تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

هذا في مقام التذلل والخضوع كما قال عليه السلام «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» وما روى من قصص الخاتم والشيطان ، وعبادة الوثن في بيت سليمان ، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين ، وأبى قبولها العلماء الراسخون.

ومن ثم قال الحافظ ابن كثير : وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى الله عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ا ه.

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي هب لى ملكا لا يكون لأحد غيرى لعظمه.

قال صاحب الكشاف : كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما ، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوته ، قاهرا للمبعوث إليهم ، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة ، فذلك معنى قوله : لا ينبغى لأحد من بعدي ا ه.

وقيل إنه أراد بقوله : لا ينبغى لأحد من بعدي ـ الدلالة على عظمه وسعته كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.

ثم علل المغفرة والهبة معا فقال :

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء ، فأجب طلبى ، وحقق رجائى.

ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال :

(١) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أىّ جهة قصد.

١٢١

ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء ، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال : «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً» لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها ، فهى تشتد حين الحلّ ، وتلين حين السير.

(٢) (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم ، يسخرهم فيما يريد من الأعمال ، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير ، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا.

(٣) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي ، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم.

وخلاصة ما سلف ـ إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء ، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال ، كفّا لشره ، وعقابا له ، وعبرة لغيره.

وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة ، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله ، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم ، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته ، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه ، ولنكتف بذلك ، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه.

ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال :

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي وقلنا له : إن هذا الذي أعطيناكه

١٢٢

من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى ـ عطاؤنا الخاص بك ، فأعط من شئت ، وامنع من شئت غير محاسب على شىء من ذلك ، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.

وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها ، أبان ماله فى الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال :

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم ، ونؤتيه الإجلال والتعظيم ، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة ، ويفوز برضا ربه ، وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة فى الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم.

قصص أيوب عليه السلام

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

تفسير المفردات

أيوب : هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام ، فهو من بنى إسرائيل قاله ابن جرير. والنّصب : (بضم فسكون) والنّصب (بفتحتين) كالرشد والرشد : المشقة والتعب ، عذاب : أي ألم مضر كما جاء في قوله : «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اركض برجلك : أي اضرب بها على الأرض ، مغتسل : أي ماء تغتسل به

١٢٣

وتشرب منه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان ، ويقال حنث في يمينه : إذا لم يفعل ما حلف عليه.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال : رب إنى أصبت بالمرض ، وتفرق الأهل وضياع الولد.

ومن حديث مس الشيطان له ما روى ـ إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته ، فابتلاه الله بالأمراض والأسقام ، وأضاع ماله وتفرق ولده فى أنحاء البلاد ، وهلك منهم من هلك ؛ فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ ، وحسرة تقطّع نياط القلب.

ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر ، إذ القرآن لم يصرح بهذا ، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه ، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه ، لأن ذلك شرط من شروط النبوة ، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء :

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب ، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.

وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به ، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال ، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد ـ كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض ، وهى كما تفيد بالاستعمال الظاهري ، تفيد بالشرب أيضا

١٢٤

كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها ، واستعملت مشاتى ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشى وسويسرا وحلوان.

وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب ـ ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.

وعن أنس بن مالك : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «إن نبى الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : لا أدرى ما تقول ، غير أن الله عز وجل يعلم أنى كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق».

ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم ، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم ، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء ، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه.

وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه ، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال :

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه ، رحمة منا

١٢٥

وتذكرة لأولى العقول السليمة ، لنعتبر ونعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين ، وأن مع العسر يسرا ، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة :

عسى فرج يأتى به الله إنه

له كل يوم في خليقته أمر

ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله ، فنمسك عن الكلام كما أمسك.

ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال :

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها ، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها ، والكتاب لم يبين لنا علام حلف؟ وعلى من حلف؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم ، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت ، فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة ، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها ، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها ، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.

وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى الله وأناب إليه ، ولهذا قال عز اسمه :

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه فى النفس والأهل والمال من أذى ، فجازيناه بما فرّج كربته ، وأذهب لوعته ، وليس فى الشكوى إلى الله إخلال بالصبر ، وليس فيه شىء من الجزع ، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء.

وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : اللهم أنت أخذت ، وأنت أعطيت ، وكان يقول في مناجاته : إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى ، ولم يتبع قلبى بصرى ، ولم يلهنى ما ملكت يمينى ، ولم آكل إلا ومعى يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان.

١٢٦

قصص إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، واليسع وذى الكفل

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩))

تفسير المفردات

الأيدى : أي القوى في طاعة الله ، والأبصار : واحدها بصر ؛ ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره ، أخلصناهم : أي جعلناهم خالصين لنا ، بخالصة :

أي بخصلة خالصة لا شوب فيها ، هى تذكّر الدار الآخرة والعمل لها ، المصطفين : أي المختارين من أبناء جنسهم ، والأخيار : واحدهم خيّر وهو المطبوع على فعل الخير ، هذا ذكر : أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن.

الإيضاح

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا ، وقويناهم على العمل لما يرضينا ، وآتيناهم البصيرة فى الدين ، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه.

ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله :

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا ، عاملين بأوامرنا ونواهينا ، لا تصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال ، وهى

١٢٧

تذكرهم الدار الآخرة ، فهى مطمح أنظارهم ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم ، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير ، قلا تطمح إلى الأذى ، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد ، ولا ترتكب الشرور والآثام.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين الله ، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء ، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتى الأنعام والأنبياء.

(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي وكل منهم ممن اختاره الله للنبوة ، واصطفاه من خلقه.

(هذا ذكر) أي هذه الآيات الناطقة بمحاسهم شرف لهم يذكر بين الناس ، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر ، كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ثم يشرع في باب آخر ، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع فى آخر : هذا وكان كيت وكيت ـ وعلى هذا جاء قوله : «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» كما سيأتى بعد.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

تفسير المفردات

الطاغي : المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي ، جنات عدن : أي جنات استقرار وثبات ، من قولهم : عدن بالمكان أي أقام به ، متكئين فيها : أي متكئين فيها

١٢٨

على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى ، أتراب : أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن ، نفاد : أي انقطاع.

المعنى الجملي

لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فوصفوه بأنه ساحر كذاب ، وقالوا استهزاء : ربنا عجل لنا قطّنا ـ أمره بالصبر على أذاهم لوجهين :

(١) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدى بهم ويجعلهم أسوة له.

(٢) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا ، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا ، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره.

الإيضاح

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن الله أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا ، ولهم في الآخرة حسن المرجع.

ثم بين هذا المآب الحسن بقوله :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي هو جنات استقرار وإقامة ، أبوابها فتّحت إكراما لهم ، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسرّ الناظرين ، ففيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال :

١٢٩

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك ، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها ، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة ، فالنفس إليها أشوق ، وفي ذكرها أرغب ، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل ، ولا تحلل فيها.

وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن ، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن ، وهن متساويات في السن والجمال يجب بعضهن بعضا ، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج ، إذ في تباغض الضرائر النّصب والتعب والهمّ الكثير للزوج ولهنّ.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد الله به عباده المتقين ، يصيرون إليه بعد نشورهم ، وقيامهم من قبورهم.

ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال :

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا النعيم وتلك الكرامة ـ لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع.

ونحو الآية قوله : «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ» وقوله : «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» أي مقطوع ، وقوله : «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي منقطع. وقوله : «أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها».

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا

١٣٠

فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

تفسير المفردات

الطاغين : هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله وكذبوا رسله ، يصلونها : أي يدخلونها ويقاسون حرها ، والمهاد : كالفراش لفظا ومعنى ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، والغساق : شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار ، يقال غسقت العين : أي سال دمعها ، من شكله : أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة ، أزواج : أي أجناس ، فوج : أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها ، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة : العرب تقول لا مرحبا بك : أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت ، من الأشرار : أي الأراذل الذين لا خير فيهم ، يريدون بذلك المؤمنين ، زاغت عنهم : أي مالت عنهم ، والتخاصم : مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر.

المعنى الجملي

بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين ـ أردفه بوصف عقاب الطاغين ، ليكون ذلك متمما له ، فيأتى الوعيد عقب الوعد ، والترهيب إثر الترغيب ، فيكون المرء بين

١٣١

رجاء في الثواب وخوف من العقاب ، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية ، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.

الإيضاح

(هذا) أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدّموا من أعمال صالحة.

(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة ، ثم فسر ذلك بقوله :

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها ، فبئس فراشا هى ؛ ونحو الآية قوله : «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ».

ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال :

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أي العذاب هذا ، فليذوقوه.

ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال :

(حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي لهم فيها ماء حارّ يشوى الوجوه ، وماء بارد لا يستطاع شر به لبرودته. قال الحسن رضى الله عنه : الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى ، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله : «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.

ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال :

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب ، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم.

وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي هم يتلاعنون ويتكاذبون ، فتقول

١٣٢

الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية : هذا جمع كثيف داخل معكم ، فلا مرحبا بهم.

قال ابن عباس في تفسير الآية : إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة : هذا فوج داخل النار معكم ، فيقول السادة : لا مرحبا بهم ، والمراد بذلك الدعاء عليهم ، قال النابغة :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبّة في غد

ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله :

(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم.

وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر ، وحينئذ يردّ عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم :

(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء : بل أنتم أحق منا بما قلتم (لا مرحبا بكم) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ، وبئس النار المنزل والمستقر.

وهذا كلام يراد به التشفي منهم ، لأنه مشترك بينهم.

ونحو الآية قوله : «كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها».

ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذمّا لهم أيضا فقال :

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب ـ عذابا مضاعفا في النار ، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما ورد في الحديث «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».

ونحو الآية قوله : «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» وقوله :

«رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً».

١٣٣

وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال :

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟) أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار : ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟.

قال ابن عباس : يريدون أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم ، يقول أبو جهل : أين بلال : أين صهيب ، أين عمار ، أولئك في الفردوس. وا عجبا لأبى جهل! مسكين ، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية ، وأسلمت أمه ، وأسلم أخوه ، وكفر هو. قال :

ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا

وموضع رجلى منه أسود مظلم

ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا :

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) أي ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار ، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا؟.

وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.

والخلاصة ـ إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا : ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم فى الدنيا سخريا؟ ألم يدخلوا النار معنا ، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟

ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال :

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض ، ولعن بعضهم بعضا ـ حق لا مرية فيه.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧)

١٣٤

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا صلّى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبىّ ، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب ، ثم صبّره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى ، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار ـ عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهى تقرير التوحيد والنبوة والبعث.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول لمشركى مكة : إنما أنا نذير مرسل من ربى لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود ، ولست بالساحر ولا الكذاب ، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله :

«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله : «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال :

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وهو الذي قهر كل شىء وغلبه بعزته وجبروته ، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما ، وهو الذي يغلب ولا يغلب ، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب ، جلت أو حقرت.

ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلى لهم حقيقة وظيفته ، ليرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :

١٣٥

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل لهم : إنّ ما أنبأتكم به من كونى رسولا منذرا ، ومن أن الله واحد لا شريك له ـ خبر عظيم الفائدة لكم ، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال ، لكنكم معرضون عنه ، لا تفكرون فيه ، لتماديكم في الغفلة.

وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ ، علّهم يرجعون عن غيهم.

ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ولو لا الوحى ما كنت أدرى باختلاف الملإ الأعلى ، يعنى في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه ، وهو ما ذكره بعد.

ثم أكد نبوته بقوله :

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلىّ إلا للانذار ، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا.

قصص آدم عليه السلام

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)

١٣٦

 إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

تفسير المفردات

فقعوا له : أي اسجدوا له ، ما منعك : أي ما صرفك وصدك ، واليد : القدرة قال :

تحمّلت من عفراء ما ليس لى به

ولا للجبال الراسيات يدان

من العالين : أي المستحقين للترفع عن طاعة الله المتعالين عن ذلك ، رجيم : أي مرجوم ومطرود من كل خير ، لعنتى : أي طردى ، أنظرنى : أي أمهلنى ، من المنظرين : أي الممهلين ، لأغوينهم : أي لأضلنهم ، المخلصين : أي الذين أخلصتهم للعبادة.

المعنى الجملي

قد سلف ذكر هذه القصة في سور : البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والإسراء ، والكهف ، كما ذكرت هنا ؛ والعبرة منها النهى عن الحسد والكبر ، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما ، والكفار إنما نازعوا محمدا صلّى الله عليه وسلم بسببهما ، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما ؛ والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة فى النصح والإرشاد.

الإيضاح

خلاصة هذه القصة ـ إن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من

١٣٧

خلقه وتسويته ، إجلالا وإعظاما له ، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه ، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم ، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين ، والنار خير من الطين في زعمه ، وقد خالف بذلك أمر ربه ، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة فدسه مذموما مدحورا ، فسأل النّظرة إلى يوم البعث ، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه ، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرّد وطغى وقال «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» فقال تعالى : «فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

تفسير المفردات

من المتكلفين : أي المدّعين معرفة ما ليس عندهم ، نبأه : أي ما أنبأ به من وعد ووعيد ، بعد حين : أي بعد الموت.

الإيضاح

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل يا أيها الرسول لمشركى قومك : ما أسألكم على تبليغ ما يوحى إلىّ أجرا لا قليلا ولا كثيرا ، وما عرفتمونى أتكلف ما ليس عندى حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن.

أخرج ابن عدى عن أبى برزة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا بلى يا رسول الله ، قال هم الرحماء بينهم ، قال : ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا بلى ، قال هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون».

١٣٨

وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال : «أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله تعالى أعلم ، قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة ، وكل ذى عقل سليم ، وطبع مستقيم ، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد.

ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال :

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين.

وكان الحس البصري يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة.

ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ

(١) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق ، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت.

(٢) إنكارهم للوحدانية.

(٣) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.

(٤) إنكارهم للبعث والحساب.

(٥) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.

١٣٩

(٦) وصف نعيم أهل الجنة.

(٧) وصف عذاب أهل النار ، وتلاعن بعضهم بعضا ، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟

(٨) قصص آدم عليه السلام.

(٩) قسم إبليس ـ ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.

(١٠) أمر الله نبيه أن يقول للمشركين : ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتى ولا أنا بالذي يدّعى علم شىء هو لا يعرفه.

(١١) إن القرآن أنزل للثقلين كافة.

(١٢) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.

١٤٠