تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

يا نبى الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال :

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب ، فهم إذا ذكر الله عندهم ، وذكرت دلائل قدرته ، وبدائع صنعه ، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.

قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».

وعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «قال الله تعالى : اطلبوا الحوائج من السمحاء ، فإنى جعلت فيهم رحمتى ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإنى جعلت فيهم سخطى».

ثم بين حالهم فقال :

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم فى غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.

وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة ، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر ، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود ، ووجلت القلوب ، وإذا تليت آيات

١٦١

الرحمة والوعد لانت الجلود ، وسكنت القلوب ، واطمأنت النفوس قال الزجاج : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به الله من يشاء ويوفقه للإيمان.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به ، فما له من مخرج من الضلالة ، ولا موفّق لسلوك طريق الحق.

ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه) ، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.

ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال :

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ـ ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا ، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية ، النار الحامية.

ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروى فقال :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال ، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا ، فأصيبت تارة بالمسخ ، وأخرى بالخسف ، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال ، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.

١٦٢

ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا ، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم ، بكلام عربى لا لبس فيه ولا اختلاف ، ليفهموا ما فيه من مواعظ ، ويعتبروا بما فيه من حكم ، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته ، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة ، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

تفسير المفردات

ضرب المثل : تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها ، متشاكسون : أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم ، سلما لرجل : أي خالصا لسيد واحد ، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت ، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح ، قال الخليل أنشد أبو عمرو :

وتسألنى تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسرت إن كنت تعقل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

تختصمون : أي تحتكمون للقضاء.

١٦٣

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس ، وهى أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم ، ويرعووا عن غيهم وضلالهم ـ أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها ، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم ، وهناك يستبين المحق والمبطل ، والضال والمهتدى.

فلا داعى إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم.

الإيضاح

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً؟) أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم : ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء ، بينهم اختلاف وتنازع ؛ فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين ، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين ، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم ، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته ، ويقضى له سائر حاجاته ، فأىّ العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟ ـ الجواب لا يحتاج إلى بيان ـ هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أىّ تلك الآلهة يعبد؟ ولا على أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفده؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه ، عارف ما يرضيه وما يسخطه ـ لا شك أن البون بين حاليهما شاسع.

وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما؟

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد ، وثبت أن لا إله إلا هو ـ ثبت أن الحمد لله لا لغيره.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.

١٦٤

ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل ، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله ، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل ، وهناك يتميز المحق من المبطل قال :

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون ، ثم تختصمون عند ربكم ، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا ، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته ، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا ، ويقول التابعون للرؤساء : أطعناكم فأضللتمونا ، ويقول السادة : أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.

عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» رواه البخاري.

وعن أبى هريرة قال : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم.

وعن أبى سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كنا نقول : ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين ، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ووفّقنا لما فيه رضاك.

تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذى القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

١٦٥

فهرست

أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

جمع الناس للحساب والجزاء....................................................... ٥

 البعث ممكن وليس بمستحيل...................................................... ٦

 القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة....................................... ١٠

 لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه.......................................... ١٣

 السفن البرية والسفن الهوائية.................................................... ١٥

 تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون............................................. ١٩

 خروج الخلق من الأجداث...................................................... ٢٠

 ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب........................................ ٢٢

 شهادة الأيدى والأرجل على المجرمين يوم القيامة.................................. ٢٣

 ما ينبغى للرسول أن يكون شاعرا............................................... ٣٠

 عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه.......................................... ٣٢

 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه........................ ٣٤

 دليل القدرة في الأنفس والآفاق................................................. ٣٦

 تنزيهه سبحانه عما لا يليق به................................................... ٣٩

 قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد............................................. ٤٢

 الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء.......................................... ٤٤

 الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة.......................................... ٤٥

١٦٦

مقالتهم في القرآن.............................................................. ٤٧

يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي.................................... ٤٩

 يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال............................. ٥١

 وصف خمور الجنة............................................................. ٥٦

 سمر أهل الجنة في الجنة......................................................... ٥٩

 اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم.......................................... ٦٠

 وصف شجرة الزقوم........................................................... ٦٣

 تقليد الأبناء للآباء............................................................. ٦٤

 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم................. ٦٥

 تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام.......................................... ٦٨

 عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة....................................... ٧١

 طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا......................................... ٧٣

 الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟..................................................... ٧٦

نعم الله على موسى وهارون..................................................... ٧٨

 قصص لوط عليه السلام....................................................... ٨١

 قصص يونس عليه السلام...................................................... ٨٢

 توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه.................................... ٨٤

 مجمل ما حوته هذه السورة..................................................... ٩٣

 سورة ص.................................................................... ٩٤

 عجب المشركين من قول الرسول : إن الإله واحد................................ ٩٦

 الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا.................................. ٩٨

 قصص داود عليه السلام..................................................... ١٠٤

١٦٧

قضية من قضايا داود التي حكم فيها............................................ ١٠٧

 الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود................................... ١١٠

 الحكمة في خلق هذا الكون................................................... ١١٤

 ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء.................................... ١١٥

 عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك............................... ١١٧

 تسخير الريح لسليمان عليه السلام............................................ ١١٩

 داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود.............. ١٢٣

 وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم....................................... ١٣٠

 محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم............................................ ١٣٣

 الرسول منذر لا مسيطر...................................................... ١٣٥

 الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم.............................. ١٣٦

اعتذار المشركين على عبادة الأصنام............................................ ١٤١

 تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة........................................... ١٥٠

 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم أن ينصح المؤمنين بنصائح....................... ١٥٢

 للصابرين أجرهم بغير حساب................................................. ١٥٣

 بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه...................................... ١٥٦

 صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها............................................... ١٥٨

 وجوب الإقبال على طاعة الله................................................. ١٥٩

 ضرب القرآن الأمثال للناس................................................... ١٦٠

 أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة.................... ١٦٤

١٦٨