تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

سورة الصافات

هى مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان ، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة فى قوله : «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ».

(٢) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.

(٣) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها ، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى ، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان ، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك ، وهو وحدانيته تعالى ، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله : «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

 (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

تفسير المفردات

الصافات : هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة ، والزاجرات زجرا : أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل

٤١

فى السّوق والحث على الشيء ، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة ، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير ، والتاليات ذكرا : هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند الله إلى أنبيائه ، والمشارق : هى مشارق الشمس بعدد أيام السنة ، فهى في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب ، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق ، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق.

الإيضاح

أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية ، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام ، ويتلون آياته على أنبيائه ـ إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له ، لواحد لا ثانى له ولا شريك ، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق ، ومالك ذلك كله وقائم عليه.

وإجمال ذلك ـ إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته ، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون ، ويحضون الناس على فعل الخير ، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان ، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحى ـ إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

٤٢

تفسير المفردات

الدنيا : مؤنثة الأدنى ؛ أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد ، المتعرى عن الخير ؛ من قولهم : شجر أمرد : إذا تعرى من الورق ، يسمعون : أي يستمعون ، والملأ : الجماعة يجتمعون على رأى ، والمراد بهم هنا الملائكة ، يقذفون : يرجمون ، والدحور : الطرد والإبعاد ، واصب : أي دائم ، والخطفة : الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة ، والشهاب : الشعلة الساطعة من النار الموقدة ، والثاقب : المضيء.

الإيضاح

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة فى السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال ، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع ، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها ، المفكرين في حسابها ، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات ، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها ، وفهم محاسن نظامها ، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس ، لأنهم غافلون عن آياتنا ، معرضون عن التفكر في عظمتها ؛ فالعيون مفتحة ، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه ، حتى تعتبر بما فيه.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون فى هذه الأرض ، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى ، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها ، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا ، والتأمل في إدراك أسرارها ، والبحث في سر عظمتها.

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب ، فهم تائهون في سكراتهم ، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن ،

٤٣

فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء ، ويبهر أنظار العلماء ، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته ، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته ، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.

(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم ، لتقصيرهم عن البحث فى سر عظمة هذا الكون ، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه ، وبديع قدرته.

ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال :

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال ، وعنّت له سانحة منه ، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب ، فحنّ إلى مثلها ، وصبت نفسه إلى أختها ، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته ، ومعرفة كنه جماله ، وهم من اصطفاهم الله من عباده ، وآتاهم الحكمة من لدنه ، وأيدهم بروح من عنده ، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.

والخلاصة ـ إن الدنيا بيت فرشه الأرض ، وسقفه السماء ، وسراجه الكواكب ، والبيوت الرفيعة العماد ، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين ، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون ، والأنبياء والعلماء المخلصون ، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون ، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال ، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه ، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال ، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب ، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم ، وينير ألبابهم ، فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة ، وقيض لهم التوفيق والهداية ، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه ، والفوز بنعيمه (١).

__________________

(١) وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شىء منها ، وعصم الله وحيه وكتابه.

٤٤

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))

تفسير المفردات

فاستفهم : أي فاستخبر مشركى مكة من قولهم : استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه ، أشد خلقا : أي أصعب خلقا وأشق إيجادا ، لازب : أي ملتصق بعضه ببعض ، وأنشدوا لعلى بن أبى طالب :

تعلّم فإن الله زادك بسطة

وأخلاق خير كلّها لك لازب

يسخرون : أي يستهزئون ، وإذا ذكروا لا يذكرون : أي وإذا وعظوا لا يتعظون ، آية : أي معجزة ، يستسخرون : أي يبالغون في السخرية والاستهزاء.

المعنى الجملي

افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته ، وعلمه وقدرته ، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق المشارق والمغارب ـ وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هى أصعب في الخلق منكم ، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» وجاء في قوله : «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»

٤٥

الإيضاح

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث : أىّ أصعب إيجادا ، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟

والسؤال للتوبيخ والتبكيت ، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا ، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا ، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟.

ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال :

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض ، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة ، فأين هم من كواكب السماء ، وعالم الملائكة ، وتلك العوالم المشرقة؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه ، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.

ثم خاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ، ولا يتعجبون من تلك الدلائل ، بل مثلك من يعجب منها ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات.

والخلاصة ـ إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث ، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به ، فحالهم عجب ، ويحق لك أن تكثر التعجب منها ، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك ، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة ،

٤٦

لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم؟.

ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال :

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام الله ، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين : هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا ، ويسلب عقولنا ، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا ، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم :

(وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه ـ إلا ألاعيب ساحر ، وخدعة أريب ماهر ، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا ، وما هى من دلائل الحق في شىء ، فإياكم أن تخدعوا بها ، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم ، وقد مرت عليه القرون ، ونحن له متبعون.

ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول ـ لا نتقبل منه تلك المقالة ، وهى إحياء العظام النخرة ، والأجسام التي صارت ترابا ، إن هذه إلا إحدى الكبر ، فلا ينبغى أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل ، ولا يصل إلى مثلها الفكر.

ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا :

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي أيبعث آباؤنا الأولون أيضا ، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم ، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا.

وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله :

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما ، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.

٤٧

ونحو الآية قوله : «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» وقوله : «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ».

ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة الله فقال :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور ، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

تفسير المفردات

قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، والدين : الجزاء كما جاء فى قولهم «كما تدين تدان» ، والفصل : الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر ، احشروا : أي اجمعوا ، وأزواجهم : أي أمثالهم وأشباههم ، فيحشر أصحاب الخمر معا ، وأصحاب الزنا كذلك ، واهدوهم : أي دلوهم عليها ، والصراط : الطريق ، والجحيم : النار ، وقفوهم : أي احبسوهم في الموقف ، مسئولون : أي عن عقائدهم وأعمالهم ، لا تناصرون : أي لا ينصر بعضكم بعضا ، مستسلمون : أي منقادون وأصل الاستسلام : طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.

٤٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم ، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين ، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله ، ولات ساعة مندم.

الإيضاح

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب : لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء ، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل ، فكذبناهم وسخرنا منهم ، وأنكرنا صدق ما قالوا.

ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون ويقولون :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن بما قدم من عمل عن المسيء الذي دسّى نفسه بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان ، ومحالفة أوامر الملك الديان ، وينال كل منهما جزاء ما عمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من إستبرق ، ويدخل الثاني في سقر «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ».

ثم ذكر خطاب الملائكة بعضهم لبعض فقال :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ) أي تقول الملائكة للزبانية : احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب مع أشباههم وأمثالهم ، فاجعلوا ذوى المعاصي المتشابهة ، بعضهم مع بعض ، فاجعلوا الزناة معا ، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك ، واجعلوا عابدى الأصنام

٤٩

ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معا ، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك وكبير المعصية.

ثم زادوا في تأنيبهم وتوبيخهم فقالوا :

(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي فأرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها ، وفي هذا زيادة في النكاية بهم والازدراء بشأنهم ، إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي واحبسوهم في الموقف ، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم ، واجترحوا من الآثام والمعاصي ، وعن تلك العقائد الزائفة التي زينها لهم الشيطان فأضلتهم عن سواء السبيل.

وفي الأثر «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس : عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم كسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟».

ثم زادوهم تقريعا وتعنيفا فسألوهم :

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟) أي لأىّ شىء لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون ، فقد روى أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر.

وأخّر سؤالهم إلى ذلك الحين ؛ إذ كان الوقت وقت تنجيز العذاب ، وشدة الحاجة إلى النصير والمعين ، وقد انقطع الرجاء منه ، فالتقريع حينئذ أشد وقعا ، وأعظم أثرا.

والخلاصة ـ إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم وقطع أعذارهم بعد حسابهم.

ثم ذكر أنهم لا ينازعون في الوقوف ولا في غيره ، بل ينقادون فقال :

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي بل هم منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه ، إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل ، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها ، فلا فائدة في المنازعة ، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة.

٥٠

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

تفسير المفردات

عن اليمين : أي من جهة الخير وناحيته فتنهوننا عنه ، من سلطان : أي من قهر وتسلط عليكم ، طاغين : أي مجاوزين الحد في العصيان ، فحق علينا : أي وجب علينا ، فأغويناكم : أي دعوناكم إلى الغىّ والضلال.

المعنى الجملي

بعد أن بين فيما سلف أن الكافرين يندمون يوم القيامة على ما فرط منهم من العناد والتكذيب للبعث حيث لا يجدى الندم ـ أردف هذا ذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ ويتخاصم الأتباع والرؤساء ، فيلقى الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين ، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا ، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم ، وما ألزمناكم بشىء مما كنتم تعبدون أو تعتقدون ، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم ، ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان ، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد أعرضوا عنها استكبارا

٥١

وقالوا : أنترك دين آبائنا اتباعا لقول شاعر مجنون ؛ ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون ولا هو بالشاعر ، بل جاء بما هو الحق الذي لا محيص عن تصديقه وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.

الإيضاح

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي وأقبل التابعون من الكفار ، ورؤساؤهم المضلون لهم ، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف على طريق الجدل والخصومة ، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة ، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار ، فألقى الأتباع مسئولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال ، وردّ الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء فى الآية بعد.

ثم فصل طريق التساؤل وكيف يحدث فقال :

(قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر : إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير وتصدوننا عن سلوك طريقه ، وترغّبوننا فيما تدينون به وتعتقدونه ، ومن ثم أضللتمونا وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة.

فردّ الرؤساء عليهم وأجابوهم بجوابين :

(١) (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم قالوا : إننا ما أضللناكم ، بل أنتم كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر بما دسيتم به أنفسكم من أفعال الشرك والمعاصي ، إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام ، وترتكبون أنواع الفجور والآثام ما كان سببا في الطبع على الأفئدة والقلوب حتى لم تعرفوا للحق سبيلا ، ولا للخير طريقا.

(٢) (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم ، لم نجبركم عليه ولم نسلبكم اختياركم ، فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون ، مسرورة مما تأتون وما تذرون ، مائلة إلى الكفر والعصيان ، تواقّة للسير على سننه

٥٢

واتباع طريقته ، فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا ، وزينه الشيطان لنا ، ووسوس به إلينا ، فلبّيتم دعوتنا سراعا ، وسرتم فيما نحن فيه سائرون ، إذ كنتم لذلك مستعدين ، ولمثله محبين ، فما كان منا إلا الدعوة ، وكانت منكم الإجابة باختياركم ، لا جبرا لكم.

ثم ذكروا نتيجة لما تقدم فقالوا :

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي ولأجل أنا بطبعنا كنا قوما طاغين ، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين ، وعن الإيمان بربنا معرضين ـ ثبت علينا وعيده بأنا ذائقو العذاب لا محالة ، إذ كان من عدله أن يجازى كل نفس بما كسبت ، ويثيبها بما عملت ، وهو الخبير بها وبما اجترحت ، وهذا جزاء لا محيص عنه ، وهو نتيجة حتمية لما فعلنا باختيارنا ، واقتضاه استعدادنا ، فلا يلومنّ كل منا إلا نفسه ، ولا يلم بعضنا بعضا ، ولا داعى إلى الجدل والخصام وشد النكير ، فلا يجنى من الشوك العنب ، ولا يعقب الضلال إلا النار ، عدلا من ربنا كما وعد بذلك على ألسنة رسله ، وكنا بذلك عالمين ، ولكنا كنا عن الخير معرضين ، وعن اتباعه مستكبرين.

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبّنا أن تكونوا مثلنا وهو غير ملزم لكم ، وإنما أضركم سوء اختياركم ، وقبح استعدادكم ، وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب التي وعدتم به على ألسنة الرسل.

وبعد أن ذكر حالهم أعقبه. بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعا رؤساء ومرءوسين فقال :

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة ، كما اشتركوا في الضلال والغواية ، وإن كان المغوون أشد عذابا ، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارا مثل أوزار من أضلوهم كما ثبت في الحديث وقد تقدم ذكره مرارا.

ثم ذكر سبحانه أن هذا عدل منه على مقتضى سننه فقال :

٥٣

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين ، وفاقا لما تقتضيه الحكمة ويوجبه العدل بين العباد ، فيعطى كل عامل جزاء ما قدمت يداه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنهم كانوا إذا لقّنوا كلمة التوحيد نفروا منها وأعرضوا عن قبولها ، وصعّروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها.

وذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته :

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) أي أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر ، ونستمع لقول شاعر يخلّط ويهذى؟ فمثله لا يستمع لكلامه ولا يصغى إلى قوله.

وقد جمعوا في كلامهم بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ، فإنكار الأولى فى استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد ، وإنكار الثانية في قولهم : أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون.

ثم كذبهم سبحانه فيما قالوا فقال :

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنه صلّى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي لا شك فيه وهو التوحيد الذي يثبته العقل ويؤيده البرهان ، وبمثله جاء الأنبياء السابقون ، فهو لم يكن بدعا بين الرسل ، بل سار على شاكلتهم واتبع نهجهم ، فكيف يكون من هذه حاله شاعرا أو مجنونا؟

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ

٥٤

مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

تفسير المفردات

بكأس : أي بخمر ، من معين : أي من نهر ظاهر للعيون جار على وجه الأرض ، لذة : أي ذات لذة ، غول : أي صداع ، ينزفون : أي لا تذهب عقولهم بالسكر كما ينزف الرجل ماء البئر وينزعه ، قاصرات الطرف : أي قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم ، عين واحدتهن عيناء : أي واسعة العيون في جمال ، المكنون : المستور الذي لا تمسه الأيدى ولا يصاب بالغبار.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال وإلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين ـ بين هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام والجدل ، فإن العذاب واقع بكم لا محالة جزاء ما قدمتم من عمل ، ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم ، واللذات التي قصها علينا في تلك الآية مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

الإيضاح

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي إنكم أيها الكفار المجرمون لتذوقون العذاب الأليم الذي لا تنفك أو جاعه عنكم ، وما هو أبدا بمزايلكم.

ثم بين العلة في لحوقه بهم فقال :

٥٥

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وما ينالكم من العذاب إنما هو نتيجة ما قدمتم من عمل ، وأسلفتم من معصية «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».

وبعد أن أبان حال المجرمين ، ذكر حال عباد الله المؤمنين العالمين ، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم فقال :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصوا له العمل وأنابوا إليه ، أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذّ وطاب ، فيمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل والرائحة الشذيّة ، وتأتيهم وهم مكرمون كما تقدّم للملوك المترفين وذوى اليسار في الدنيا.

وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة إنما هو للتفكه والتلذذ لا للقوت ، لأنهم فى غنى عنه ، لعدم تحلل شىء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتى يحتاجوا إلى بدل منه.

وما جاء في قوله : «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» فهو بيان لأنواع ما يأكلون.

ثم بين المكان الذي يأتيهم فيه الرزق وذكر حالهم إذ ذاك فقال :

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين ، ليأنس بعضهم ببعض ، ويتمتعوا بطيب الحديث ؛ وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النّهى وأرباب الحجا.

وبعد أن ذكر صفة المأكل والمسكن ذكر وصف الشراب فقال :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي وكما يتمتعون بطيب المأكل يتمتعون بجيد الشراب تتميما للنعمة كما هو حال العظماء في الدنيا ، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة ، كأنها تؤخذ من نهر جار فلا تقتير ولا بخل ، بل كلما طلبوا وجدوا ، وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة ، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام كما قال شاعرهم :

٥٦

وشمولة من عهد عاد قد غدت

صرعى تداس بأرجل العصّار

لانت لهم حتى انتشوا فتمكّنت

منهم فصاحت فيهم بالثار

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لونها مشرق حسن بهيّ لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع ، واللون الأسود أو الأصفر ، أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم ، وهى لذيذة الطعم كما هى طيبة اللون وطيبة الريح ، وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة كما قال أبو نواس :

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسّها حجر مسته سرّاء

وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج ، والصفرة بعده كما قال :

وحمراء قبل المزج صفراء بعده

أتت في ثيابى نرجس وشقائق

حكت وجنة المحبوب صرفا فسلّطوا

عليها مزاجا فاكتست لون عاشق

ثم زاد في مدحها وامتيازها عن خمر الدنيا فقال :

(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي هى لا تؤثر في الأجسام كما تؤثر خمور الدنيا ، فلا تصدّع الرأس ، ولا تفسد العقل بالسكر كما يكون في خمر الدنيا كما قال :

فما زالت الكأس تغتالنا

وتذهب بالأول الأول

والخلاصة ـ إنه ليس فيها شىء من أنواع المفاسد التي تكون حين شرب الخمر فى الدنيا ، فهى لا تحدث صداعا ولا خمارا ولا سكرا ولا عربدة ولا نحو ذلك مما هو لازم لخمور الدنيا.

ثم ذكر محاسن زوجاتهم ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم فقال :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي ولديهم نساء عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، واسعات العيون في جمال.

ثم زاد بيانا في وصف جمالهن بما شبههن به فقال :

٥٧

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسسه الأيدى ولم يعله الغبار ، وهذا اللون مما تهيم به العرب ، فقد شبهت النساء ببيضات الخدور كما قال امرؤ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

تفسير المفردات

قرين : أي خليل وصاحب ، لمدينون : أي لمجزيون ، مطلعون : أي مشرفون فناظرون إلى أهل النار ، سواء الجحيم : أي وسط النار ، لتردين : أي لتهلكنى ، من المحضرين : أي المسوقين للعذاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من النعيم المقيم ، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل والمشارب وجميل المساكن والأزواج الحسان ـ بين هنا أنهم

٥٨

لخلوّ بالهم من المشاغل ، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون ، مع اختلاف الأهواء ، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لو لا لطف ربه به ، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم ، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا.

الإيضاح

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين ، فيشربون ويتحادثون على الشراب ، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك ؛ كما أفصح عن ذلك شاعرهم :

وما بقيت من اللذات إلا

محادثة الكرام على الشراب

ولثمك وجنتى قمر منير

يجول بوجهه ماء الشباب

والحديث ذو شجون ، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا ، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال ، وفراغ البال ، واطمئنان النفس ، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.

ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة : إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة ، ويستنكره أشد الاستنكار ، ويقول متعجبا : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل ، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام ، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.

٥٩

وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال ، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال :

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة ، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه ، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟

وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات ، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار ـ فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها ، ولا نقص ولا زيادة فيها.

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار ، فرأى قرينه في وسطها ، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله : إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة.

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولو لا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق ، وعصمتى من الباطل ، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.

ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه ، واغتباطا لحاله ، بمسمع من قرينه ، ليكون توبيخا له ، فيزيد به تعذيبه.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم : أنحن مخلدون منعمون ، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا ، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة ، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال ، وقد قيل لحكيم : ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.

والخلاصة ـ إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة ، والإقامة فى دار الكرامة ، بلا موت فيها ولا عذاب.

٦٠