد الله هؤلاء المتقين بذلك ، ووعده الحق ، فهو لا يخلف ما وعدهم ، بل يفى بوعده.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

تفسير المفردات

فسلكه : أي فأدخله ، ينابيع : أي عيونا ومجارى ، ألوانه : أي أنواعه وأصنافه ، يهيج : أي يجف ، حطاما : أي فتاتا متكسرا.

١٥٧

المعنى الجملي

بعد أن وصف جلّت قدرته الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها ومزيد الشوق إليها ـ أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا توجب النفرة منها كسرعة زوالها وتقضّيها وشيكا ، تحذيرا من الاغترار بزهرتها ، والركون إلى لذتها ، فمثّل حالها بحال نبات يسقى بماء المطر فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع ، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتا متكسرا ، فما أسرع زواله ، وأيسر تقضيه!.

الإيضاح

إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض ، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من برّ إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك ، ثم نضجت وجفّت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة ، ثم صارت فتاتا متكسرة ، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهى سريعة التقضّى وشيكة الزوال ، فليعنبر بذلك أولو الحجا ، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض ، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتنوا بزخرفها.

ونحو الآية قوله : «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً».

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ

١٥٨

مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

تفسير المفردات

شرح مصدر للإسلام : الفرج به والطمأنينة إليه ، والنور : البصيرة والهدى ، والقسوة : جمود وصلابة في القلب ؛ يقال قلب قاس : أي لا يرق ولا يلين ، أحسن الحديث : هو القرآن ، متشابها : أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام ، مثانى : واحدها مثنى من التثنية : أي التكرير ، تقشعر : أي تضطرب وتتحرك وتشمئز ، تلين : أي تسكن وتطمئن ، الخزي : الذل والهوان ، يتذكرون : أي يتعظون ، غير ذى عوج : أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، قال :

وقد أتاك يقين غير ذى عوج

من الإله وقول غير مكذوب

المعنى الجملي

بعد أن بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه والإعراض عن الدنيا ـ أردف ذلك بيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره ونوّر قلبه وأشعر نفسه حب العمل به ، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله فلا هادى له ، وأن من يتقى بيديه المخاوف صيانة لوجهه عن النار ليس حاله كحال من هو آمن لا يفكر في مآل

١٥٩

أمره ، وعاقبة عمله ، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم ، فلقد كذّب كثير قبلهم ، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون ، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف ، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا ، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربى مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون.

الإيضاح

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له ، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة ، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد ـ كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت ، قبل حلول الموت.

والخلاصة ـ هل يستوى من أنار الله بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق؟

ونحو الآية قوله : «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها».

قال ابن عباس : من شرح الله صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : «تلا النبي صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبى الله : كيف انشراح صدره؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا ؛ فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت». وأخرج الترمذي عن ابن عمر «أن رجلا قال يا رسول الله : أىّ المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكرا للموت ، وأحسنهم له استعدادا ، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ، فقالوا : ما آية ذلك

١٦٠